أطالب بدستور جديد، قضاء مستقل، انتخابات نزيهة، حكومة ذات شرعية شعبية وأن يحمي الجيش الدولة وليس الحكم.. المطلوب مؤسسات صحفية محترمة، لا تعتمد لغة «الشتائم» والإسفاف.. فإذا تحدث زويل بصراحة شتموه، بينما يجب أن يصبح الهدف الأساسي للمؤسسات الصحفية والإعلامية هو خدمة البلد أن يخرج رجل علم من طينة الدكتور أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل للكيمياء، من صمته ويعلن رسميا دعمه الكامل لصوت الشعب المصري، الذي عبر عن نفسه في الشارع العام بقوة منذ يوم الجمعة الماضية، فإن ذلك واحد من العناوين على أن مصر ما بعد «غضب الجمعة» لن تكون قط مصر ما قبل ذلك اليوم. وحتى لو بقي حسني مبارك رئيسا للدولة، ما لم تتحرك فيه مروءة ضمير، أمام ذلك الكم الهائل من المطالبة الشعبية برحيله، فإن الرجل سيكون أضحوكة أمام تاريخه وأمام تاريخ بلده، وأمام باقي العالم. إن من بين الأسئلة التي ظلت تطرح منذ اندلاع أحداث مصر الثلاثاء الماضي، وتصاعد المواقف بين الشعب المصري والسلطة الحاكمة، الأولى تؤمن أن المستقبل لها وهي التي قررت أن تصنعه، والثانية ظلت تصعد من بلاغات التهديد إلى درجة أنها قررت بصلافة مثيرة أن تغلق سماء البلاد الإتصالاتية، متناسية بمنطق استبدادي يخونه الذكاء، أن ذلك الإغلاق لن يكون أبديا، وأن نزول الناس، قد تمنعه يوما، لكنك لا تستطيع منعه كل الأيام. من بين الأسئلة التي ظلت تطرح، ما الذي سيكون موقف رموز مصر الفكرية والثقافية والفنية، الذين لهم تأثير حقيقي على رجل الشارع؟!.. لم يتأخر الرد، حين بدأ عدد من نزهاء مفكري مصر ونزهاء فنانينها، في الإصطفاف إلى جانب نداء الجماهير، التي انتبه عدد منها كيف اختفت تهم الطائفية والتطرف والإقصائية عن الناس الطيبين هناك. فالذي نزل هم مصريون أولا وأخيرا. بل إن كل العائلات الفكرية والسياسية نزلت تحت يافطة واحدة: «الوطن»، وكان هناك الإصطفاف وراء الحق في المطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية والشفافية والديمقراطية. ومن أكثر الردود التي خلفت صدى كبيرا، لنزاهة صاحبها ومكانته العلمية الرفيعة دوليا، التصريح المكتوب (أي المفكر فيه) الذي ألقاه الدكتور أحمد زويل مباشرة على قناة «الجزيرة» مساء السبت الماضي. لقد طالب الرجل بتغيير النظام، وليس بتبني الحلول الإلتفافية الترقيعية، بنفس الأشخاص الذين لا شعبية لهم. محددا دفتر تحملات سياسي مستعجل وحاسم، ينحصر في أربع نقط مركزية: 1 - لجنة حكماء لتغيير الدستور بالشكل الذي يضمن حماية الحقوق والحريات والتعدد. 2 - استقلالية كاملة للقضاء. 3 - تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة تحت إشراف القضاء. 