منع زواج القاصر أقل من 17 سنة وتقييد التعدد وتوسيع الهبة.. وهبي يقدم أهم تعديلات مدونة الأسرة    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    السكوري: القانون التنظيمي يراهن على منع المشغلين من "شراء الإضراب"    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    أ. الدشيرة يفوت على ا. يعقوب المنصور فرصة الارتقاء للصدارة    أبرز مقترحات تعديل مدونة الأسرة بالمغرب .. الميراث وتعدد الزوجات والطلاق    تنزيلا للتعليمات الملكية.. هيئة مراجعة مدونة الأسرة تكشف عن التعديلات المعتمدة وهذه أهمها    أول دواء مستخلص من «الكيف» سيسوق في النصف الأول من 2025    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    تفاصيل التعديلات ال16 في مدونة الأسرة.. تضمنت تقييد الاعتراف بزواج الفاتحة    النصيري يرفض الانتقال إلى النصر السعودي على سبيل الاعارة    مبعوث الأمم المتحدة: الصراع الجديد في شمال شرق سوريا ينذر بعواقب وخيمة    تركيا: مقتل 12 شخصا على الأقل في انفجار في مصنع ذخيرة    مدونة الأسرة.. علماء المغرب وافقوا على 7 تعديلات منها "اقتسام الأموال المكتسبة" و"الحضانة للمطلقة"    برقية تعزية من الملك محمد السادس إلى أفراد أسرة المرحوم الفنان محمد الخلفي    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب                        الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة    عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    الصين تكشف عن مخطط جديد لتطوير اقتصاد الارتفاعات المنخفضة    مختص في النظم الصحية يوضح أسباب انتشار مرض الحصبة بالمغرب    دعوات برلمانية إلى تحديد السن القانوني الرقمي ب16 عاما    وعكة تدخل بيل كلينتون إلى المستشفى    التامك يحث على مواجهة الإكراهات    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    الفتح يقسو على "الكوديم" بخماسية    موظف بالمحكمة الابتدائية بطنجة خلف القضبان بتهمة النصب وانتحال صفة    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    موانئ الواجهة المتوسطية: انخفاض بنسبة 17 بالمائة في كمية مفرغات الصيد البحري عند متم نونبر الماضي    "نيويورك تايمز": كيف أصبحت كرة القدم المغربية أداة دبلوماسية وتنموية؟    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    دياز يثني على مبابي.. أوفى بالوعد الذي قطعه لي    أخبار الساحة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأصيل الحداثة وعصرنة التراث
نشر في تطاوين يوم 27 - 12 - 2010

بين كوننا شكلا في العالم الحديث، وكوننا جوهرا من خارجه، يضطرنا إلى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم. ففي التعبير عن معاناتنا تلك نعرض أنفسنا لإنتاج فكر أصيل وعمل حديث يجده الفرد العربي صالحا له أينما حل وارتحل.
لكن، قبل هذا، نشير إلى أن معركة اليوم تعيدنا إلى ثقافة الأسئلة، وتفرض علينا نقلة منطقية وحتمية من التساؤل عن « الأنا؟ » إلى التساؤل عن « نحن؟ ». يفرض السؤال نفسه، إذن، بأبعاد أوسع: من نحن؟
في محاولة للإجابة عن السؤال الجوهري، ربما يستحسن أن نبدأ من النهاية، أن نبدأ من نقطة يتفق عليها الجميع، وهي أن الشرْخ الذي يعيشه المثقف العربي أو الفصام الذي يتهدده كل يوم، يرجع إلى غياب المشروع الثقافي والحضاري، القومي أو العربي. قد يرى البعض أن هذا التشخيص يعاني التبسيط الشديد. لكنه، في حقيقة الأمر، يقع في قلب الشرخ الثقافي العربي. فالأمر لا يحتاج إلى كثير ذكاء أو تمحيص لندرك أننا في أي بقعة من بقاع العالم العربي، لا نملك مشروعا ثقافيا قوميا، سواء على المستوى الإقليمي، أو على المستوى العربي العام، وأن جميع محاولاتنا لتحقيق هذا المشروع أو المشاريع كانت تؤدي دائما إلى طريق مسدود يؤكد الفصام ويوسع الشرخ، بل إن محاولتنا في أحيان كثيرة لم تتعد مرحلة الكلام بغرض الاستهلاك المحلي. على الرغم من كل ما تتشدق به مجالسنا وهيئاتنا ومؤسساتنا الثقافية من خطط للعمل الثقافي، فإننا لم ننجح حتى الآن، ومنذ اتصالنا بالغرب وثقافته في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أو منذ السنوات الأخيرة من القرن السابق عليه.
ولسنا بحاجة في هذا السياق للتوقف عن المشروع الثقافي في محاولة لتعريفه، يكفي أن نقول إننا لا نقصد هنا خطة للعمل الثقافي تقوم هيئة أو سلطة ( ممثلة في حكومة أو وزارة للثقافة ) بوضعها بطريقة واعية مدركة، يتم فيها وضع البرامج وتسمية الآليات التي تمكِّن الجماعة من تحقيق الهوية الثقافية والحفاظ عليها. إذ أن مرحلة التخطيط والتنفيذ هذه، تمثل مرحلة تالية للمشروع الثقافي القومي، وفي غيبة هذا المشروع تصبح الخطط والأنشطة التنفيذية لها مجرد مسكنات مؤقتة ومرحلية، قد تتعارض وتتصادم مع خطط وآليات تنفيذ أخرى، عند حدوث تغير في السلطة المسؤولة، أو المنوط بها تنظيم العمل الثقافي. لكننا نقصد تحرك القوى الاجتماعية في اتجاه يحقق تحديد الهوية الثقافية للجماعة، والحفاظ عليها من الذوبان في ثقافة أو ثقافات الآخر في أثناء تفاعلها معه أو احتكاكها به، في عصر أصبح الاحتكاك بين الثقافات قدرا محتوما. ربما لا يعني ذلك قيام سلطة أو سلطات عليا بالتحكم في مسار القوى الاجتماعية بصورة إرادية واعية تماما، ولكنه يعني تحقق قدر أدنى من التحكم في ذلك المسار وتوجيهه، مما يعني في المقابل درجة من التحكم في التغيرات الاجتماعية التي هي أساس الأنشطة الثقافية. فقرار فتح السوق مثلا أمام قوى الإنتاج والاستهلاك، وهو قرار سياسي سلطوي، يؤدي إلى إحداث تغيرات اجتماعية جذرية تؤدي بدورها إلى خلق حساسية خاصة بها، ومن ثم، إلى إفراز أدب وفكر خاصين بتلك التغيرات الجديدة. وإغلاق السوق وتوجيه الإنتاج وترشيد الاستهلاك قرار سياسي سلطوي، يؤدي إلى تداعيات مختلفة على المستويين الاجتماعي والثقافي. هذا هو قدر التحكم الذي نقصده والذي يمكن أن يؤدي في ظل وضوح كامل للرؤية، إلى تطوير مشروع ثقافي قومي.
وتلح علينا ثقافة الأسئلة: هل نحن شرقيون أم غربيون؟ هل نعيش حالة المجتمع الحديث أم حالة المجتمع القديم؟ هل ننتمي إلى التراث العربي أم إلى التراث الغربي؟ قد تعني الإجابة والقدرة على تحديد هويتنا الثقافية القدرة على اتخاذ قرار يرضي البعض ويغضب البعض الآخر. لكن الاتفاق يفترض أنه سوف ينهي حالة الفصام، ويضع حدا للشرخ ويرأب الصدع. وهكذا سنعود إلى درجة من التوحد الصحي والكلية التي راوغتنا لما يقرب من قرنين من الزمان. عندئذ سنكون أسعد حالا بعد أن نخرج من الدائرة الجهنمية الحالية، التي ندور داخلها مغمضي العيون، مسلوبي الإرادة، تتقاذفنا تيارات القديم والجديد دون أن ننجز شيئا، يتمثل جل جهدنا في السير فوق أحبال التوازنات الدقيقة.
وهنا نسأل مرة أخرى: ماذا حدث؟ وأين أخطأنا؟ وما الذي أوصلنا إلى ذلك الشرخ، وذلك الفصام المؤلمين؟ ماذا حدث حتى وصل البعض منا في انبهاره بالغرب والثقافة الغربية إلى درجة العماء الكامل، الذي أفقدهم القدرة على الاختلاف؟ ما الذي حدث حتى وصل البعض، وسط انبهارهم بالعقل الغربي وإنجازاته، إلى درجة احتقار العقل العربي وإنجازاته؟
إن الإجابة لا تكمن، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، ممن ينشدون إجابة سهلة، في الحداثة أو ما بعد الحداثة أو في الاثنين معا. على الأقل لم تكن الحداثة نقطة بداية الشرخ؛ بل كانت مرحلة متأخرة يرى البعض أنها بدأت بعد نكسة 1967، ثم أصبحت تيارا قويا عالي الصوت في بداية الثمانينيات. والواقع أن الحداثة وما بعدها كانتا نتيجة ولم تكونا سببا. صحيح أنهما تمثلان ذروة الارتماء في أحضان الثقافة الغربية، لكنها ذروة سبقتها عملية اتجاه واعية ومدركة نحو الغرب وثقافته، بدأت في أثناء تحديث التعليم وابتعاث الشباب إلى أوروبا.
