- هل المجتمع المدني واحد في العالم الإسلامي؟ - أم لكل كيان أو دولة مجتمع مدني بخصوصياته ومميزاته؟ - ما هي إمكانيات و قدرات المجتمعات الإسلامية على ابتكار استجاباته وحلوله ورفع مستوى أداءه الديمقراطي تبعا للمستجدات؟ عند "ماركس" و "إنجلز" فإن المجتمع المدني مجال للصراع الطبقي مجال سياسي متحرك دائم الصراع ، وهو لدى "غرامشي" مجموعة من البنى الفوقية: النقابات، الأحزاب، الصحافة، المدارس، الأدب، الكنيسة... وهو بذلك يضع مقابلا للمجتمع السياسي و منافسا له بل و مطيحا به ومحتويا له، وهو لحظة فوق بنيوية (بناء فوقي)، عبر التفرقة الشهيرة التي قام بها بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، ودور الأخير في عملية الهيمنة. وفي علاقة الدولة بالمجتمع فقد أسهم العديد من الفلاسفة من تعميق فهم هذه العلاقة. ف"هوبز" و"روسو"، تحدثا عن إلغاء السلطة الطبيعية والتغلب عليها. "لوك" و "كانط"، تحدثا عن كون الدولة ضرورة للمجتمع المدني و مسوغ لوجوده و استمراره. و "هيغل" يرى أن الدولة تحتوي المجتمع الطبيعي و توجد به. بينما غرامشي يرى أن الدولة مشروطة بالمجتمع و متفرعة عنه، بل الدولة مؤقتة انتقالية، كما عرف بالتفرقة الشهيرة التي حددها بين "المثقف التقليدي" و "المثقف العضوي"، و ضرورة هيمنة الأخير على كل المستويات إيديولوجيا و ثقافيا. و المجتمع المدني الغربي ظهر مع المثقف العصري مثقف الأنوار، والديمقراطية والأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات والصالونات والنوادي والمقاهي الثقافية... وهو قديم مقارنة مع وجوده داخل الفضاء الإسلامي، فمفهوم المجتمع المدني في المجتمعات الإسلامية هو مفهوم دخيل على تراث الفكر السياسي الإسلامي، ولم يبرز في الخطاب السياسي إلا في العقود الأخيرة، و اتسم عند ظهوره بسمات خاصة جعلته يختلف عن مميزات المفهوم في بيئته الأولى، وعندما تأثر رواد الفكر الإصلاحي في القرن 19، ومفاهيم سياسية غربية جديدة مثل: الوطن، الدستور، الانتخابات... لم يكن من ضمنها المجتمع المدني رغم أنه كان من ضمن الموضوعات السياسية و الفكرية التي شغلت النخب الأوربية في النصف الثاني في القرن 19م، بصفة أخص، وهي الفترة التي رحل فيها بعض الرواد إلى أقطار أوربية، وسجلوا ما شاهدوه. كما أن مفهوما المجتمع والدولة حديثان في أدبيات الفكر السياسي العربي و الإسلامي، فكلمة الدولة وردت في النصوص القديمة و لكن بمفهوم لا علاقة له بمفهوم الدولة الحديثة فمن المعروف أن النظم الإسلامية قد أطلقت عليها مفاهيم أخرى مثل: الخلافة، الإمامة، الإمارة، السلطنة. لم يعرف المجتمع العربي الإسلامي التفريق بين المجتمع والدولة حتى منتصف القرن 19م، حيث ظهرت ملامح جنينية لبعض التنظيمات المستقلة عن الدولة مثل: الدوريات، الجمعيات، الصالونات، السياسية و الفكرية، واشتد عودها في العقود الأولى من القرن 20، وهي كلها متأثرة بالنموذج الغربي. لقد كان المجتمع الإسلامي دائما "رعية"، لم تحاول الدولة الإسلامية الفوقية تطوير هذه الرعية وترقية أدائها ومشاركتها وأدواتها داخل الدولة/الأمة الإسلامية. الدولة الإسلامية أصابها العياء، والمجتمع أصابه السأم والملل وحين تتوضح انتصارات وإنجازات الدول المتقدمة المنبعثة من أسفل (أي من المجتمع ضد الدولة المتسلطة) انتقل القلق إلى المنظومة الإسلامية من الداخل وتحت الضغط الخارجي أيضا (الاستعمار). لكن الإرهاصات