4 - أن تأتي الحكومة من الأغلبية البرلمانية مما يمنحها الشرعية الشعبية، وبضرورة أن يلعب الجيش دوره في حماية الدولة والبلاد، وليس الحكم، في هذه الفترة الحرجة. إن كلمة الدكتور زويل، تكتسب أهمية خاصة، من قيمة صاحبها، الذي له وزنه الدولي الفارق، والذي كانت السلطة الحاكمة تستثمر رمزيته من أجل تلميع ذاتها. ولعل في النصب المثير الذي وضع في قلب القاهرة منذ خمس سنوات، ما يؤكد ذلك، حيث اجتهدت السلطة في بلادة أن تضع أربعة وجوه في ذات النصب، أعلاها وأكبرها هو وجه حسني مبارك، وثانيها من حيث الأهمية هو الراحل أنور السادات (الحائز على نوبل للسلام)، ثم وجهان صغيران لكل من الدكتور أحمد زويل والروائي المصري الكبير نجيب محفوظ!!.. يا سبحان الله، السلطة هي السلطة، فالعالِمُ الذي تنحني له البشرية لعظمة اكتشافاته العلمية، والروائي الأديب الذي أعلى من قيمة الأدب المصري والعالمي ومجد رجل الشارع المصري كونيا وحارات بلاده العتيقة، يصر الرئيس أن يذكرهما ويذكر أهل بلدهما، من خلال نصب تذكاري في الساحات العمومية، أن رئيس الدولة غير المنتخب ديمقراطيا أهم منهما ورأسه أكبر!!.. بل إن المثير في ذلك النصب، أيضا، كيف تم الحرص على إقصاء ذاكرة زعيم حقيقي لمصر من قيمة الراحل جمال عبد الناصر!!.. من هو الدكتور أحمد زويل؟!.. إسمه الكامل هو أحمد حسن زويل. ولقد رأي النور يوم 26 فبراير من سنة 1946 ببلدة دمنهور بالشمال المصري. وفي سن 4 سنوات انتقل مع أسرته إلى مدينة دسوق التابعة لمحافظة كفر الشيخ، بدلتا النيل، حيث نشأ وتلقى تعليمه الأساسي. والذي رعاه حينها هو خاله المرحوم «علي ربيع حماد»، قبل أن يلتحق بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية بعد حصوله على الثانوية العامة (الباكالوريا) وحصل على ديبلوم الدراسات العليا في العلوم بامتياز مع مرتبة الشرف سنة 1967 في الكيمياء، وتم تعيينه أستاذا بذات الكلية ثم حصل على درجة الدكتوراه عن بحث في علم الضوء. سافر بعدها الدكتور زويل إلى الولاياتالمتحدة في منحة دراسية وعمره بالكاد يصل 27 سنة، وهناك حصل على الدكتوراه من جامعة بنسلفانيا في علوم الليزر. ثم عمل باحثاً في جامعة بيركلي بمدينة سان فرانسيسكو، التي تعتبر ثاني أرقى جامعة بأمريكا، والتي تتجاوز ميزانية البحث العلمي فيها سنويا 50 مليار دولار. ولقد قضى بها 3 سنوات، من سنة 1974 إلى نهاية سنة 1976. ثم انتقل للعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «كالتك» منذ 1976، وهو من أكبر الجامعات العلمية في أمريكا ولا يزال إلى اليوم من أهم باحثيه العالميين المرموقين. علما أنه حصل في سنة 1982 على الجنسية الأمريكية. ولقد تدرج في المناصب العلمية الدراسية بجامعة «كالتك» إلى أن أصبح أستاذاً رئيسياً لعلم الكيمياء بها، وهو أعلى منصب علمي جامعي في أمريكا خلفاً للينوس باولنغ الذي حصل على جائزة نوبل مرتين، الأولى في الكمياء والثانية في السلام. العديد من المصادر المصرية تؤكد، أن الدكتور أحمد زويل، ابتدأ مشواره المهني أولا كمتدرب في شركة «شل» للبترول بمدينة الأسكندرية سنة 1966، حتى استكمل دراساته العليا بكلية العلوم بثاني أكبر مدن مصر. وبعد مساره العلمي الناجح بأمريكا، حصل في سن الثانية والخمسين، على جائزة بنيامين فرانكلين (أحد أهم الشخصيات التاريخية