ثم يصبح جسر التأثير الغربي في الثقافة العربية طريقا واسعا ممهدا عن طريق الاستعمار الغربي. فلم يعد الأمر مقصورا على فئة محدودة من الأفراد يبتعثون إلى أوروبا لتعود بانبهارها إلى الثقافة العربية؛ لتحاول تحديث العقل العربي، أو مجرد اقتباس أنظمة تعليم أوروبية حديثة تطبق في عدد محدود من المدارس، بل تعداه إلى غزو بشري عسكري يؤكد التفوق العسكري والثقافي للمنبهرين، ويفرض التبعية على المترددين.
أين أخطأنا إذن؟
أخطأنا حينما حولنا صفقة « التحديث » التي تعني الحفاظ على منجزات العقل العربي من الاستفادة من منجزات العقل العربي في العلوم والتكنولوجيا، كما فعلت اليابان على سبيل المثال حتى عهد قريب، إلى صفقة حضارية وثقافية شاملة، وتحولنا من الانتقاء الذكي من ثمرات الحضارة الغربية، منذ ذروة عصر النهضة، إلى الارتماء الكامل لمنجزات العقل العربي، وهو ما يسمونه بلغة الحداثيين البراقة: "القطيعة المعرفية مع الماضي"، على أساس أن الحداثة لا تتم إلا بتحقيق القطيعة المعرفية مع التراث.
باختصار مؤلم، أخطأنا حينما جمعنا بين الانبهار بالعقل العربي ومنجزاته، وبين احتقار العقل العربي والتنكر لمنجزاته والتقليل الكامل من شأنها.
من هنا أسوق كلاما لمحمد عابد الجابري الذي أراه صائبا فيما ذهب إليه حين يقول:
« نسمع من حين لآخر أصواتا تضع بصورة أو بأخرى، "الاشتغال بالتراث" موضع السؤال: "لماذا كل هذا الاهتمام بالتراث؟ ألا يتعلق الأمر بردة فكرية؟". بل هناك من يذهب إلى حد القول إن الأمر يتعلق بظاهرة مَرضية، ب" عصاب جماعي" أصاب المثقفين العرب بعد نكسة 1967م، فارتدوا ناكصين إلى الوراء، إلى"التراث". والذين يقولون هذا يشتكون من أن الاهتمام ب"التراث" وقضاياه يصرف عن الاهتمام ب"الحداثة" ومتطلباتها. إنهم يرون أو يتخيلون أن التراث العربي الإسلامي هو، ككل تراث، مجرد بضاعة تنتمي إلى الماضي ويجب أن تبقى في الماضي وبالتالي فلا يشتغل بها -إذا كان ولابد- إلا المختصون الأكاديميون في دراسة شؤون الماضي، وفي هذه الحالة يجب أن ينحصر الاهتمام به في إطار قاعات الدرس الجامعي وصفحات المجلات العلمية المختصة وحدها. بعبارة أخرى أن هؤلاء المشتكين من اهتمام المفكرين العرب المعاصرين بالتراث، هذا الاهتمام "الزائد" يعتقدون أن ذلك إنما يتم على حساب الاهتمام ب"الحداثة".
ونحن نعتقد أن هذا الموقف ينم عن عدم تقدير كاف للمشكل المطروح في الثقافة العربية، ذلك أن ما يميز الثقافة العربية منذ عصر التدوين إلى اليوم هو أن "الحركة" داخلها لا تتجسم في إنتاج الجديد، بل في إعادة إنتاج القديم، وقد تطورت عملية الإنتاج هذه منذ القرن السابع إلى تكلُّس وتقوقع واجترار، فساد فيها ما سبق أن عبرنا عنه ب"الفهم التراثي للتراث"وهو الفهم الذي مازال سائدا إلى اليوم، ومن هنا كان من متطلبات الحداثة، في نظرنا، تجاوز هذا "الفهم التراثي للتراث" إلى فهم حداثي، إلى رؤية عصرية له، فالحداثة في نظرنا، لا تعني رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه ب" المعاصرة " أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي، صحيح أن من شأن الحداثة أن تبحث عن مصداقية أطروحاتها في خطابها نفسه، خطاب ب" المعاصرة" وليس في خطاب "الأصالة" الذي يُعنى بالدعوة إلى التمسك بالأصول واستلهامها، ولكن صحيح أيضا أن الحداثة في الفكر العربي المعاصر لم ترتفع بعد إلى هذا المستوى، فهي تستوحي أطروحاتها وتطلب المصداقية لخطابها من الحداثة الأوربية التي تتخذها "أصولا" لها. وحتى إذا سلمنا بأن الحداثة الأوربية هذه تمثل اليوم حداثة "عالمية" فإن مجرد انتظامها في التاريخ الثقافي الأوربي، ولو على شكل التمرد عليه، يجعلها حداثة لا تستطيع الدخول في حوار نقدي تمردي مع معطيات الثقافة العربية لكونها لا تنتظم في تاريخها. إنها إذ تقع خارجها وخارج تاريخها لا تستطيع أن تحاورها حوارا يحرك فيها الحركة من داخلها، إنها تهاجمها من خارجها مما يجعل رد الفعل الحتمي هو الانغلاق والنكوص. وإذن فطريقة الحداثة عندنا يجب، في نظرنا، أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها وذلك بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل. لذلك كانت الحداثة بهذا الاعتبار تعني أولا وقبل كل شيء حداثة المنهج وحداثة الرؤية، والهدف: تحرير تصورنا ل"التراث" من البطانة الأيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه، داخل وعينا، طابع العام والمطلق وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية » .
إن قضايا التراث والفكر المعاصر، من أبرز القضايا التي تتطلب معالجتها وعيا أيديولوجيا عميقا ومنهجية علمية سليمة. إن الطرح الأيديولوجي بطبيعتها، ضروري لفهمها والاستفادة منها، ولكن شريطة التزام المنهجية العلمية بكل ما تفرضه من موضوعية وتروٍ في إصدار الأحكام واتخاذ المواقف. ذلك وحده يمكّننا من التعامل معها تعاملاً فاعلاً لا انفعالياً، ذلك وحده ما يجعلنا نحتويه بدل أن تحتوينا.
فثنائية الانبهار بالعقل الغربي ومنجزاته، واحتقار العقل العربي ومنجزاته تقع في قلب الشرخ الثقافي الذي يعيشه الإنسان العربي بدرجات لا تتفاوت كثيرا من جماعة عربية إلى جماعة عربية أخرى، وبدلا من منطقة وسط يأخذ فيها المثقف العربي ما يتناسب مع ثقافته العربية وتراثه الطويل، نجد الغالبية تعيش الثنائية بكل تناقضاتها وفصامها. صحيح أن هناك قلة بين المثقفين العرب لم يفقدهم إنجاز العقل الغربي قدرتهم على الاحتفاظ بتوازن صحي بين طرفي الثنائية من منطلق إدراكهم أن إنجازات العقل العربي خيرا كلها. هناك من أدركوا الاختلافات بين الثقافتين العربية والغربية، وهناك من واجهوا التحديات القومية ضد الارتماء الكامل في أحضان الثقافة الغربية، لكن تحذيراتهم، على ما يبدو، ذهبت أدراج الرياح، ووصل الانبهار بالعقل الغربي إلى ذروته، في ربع القرن الأخير من القرن العشرين مع النخبة الحداثية وما بعد الحداثية العربية. الانبهار بمنجزات العقل الغربي، في حد ذاته، ليس خطيئة لا تغتفر، لكنه يصبح كذلك حينما يُقرن بالتنكر للتراث الثقافي العربي أو المناداة، كما تفعل النخبة بضرورة حدوث « قطيعة معرفية » كاملة معه كشرط لتحقيق التحديث والحداثة. من هنا يحدد شكري عياد في دقة كاملة، طرفي الثنائية في نهاية القرن العشرين حين يقول:
« لا شيء أصعب من أن ننظر إلى الحقائق كلها في وقت واحد، فكم يكون الاختيار سهلا لو تعامينا عن بعضها. وأصحاب الحداثة - كبارهم وصغارهم - يتجاهلون نقائص الحضارة الغربية مع علمهم بهذه النقائص، كأن إيمانهم بتفوق العقل الغربي ونجاح المجتمع الغربي بلغ حد الإيمان بقدراتهم على التغلب على جميع المشكلات، أو كان التفكير في نقائص الحضارة الغربية يجب أن يؤجل إلى أن نصبح جزءا من هذه الحضارة بالفعل » .
