تابعت مؤخرا بإحدى القنوات التلفزيونية الألمانية، برنامجا وثائقيا بعنوان "الأقلّ هو الأحسن" يدور حول ما يمكننا اعتباره من القضايا التي "يفكّر" فيها العالم اليوم وبجدّية متصاعدة. انطلاقا من العنوان يطرح البرنامج "الأقلّ" بديلا "للأكثر" هذا "الأكثر" الذي ظلّ وإلى إشعار آخر هو "الأحسن" : الحشود في الملاعب، الأصوات في الانتخابات، الجيوش في المعارك، البضائع في الأسواق ولم لا "اللايكات" في الفايسبوك ! .. "الكثرة" كانت دائما صنواً للقوّة وللازدهار وربّما للنجاح. من هنا بالتحديد تأتي أهمية هذا الوثائقي الذي جاء فيما يبدو ليدقّ ناقوس الخطر: الكثرة تهدّد الحياة فوق الأرض. نحن أمام وجهة نظر جديدة، وجهة نظر تنتصر للبيئة وللبساطة من خلال "نضالات" فردية وأخرى جماعية ترفع شعار مقاومة وحش "التقدّم" الذي يركض جارا خلفه الكائنات الحيّة إلى وجهة غامضة كأنّه قطار بلا فرامل. "الأقلّ هو الأحسن" تعني من بين ما تعنيه ضرورة التصدّي لثقافة الاستهلاك وتبذير الطاقة والوقت للوقوف في وجه جرّافة العولمة.. حيث تدعو الحركة مثلا إلى استعمال الدراجة الهوائية عوض السيارة، أكل الخضر الطازجة والابتعاد عن المعلّبات، الاستغناء عن الهواتف الذكية، العمل لساعات قليلة وتخصيص وقت أكبر لممارسة الهوايات الخاصة التي تحقق الإشباع الذاتي.. نلاحظ إذن كيف تقترح الحركة السعادة الشخصية بديلا عن النجاح الاجتماعي، مع محاربة التباين بين الناس على أساس مادّي حيث تدعو إلى اعتماد المقايضة لإفراغ المال من سلطته التداولية التي تشدّ بخناق الأفراد والجماعات، مقايضة تقوم على حاجتنا إلى المنتوج وليس على قيمته المادية، بمعنى أن آخذ منك بضاعة أنا في حاجة إليها وأمنحك في المقابل بضاعة أنت في حاجة إليها.. الاستعمال هو الذي يحدّد قيمة الأشياء وليس ثمنها، الأمر الذي لن يروق بالتأكيد لأصحاب الشركات الكبرى القائمة أساسا على منطق الربح الوفير وبالتالي منطق "الأكثر". منطق "الأقلّ"، وإن كان صوته اليوم خافتا، يشنّ حربا شرسة ضدّ لوحات الدعاية المضاءة ليلا وضدّ إغراق السوق بالأجهزة (يقترح إصلاح الآلات عوض الاستغناء عنها واقتناء أخرى جديدة) وضدّ تلويث المجال الحيوي، أحد أهمّ أولوياته هو إسكات صوت الإشهار باعتباره سلطة مدمّرة تخلق للنّاس في جميع أنحاء العالم حاجيات هم ليسوا في حاجة إليها. ترى الحركة إذن، أن المعركة تبدأ بالتنمية الذاتية وبتحرّر الفرد من قيود الاستهلاك ومن جنون المدن، وتدعو بالمقابل إلى العودة إلى إيجابيات حياة القرية البسيطة التي يتصالح فيها الفرد مع الطبيعة ويتصالح بالتالي مع نفسه. إذا كانت فكرة أن نعيش بدون سيارة وأن نرتدي نفس الجاكيت لعشرين سنة كاملة، تبدو فكرة طوباوية أقصى ما تستطيعه هو أن تجعل حياتنا أصعب وأقلّ متعة، فإنّ أنصار "الأقلّ هو الأحسن" يذهبون إلى أنّ إنسان هذا العصر واقع في إدمان وهْم السهولة هذا الوهم الذي يبعده بالضرورة عن الصحة والسلامة وعن العدالة والمساواة وفي النهاية عن السعادة الحقيقية والاستمتاع بالحياة.. يظهر هؤلاء "المناضلون الجدد" وكأنّهم يغنون أغنية غريبة لا يردّدها معهم أحد، لكنّ فكرتها تظلّ مثيرة للاهتمام وتستحقّ منّا أن نتوقف لنتأمّلها ربّما للحظة وجيزة ليست أكثر من لحظة متابعة برنامج على التلفزيون ونطرح على أنفسنا هذا السؤال: وماذا لو كانوا على حقّ وكان شعارهم "أملك أقلّ لأعيش أحسن".. سبيلنا الوحيد لإنقاذ حياتنا فوق الأرض؟