الأمريكية، والذي ابتدأ حياته صحفيا، بل إنه يعتبر أب الصحافة الأمريكية التي استقلت بالمطلق عن الصحافة الإنجليزية) بعد اكتشافه العلمي المذهل، المعروف بإسم «ثانية الفيمتو» أو «Femto-Second» وهي أصغر وحدة زمنية في الثانية. ولقد تسلم جائزته في إحتفال كبير حضره 1500 مدعو من أشهر العلماء والشخصيات العامة مثل الرئيسان الاسبقان للولايات المتحدةالامريكية جيمي كارتر وجيرالد فورد. وفي عام 1999 تم ترشيح الدكتور أحمد زويل لجائزة نوبل في الكيمياء وبذلك يكون أول عالم عربي مسلم يفوز بتلك الجائزة في الكيمياء. وللدكتور أحمد زويل أربعة أبناء وهو متزوج من السيدة ديما زويل، وهي طبيبة، تعمل في مجال الصحة العامة بالولاياتالمتحدةالأمريكية. وحاليا، فهو يعيش في مدينة سان مارينو الصغيرة والهادئة، بولاية كاليفورنيا، قريبا من مدينة لوس أنجلس. وإظافة إلى أنه يشغل اليوم منصب مدير معمل العلوم الذرية بجامعة كاليفورنيا، فإن أبحاثه اليوم، تتركز حول تطوير استخدامات أشعة الليزر للإستفادة منها في علم الكيمياء وعلم الأحياء. أما في مجال «الفيمتو» الذي تم تطويره مع فريق العمل بجامعة «كالتك» فإن هدفه الرئيسي حاليا هو استخدام تكنولوجيا «الفيمتو» في تصوير العمليات الكيميائية وفي المجالات المتعلقة بها في الفيزياء والأحياء. ماهي تقنية «الفيتمو» التي اكتشفها الرجل؟!.. هي تقنية علمية دقيقة جدا، في مجال فيزياء الضوء، توازي الإكتشاف الرياضي العلمي الهائل للنسبية الذي اكتشفه عالم الفيزياء والرياضيات الألماني إنشتاين. وتتحدد تلك التقنية، في ابتكار الدكتور زويل لنظام تصوير سريع للغاية يعمل باستخدام الليزر له القدرة على رصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض. والوحدة الزمنية التي تلتقط فيها الصورة هي «فيمتو ثانية»، وهي جزء من مليون مليار جزء من الثانية. مما فتح بابا هائلة في مختلف مجالات البحث العلمي على مستوى الضوء والصورة والطب. وهو الإكتشاف الذي يعتبر خلاصة عمل امتد لأكثر من 25 سنة، نشر خلالها أكثر من 350 بحثاً علمياً في المجلات العلمية العالمية المتخصصة، خاصة مجلة «ساينس» ومجلة «نيتشر»، الشهيرتين والصارمتين في مجال الإكتشافات العلمية. الأمر الذي سمح بورود اسمه في «قائمة الشرف» بالولاياتالمتحدة التي تضم أهم الشخصيات التي ساهمت في النهضة الأمريكية. وجاء اسمه في الرتبة 18 من بين 29 شخصية بارزة، باعتباره أهم علماء الليزر في الولاياتالمتحدة، وتضم هذه القائمة أيضا ألبرت أينشتاين، وألكسندر غراهام بيل. لقد أدخل اكتشافه العلمي الدقيق، العالم كله في زمن جديد لم تكن البشرية تتوقع أن تدركه، بفضل تمكنه من «مراقبة حركة الذرات داخل الجزيئات أثناء التفاعل الكيميائي عن طريق تقنية الليزر السريع». ولقد أعربت الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم التي تمنح جائزة نوبل، أنه قد تم تكريم زويل نتيجة «للثورة الهائلة في العلوم الكيميائية من خلال أبحاثه الرائدة في مجال ردود الفعل