ألفية التصالحات! قبل أربعين سنة خلت، و كنت أنذاك أتصارع من أجل الحصول على شهادة باكالوريا، كان العالم العربي قد ودع قرنه الرابع عشر و احتضن قرنه الخامس عشر. و احتفل الشعب العربي بتواضع و دون أن يلفت الأنظار إليه بتلك القفزة الزمنية من قرن إلى قرن آخر. و لعل النكسات و الإجهاضات و التعثرات هي التي كانت قد حالت دون الإحتفال بتفاءل و فرحة و يقين في غد عربي منير. هاجمنا القرن الميلادي الجديد بتحديات و تسائلات لابد لنا من مواجهتها إذا كنا نريد أن نضمن ليقظتنا الطريق السيار الذي لابد منه لكي تشق طريقها، ليس فقط في العالم المعاصر، بل و أيضا في أذهاننا و أفئدتنا. و لعمري أن أول ما يجب أن نعمله هو أن نتصالح مع أنفسنا كخطوة إجبارية أولى لنتعرف على ذواتنا، التي أصبحت كالسراب، كلما اقتربنا منها كلما ابتعدت عنا. هناك وعي شقي ورثناه عن النخبة المثقفة للأمس ، و هو وعي سوف لن يخدم الجيل العربي المثقف الجديد، الذي لم يعد يفكر بالطريقة الكلاسيكية، بل أصبح أكثر وعيا و أكثر تبصرا بمشاكله. لا يمكننا و الحالة هذه مثلا، أن نحل التحدي الإعلامي الكبير الذي وجدنا أنفسنا في مضماره، و الذي لم نشارك فيه، إذا تمسكنا بمنطق الحلال و الحرام في تعاملنا مع المعطيات العلمية و الثورات التواصلية التي قلبت نظام العالم جذريا. لا يمكننا أن نستمر في البكاء على حالنا و الافتخار المبالغ فيه بأمجاد لم نشارك فيها، بقدر ما نستحضرها لإشهارها في وجه العالم المعاصر الذي يضحك علينا، لأنه استطاع أن يعشش في تراثنا و أن "يسرق" ما حلى له منه، لكي يبيعه لنا و للمتعطشين على الغريب في وسطه بأبهر الأثمان. فقد أصبح علاء الدين من الوجوه البارزة في الثقافة الشعبية الغربية مثلا، و نتفاخر نحن بأنه قد أصبح كذلك، على الرغم من أن الغرب هو الذي أعاد اكتشاف هذا الوجه الأسطوري في الثقافة العربية. و لم يعد لسندباد البحري أي دور من غير تسلية صغار العالم المصنع، و كم من سندباد يحاول يوميا الإبحار من الضفة الجنوبية إلى الضفة الشمالية للمتوسط. هناك تصالح ضروري لابد لنا منه، و هو تصالحنا مع محيطنا الاجتماعي و السياسي و الثقافي، و ألا نكتفي فقط بالسخط و عدم الرضى، بل من اللازم علينا أن نساهم و نشارك في تقديم البدائل لما هو عليه حالنا. لا يمكننا أن نستمر في احتلال درجة الصفر في النقد، و واقعنا يفرض علينا أن نصعد أو ننزل في سلم أخلاقيتنا. نحن في حاجة إلى بدائل، و هذه الأخيرة لن تأتي و نحن راكنون إلى المراقبة و الملاحظة. بعبارة أوضح، علينا أن نغادر أبراج المراقبة و تتبع ما يدور و التعليق عليه، و إطلاق حكم قيمة عليه، لكي ننزل إلى الواقع لنبلل ملابسنا، و أقلامنا، فيه، و نقترح وجهات نظر، و حلول جديدة و مغايرة. فالعيب في بعض المرات ليس في واقعنا، بل فينا، لأننا نعتقد أن هذا الواقع سوف يتغير بمجرد ما ننبه إلى أنه غير صحيح. من هنا فإن التحدي الحقيقي الذي ينتظرنا في هذه الألفية هو أن نمر في عاداتنا الفكرية في تحليل الواقع من مستوى التنبيه و النقد إلى مستوى اقتراح حلول و رسم استراتيجية براغماتية لتطبيق هذه الحلول على أرض الواقع. و اقتراح الحلول هنا يعني بالضرورة المشاركة الفعلية و العملية في التطبيق، و ليس البقاء كمتفرج على الطوار . و قد يكون التصالح السياسي، و العمل على تطوير الأحزاب السياسية من تجمعات قبلية إلى