لكن كلمات شكري عياد هنا والتي تنتمي إلى العقد الأخير من القرن العشرين، تشير إلى الحداثة والحداثيين العرب، مما قد يوحي بأن الحداثيين هم الذين بدأوا موجة الانبهار بإنجازات العقل الغربي والثقافة العربية. لكن هذا ما لم يقصده عياد ولا يهدف إليه كاتب هذا المقال إلى إثباته. الحداثة العربية - كما سبق أن أشرنا - كانت نتيجة لهذا الانبهار ولم تكن سببا. كانت ذروة وإن كان ذلك لا يعني تبرئة الحداثيين العرب سواء من الانبهار بإنجازات العقل الغربي - وهذا من حقهم - أو احتقار العقل العربي - وهذا ليس من حق أحد.
يقول محمد عابد الجابري مرة أخرى:
« من هنا خصوصية الحداثة عندنا، أعني دورها الخاص في الثقافة العربية المعاصرة، الدور الذي يجعل منها بحق "حداثة عربية". والواقع أنه ليست هناك حداثة مطلقة، كلية وعالمية، وإنما هناك حداثات تختلف من وقت لآخر ومن مكان لآخر. وبعبارة أخرى الحداثة ظاهرة تاريخية، وهي ككل الظواهر التاريخية مشروطة بظروفها، محدودة بحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور، فهي تختلف إذن من مكان لآخر. من تجربة تاريخية لأخرى، الحداثة في أوربا غيرها في الصين، غيرها في اليابان...في أوربا يتحدثون اليوم عن "ما بعد الحداثة " باعتبار أن الحداثة ظاهرة انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر بوصفها مرحلة تاريخية قامت في أعقاب "عصر الأنوار" (القرن الثامن عشر ) هذا العصر الذي جاء هو نفسه في أعقاب "عصر النهضة" ( القرن السادس عشر).
أما في العالم العربي فالوضع يختلف: إن" النهضة " و"الأنوار" و"الحداثة" لا تشكل عندنا مراحل متعاقبة يتجاوز اللاَّحق منها السَّابق، بل هي عندنا متداخلة متشابكة متزامنة ضمن المرحلة المعاصرة التي تمتد بداياتها إلى ما يزيد على مائة عام، وبالتالي فنحن عندما نتحدث عن"الحداثة" فيجب أن لا نفهم منها ما يفهمه أدباء ومفكروا أوربا، أعني أنها مرحلة تجاوزت مرحلة " الأنوار " ومرحلة " النهضة" التي تقوم أساسا على"الإحياء"، إحياء "التراث" والانتظام فيه نوعا من الانتظام. إن الحداثة عندنا، كما تتحدث في إطار وضعيتنا الراهنة، هي النهضة والأنوار وتجاوزهما معاً، والعمود الفقري الذي يجب أن تنتظم فيه جميع مظاهرها هو العقلانية والديمقراطية. والعقلانية والديمقراطية ليستا بضاعة تُستَورد بل هما ممارسة حسب قواعد. ونحن نعتقد أنه ما لم تمارس العقلانية في تراثنا وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة " العالمية " كفاعلين وليس مجرد منفعلين » .
أما عن الانبهار فلم يكن العقل العربي في يوم من أيام اتصاله بالثقافة والحضارة الغربيتين أكثر انبهارا بهما مما هو اليوم، ومنذ بداية الثمانينيات على وجه التحديد، وهو انبهار أعمى الحداثيين العرب عن إدراك الاختلافات، من ناحية، ودفعهم بسبب إيمانهم بضرورة تحقيق قطيعة معرفية مع الماضي كشرط لتحقيق الحداثة، إلى احتقار التراث من ناحية ثانية، ثم الوصول بالتبعية الثقافية للغرب إلى أبعد نقطة فيه من ناحية ثالثة. والنتيجة أن أصبح العقل العربي منفعلا وليس فاعلا.
وما دام العقل العربي نفسه أصبح مستباحا إلى هذا الحد، فلماذا لا تستباح أدواته وفي مقدمتها لغة التعبير؟ وهكذا ينتقل تحقير العقل العربي إلى تحقير اللغة العربية واتهامها بالقصور، إذ يتهمها بعض العرب وغير العرب بالقفز اللغوي، لأن « نظامها اللغوي »، حسب زعمهم « يخلو من الفئات التركيبيةGrammatical Catégories الموجودة في اللغات الأخرى، ولاسيما الأوروبية منها، ويتبع هذا الاتهام بطبيعة الحال - وهو ما يرمون إليه...اتهام فكري ومعرفي» ، وهكذا تكتمل دائرة الإدانة الجهنمية للعقل العربي وأدواته، فسواء كانت من المؤمنين بأن اللغة تسبق الفكر وأنه لا وجود للفكر قبل اللغة، أو أن اللغة أداة للتعبير عن الفكر، بمعنى أن الفكر سابق لوجود اللغة، فالعقل العربي في فكره ولغته عقل متخلف وقاصر.
ويزداد الشرخ اتساعا عند المثقف العربي المهموم بواقعه الفكري واللغوي، وهو يشاهد من حوله مثقفين ومفكرين يشعرون بدونية العقل العربي، فيرتمون في أحضان فكر الآخر، وينقلون عنه لغة ركيكة تؤكد تلك الدونية وتنشئها في آن. يحضرني هنا نص لشوقي ضيف يقول فيه:
« وحقا أن هذه التجارب التي نشير إليها تُكتب بلغتنا العربية، ولكن لا نقرأ فيها حتى نشعر أن الأعمدة التي تشد بناء لغتنا قد سقطت وهوت من أيدي أصحابها، فهو يكتبون بحروف وألفاظ يظنونها عربية أو هي كذلك، ولكن لا نقرأ فيها حتى نحس بالعجمة والشذوذ على ما ألفناه في أساليبنا وفي عربيتنا. وأكاد أقول إنهم يكتبون بلغة لا عربية، ولا غربية، أما إنها غير غربية فذلك شيء واضح لأنها لا تكتب بلغة الغرب، وأما إنها غير عربية فلأنها لا تكتب باللغة العربية المألوفة لنا» .
أين أخطأنا؟ جميع المؤشرات تشير في اتجاه الخلط المبكر بين التحديث التكنولوجي المادي والتحديث الثقافي، حينما وصل انبهارنا بالعقل الغربي - مع التقليل من شأن العقل العربي بدرجات متفاوتة بين الاحتقار والتجاهل - إلى تبني كل ما هو غربي بصرف النظر عن اختلافه، بل تفاهته بالنسبة للغربيين أنفسهم. « والنخبة عندنا »، كما يذكر شكري عياد، حتى في مجال الثقافة - تقنع عادة ب« آخر » ما أنتجته المصانع الأوروبية أو الأمريكية، وقد تضع في أعز مكان من الصالون، ما يلقيه الغربيون على جانب الطريق .
لقد انتهى القرن العشرون وقد تربع الفكر الحداثي، بل ما بعد الحداثي، في أعز مكان في «صالون» الثقافة العربية بعد أن طرد بعضنا، ربما بحسن نية لا تغتفر، التراث العربي عبر النوافذ والأبواب، وأكدوا - وهنا تكمن ضخامة الجرم الثقافي الذي لا يغتفر من كل حسن النوايا - التبعية الثقافية لثقافة « الآخر » المختلفة، وحققوا المفارقة المؤلمة: ففي الوقت الذي ارتبطت الحداثة عامة بالرغبة في التحرر من قيود الماضي المكبلة لحرية الإبداع، انتهت الحداثة العربية، إلى إدارة ظهرها بالكلية للتراث الثقافي العربي، لتقع أسيرة لقيود جديدة، أكثر قهرا وأكثر إيلاما، وهي قيود التبعية للثقافة الغربية.