الكيميائية واستخدام أشعة الليزر، حيث أدت أبحاثه إلى ميلاد ما يسمى بكيمياء الفمتو ثانية واستخدام آلات التصوير الفائقة السرعة لمراقبة التفاعلات الكيميائية بسرعة الفمتو ثانية». وقد أكدت الأكاديمية السويدية في حيثيات منحها الجائزة لأحمد زويل أن هذا الاكتشاف قد أحدث ثورة في علم الكيمياء وفي العلوم المرتبطة به، إذ أن الأبحاث التي قام بها تسمح لنا بأن نفهم ونتنبأ بالتفاعلات المهمة. ومن أهم كتبه التي تمت ترجمتها إلى العربية، نجد: - رحلة عبر الزمن.. الطريق إلى نوبل - عصر العلم.. - الزمن.. - حوار الحضارات.. - التصوير الميكروسكوبي الإلكتروني رباعي الأبعاد. - علم الأحياء الفيزيائي - من الذرات إلى الطب.. بعض من آرائه السياسية حول مصر والعالم العربي.. في حوار شهير له مع جريدة «المصري اليوم»، التي تعتبر من أكثر الجرائد المصرية اليوم جرأة وانتقادا للسلطة الحاكمة، كان الدكتور أحمد زويل جريئا في تسمية العديد من الأمور الحساسة بمسمياتها، مما تسبب له في ردود فعل من قبل السلطة الحاكمة، التي لم تجد من قرار تتخده ضده سوى تهميش صورته في المشهد العام المصري منذ ثلاث سنوات. في ذلك الحوار الهام، الذي نقدم أهم أفكاره كما وردت في «المصري اليوم» يقول: « يبدو لي دائماً أن مصر كانت حاملا في بداية القرن التاسع عشر.. كانت تحمل جنيناً لم تدب فيه الحركة بعد.. جنيناً لو قدر له أن يولد لكان الآن شاباً يافعاً يملأ البلد حيوية وتدفقاً.. ولكن الحمل لم يكتمل.. حاول «محمد علي» وعاندته الأقدار.. ولكنه وضع لبنة لمن أتى بعده.. غير أن شيئاً ما حدث في مصر، أدى إلي وأد الجنين وطمس اللبنة.. فتوقف كل شيء. خط الزمن في مصر الحديثة بدأ بمرحلة محمد علي.. فهي نقطة تاريخية فاصلة.. ودائماً ما نقيس تأثير المراحل التاريخية بما حدث للشعب وقتها.. ومصر شهدت نقلة أو قفزة مهمة في عصر محمد علي.. ولكن دعنا نقف عند هذا الرجل قليلاً لنفهم ماذا حدث بعده.. وماذا يحدث حتى الآن.. محمد علي رجل علّم نفسه وهو في الأربعين من عمره.. إذ كان «أمياً» حتي هذا الوقت.. إذن فقد أدرك أن «العلم» مهم له شخصياً كحاكم.. والأهم من ذلك أنه كان يمتلك أهم مقومات التقدم وهي «الرؤية».. ورؤيته تلخصت في التالي: «مصر دولة متخلفة ولن تتقدم إلا إذا تبنت مشروعاً لإصلاح التعليم».. بدليل، أن أهم منجزات هذه الفترة كان بناء المدارس المتميزة وإرسال البعثات للخارج.. وبعد أن أطلق جناح العلم والتعليم بدأ في إطلاق «جناح القوة».. فأعاد ترتيب الجيش وتحديثه.. فاستطاع التوسع في المنطقة حتى تخوم أوروبا. والواقع أن الدولة التي أسسها محمد علي ما كانت لتحقق هذا النجاح دون امتلاك الحاكم رؤية واضحة.. لأن الرؤية هي التي جعلته يركز على عنصري التعليم والجيش. لا أستطيع القول إن محمد علي كان حاكماً ديمقراطياً.. غير أنني أرى أن الأفضل للشعوب دائما، إما أن يكون لديها نظام ديمقراطي يستلهم أفضل ما لدى المواطن من إبداع وقدرات خاصة، ويبني المؤسسات، ويربي القيادات.. أو