الحقيقية حصلت مع الفترة الاستعمارية، و بعدها نقلت تدريجيا و بشكل متعثر المجتمع الإسلامي من مجتمعات تقليدية إلى مجتمعات حديثة بسبب تغير في البنى. بإمكاننا إرجاع صيرورة صنع المجتمع المدني هذه إلى بداية مرحلة ما يسمى بالتنظيمات العثمانية (أي البرويسترويكا العثمانية) والتي انطلقت بزخم حوالي سنة 1830م، زمن الاحتلال الفرنسي لبلاد الجزائر. إن جوهر المجتمع المدني يقوم على توافر عدة عناصر: الطوعية والمشاركة في صنع القرار، وتنظيم العلاقات والتفاعل بين مختلف التنظيمات، ووحدة الغاية و الهدف. وهذه الأمور تغيب لدى المجتمعات الإسلامية.. حيث المثقف الإسلامي في واد و الدولة في واد.. لقد انتقل هذا الأخير عبر رحلة طويلة من سلطة الدولة و أحضانها إلى صف المجتمع المدني، إذ كان بالأمس يضطر للدفاع عن السلطان اتجاه الثورات الشعبية من أجل وحدة الأمة وعدم تفرق ريحها. وكان معارضا أحيانا لسلطان الوقت (معارضة دينية طبعا)، لكنه مع منتصف القرن 19م، أصبح يناضل ضد استبداد الدولة في صفوف الشعب من أجل وحدة المجتمع أو الدولة معا ضد المهددين من الخارج.. و لا يمكننا اليوم الحديث عن "مجتمع مدني" في البلدان الإسلامية، لأن هذا المجتمع لازال تحت وطأة حذاء السلطان الجائر... هو في مرحلة التحرر إذن، ولم يصل إلى مرحلة التحقق، لأن المجتمع المدني يمارس مهامه ووظيفته بالحرية والاستقلالية وليس العكس. هناك إرهاصات للمجتمع المدني في البلدان الإسلامية ليس أكثر. ثم إن المجتمع المدني والمجتمع السياسي يعيشان علاقة قطيعة تقريبا في العالم الإسلامي وليست علاقة تكامل.. بين الدولة والمجتمع برزخ لا يبغيان لمدة طويلة كما يؤكد على ذلك الكاتب المغربي "عبد الله العروي". ورغم أن الدولة تطالب المجتمع ب؛ البيعة، الطاعة، الحرب، الضرائب... فإنها لا تطبق مفهوم "كل راع مسئول عن رعيته" في إطار مسؤولياتها اتجاه المجتمع. إن ضرورة المجتمع المدني للعالم الإسلامي، ستنفضح وتبرز للسطح عند فرصة المقارنة التي أصبحت متوفرة لشعوب العالم الإسلامي لوضعية مجتمعاتهم مقارنة مع شعوب العالم المتقدم ضد هيمنة الدولة وعلى جميع الأصعدة، والتي من المفروض أن يكون للشعوب والمجتمعات دورا أساسيا في تسييرها وتداولها. فثمة إجماع على أن سلطة الفقيه اللاهثة وراء ثقافة واحدة ومجتمع أحادي الجانب يجب أن تنسحب لصالح الثقافة العقلانية في رؤية العالم والتسيير والتدبير بالمشاركة الفعلية والحضور الحقيقي للمجتمع المدني والتأكيد على انفتاح الدولة على المجتمع وتحوله إلى خدمة المجتمع المدني الإسلامي الذي طالما كان تحت سيطرتها واختنق تحت عنفها وأنانيتها، وتحول هذا الأخير إلى مجال عمومي لممارسة العقل والبرهان على حد تعبير "يورغان هابرماس"، وليس مجرد جسم منفعل وتحتي وسلبي. لكن هل يمكن للدولة أن تنسحب في العالم العربي في ظل الظروف الراهنة؟ وهل يمكن فقط تطبيق مقولة "دولة أقل و مجتمع مدني أكثر"؟ لم يعرف المجتمع العربي الإسلامي التفريق بين المجتمع و الدولة حتى القرن 19، عندما ظهرت في النصف الثاني منه ملامح جنينية لبعض التنظيمات المستقلة عن الدولة مثل الدوريات، والجمعيات، والصالونات السياسية الفكرية، واشتد عودها مع الوقت، وهي كلها متأثرة بالنموذج الغربي، إن الدولة والمجتمع المدني علاقة صراع في العالم الإسلامي. ناهيك عن القضايا التي تدس دسا في رحم الفكر الإسلامي والتي لا تزيد الطين إلا بلة من قبيل المطالبة بفصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي اقتداء بالمفكرين الأوربيين في مواجهة الكنيسة والذي هو خطأ تاريخي فادح و لن يتحقق، لأننا لسنا دولة "إكليروس" وتعنت وفساد ديني كالذي كانت تعيشه أوربا القرون الوسطى، بل كان الأحرى وما يجب أن تناضل في سبيله قوى المجتمع المدني هو فصل الدين عن السياسة، فالدين لله، و السياسة لخدمة الوطن، فصل للدين عن أوساخ السياسة وعدم محاولة استخدامه أو استغلاله لأغراض دنيوية حقيرة... إنالعالم الإسلامي تميز بغياب وجود مجتمع مدني، بل هناك "رعية" قذفت بأبشع الأسماء في الأدبيات السلطانية، لا حول و لا قوة لها، مما أفسح المجال وهيئ الظروف للاستبداد السلطوي يجد فيه الفرد والجماعة أنفسهم في مواجهة سلطة قاهرة. إن حالة الغربة التي تعيشها الدولة في العالم الإسلامي، ترجع إلى أن الدولة المدنية هي النقيض للدولة التسلطية، تعيش في تناقض و حرب و تضاد معها، و ليس في حالة سلم تكامل وتوافق، وتاريخ مجتمعاتنا هو تاريخ الثقافة الرسمية فقط، لا مجال للكلمة الحركة المعارضة المدنية المساهمة في صرح بناء الدولة.. و ليس هناك مجال لحماية الدولة من جهتها للمواطن المسلم و رعاية حقوقه وتبني إبداعاته و إسهاماته و تقبل انتقاداته و الاستماع لاعتراضاته.. إن محاولة الارتماء في أحضان المجتمع المدني كمفهوم و كنتاج فكري غربي طرح معه إشكالية نقل وتبيئة مفاهيم مثل: الديمقراطية، المجتمع المدني، الحداثة، المواطنة، الهوية... كما طرح معه إشكاليات لم تكن معهودة في الأمة الإسلامية من قبيل المشاركة في صنع القرار، و المعارضة كفن للتسيير، وتقبل المجتمع كطرف في السلطة... من هنا نرى أن مفهوم المجتمع المدني باعتباره جزءا من منظومة مفاهيمية أوسع تشتمل على مفاهيم مثل: الفردية، المواطنة، حقوق الإنسان، المشاركة السياسية الدستورية...، ويبدو أن محاولات الفكر العربي لإيجاد مفاهيم ومصطلحات بديلة للمفاهيم الغربية، تشكل حالة خاصة من حالات مقاومة الفكر الغربي ومأزقه. إن الحقيقة التي تؤسس للمجتمع المدني في منبعه الغربي هو أنه يمثل ظاهرة تحتية "القاعدة" عند ماركس وعند من نظر له من المفكرين الغربيين.. الأمر الذي يصعب تخيله في حالتنا الإسلامية.. لأنه لم ترفع عن المجتمع الإسلامي صفة "الرعوية"(منذ الخلافة وصولا إلى الملك مرورا بالسلطنة)، كما لم يعرف العالم الإسلامي توزيع السلط وتقاسم المهام والمسؤوليات (إنه مرض السلطة والتسلط والهيمنة)، ف "الجمهور"، "الرعية"، "الرعاع"، "العامة"... تاريخها هو تاريخ الانفعال لا الفعل، تاريخ الاستهلاك السياسي لا الفعل السياسي.. هكذا قزمت الدولة السلطوية دوره عبر تاريخ الإسلام الطويل. إن ضعف المجتمع الإسلامي المدني كان نتيجة لعدم تطور أدواته مقارنة مع الدولة المسيطرة التي طورت أدوات عنفها على حساب المجتمع ومصالحه، بل إن المجتمع لم يتطور علميا وعقليا لتكريس ثقافته العقلانية وبناء مؤسساته المعرفية الجديدة التي لا تقيم اعتبارا للشخصيات الكارزمية والزعامات الفردية والثقافة القبلية. إننا نراهن للخروج من هذه المآزق التأصيلية بالقول أن المجتمع الإسلامي مدنيته الأصيلة في "إسلاميته"؛ من خلال علاقات اجتماعية و تعاقدية، حرة وعادلة.. إذ لابد من الحفاظ على الهوية الإسلامية مهما اقتبسنا أو نهلنا من تجارب الغرب.. و في تجربة اليابان وإندونيسيا الحداثية خير مثال على إمكانية تحقق ذلك.. لقد