وإن أبرز صفات الحداثة الغربية وهي التسليم الكامل بسلطة العقل، إلى درجة يؤكد معها الجميع أن الحداثة في أحد معانيها الجوهرية صنو العقلنة أو العقلانية أو مرادف لها. وقد وصل إيمان الحداثة بالعقل ومنتجاته في الحضارة الغربية إلى درجة دفعت المرتدين على الحداثة نفسها، في مرحلة ما بعد الحداثة، إلى التمرد على التسليم بسلطة العقل الكاملة وسطوة العقلانية، لأنها من ناحية، انتهت إلى قهر الذات بدلا من تحريرها، ولأنها من ناحية ثانية، في إيمانها المطلق بأن العقل والعقلانية الإمبريقية ارتبطت بشرط القطيعة مع جميع ألوان الفكر الغيبي؛ أي أن الطريق المسدود الذي أوصلتنا إليه ما بعد الحداثة كان قد بدأ حقيقة مع الحداثة الغربية منذ بدايتها. وهذا ما يؤكده آلان تورين مبكرا في دراسته القيمة في [نقد الحداثة] عندما يحاول تقديم تعريف مبسط للحداثة الغربية، فيقول:
« كيف يمكننا الكلام عن المجتمع الحديث إلا إذا كان هناك مبدأ عام معترف به لتعريف الحداثة؟ من المستحيل أن نطلق كلمة «حديث» على مجتمع يسعى قبل كل شيء لأن ينتظم ويعمل طبقا لوحي إلهي أو جوهر قومي. وليست الحداثة أيضا مجرد تغيير أو تتابع أحداث: [ أي أنها لا ترتبط بالجدة بالضرورة] إنها انتشار لمنتجات النشاط العقلي، العلمية، التكنولوجية، الإدارية...فالحداثة تستبعد أي غائية. إن العلمنة وإزاحة سحر الأوهام، التي يتحدث عنهما فيبرWeber واللتين تحددان الحداثة باعتبارها عقلنة، تبرزان القطيعة الضرورية مع الغائية الدينية التي تنادي دوما بنهاية التاريخ، سواء عن طريق تحقق تام لمشروع إلهي أو اختفاء لإنسانية منحرفة لم تخلص لرسالتها » .
إن أخطر ما في هذه الصفة المبدئية والأساسية للحداثة، وهي جانب الاختلاف الأول الذي يجب أن ندركه لنبحث عن توازن أكثر خصوصية بثقافتنا بين « تحديث » الحداثة الغربية والقيم الدينية والروحية العربية، هي أنها « أحلت فكرة العلم » كما يقول تورين، «محل فكرة الله في قلب المجتمع »، وقصرت الاعتقادات الدينية على الحياة الخاصة بكل فرد. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنه لا يكفي أن تكون هناك تطبيقات تكنولوجية للعلم لكي نتكلم عن مجتمع حديث.
إن القول بأن التطبيقات التكنولوجية للعلم لا تكفي لكي نتحدث عن مجتمع حديث، ينقلنا إلى محطة أخرى للاختلاف، وهي التغيرات التي طرأت على علاقات القوى الاجتماعية في المجتمعات الغربية منذ بداية الثورة الصناعية، بالإضافة إلى التحولات الفلسفية العديدة التي مر بها الفكر الأوروبي منذ بداية القرن السابع عشر، وكيف أدت في النهاية، وبصورة حتمية، إلى إنتاج الحداثة الغربية.
إن الحداثة الغربية كانت نتيجة منطقية للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي مرت بها المجتمعات الغربية. أما نحن، فقد تبنينا النتائج النهائية للحداثة الغربية دون أن نعيش مقدماتها. النتائج الوحيدة التي كانت أمامنا هي التي تعتمد على مقدمات التراث العربي. كان من الممكن أن نُدخِل عليه كل ما شئنا من عمليات التحديث، من تطعيم ذكي بالتراث الغربي، واختيار حصيف لأفضل ما فيه، وكان من الممكن أن نمارس مع تراثنا جميع عمليات الاختيار والحذف Selection and Elimination، بدلا من تبني نتائج تعتمد على مقدمات - واقع حضاري وثقافي - ليست مقدماتنا. وهذا على وجه التحديد، ما أقلق سيد البحراوي في [ البحث عن المنهج ] حينما حاول أن يضع يده على أزمة الثقافة العربية، وهي أزمة تتمثل، من وجهة نظره، في أن لهفتنا للحاق بركب الحضارة الغربية، دفعتنا إلى تبني حلول الآخرين الجاهزة، الحلول الغربية دون أن نتوقف في كثير أو قليل عند الاختلاف لنسأل أنفسنا إذا كان واقعهم وأزمتهم، هو واقعنا وهي أزمتنا .
هذا التناقض الصارخ بين المقدمات والنتائج كان أبرز ما سجله شكري عياد، من زاوية مختلفة، حول مقولة مبكرة لإلياس خوري في مقاله « الذاكرة المفقودة » والذي نشر لأول مرة عام 1979 في مجلة مواقف. يقول فيها: « لم تطرح الحداثة في الثقافة العربية المعاصرة إلا ضمن إشكالية خاصة بها. فهي لم تكن صورة عن الحداثة الغربية، بل كانت محاولة عربية لصياغة الحداثة داخل مبنى ثقافي له خصوصياته التاريخية، ويعيش مشكلات نهضته...الحداثة العربية هي محاولة بحث عن شرعية المستقبل، بعد أن فقد الماضي شرعيته التاريخية في عالم توحده الرأسمالية الغربية بالقوة ». ولا يتردد شكري عياد في إبراز التناقض الواضح بين مقدمة خوري ونتيجته. إن خوري يقرر « أن للحداثة العربية خصوصيتها المرتبطة بتاريخ النهضة العربية. هذه هي المقدمة. فكيف أدت إلى النتيجة القائلة بأن هدف الحداثة العربية وشرعية وجودها يقومان على ضرورة التخلص من كل معوقات الماضي من أجل الانطلاق إلى المستقبل ». إن تناقضات خوري هنا وتناقضات من يحاولون تأصيل الحداثة الغربية داخل البيت الثقافي العربي تتمثل في إدراكهم، في حقيقة الأمر للاختلاف ومحاولة التحايل عليه وعلى القارئ. ولأن نتائجهم تقوم على مقدمات غير عربية فإنهم يحاولون تحقيق تزاوج زائف بين مقدمات ثقافة ونتائج ثقافة أخرى. وهذا عكس ما نقوم به في مشروعنا الثقافي والحضاري في قضايا فكرية معاصرة، إذ نهدف إلى تأصيل الحداثة العربية ذات المقدمات العربية ونتائجها الخاصة بها، كما نرمي إلى عصرنة التراث الذي هو منا وإلينا ولا يمكننا أن نستغني عنه أو نستبدله بحداثة وثقافة لا ننتمي إليها. وهذا حتى لا نقع في انفصام ثقافي وحضاري وهوية ممزوجة لا هي شرقية ولا غربية.
إلا أنني أشير هنا.. أنه إذا كانت الحداثة، على حد قول تورين، « تربط التقدم بالثقافة وتعارض الثقافات أو المجتمعات التقليدية بالثقافات أو المجتمعات الحديثة وتفسر كل حدث اجتماعي أو ثقافي بمكانه على محور التراث - الحداثة، فإن ما بعد الحداثة تفصل ما ارتبط» . واللافت للنظر أن تأكيد خطورة التغاضي عن الاختلاف يقوم به مفكرون غربيون، مثل تورين، بنمط أكثر تكرارا من التحذيرات العربية. بعض هؤلاء المفكرين الذين ينقضون الحداثة وما بعد الحداثة من داخلها، من داخل البيت الغربي ذاته، يؤكدون الاختلاف، ويحذرون من أخطار التبعية، ولا يترددون أحيانا في فضح تناقضات الحالة الحداثية وما بعد الحداثية الغربية.
إن التناقضات الكامنة في مجتمع ما بعد الحداثة الغربي، تكفي في حد ذاتها لإنهاء حالة الانبهار بالعقل الغربي ومنجزاته، وتؤكد في الوقت نفسه، أن مجتمع ما بعد الحداثة ليس هو الجنة الموعودة التي يحاول مثقفو العالم الثالث نقلها أو محاكاتها. وحينما تندفع دول العالم الثالث في اتجاه ما بعد الحداثة الغربية دون أن تتوافر لها الحالة الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزت ما بعد الحداثة الأوروبية - الأمريكية. أو حينما تتبنى نتائج تقوم على مقدمات ليست مقدماتها، فإن النتيجة حالة فصام مَرضية.