أن يكون لديها ديكتاتور عنده رؤية». قاطعه الصحفي متسائلا: هل تقصد الديكتاتور العادل؟!. فكان جوابه: «لاوجود لما يسمي «الديكتاتور العادل».. ربما لأن العدل نفسه قيمة نسبية وليست مطلقة.. وربما لأنه يصعب ائتمان شخص واحد على فضيلة العدل، لأنه ببساطة بشر.. وربما لأن العدل يحتاج دائماً إلى مؤسسات ترسخه وترعاه وتحميه أيضاً من «شطحات الحاكم».. ولكنني أقصد «الديكتاتور ذا الرؤية»، تماماً مثل مهاتير محمد.. فقد كان ديكتاتوراً، ولكنه صاحب رؤية، وكانت رؤيته تتلخص في التالي: «ماليزيا دولة فقيرة ومتخلفة عن ركب الحضارة.. والمواطن الماليزي يعيش على «الأرز» والبلد بلا مؤسسات.. والمطلوب أن تتحول ماليزيا إلى دولة عصرية عبر بناء المؤسسات، واحترام القوانين، ومنح المواطن فرصة وحرية في التحرك، وتحقيق «الاكتفاء الذاتي»، وتحرير الاقتصاد، كل ذلك بينما النظام الحاكم ليس ديمقراطياً». كذلك الصين.. فهي دولة غير ديمقراطية، ولكنها تمتلك رؤية، تعتمد علي محورين: الأول توظيف الإمكانات المتاحة سواء البشرية أو الطبيعية.. والثاني: مفهوم عصري لنظام اقتصادي يتناسب مع طبيعة البلد سواء سياسياً أو بشرياً. ماليزيا والصين نجحتا في التحدي.. وكذلك إيرلندا رغم أنها تنتمي لنمط آخر وهو النظام الديمقراطي، فهي دولة صغيرة قوامها 4 ملايين نسمة، والديمقراطية في إيرلندا لم تفرز حياة حرة فقط وإنما أفرزت - وهذا هو الأهم - نظاماً تعليمياً ورؤية سياسية واضحة للأمة.. وبهذه الصيغة جعلت دخل الفرد فيها من أعلى المداخيل في أوروبا كلها. بعد محمد علي حدث شيء مهم.. مصر أصبحت دولة زراعية متقدمة.. عادت البعثات وفي جعبتها حركة ثقافية وفكرية رائعة.. وبدا الأمر وكأن مصر على أعتاب الانطلاق.. وأذكر أنني قرأت في أحد الكتب أن بريطانيا استطلعت آراء مجموعة من الخبراء حول سؤال مهم: «مصر واليابان.. من في اعتقادكم يستطيع الصعود إلي الخريطة العالمية؟!»، كان الإجماع على مصر.. والسبب هو النهضة التي وضع أسسها محمد علي.. دعنا نلقي نظرة على المؤسسات التي ظهرت في مصر في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين.. ودعنا أيضاً نقف عند محطات الإبداع.. سنأخذ ثلاث مؤسسات على سبيل المثال: جامعة القاهرة (1906).. النادي الأهلي (1907).. ثم بناء سد أسوان.. وهي تعبير واضح عن مجتمع يتجه إلى الاحتفاء بالمؤسسات. ومن رحم البعثات والمؤسسات معاً ظهر العلماء والمفكرون والمثقفون، مثل: د. مصطفى مشرفة، ود. علي إبراهيم في الطب. والدكتور طه حسين في اللغة العربية وتوفيق الحكيم والعقاد ومحفوظ وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم في الأدب. وعبدالوهاب وأم كلثوم وسيد درويش في الفن.. هؤلاء جميعاً خضعوا لمرحلة التكوين في «عصر النهضة ودولة المؤسسات» والانفتاح على العالم حتى بداية عهد الثورة الناصرية، ناهيك عن جيل السياسيين الكبار أمثال مصطفى النحاس وفكري مكرم عبيد. بصراحة عبد الناصر منحنا الأمل، وكانت تنقصنا «روح الديمقراطية».. الثورة (الناصرية) صنعت نقلة ثانية في «خط الزمن المصري».. نقلة في الفكر والسياسة والفن.. وهي بالطبع كانت بالنسبة لجيلي حلماً كبيراً.. إذ كان لدينا شعور بالفخر ونحن نؤمم قناة السويس ونبني السد العالي وننتقل بمصر من قوة زراعية إلى قلعة صناعية.. وبصراحة عبدالناصر منحنا الأمل.. ولكن المشكلة أننا كنا نخطو ونسير ونحاول القفز دون وجود روح.. وأقصد ب «الروح» هنا النظام الديمقراطي، فنحن لم نضع النظام السياسي الديمقراطي الذي يتماشي مع ما يحدث من تطورات، ويضمن لنا الحفاظ على هذه الإنجازات وتعظيمها، إذن فالمشكلة لدينا كانت عدم وجود نظام سياسي واضح.. وهذا كان بداية العصر الذي نعيشه الآن. أعتقد أن نوايا الرئيس جمال عبدالناصر كانت وطنية.. فالرجل لم يسرق ولم ينهب، ولم تكن له أطماع في أن يبني قلاعاً شخصية.. ولكنه في الوقت ذاته لم تكن لديه الحنكة السياسية في «ماهية الديمقراطية».. وأعتقد أيضاً أن الرئيس - أي رئيس - تكون لديه نوايا حسنة أحيانا، ولكن ما يحدث أن الدوائر التي «تتشكل» من حوله تصبح هي المشكلة.. فهذه الدوائر تكون لها أطماع ومصالح خاصة فتعزل الرئيس، وفي فترة الرئيس عبدالناصر حدث أن هذه الدوائر تزايدت أكثر وأكثر مع مرور الزمن.. وفي اعتقادي أن الرئيس عبدالناصر كان مخلصاً ووطنياً وبوده أن يعمل، لكن هناك عوامل لم تساعده: احتمال أنه لم يكن لديه الخبرة.. أو أن الدوائر التي حوله دافعت عن مكاسبها وأطماعها، وبالتالي لم يستطع التحرك في إطار منظومة، وكذلك لم يتمكن من اكتساب معارف مهمة.. ولنأخذ مثلاً الرؤساء في الولاياتالمتحدةالأمريكية، فكثير منهم يصلون إلى مقعد الرئيس دون أن يمتلكوا الحنكة السياسية الكافية، ولكن المؤسسات المحيطة بالرئيس تحاول أن تعلمه. وأنا أعرف تمامًا أن هناك خبراء في البيت الأبيض مهمتهم الأولي هي تعليم الرؤساء أشياء لا يعرفونها.. طبعًا هذا إلى جانب مؤسسات أخري تقوم بدورها مثل المحكمة العليا والكونغرس ورجال القضاء وأساتذة الجامعات والخبراء وغيرهم.. وللأسف فهذا لم يكن موجودًا في نظام جمال عبد الناصر. هنا طرح الصحفي سؤالا هاما، قال فيه: «فهمت جيدًا ما يريد زويل قوله.. فلا أحد يولد رئيسًا.. ولا توجد جامعات لتخريج الرؤساء.. ولا يمتلك شخص واحد على ظهر الأرض القدرة على الحكم بمفرده.. لأنه ببساطة شديدة لا يوجد شخص يمتلك ناصية الحكمة والعدل والبصيرة حتى يقرر مصائر العباد.. لذا كان طبيعيا أن أسأله: وهل هناك بين الحكام العرب من يقبل أن يعلمه الخبراء بعد جلوسه على كرسي الحكم؟! صمت الدكتور زويل قليلاً، ثم استطرد: «هذا جزء من التعليم.. أي أنه يدخل في تكوين الفرد منذ نشأته.. بمعني آخر هل تسمح أنت لابنك أن يقول رأيه أم أنك تقول له دائمًا «اخرس».. فالحوار هو القيمة الأهم سواء في البيت أو المدرسة أو المؤسسات الجامعية أو مؤسسة الحكم.. المشكلة أن لدينا ثقافة ضد الاختلاف في الرأي.. فأنت عندما تختلف معي فأنت حتمًا ضدي، وللأسف فنحن نرى ذلك - أيضًا - في الصحافة.. ففي