ليس ترامب وحده... رياح عاصفة تهب على دولة القانون في الغرب، وفرنسا ليست بمنأى عنها. اليوم، تتعرض السلطة القضائية لهجوم ممنهج ، حيث يُهاجم القضاة وتُشوه سمعتهم ويُشكك في شرعيتهم من قبل زعماء شعبويين يحلمون بسلطة بلا قيود. وجاءت ردود الفعل على إدانة مارين لوبان باختلاس أموال عامة – مع الحكم عليها بالسجن عامين مع وقف التنفيذ، ومنعها من الترشح للانتخابات لمدة خمس سنوات مع التنفيذ الفوري – لتكشف مدى التصعيد في هذه الحرب على دولة القانون. فور صدور الحكم، تعالت صرخات الغضب في أوساط اليمين واليمين المتطرف، متهمة القضاء بأنه مجرد أداة سياسية لإقصاء "إرادة الشعب". أما لوبان، فقد تبنّت دور الضحية في مقابلة تلفزيونية، مؤكدة أن الحكم لم يستهدفها وحدها، بل "أقصى ملايين المواطنين" معها. هذه الخطابات تكرّس فكرة أن أي مساءلة قضائية لزعيم سياسي هي اعتداء على الديمقراطية ذاتها. لكن الحقيقة أن الديمقراطية ليست مجرد حكم الأغلبية بلا ضوابط، بل توازن دقيق بين الإرادة الشعبية وسيادة القانون. وكما قال مونتسكيو: "كل من يمتلك السلطة يميل إلى إساءة استخدامها"، ومن هنا تأتي الحاجة إلى سلطة قضائية مستقلة تضمن خضوع الجميع للقانون، مهما بلغ نفوذهم أو شعبيتهم.
الترويج لفكرة أن السياسي المدعوم جماهيريًا يجب أن يكون فوق القانون، هو تأسيس لاستبداد جديد مقنّع بالديمقراطية. وهذا تحديدًا ما حذّر منه توكفيل عند حديثه عن "طغيان الأغلبية"، حيث يتحول التصويت إلى غطاء للإفلات من العقاب. فالمشروعية السياسية لا تُقاس فقط بعدد الأصوات، بل بالالتزام بالقانون أيضًا. في فرنسا، تم إقرار قانون "سابان 2" عام 2016 لتعزيز مكافحة الفساد وضمان النزاهة في الحياة العامة، وهو ينص على الإقصاء التلقائي من الترشح لكل من يُدان بجرائم خطيرة. وبالتالي، فإن الحكم على مارين لوبان ليس "مؤامرة سياسية"، بل مجرد تطبيق للقانون الذي ينطبق على الجميع. ولو أخذنا منطق المعترضين على الحكم، فلماذا يتوقف الأمر عند السياسيين؟ هل ينبغي منح الحصانة أيضًا لرجال الأعمال النافذين، أو للمؤثرين الذين يحظون بشعبية واسعة، أو حتى لزعماء دينيين لهم أتباع كثر؟ بل إن هذا المنطق يقود إلى مفارقة عبثية: هل يمكن أن يتمتع مرشح بحماية قانونية أقوى من رئيس الجمهورية نفسه؟ فالدستور الفرنسي، في مادته 67، يمنح الرئيس حصانة مؤقتة فقط خلال ولايته، لكنها تزول بمجرد انتهاء فترته الرئاسية. فكيف يمكن إذن لمرشح أن يكون محصنًا أكثر من رئيس الدولة؟ إن دولة القانون هي الركيزة الأساسية لأي ديمقراطية حقيقية. فهي التي تضمن ألا يصبح القضاء أداة خاضعة للأهواء الانتخابية. القضاة ليسوا أعداء الإرادة الشعبية، بل هم حراسها، لأن الديمقراطية بدون قضاء مستقل ليست سوى فوضى مقنّعة. إن الخطر الحقيقي لا يكمن في إدانة سياسي بجرائم موثقة، بل في التسليم بفكرة أن السياسي فوق القانون لمجرد أنه يحظى بشعبية. ومع ذلك، ستنجو الديمقراطية الفرنسية من استبعاد مارين لوبان. رغم "الزلزال" الذي يتحدث عنه البعض، ورغم "الظلم الفادح" الذي تدّعيه بعد إدانتها في قضية اختلاس أموال عامة، فإن فرنسا لن تنهار. أما دولة القانون، التي تزعم لوبان أنها "انتهكت بوحشية"، فستواصل عملها، حتى في وجه من يحاولون الإفلات منها. مارين لوبان، التي درست القانون، يفترض أن تعرف ذلك جيدًا: الديمقراطية لا تنهار عندما يؤدي القضاء واجبه، بل عندما يتوقف عن القيام به. * صحفي وكاتب وخبير في التواصل، سبق له أن اشتغل في "تيل كيل" و"لوموند" و"جون أفريك"