تنظيمات مدنية همها الأساسي هو خدمة الصالح العام و ليس خدمة نخبة بعينها أمرا ضروريا. فقد مللنا من أحزاب همها الأساسي هو الوصول إلى السلطة و استعمال هذه الأخيرة لترهيب الشعوب العربية و الإستيلاء على خيراتها. الحزب هو ليس فقط مجلس إدارة، و وسيلة إعلام، و توزيع الوظائف بالتراضي، و الهرولة لطلب مساعدة أولياء الأمر، و التفكير في استراتيجيات الوصول إلى كراسي البرلمانات و الحكومات، بل إن الحزب هو مشروع سياسي و اقتصادي و حضاري، لابد أن يراعي مصلحة أكبر عدد ممكن من الناس، لكي يحق له أن يتكلم باسمهم. الحزب في هذا المعنى لا يمكن أن يكون لا وكيلا و لا محاميا عن الذين يتكلم باسمهم، بل عليه أن يسمع صوت هؤلاء بتأطيرهم و الخروج معهم إلى ساحة المعركة يدا في يد، و ليس سرقة مشروعية التكلم بأصواتهم، و خيانتهم في نفس الوقت. النوع الثالث من التصالحات التي نحن في حاجة إليها هو التصالح فيما بيننا، و هو تصالح لا يمكن أن يتم إلا إذا وعينا أن فلسفة التسامح لابد أن تكون شرطا أساسيا في تعاملنا مع بعضنا. لن يكون هناك تفاهم شعبي عربي و نحن نعلم أننا ضحايا نزوات و أخطاء حكامنا، الذين لم يستطيعوا منذ قرون خلت بناء ثقافة حوار و تسامح و تواصل فيما بينهم، بقدر ما كرسوا ثقافة الإقتتال و التناحر و البحث عن وسيلة البقاء في الواجهة، لكي ينعت المسؤول بأمير المؤمنين، أو موحد الأمة، أو رئيس العرب الخ. لا يمكننا و الحالة هذه أن نأخذ حكامنا كنموذج لتصالح داخلي بين كل الفاعلين المجتمعيين و القوى الفاعلة في أي مجتمع عربي، إذا كنا نعلم أن هؤلاء الحكام، كل مرة التقوا فيها حول طاولة الحوار و الوحدة، انصرفوا عنها أكثر تفرقة و أكثر اختلافا و اقتتالا. التصالح فيما بيننا هو اللبنة الأساسية لإنجاح مشروع مجتمع مدني واع و مسؤول اتجاه حريته و اتجاه مسؤوليته. و التسامح هو التخلي عن فكرة امتلاك الحقيقة الأبدية، و الإعتراف بصلاحية كل حقيقة هدفها الأول و الأخير هو سعادة الإنسان العربي أينما كان، و الدفاع عن كرامته و مستقبله. إن فكرة الفرقة الناجية لابد لها أن تترك المكان في ألفيتنا هذه إلى فكرة الفرق الناجية معا. أما النوع الرابع من التصالح الذي ينتظرنا فهو تصالحنا مع مستقبلنا، لأننا نحمل في العمق حقدا كبيرا اتجاه هذا المستقبل الذي يخيفنا و يشل حركاتنا سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي. و الخوف من المستقبل لا يقتصر علينا، لأننا لا نمتلك من نعيم الدنيا إلا ما هزل، بل إنه أساس سيكولوجي إنساني ينطبق على كل إنسان. خوفنا من المستقبل هو خوف مادي محض، و إذا حولنا هذا الخوف إلى قوة خلاقة فقد يكون في مستطاعنا أن نضمن لكل عربي لقمة عيش مشروعة و قانونية. قد نؤكد أننا لا نحب مستقبلنا بما فيه الكفاية لنتحمل مسؤوليتنا اتجاجه. فالمستقبل الزاهر لا يعطى بالمجان، بل يبنى بعرق الجبين. المستقبل يرهبنا و يقودنا إلى أفكار مأساوية و ظلامية، لابد لنا و الحالة هذه أن نتحرر من فكرة المستقبل الزاهر دون زهور، لنبذر هذه الزهور كي يصبح مستقبلنا مستقبلا زاهرا بالفعل! و التصالح الخامس الذي نحن في حاجة ماسة إليه من أجل عيش ألفية جديدة بطريقة أحسن هو تصالح مركزي: تصالحنا مع حكامنا و تنبيههم إلى أن السلطة ليست تكريما بل تكليفا. الفجر العربي يتطلب حكاما من الشعب و ليس حكاما فوق الشعب. الشعب العربي هو الذي يكلف