حياتنا بالكامل يتحول الاختلاف في الرأي إلى خلاف شخصي. أقول لك بكل أمانة إن هناك فرقاً كبيراً بين الحوار المتحضر والضوضاء والعشوائية.. فما أعرفه أن كل مواطن من حقه أن يقول رأيه.. ولكن أن يأتي أي شخص في أي مؤسسة ويقول: «قولوا ما تريدون وأنا مش حاسمعكم» فهذا لا يفيد البلد، ويفرز أمراضًا خطيرة في المجتمع، لأن ذلك يؤدي إلي أن كل فرد يتكلم في الدائرة «بتاعته»، وكل واحد يشتم في الدائرة بتاعته، ثم تلقائيا تهبط لغة الحوار في المجتمع، لأنك تتكلم في منطقة غضب شديد، لأن لا أحد يسمعك.. فاللسان يقول لك «هناك ديمقراطية» والأذن تقول لك «لا أحد يسمعك».. والمنطق يقول إنني لابد أن أسمعك وأتحاور معك لأخرج برؤية متكاملة من أجل البلد. مصر تعيش حالة ضوضاء وعشوائية منذ سنوات.. وأن الصحافة المصرية هي أبلغ تعبير عن هذه الحالة، فهي تعكس الوضع.. إذ تكتب بلغة تذمر وليس لغة حوار، والسبب أنها يقال لها بشكل غير مباشر «قولوا اللي إنتم عايزين تقولوه ولن نسمعكم ولن نلتفت إليكم» وهو ما يؤدي إلى المزيد من التذمر والاحتقان والصراخ.. وتنحدرلغة الحوار أكثر وأكثر. قاطعه الصحفي وسأله: ثمة رأي يرى أن مصر غير قادرة أو غير مؤهلة للديمقراطية.. فقاطعه الدكتور زويل، قائلاً: «أي واحد يقول هذا الكلام يعبر عن عدم رؤية وعدم دراية بتاريخ مصر.. لأنه بالنظر إلى تاريخ البلد ورموزه وعطائه على المستوي الحضاري في العالم يثبت عدم صحة هذا الادعاء.. تمامًا مثلما لا أصدق من يقول أن مصر بلد فقير و«غلبان» وصعب جدًا أن تطبق فيه الديمقراطية.. فمصر أكبر دولة عربية، وهي غنية بثرواتها الإنسانية، كذلك من يقول أن مصر لا توجد بها «فلوس» يبقي ما يعرفش اللي أنا أعرفه.. أنا المصري اللي عايش بره ومهموم بالبلد أعرف بالضبط المليارات الموجودة في مصر وخارج مصر.. فالبلد عندما تريد بناء مشروع بمليارات تنفذه على الفور.. وهذه المليارات موجودة و«موجهة إلي مناطق معينة». كذلك من يقول لي أن مصر غير قادرة بشريا عكس ما نرى في ماليزيا والصين وكوريا الجنوبية أقول له هذا الكلام غير صحيح. أيضًا من يقول إن مصر بما وصلت إليه من حال لا يمكن إصلاحها، أختلف معه تماماً.. فهناك دول وصلت إلى حال أسوأ مما وصلنا إليه في مصر، ومع ذلك نهضت وحققت قفزات، وأصبحت تنافس الدول الكبرى.. ولست بحاجة إلى ذكرها مرة أخري: ماليزيا - كوريا الجنوبية - اليابان... وغيرها». الشروط الأربعة للتحول في مصر.. نحن نحتاج إلى فكر جديد في إدارة مصر.. وفي تصوري أن هذا الفكر يستند إلى أربعة أركان: الركن الأول هو الدستور، باعتباره الركن السياسي، فلابد أن يشعر كل مواطن مصري أن الدستور شديد الوضوح في تنظيم العلاقات، وأنه يضمن للبلد نهضة حضارية، بحيث لا يكون الدستور، مكرساً لخدمة مصالح «الدوائر» التي ذكرناها أو أفراد بعينهم.. الركن الثاني هو احترام القانون.. فالقوانين في مصر ممتازة جداً، ولكن الكثير منها لا يطبق، كما أن أي شخص له مصالح محددة يستطيع التحايل عليها، واحترام