أثبت المجتمع الإسلامي عبر تاريخه الطويل أنه مجتمع السلم، المثاقفة، الذميين وحرية الأقليات، الثقافة المتعددة (ثقافة الاختلاف)، ثقافة الحوار والمناظرة البناءة، كما عرفت المجتمعات الإسلامية تيارات سياسية، دينية، معبرة عن تحولات مجتمعية، ومعارضة للسلطة، ولا يمكن أن تكون عصرئذ إلا ذات صبغة دينية، كما كان المسجد مكانا لمداولة قضايا الأمة والشورى. و اليوم؛ ورغم وجود مجتمعات مدنية إسلامية.. لكنه يؤاخذ عليها أنها مجتمعات هشة وضعيفة لا تأثير لها تزول بعد فترة قصيرة، ومؤسسات مجتمع مدني تمول من الخارج على أساس طائفي-عرقي، تؤسسها الدولة وأصحاب النفوذ والجاه وهؤلاء الآخرون مقربون بشكل ما من السلطة أكثر من قربهم من المجتمعات المدنية. كما أن العلاقة بين القيادة والشعب في العالم الإسلامي علاقة عمودية لا تريد أبدا الانتقال إلى الأفقية.. حيث بقيت السلطة أو العلاقات (سلطان نخب رعية) عمودية و ليست أفقية، لذلك فليس هناك ديمقراطية وتوزيع وظائف، بقدر ما هناك خدمة وأوامر وسلطة وقهر وعنف، إذ يظل ذلك من أبرز معوقات تطور المجتمعات الإسلامية حيث تسود العلاقات الرأسية؛ رأس الدولة، رأس العشيرة و القبيلة، رأس الحزب، رأس الأسرة.. في مجملها قيادات فردية "دكتاتورية" لا تقبل الشركاء.. وإن وجدت مجتمعات مدنية حقيقية فهي محاصرة وتواجهها صعوبات من الدولة أو من طرف بنية المجتمع وثقافته. ولابد من القول أخيرا أن المجتمعات المدنية بالعالم الإسلامي تختلف باختلاف درجة التحديث السياسي ومدى التقدم في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان في كل دولة عربية، فنحن نتحدث هنا عن وعي وعن مجتمعات مدنية بصيغة الجمع لكننا قاربناها في هذا الموضوع كفكرة بصيغة المفرد.. أما الاختلافات بين المجتمعات المدنية في الدول الإسلامية فهي موجودة.. كما أن المجتمع المدني لا يؤسس بقرار في لحظة زمنية معينة ومتفق عليها، فتاريخه هو تاريخ نضاله من أجل الحرية. كما أن المجتمع المدني أصبح رهانا أكيدا في العالم الإسلامي لمعالجة ملفات الفقر، الأمية، ضعف الوعي السياسي والوعي بصفة عامة، إذ إن نقاط ضعف المجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة الإسلامية، في نظر الاستشراق، إنما تكمن في مشكلة غياب المجتمع المدني، ناهيك على أن وسائط الإعلام بمختلف أنواعها تدر الرماد على مدار الساعة في عيون المواطنين بالتحكم في الخطاب والبرامج التي تبثها بثا في عقول الشعوب الإسلامية، لكن هيهات أن تنطلي حيل الكائدين في زمن وسائط الإعلام و انفتاح أبواب العالم على مصراعيه لكل مواطني العالم أغنياءه وفقراءه شرقييه وغربييه.. في ظل عالم مليء بالهوائيات ووسائط الإعلام الحديثة... كل ذلك فضح اليوم ما يقع في العالم، وفتح باب المقارنة على مصراعيه. إن المجتمع المدني الحديث و المطلوب اليوم في العالم الإسلامي، هو مجتمع المؤسسات؛ تلك التي تضمن حقوق المرء داخل المجتمعات البعيدة كل البعد عن الهيمنة السياسية، وذلك ما كانت تحتاج إليه "الرعية" في الدول الإسلامية خاصة بعد الانبهار بتطور المجتمعات الغربية في ظل العصر الحديث.. وليس على عقلاء الدول الإسلامية أن يرتعدوا من هذا المجتمع المدني المسالم، لأنه لا يصارع الإيديولوجيات والسلط القاهرة بل يخضعها للديمقراطية، ينميها ويطورها باتجاه التنافس الحر والبناء.. إلى ذلك الحين كل عام و الوطن بألف خير.. - باحث في الفكر الإصلاحي