حكامه لتأدية مهامهم، و هو الذي يعزلهم إذا تبين أنهم لا يتفانون في خدمة مصالح الشعوب العربية. السلطة الآتية من الفوق مجبرة أن تترك الطريق للسلطة الآتية من التحت. و السلطة هي تعاقد و ليست إجبارا. و التعاقد يعني التراضي و التحاب و التآزر. إن أسلوب ممارسة السلطة في العالم العربي معرضة في الألفية الحالية إلى زلازل، لابد أن نمر بها دون اندلاع براكين و انتشار النيران، التي قد تأتي على الأخضر و اليابس في عالمنا العربي. و التصالح السادس الذي قد يساعدنا في ألفيتنا هذه هو تصالحنا مع العالم، و المضي قدما من أجل بناء إنسانية أكثر إنسانية، و ديمقراطية أكثر ديمقراطية. فالعالم من حولنا يفرض علينا يوميا أن ننضبط و نتكيف و نجدد و نثابر و نخلق. لا يمكن أن نتعايش مع العالم و نحن لم نع بعد أننا جزء من هذا العالم فقط، و لسنا محوره كما توهمنا لقرون عديدة مضت. العالم قد سبقنا و تجاوزنا و نحن لازلنا نحلم في سباتنا العميق أننا خير من العالمين. لم نهضم بعد هزيمتنا و خيبة أملنا، و نعوض عن أنفسنا في بركة من التاريخ بأمجاد الأسلاف. لابد أن نكون أبناء زماننا، و أن نسارع إلى طلب الفهم، و ليس إلى ادعاء أننا نفهم. لا نفهم من زماننا إلا الشيء القليل، و ندعي أن تراثنا قد حمل لنا كل مفاتيح الدنيا، و هو لم يحمل لنا إلا بعض القفل. التصالح مع العالم يعني اندماجنا في هذا العالم دون أن ننصهر، و فرض فلسفة تفاهم و احترام متبادل بقوة الكلمة، دون التفكير في حمل السلاح من أجل إسماع كلمتنا، لأن سيفنا و مقاليعنا لا تقدر البتة على مواجهة المدافع و أسلحة إلكترونية يصل إشعاعها إلى آخر رقعة في العالم العربي. التصالح مع العالم يعني التعايش و التفاهم من أجل بناء إنسانية أكثر تفتحا و أكثر تقبلا للفكر الآخر. لا يجب أن نفكر بمنطق الهزم، بل بمنطق الإقناع. يجب أن أقنع العالم من حولي أن نعيش في أمان معا، لأن الكرة الأرضية ليست ملك أحد، بل هي ملك الجميع. و التصالح السابع، و الذي لا يقل أهمية عن التصالحات الأخرى يكمن في تصالحنا مع الكون ككون، و تغيير الفكرة التي نحملها عن هذا الأخير. الكون كهبة أتتنا من حيث لا ندري لا يتقبل أن نملكه أو نعبث فيه فسادا، بل يتطلب أن نحترمه و نعترف بخدماته اتجاهنا. الشعوب العربية من الشعوب المستهلكة للمواد الصناعية و المساهمة في تلويث الكون و جعله رقعة تصبح يوما بعد يوم صعبة لحياة الإنسان. التصالح مع الكون يعني بناء وعي أيكولوجي يعقلن عاداتنا الإستهلاكية، و يحث على الرجوع إلى الإستهلاك الطبيعي الذي لا يتجاوز حدود الحاجة. لابد أن نساهم في المحافظة على الشروط التي تمكن من ضمان عيش إنساني في الكون، و ليس تحويل هذا الأخير إلى جحيم ضد الإنسان. فسوف لن نحصد إلا ما زرعنا، و إذا زرعنا الريح فلن نحصد إلا الزوابع. تصالحات لا تمكن إلا إذا قررنا في مشروع قومي أن نخرج من عنق الزجاجة، بتخطيط و تبصر و ليس بأحلام و كسل و نوم. فالألفية الثالثة الميلادية، و القرن الخامس عشر الهجري، ليسا فقط أعدادا زمنية، بقدر ما يعبران عن تحديات لا يمكن التغلب عليها إلا باستعمال كل ما وهب لنا كإنسانية، وارثة لأسرار إلهية عديدة، و مسؤولة عما أأتمنت عليه. أن تكون إنسانا هو أن تكون مسؤولا. و أن تكون مسؤولا هو أن تفكر في سعادة الجميع قبل تفكيرك في سعادتك الشخصية. ------------- د. حميد لشهب - النمسا