لكن من أبرز جوانب الاختلاف التي لم ندركها، وربما تكون السبب الأساسي لمراوغة ما بعد الحداثيين العرب وتهربهم من الاعتراف بتحولهم من الحداثة إلى ما بعدها، هو حالة الشك وفقدان اليقين، بعد أن سقطت الآلهة الجديدة: المادة، والعلم، والعقل، وفشلت في تفسير الكون أو تحقيق السعادة للإنسان. لقد وصل الإنسان في شكه في العقل وسيادته ورفضه ليقينية العلم التجريبي لا إلى الشك في الأمور الميتافيزيقية فقط، بل إلى الشك حتى في الحقائق العلمية القائمة على التجريب والقابلة للاختبار. ولهذا لم يكن غريبا أن يخلص آلان تورين، في نهاية نقده للحداثة الغربية، إلى أن العالم الغربي اليوم، الذي ينبهر بعضنا بإنجازاته الحداثية وما بعد الحداثية إلى درجة العمى عن إدراك الاختلاف، هذا العالم قد بدأ مرحلة الحنين إلى الماضي، ماضي التقاليد والنظام والتوازن الصريح بين منجزات العقل وتحقيق الذات والقيم الدينية، بعد أن اقترب العالم الغربي نفسه من حالة الهمجية والفوضى. ويزداد الحنين حدة في الثقافات التي فرضت عليها الحداثة وما بعد الحداثة من الخارج عن طريق قوة استعمار قاهرة. يقول تورين:
« لم يعد لدينا ثقة في العالم. لم نعد نؤمن بأن الثراء يقود إلى تحقيق الديمقراطية والسعادة. لقد ذهبت الصورة التحررية للعقل وأعقبها الخوف من العقلنة التي تؤدي إلى تركيز سلطة القرار في القمة. ويزداد خوفنا...من عدم المساواة على المستوى العالمي وأن تفرض على الجميع سباقا مهلكا تجاه التغيير. يظهر خلف هذه المخاوف شك عميق: أن تكون الإنسانية بإزاء فض تحالفها مع الطبيعة وتتحول إلى همجية...يتحسر البعض على مجتمع التقاليد بشفراته ومراتبيته وطقوسه...لاسيما في البلاد التي جاءها التحديث من الخارج على يد المستعمرين أو المستبدين. ويستدير البعض تجاه الرؤية العقلانية للعالم، علمانية كانت أو دينية، والتي تدعو البشر إلى ترقية العقل الذي يخضع لنفس القوانين التي يخضع لها الكون» .
فإذا كان أصحاب الحداثة الغربية أنفسهم يشعرون بالحنين Nostalgia إلى الماضي بمراتبيته وطقوسه، فكيف بنا، بكامل إرادتنا، ندخل السباق المهلك للتغيير القائم بالدرجة الأولى على تحقيق قطيعة معرفية مع الماضي.
فهل الماضي إذن هو التراث؟ وهل لنا أن ندير ظهورنا إلى التراث أو الماضي، ثم ندعو التطلع إلى الحاضر والمستقبل؟ يقول محمد عابد الجابري في تعريفه للتراث: « التراث هو كل ما هو حاضر فينا أو معنا من الماضي، سواء ماضينا أم ماضي غيرنا، سواء القريب منه أم البعيد» هذا التعريف عام كما تلاحظون، فهو يشمل التراث المعنوي، من فكر وسلوك، والتراث المادي، كالآثار وغيرها، ويشمل التراث القومي ( ما هو حاضر فينا من ماضينا ) والتراث الإنساني ( ما هو حاضر فينا من ماضي غيرنا )، كما يربط تراث الماضي بالحاضر مباشرة: فليس التراث هو ما ينتمي إلى الماضي البعيد وحسب، بل هو أيضا ما ينتمي إلى الماضي القريب. و« الماضي القريب » متصل بالحاضر، والحاضر مجاله ضيق، فهو نقطة اتصال الماضي بالمستقبل. وإذن فما فينا أو معنا من حاضرنا، من جهة اتصاله بالماضي، هو تراث أيضا . وهكذا فإذا كان « الإرث » أو « الميراث » هو عنوان اختفاء الأب وحلول الابن محله، فإن « التراث » قد أصبح بالنسبة للوعي العربي المعاصر، عنوانا على حضور الأب في الابن، حضور السلف في الخلف، حضور الماضي في الحاضر...ذلك هو المضمون، الحي في النفوس، الحاضر في الوعي، الذي يعطي للثقافة العربية الإسلامية وعنصرا أساسيا ورئيسيا من عناصر وحدتها. ومن هنا ينظر إلى « التراث » لا على أنه بقايا ثقافة الماضي، بل على أنه «تَمامُ» هذه الثقافة وكليتها: إنه العقيدة والشريعة، واللغة والأدب، والعقل والذهنية، والحنين والتطلعات، وبعبارة أخرى إنه في آن واحد: المعرفي والأيديولوجي وأساسهما العقلي وبطانتهما الوجدانية في الثقافة العربية الإسلامية .
إننا نواجه تحدياً حضارياً يفرض علينا تصنيف الأشياء إلى صنفين: ما يساعد على التقدم ويدفع عجلة التطور إلى الأمام، وما يفعل العكس أو من شأنه أن يفعل ذلك. وعناصر التقدم، والعناصر المعاكسة له، موجودة في كل أصناف تراثنا، في الفكر الأشعري والفكر المعتزلي والفكر الشيعي والفكر الفلسفي وجميع المذاهب الفقهية ما كتب لها الانتشار وما بقي محصوراً في نطاق محدود. ولذلك فلا معنى للتشبث في الوقت الحاضر باتجاه من هذه الاتجاهات أو مذهب من هذه المذاهب، وكأنه وحده الممثل « الحقيقي » للتراث. ولا معنى كذلك لتصنيف الإسلام إلى صنفين: « إسلام السنة » و «إسلام الشيعة»، كما يفعل بعض المستشرقين. فالإسلام واحد، عقيدةً وشريعةً وتاريخاً، والتعدد في المذاهب والاتجاهات والدول والإمارات، سيفقد معناه إذا نظر إليه خارج الوحدة، وحدة الإسلام، وحدة التراث، ككل. إن التعدد نشأة داخل الوحدة، لا خارجها، وكانت إشكاليته هي تحقيق وحدة أمتن وأفضل لا تفتيت الوحدة.
وعندما يتعلق الأمر بتراث كالتراث العربي الإسلامي، لابد من مراعاة كاملة لخصوصيته. وأحد عناصر هذه الخصوصية هو: العالمية والشمولية. إن التراث العربي الإسلامي عالمي بمعنى أنه تراث حضارة عالمية، حضارة الإنسانية في فترة من فترات تاريخها. إن الثقافة العربية الإسلامية كانت تمثل خلال أوج ازدهارها ثقافة عصر على مستوى عالمي. فلم تكن محدودة ولا منغلقة كثقافة الهند أو الصين أو الفرس، بل بالعكس، كانت ثقافة متفتحة قابلة لاستيعاب كل أنواع الثقافات التي احتكت بها، ومن هنا عالميتها.
والتراث العربي الإسلامي، فضلا عن طابعه العالمي الإنساني، تراث يتصف بطابع الشمولية. فهو يتناول جميع مناحي الحياة الجماعية والفردية، الاجتماعية والفكرية. إنه تراث حضاري بأوسع معاني كلمة حضارة، ولذلك ما يزال يطبع جوانب أساسية وكثيرة من حياتنا كأفراد أو جماعات.
وإذن، فالطابع العالمي لتراثنا العربي الإسلامي والطابع العالمي للفكر الأوروبي المعاصر، يجعلان طرح الأصالة في مقابل المعاصرة، والتي نهدفها في تحليلنا وتوضيحنا لمشروعنا التنويري من أجل تأصيل الحداثة وعصرنة التراث، هذه المقابلة هي بمثابة وضع الفكر الإنساني في مقابل نفسه، تحت تأطيرات واهية قومية أو دينية أو حضارية مزعومة. ولعل الذين يضعون الأصالة في مقابل المعاصرة، يفهمون من الكلمتين شيئا آخر غير معناهما الحقيقي.
إن الأصالة - مثلها مثل المعاصرة - لا تدل على شيء، فهي ليست ذاتا، ولا واقعا، -على حد قول الجابري - إنها صفة أو سمة لكل عمل يدوي أو فكري يبرز فيه جانب الإبداع بشكل من الأشكال. فالإنتاج الأصيل قد يكون قديما وقد يكون معاصرا. والأصالة فوق ذلك لا تعدم أصولا. فليست خلقاً من لا شيء، بل هي في الغالب صياغة جديدة معبِّرة، لجملة من العناصر أو الأصول المعروفة، إنها عملية دمج تعطي كائنا أو بنية جديدين. وعملية الدمج، هذه الغنية المعقدة، التي تطبعها الذات الدامجة بطابعها، هي ما يميز الإنتاج الأصيل من « الإنتاج » الدخيل. والأصيل بعد ذلك لا يكون أصيلا إلا إذا كان ذا دلالة في الحاضر. والجوانب الأصيلة في أية ثقافة، هي تلك التي نستطيع أن نتبين فيها، ليس فقط التعبير القوي المبدع عن بعض معطيات الماضي، بل أيضا التي تستطيع أن توحي لنا بنوع من التعبير جديد عن معطيات الحاضر. الثقافة الأصيلة هي التي يجد فيها الحاضر مكانا فيما تحكيه عن الماضي، دون أن تحجب آفاق المستقبل. إنها تساعد على تأسيس الحاضر في اتجاه المستقبل، لا في اتجاه الماضي.
