هذه قصة واحد من كبار الشعراء - والشعر آنذاك كان الفن الأكثر انتشارا في الجزيرة العربية - كاد يسلم ولكنه أجل التوبة إلى ما بعد ناسيا أن الأعمار بيد الله وأنه قد لا يعيش حتى يتوب إن لم يُعَجِّل. نستنبط منها كذلك ما كان للفنون من أهمية منذ ذلك الحين في نشر أي دعوة أو في الصد عنها. وما أشبه اليوم بالبارحة؛ فنفس المبررات التي قدمت للأعشى حتى لا يسلم هي التي نراها تُرَوَّجُ اليوم؛ من مثل: سوف يحرمون عليكم كذا ويفرضون كذا. ونفس التسارع إلى أبلغ الفنانين في التعبير للاحتفاظ بهم في صف الصد عن الصلاح. وإذا أصروا على قرارهم يتهم تشويههم والنيل من سمعتهم. ولد الأعشى بمنفوحة في اليمامة واسمه ميمون بن قيس بن جندل، ويكنى بأبي بصير، ولُقب بالأعشى لضعف بصره. وكان من أشهر وأهم شعراء الجاهلية؛ من أصحاب المعلقات، وكان من الممكن - وقد عاصر انتشار الإسلام أن يكون واحدا من كبار شعرائه - ولكنه تراجع عن دخول الإسلام، بعد أن كان كتب قصيدة في مدح الرسول. وفد الأعشى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومدحه بقصيدته التي أولها: ألم تغتمض عينــاك ليلةَ أرمــدَا وعادك ما عاد السليمَ المسهَّدا وما ذاك من عشق النساء وإنما تنـاسيت قبـل اليوم خُلَّةَ مَهْدَدَا وفيها يقول لناقته: فآليت لا أرثي لـــــها من كَلالـةٍ ولا من حفاً حتى تزور محمدا نبـــــــي يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنـجدا متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تراحي وتلقى من فـواضله يدا فبلغ خبره قريشا؛ فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صناجة العرب؛ ما مدح أحدا إلا رفع قدره. فلما ورد عليهم قالوا له:أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم محمدا لأسلم. قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، قال: وماهي؟ فقال أبو سفيان: الزنا. قال الأعشى: لقد تركني الزنا وتركته، ثم ماذا؟ قالوا: القمار، قال: لعلي إن لَقِيته أن أصيب منه عوضا عن القمار، ثم ماذا؟ قالوا:الربا، قال مادِنت ولا أَدَنتُ قط فلا حاجة لي بالربا، ثم ماذا؟ قالوا: الخمر، قال: أوه، أما هذه فلازال لي في المهراس منها صبابة؛ أرجع فأشربها ثم أذهب إليه وأسلم. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة، تأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا؛ فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر هو أتيته. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى! صناجة العرب (كان يسمى صناجة العرب لجودة شعره، وأصل الصناجة اللاعب بالصنج)، ووالله إن أتى محمدا واتبعه لَيُضرِمَنَّ علكم نيران العرب بشعره؛ فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها الأعشى وانطلق إلى بلده. فلما بلغ بقاع منفوخة بلده رمى به بعير فقتله. وكان ذلك في السنة السابعة من الهجرة. ولأن الرجل عاد إلى دياره، ولم يعلن إسلامه، واكتفى بالرشوة التي نالها من قريش، فإن الباحثين ينكرون الأشعار التي نسبت إليه، وجاءت في شعره تشيد بالإسلام ونبي الإسلام، وتحث على التأسي بماحدث للأم السابقة، لأنه كان وثنيا ولم يؤمن بدين سماوي، رغم اقترابه في آخر أيامه من الإسلام الذي كاد يعتنقه لولا التراجع في آخر لحظة. مع ألا مانع في أن يُضَمِّن من لم يسلم بعد أشعاره حكم وقيم الإسلام؛ فإسلام الفكر قد يسبق إسلام القلب، ويسبق العزم الحاسم، ولعله قال تلك الأشعار بعد اقتناعه بدعوة الإسلام وقبيل اتخاذه القرار النهائي بالدخول في دين الله.