القانون يعني ضرورة تطبيقه على الجميع من رئيس الجمهورية حتى المواطن البسيط. الركن الثالث هو النظام التعليمي.. فالثابت أن مصر لن تحقق أي نقلة، إلا إذا كان لديها نظام تعليمي متكامل، يستثمر العقل المصري ويكرم الإبداع ويحترمه.. وهذا الركن يرتبط بالركن الثاني، وهو احترام القانون، بمعني أنني لا أستطيع إنشاء مدرسة أو جامعة ل «ألعب فيها» وأجمع الفلوس.. فالمؤسسات التعليمية يجب أن تظل غير قابلة للربح، لأنها تخضع لأهداف الأمة كلها.. ولابد أن يكون للتعليم المصري فلسفة واضحة من الحضانة إلى الجامعة، ويجب أيضاً التخلي عن فكرة أن كل مواطن في مصر لابد أن يتخرج في الجامعة، لأن ذلك يأتي على حساب العمل الفني والمهني، فالمعاهد الفنية في الدول المتقدمة هي التي تخرج للمجتمع صفوة الفنيين، بحيث يعمل في المصانع الإنتاجية فنيون مؤهلون. ولست بحاجة طبعاً إلى القول بأن صياغة فلسفة جديدة للتعليم المصري، تتطلب إعادة النظر في مسألة «مجانية التعليم»، لأن وضع مصر في المشهد العالمي الراهن، يقتضي أن نتخلى عن فكرة منح كل المواطنين تعليماً متواضعاً، وأن يتحمل المواطن فاتورة الدروس الخصوصية، التي تفسد الطالب، وتجعله صاحب عقل مشوش. فما أريد قوله إن مجانية التعليم يجب أن تعود إلى أصلها وهي «مجانية التفوق». فالطلاب المتفوقون ترعاهم الحكومة.. فالمدهش أن ترى طلاباً يذهبون إلي جامعة القاهرة في سيارات مرسيدس، ويدفعون مصاريف 50 جنيهاً ويرسبون عاماً وراء عام، والحكومة تمول هذا الفشل للأثرياء، وتترك المتفوقين دون رعاية!!.. وربما تستغرب إذا قلت إن الركن الرابع في الإصلاح هو : الإعلام.. فالأسرة المصرية الآن منهكة في العمل، والسعي وراء الرزق، لذلك فالإعلام هو الذي يربي أبناءنا، وهو قوة خارقة، وأنت تستطيع أن تمنح العقل المصري إعلاماً يعتمد على المسلسلات الهابطة والفيديو كليب الراقص والبرامج السياسية المواجهة،، أو تمنحه إعلاماً، وفق منظومة ليبرالية ثقافية تغرس بداخله العمق في التفكير والقدرة على الحوار والاختلاف. الإعلام الجيد يمكن صياغته عبر الكفاءات والعقول القادرة على التواصل مع المواطن بصدق وموضوعية، أي أهل الخبرة، لا عن طريق «المسؤولين» وأهل الثقة، وفي رأيي أن الإعلام القوي يفرز دولة قوية. بكل أمانة لابد من التطور.. ولابد من وجود مؤسسات صحفية محترمة، بحيث لا تعتمد على لغة «الشتائم» والإسفاف.. فإذا تحدث زويل بصراحة شتموه، بينما يجب أن يصبح الهدف الأساسي للمؤسسات الصحفية والإعلامية هو خدمة البلد، وأن تكون راعية للعلاقة بين السلطة والشعب، فإذا ظلم أحدهما الآخر كان الإعلام هو الفيصل.. تماماً مثل «النيويورك تايمز» و«الإندبندنت»، فهي صحف ترعى وتحمي الدولة والمواطن والنظام نفسه. فهي تحمي النظام إذا كان ديمقراطياً.. تحميه إذا احترم القانون واحترم الشعب». أليس هذا بعض من كثير، مما يعنينا مغربيا تماما؟!.. يرجى بصدق أن يقرأ الكثير من مهندسي تخريب الأمل في بلادنا أن يقرؤوا جيدا الدرس المصري ربحا للمستقبل.