وبالمثل، فالفكر العالمي المعاصر ليس كله « معاصرا » بالنسبة لنا. فالمعاصرة بالنسبة لنا يجب أن تتحدد، لا بالزمان، بل بالتعاطف والتواصل. هو معاصر لنا ما يمكن أن يساعدنا على حل مشاكلنا أو على اكتساب رؤية واعية صحيحة للقضايا التي تواجهنا إقليميا وعربيا ودوليا. إن العالم اليوم منقسم إلى معسكرين: معسكر القوى الاشتراكية والقوى الوطنية التحريرية والقوى الديمقراطية ( سواء داخل الغرب أو خارجه )، ومعسكر القوى الرأسمالية والإمبريالية والذيول التابعة لها أو السائرة في ركابها ( في الشرق أو في الغرب ). والفكر العالمي المعاصر يعكس الصراع بين هذه القوى في نفس الوقت الذي يستعمل فيه كسلاح في هذا الصراع نفسه. فإذا حددنا موقعنا من هذا الصراع سهل علينا أن نتبين أي الجوانب هي أكثر « معاصرة »، لنا في الأيديولوجيات وأنماط التفكير السائدة.
وهكذا، فموقفنا من التراث ومن الفكر العالمي المعاصر يجب أن يكون موقفا واحدا يحدده ويوجهه الموقع الذي نحتله في حلبة الصراع كشعوب تناضل من أجل تركيز شخصيتها، وبناء حاضرها ومستقبلها في اتجاه التطور التاريخي العام، اتجاه التحرير والديمقراطية والاشتراكية .
وإذن، فعندما نتحدث عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، يجب أن نصدر في ذلك عن رؤية واضحة واعية: إن الماضي والمستقبل، هما كالحاضر، ليسا واقعين جامدين، ولا شَبَحين ملفوفين في كتلة من الضباب، بل هما صيرورة وحركة. إن الأمر يتعلق بتاريخ هو أساسا تاريخ صراع يعكس ويخدم مصالح ومطامح فئات وطبقات مختلفة، سواء على المستوى القومي أو المستوى العالمي. وهذا يعني أن الرؤية الصحيحة لقضية الأصالة والمعاصرة، هي تلك التي تأخذ بحسبانها تاريخية الثقافة والفكر. إن الفكر العربي الإسلامي - وقد كان عالميا في عصره ولازال يحتفظ ببعض عناصر عالميته - والفكر الأوروبي المعاصر - وهو عالمي في عصرنا - ينتظمهما قاسم مشترك ذو محورين متوازيين: محور العالمية، ومحور المصالح القومية والطبقية، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي. ونحن الذي نعيش مرحلة دقيقة من تاريخنا، مرحلة التحول المصحوب باهتزاز، لن نستطيع تثبيت كياننا وبناء مستقبلنا إلا إذا عالجنا العلاقة بين تراثنا وثقافة العصر معالجة فاعلة، لا انفعالية، أساسها نظرة جدلية واعية، ومن هنا ضرورة إعادة « قراءة » التراث والفكر العربي المعاصر برؤية جديدة، رؤية شمولية، جدلية، تاريخية، لا تقتل الخاص في العام، ولا تتقوقع في الخاص على حساب العام.

مما لا شك فيه أن مشروع التنوير في العالم العربي له شرعيته، وهي شرعية سيظل محتفظا بها لبعض أجيال قادمة. وليس الأمر مقصورا على منطقتنا، إذ إن شرعية التنوير قائمة وضرورية في أي منطقة من العالم تحارب شعوبها معركة، تختلف في حدتها وضراوتها من منطقة إلى أخرى، ضد الخرافة والتفكير الخرافي من أجل العلم وسيادة العقل. والقول بغير ذلك حكم أكيد بالموت في عالم يأكل فيه القوي الضعيف. ثم إن البحث عن الهوية الثقافية لا يعني العزلة وإغلاق النوافذ والأبواب - حتى لو افترضنا أن هذا اختيار ممكن - ورأبَ الصدع والخروج من مأزق ثقافة الشرخ لا يعنيان أن ندفن رؤوسنا في الرمال متظاهرين بأن العالم من حولنا، العالم الذي يموج بالتحولات والتغيرات، لا وجود له. فهو موجود بكل تحولاته وتغيراته، من ناحية، ويقول النظام العالمي الجديد والعولمة بفرض هذه التحولات والتغيرات علينا شئنا أم أبينا، من ناحية ثانية. وإذا لم نتعامل مع حقائق الواقع الجديد فسوف يتحول الشرخ إلى قنبلة تفجرنا من الداخل.
لكننا ونحن نؤكد شرعية مشروع التنوير الثقافي والحضاري، نلفت النظر، في الوقت نفسه، إلى الدعوة القوية التي ارتفعت في قلب الحضارة الغربية ذاتها إلى تصفية المشروع التنويري بعد أن أوصلت سيادة العقل والعلم هذه الحضارة إلى طريق مسدود أبرز علاماته كبت الذات، التي قام المشروع التنويري لتحريرها أصلا، بالإضافة إلى سيادة القيم المادية، قيم السوق ورأس المال، والتَّفتت والتشرذم والتراجع المؤسي للقيم الروحية. من أبرز ملامح الدعوات لتصفية المشروع التنويري الغربي، تلك الدعوة القوية التي ظهرت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين للعودة إلى القيم الروحية التقليدية، أو لضرورة تطوير حداثة لا تفصل بالضرورة بين سيادة العقل والفكر العلمي وبين الدين، وبتعبيرنا "تأصيل الحداثة". وهذا اختيار مازال، لحسن الحظ، قائما بالنسبة لنا، مشروع التنوير الغربي استغرق أكثر من ثلاثة قرون في تاريخ الفكر الغربي قبل أن يدرك العقل الغربي صلابة الحائط الذي يواجه الحضارة الغربية في نهاية الطريق. أما نحن فمازالت أمامنا حرية الاختيار والانتقاء، على الأقل: اختيار ألا نلفي بأنفسنا في أحضان الحداثة الغربية في انبهار كامل وعمى شامل عن مأزق تلك الحداثة نفسها.
الواقع أن الاختيارات أمامنا كثيرة، بل إن البعض قد اتخذ قراره بالفعل بشأنها تحت ضغوط الرغبة المحمومة في « التحديث »، وكلما زادت انكسارات العقل العربي وهزائمه، اندفعنا في طريق تحديث ذلك العقل في حماس ينسينا أي حسابات متأنية. ومما لا شك فيه أن التحديث قدرنا، وهو قدر يحتِّمه الظرف التاريخي للحضارة العربية. لكن كون التحديث قدرا شيء، وتحول ذلك التحديث إلى حداثة غربية شيء آخر. ويهمنا هنا أن نؤكد أننا لا نتخذ موقفا ضديا من « التحديث » أو « الحداثة » في حد ذاتهما، لكننا بالقطع نرفض الارتماء في أحضان الحداثة الغربية في تجاهل شبه كامل لورطتها ومأزقها من ناحية، ولخصوصية الثقافة العربية، من ناحية أخرى. ورطة الحداثة الغربية تتمثل في أنها بعد سنوات طويلة من سيادة العلم الذي تحكمه قوانين المادة والتجريب الإمبريقي، وصلت إلى مرحلة أدرك معها العقل الغربي، أن العلم ، بهذا المعنى المحدد، فشل في تفسير كل ظواهر الوجود، كما أسلفنا، بل فشل في تحقيق السعادة للإنسان وتحول إلى الشك الكامل والشامل في كل شيء، ولم تعد هناك سلطة تعلو على سلطة الذات الفردية.
أول الاختيارات المطروحة أمامنا أن نبدأ حيث انتهى العقل الغربي من رفض للعلم بذلك المعنى الضيق. أرجو ألا يتسرع أحد ليتهمنا بالتخريف أو الارتداد عن قيم العلم والعقل. العلم الذي نرفضه، والذي وصل العقل الغربي نفسه إلى رفضه أخيرا في مواجهة الهوة التي لا قرار لها، أو الحائط الصلد في نهاية الطريق، هو العلم الذي لا يخضع إلا لقوانين المادة، العلم الذي يفسر كل الظواهر على أساس مادي تجريبي، فيقبل ما يثبت التجريب الإمبريقي وجوده وصحته، ويرفض ما يثبت التجريب الإمبريقي عدم وجوده أو صحته، أو حتى ما لا يقبل القياس أو الحكم التجريبي.
كما أرجو ألا يفسر أحد الحديث عن العلم، باعتباره دعوة للردة إلى عصور الجهالة والظلام، فقد حقق العقل البشري باستخدامه لمناهج التفكير العلمي ثم بتسخير نتائجه في تطبيقات تكنولوجية، الكثير للبشرية. وحاجتنا نحن إلى العلم، في عالم لا مكان فيه للضعفاء، أكبر من أن تحد، خاصة أن تحديث العقل العربي وواقعه ضرورة ملحة. إن ما نحذر منه على وجه التحديد هو ذلك الخلط الواضح بين « التحديث » و « الحداثة » في صورتهما الغربية. ما نتحدث عنه هو ضرورة وضع ضوابط للتحديث والتدقيق في الأخذ عن الثقافة الغربية، بل « ضبط عملية الانبهار بالغرب »، كما يقول شكري عزيز الماضي في [من إشكاليات النقد العربي الجديد]، بعد أن وصل الانبهار بالفكر الغربي إلى درجة تهدد بخطر مزدوج: هو انمحاء الهوية الثقافية العربية من ناحية، وتأكيد التبعية للثقافة الغربية وترسيخها، من ناحية ثانية، فهو يقول:
« وكل هذا يؤكد الأزمة واستفحالها في الربع الأخير من القرن العشرين. وأحسب أن هذه المخاطر نتاج لأسباب عديدة ( نقدية، ثقافية، مجتمعية ). كما أحسب أنها تفرض ضرورة تجسيد خصوصية الصوت الأدبي والنقدي العربي، وضبط عملية الانبهار بالغرب: لأن هذه العملية تؤدي إلى مفهوم مسطح للعالمية وتبدد طاقات إبداعية كبيرة. مع التأكيد بأن تجسيد خصوصية الصوت العربي والنقدي أمر لا يتعارض ولا يتنافى مع الانتماء للحركة النقدية، بل تؤدي، أو يجب أن تؤدي، إلى إنمائها. وفي المقابل فإن تغييب الخصوصية يعني الاندماج بالآخر وهو أمر يتقاطع، ويلتقي بالتحليل الأخير، مع الانغلاق» .
ولا أكون مبالغا، إذا اعترفت هنا، بأن موقف شكري عزيز في السطور السابقة، يلخص موقفنا من « ألفه » إلى « يائه »، إذ أن المشروع في جوهره صرخة من القلب، صرخة استغاثة موجهة للمثقفين ورجال الفكر العرب بقدر ما هو رفض لما يحدث حولنا.
والموقف الذي نتبناه في كل مقالاتنا وبحوثنا يقوم على إدراك كامل لتلك النقطة الدقيقة عند مفترق الطرق، حيث يجب أن نختار ونحدد، مَن نحن؟ وماذا نريد؟ وفي أي اتجاه يجب أن نتحرك؟. مدخلات الموقف التي يجب أن تحدد اختيارنا أو اختياراتنا هي:
أولا: نحن لا نستطيع، حتى لو أردنا، أن ننفصل عن الواقع العالمي الجديد والعولمة القادمة والقائمة، وقد أصبحت العزلة، كما نكرر دائما، ترفا مستحيلا، فنحن جزء من هذا العالم.
ثانيا: إنجازات العقل الغربي خاصة من مسافة الحضارات الأقل تطورا، إنجازات باهرة بكل المقاييس، وهو انبهار كفيل بحجب سلبيات تلك الإنجازات.
ثالثا: إن لواقعنا الثقافي خصوصية لا نستطيع أن نتجاهلها بحجة أننا جزء من العالم بنظامه الجديد، من ناحية، وأن واقعنا الثقافي واقع متخلف، من ناحية ثانية.
رابعا: إن اختيار اتجاه الحداثة الغربية يعني القطيعة مع تراثنا وإدارة ظهورنا له تماما، لأن القطيعة مع الماضي والتمرد عليه جوهر الاختيار الحداثي.
خامسا: إن كوننا جزءا من العالم الجديد، وإدراكنا لحتمية العولمة، وأنها كما تقول الشواهد حتى الآن، هي القدر الداهم، تؤكد حاجتنا إلى تأكيد خصوصيتنا في مواجهة الأخطار القادمة والقائمة، أخطار التبعية وانمحاء الهوية.
تلك هي « مدخلات » الموقف الذي يجب أن نخرج منه باختيار واضح وسليم، وإلا فلنواجه الطوفان.
نعم الأصالة والمعاصرة هي الحل، ولكن عن أي أصالة ومعاصرة نتحدث؟ هل نتحدث عن الشعار الذي فُرِّغ من معناه ولم تعد العلاقة بين شطريه؟
إن الأصالة التي نتحدث عنها، في مواجهة المعاصرة، لا يقصد بها، ولا ينبغي أن يقصد بها، العودة للتراث ودراسته وقتله بحثا، ثم تجميده فوق رف من رفوف الذاكرة الثقافية البعيدة والمنسية. فالتراث هو تراثنا نحن، وهو جزء منا « أخرجناه » عن ذواتنا لا لنلقي به هناك بعيدا عنا، لا لنتفرج فيه تفرج الأنثروبولوجي في منشآته « الحضارية » و« البنيوية » ولا لنتأمله تأمل الفيلسوف لصروحه الفكرية المجردة...بل فصلناه عنا من أجل أن نعيده إلينا في صورة جديدة، وبعلاقات جديدة من أجل أن نجعله معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية، على صعيد التوظيف الفكري والأيديولوجي ( ولما لا إذا كان هذا التوظيف سيتم بروح نقدية ومن منظور عقلاني ؟ ). وهذا أفضل ما استطاع الجادون المتميزون من نقادنا تحقيقه، إذ إن هؤلاء يعودون إلى التراث ليلقوا الضوء على كنوزه ويضعوا أيديهم على أفضل إنجازاته، لكنهم حينما يتحولون إلى التنظير - وما أقله - أو التطبيق - وما أكثره - يستخدمون المصطلح النقدي الغربي الباهر برغم أنهم يدركون جيدا، وأكثر من غيرهم، أنهم كانوا يستطيعون استخدام مصطلحات عربية أصيلة، أو تطوير مصطلح نقدي عربي، بدلا من نقل المصطلح الأجنبي بعوالقه المعرفية أو قيمه المعرفية الغربية إلى الثقافة العربية. ولا يمكن أن نسمي تلك الممارسات « أصالة » بأي معنى من معانيها. إن ما نتحدث عنه هو الأصالة التي تمكن العقل العربي اليوم من تطوير « هوية واقية »، كما نبه عباس محمود العقاد منذ منتصف القرن العشرين، في مواجهة الأخطار القادمة مع النقل عن الغرب دون تمييز، بعد أن « تبين أن الهوية الواقية كانت ألزم للعالم العربي في هذا الدور ( النصف الثاني من القرن العشرين ) مما كانت في جميع الأدوار الماضية منذ ابتداء النهضة في العصر الحديث. فإن الدعوات العالمية خليقة أن تجور على كيان القومية وأن نؤول بها إلى فناء كفناء المغلوب في الغالب » . وأهمية كلمة العقاد لا ترجع إلى أهمية التحذير في حد ذاته فقط، بل إن صاحبها أيضا أبرز مفكري الجيل المبكر الذي تبنى الدعوة للانفتاح على الثقافة الغربية، ولم تخلُ كلماته في الفترة المبكرة من نغمة احتقار واضحة للثقافة العربية. والمؤسي حقا أن ما تخوف العقاد من حدوثه، حدث بالفعل في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بعد أن أدت معادلة الانبهار بإنجازات العقل الغربي والاحتقار المقابل لإنجازات العقل العربي إلى فقدان الثقافة العربية لهويتها الواقية.
وقد حدث ذلك في سياق مفارقة غريبة يرفض الكثيرون من الحداثيين العرب أن يعترفوا بها، بل يسارعون إلى اتهام كل من يواجهه بها بالجهل والرجعية والأصولية والانعزالية، الجانب الأول من المفارقة يتمثل في أن التحول عن التراث العربي وإنجازات العقل العربي، إلى الثقافة الغربية وإنجازات العقل الغربي، يعني التسليم صراحة بإفلاس الثقافة العربية وتخلف العقل العربي. أما الطرف الآخر في المفارقة، فيتمثل في فشلهم في تقديم بديل مقنع يملأ الفراغ الذي خلقه تحولهم. فالمدارس النقدية، على وجه التخصيص، التي أفرزها الفكر الحداثي وما بعد الحداثي الغربي، كانت إنجازاتها في بلاد النشأة ذاتها، إنجازات ضئيلة ومتواضعة، لم تتجاوز إعادة تغليف مقولات نقدية قديمة في لفائف جديدة أكثر بريقا ولفتا للأنظار. وليس هذا هو رأينا وحده، لأنه رأي أجمع عليه من قاموا بنقض تلك المشاريع والإستراتيجيات النقدية من داخل البيت الغربي. وفي الوقت نفسه، فقد كانت العزلة والغموض قدر تلك المشاريع والإستراتيجيات في بلاد النشأة منذ البداية. ولم يكن حظ تلك المشاريع والإستراتيجيات المستوردة أفضل في الثقافة العربية منها في الثقافات التي أفرزتها، بل إنها أسوأ حالا وحظا. لقد تحول الغموض الأصلي إلى معميات وطلاسم زاد من إبهامها سوء الفهم، وسوء النقل وسوء الترجمة، بالإضافة إلى نقطة الضعف المبدئية في النقل عن الحداثة الغربية، وهو أن المصطلح النقدي والمفهوم الذي يعبر عنه كان مقدرا له بمجرد نقله بعوالقه المعرفية أن يجيء غريبا إلى الثقافة العربية. وإذا كان من نقضوا المذاهب النقدية داخل الثقافة الغربية ذاتها اتهموا أصحاب تلك المذاهب بأنهم نخبة يكتبون لأنفسهم فقط، فقد كانت الحال أسوأ في الواقع الثقافي العربي. وهكذا أضاف الحداثيون العرب إلى الأزمة الأصلية للحداثة الغربية أزمة خاصة بهم. وإذا كان البعض يلتمس العذر للحداثيين العرب في حماسهم لإنجاز العقل الغربي باعتباره المُخرِج المعقول - آنذاك - للعقل العربي من ورطته بعد هزيمة 67، فإن ما حققه الحداثيون العرب بعد ذلك جاء عكس توقعاتهم جميعا، إذ كان من المفروض أن تكون « الحداثة »، مدخلا « لتحديث » العقل العربي وبداية نهضة ثقافية وتكنولوجية جديدة، وهي نهضة تتطلب التفاف القاعدة العريضة حول قادة الفكر هؤلاء، حتى يتحقق التحديث الشامل. ولكنهم، بسبب سوء النقل والغموض من ناحية، وفشلهم في إدراك خصوصية الثقافة العربية من ناحية ثانية، انتهوا إلى تكريس ثنائية أو ازدواجية الثقافة العربية وتعميق « الشرخ » بدلا من رأب الصدع، بعد أن فشلوا في إغراء الجماهير العربية العريضة بالسير وراءهم. وأصبحوا في نهاية الأمر مجموعة منعزلة يكتبون لأنفسهم فقط.
وما أردنا أن نكون مثل هؤلاء، وما نرضى بالنتيجة التي وصلوا إليها، بل كل ما نريده في كل ما كتبناه، وما نسعى له في كل ما قلناه، هو محاولة جديدة لبناء مشروع جديد، مشرع تنويري ثقافي حضاري، في قضايا فكرية معاصرة من أجل تأصيل الحداثة العربية والرجوع بها إلى المصدر الأصلي الذي لا يعرف تحريفا و لا زيفا، إنه المصدر الرباني، والوحي الإلهي القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة  ولقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليومَ الآخر وذَكر الله كثيرا ، وفي الحديث : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ » ، وأيضا عصرنة التراث وإخراجه إلى الواقع ووصله بالأحداث المتعاقبة والمتزامنة لعصرنا الراهن من أجل الأخذ عنه والاستفادة منه، وألا نتركه في الرفوف والمتاحف وفي أماكن لا يرتضيها هو ولا أهله، ونحن أدرى بشؤون دنيانا كما قال الرسول: « أنتم أعلم بأمر دنياكم» .
وخلاصة القول..أن اللحظة الراهنة في تاريخنا العربي الحديث ما زالت لحظة نهضوية، مازلنا نحلم بالنهضة...والنهضة لا تنطلق من فراغ، بل لابد فيها من الانتظام في تراث. والشعوب لا تحقق نهضتها بالانتظام في تراث غيرها، بل بالانتظام في تراثها هي. تراث «الغير»، صانع الحضارة الحديثة، تراث ماضيه وحاضره، ضروري لنا فعلا، ولكن لا كتراث نندمج فيه ونذوب في دروبه ومتعرجاته، بل كمكتسبات إنسانية، علمية ومنهجية، متجددة ومتطورة، لابد لنا منها في عملية الانتظام الواعي العقلاني النقدي في تراثنا. إن من الشروط الضرورية لنهضتنا تحديث فكرنا وتجديد أدوات تفكيرنا وصولا إلى تشييد ثقافة عربية معاصرة وأصيلة معا. وتجديد الفكر لا يمكن أن يتم إلا من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، إذا هو أراد الارتباط بهذه الثقافة والعمل على خدمتها. وعندما يتعلق الأمر بفكر شعب أو أمة، فإن عملية التجديد لا يمكن أن تتم إلا بالحَفْرِ داخل ثقافة هذه الأمة، إلا بالتعامل العقلاني النقدي مع ماضيها وحاضرها. يقول محمد عابد الجابري: « إنه بممارسة العقلانية النقدية وبالمعطيات المنهجية لعصرنا، وبهذه الممارسة وحدها، يمكن أن نزرع في ثقافتنا الراهنة روحا نقدية جديدة وعقلانية مطابقة: الشرطين الضرورين لكل نهضة » .
وعندما نتحدث عن « المشروع التنويري النهضوي للثقافة والحضارة العربية والإسلامية »، فنحن نتحدث عن مشروع كلي، عام. مشروع يروم تحقيق « النهضة » في كافة المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويقترح سبلا ووسائل لتحقيق أهدافه ومطامحه تكون على هذه الدرجة أو تلك من التنوع والنجاعة. وإذا نحن أردنا إيجاد أبعاد هذا المشروع كما فكر فيه رواده الأوائل في القرن التاسع عشر وكما استمر موضوعا للتفكير خلال هذا القرن، قلنا إنه نزوع، أي طموح وعمل، من أجل « الوحدة والتقدم » بتعبيرنا اليوم، أو « الاتحاد والترقي » بتعبير رواده أمس .
أما القراءة الأصيلة للحداثة والعصرية للتراث التي نقترحها ونؤكد عليها في مشروعنا التنويري النهضوي للثقافة والحضارة العربية والإسلامية، تهدف إلى جعل المقروء أصيلا ومعاصرا لنفسه، على صعيد الإشكالية النظرية، والمحتوى المعرفي، والمضمون الأيديولوجي، أي قراءتهما في محيطهما الاجتماعي التاريخي من جهة، وفي نفس الوقت جعلهما أصيلا ومعاصرا لنا من جهة أخرى، على صعيد الفهم والمعقولية...وهذا فيما أعتقد هو المعنى الحقيقي والعميق ل«الاجتهاد»كما مارسه كبار علماء الإسلام، ولكن مع تلوينات وتنويعات وتفريعات تختلف باختلاف الموضوعات. أما القوالب الجاهزة الجامدة، سواء أكانت قديمة أم حديثة، فهي لا تملك أن تقدم غير شيء واحد هو القراءة التراثية للتراث - على حد قول الجابري - التي تجر حتما إلى القراءة التراثية للعصر: قراءة عصرنا بنفس تراثنا أو بتراث الآخر وثقافة أخرى.
وبعد، فالأصالة والمعاصرة لا تنفصلان: إن من ينشد الأصالة بدون معاصرة كمن ينشد المعاصرة بدون الأصالة: الأول مقلد والثاني تابع، بل كلاهما تابع ومقلد. والشرط الضروري لتجديد العقل العربي وتحديث الفكر العربي وتغيير الوضع العربي هو كسر قيود التقليد وقطع خيوط التبعية. إنه « الاستقلال التاريخي » الذي لا ينال إلا بممارسة النقد البناء المتواصل للذات وللآخر، أيا كان هذا الآخر. والنقد لا يعني الرفض الميكانيكي، بل هو أساساً تفكيك للسلطة التي يمارسها الخطاب على المخاطب. إنه بذلك نتمكن من جعل المقروء أصيلا ومعاصرا لنفسه، وأصيلا ومعاصرا لنا في آن واحد.
وقد ينتقدنا البعض في مسألة الحداثة والتحديث، ويستشهد بالحديث الذي يقول فيه الرسول: « كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» . فنجيب عنه ونقول: إن ما يرفضه الإسلام، بنص الحديث المذكور، هي الأمور المحدثة في الدين بقصد التعبد، وإن المقياس عند جمهور الفقهاء هو القصد والنية، أما تلك التي يبتكرها الإنسان من أجل راحته ومنفعته وتسخير الطبيعة تسخيرا نافعا للإنسان والإنسانية، فهي لا تدخل في مفهوم « البدعة » بالمعنى المشار إليه، بل منها ما هو مرغوب فيه، وقد سمى الفقهاء المحدثات النافعة ب« البدع الحسنة ». وهناك حديث نبوي يثني على كل من سن سنّة حسنة، فيقول: « من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» . والسنة الحسنة والبدعة الحسنة بمعنى واحد.
وصدق الله العظيم إذ يقول:  والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.