الدكتور مفيد شهاب، وزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية المصري، فاجأنا، مثلما فاجأ الكثيرين، عندما اعترف يوم (أول) أمس بأن مشجعين مصريين كانوا وراء الاعتداء الذي تعرضت له حافلة كانت تقل لاعبي فريق الجزائر لكرة القدم قبيل مباراتهم مع نظرائهم المصريين على استاد القاهرة، للتأهل للتصفيات النهائية لكأس العالم الصيف المقبل في جنوب إفريقيا. هذا الاعتراف «المتأخر»، الذي نقلته وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية وأدلى به أثناء مخاطبته اجتماعا للحزب الوطني الحاكم، جاء ردا على محطات تلفزة مصرية «خاصة» أصرت على أن لاعبي المنتخب الجزائري هم الذين قاموا بالاعتداء على الحافلة، وحطموا نوافذها من الداخل، وشجّوا رؤوس زملائهم بقضيب حديدي كان في حوزتهم لحث الاتحاد الدولي لكرة القدم على إلغاء المباراة، أو نقلها إلى عاصمة أخرى، وهي رواية صدقها الكثيرون للأسف. الدكتور شهاب، الذي أعرفه شخصيا حيث كنت أحد تلاميذه ودرست على يديه مادة المنظمات والقوانين الدولية، لم يتردد في توجيه اللوم إلى الدور الذي لعبه الإعلام المصري في الأزمة مع الجزائر، وخطورته. وأشار بأصبع الاتهام إلى قنوات تلفزيونية خاصة، مؤكدا أن العلاقات الدولية لا تحكمها الانفعالات، وأن المصالح أبقى من العواطف. هذه خطوة جيدة، تعكس توجها تصالحيا من قبل الحكومة المصرية لطي صفحة الخلاف مع الجزائر وإعادة الأمور إلى سيرتها الأولى، ولو بشكل تدريجي، الأمر الذي يتطلب توجها مماثلا من الحكومة الجزائرية، أو هكذا نأمل، لأن استمرار التوتر في العلاقات لا يخدم إلا ذوي النوايا السيئة في البلدين. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن صمت الدكتور شهاب، والعديد من المسؤولين المصريين الآخرين، طوال فترة الأزمة، وتجنبهم ذكر كل هذه الحقائق، حيث مارس بعض قنوات هذا الإعلام الخاص، المعزز بكتيبة من الفنانين ومقدمي البرامج المشهورين، كل أنواع الكذب والدجل والتحريض ضد شعب شقيق، بل وضد روابط الدم والعقيدة والتاريخ التي تربط مصر بأشقائها العرب والمسلمين. فظهور مسؤول مصري كبير في وزن الدكتور شهاب على شاشات التلفزة في ذروة الأزمة، ساردا الحقائق ومطالبا بلجم «حالة السّعار» التي سادت قنوات تلفزيونية معينة وبعض الوجوه الحاقدة على العرب والمسلمين، كان سيؤدي حتما إلى التهدئة وتجنب الكثير من الخسائر، إن لم يؤد إلى منعها وقطع الطريق على هذه الجوقة والأضرار التي ألحقتها بمصر ومصالحها وعلاقاتها مع أقرب أشقائها. بعض القنوات التلفزيونية المصرية، بل وبعض مقدمي البرامج فيها بشكل أصح، ينفذون، ونقولها بأسف، أجندات خاصة، ليست لها علاقة بمصر ومصالح شعبها، ويفتقرون إلى الحد الأدنى من الثقافة السياسية وفهم طبيعة العلاقات الدولية، وكل رصيدهم محصور في توجيه معلقات من الشتائم لخصومهم، أو خصوم من يقفون خلفهم، الذين يحركونهم عن بعد بالروموت كونترول، هؤلاء الذين نهبوا ثروات الشعب المصري وعرقه، وأقاموا دولة داخل الدولة. ولا بد هنا من تسجيل أنه مقابل هذه الحفنة الحاقدة في الإعلام المصري، ونعترف بأنها حفنة مؤثرة، هناك مخزون كبير من العقلاء في صحف ومحطات تلفزة مصرية، كانوا صوت العقل، بإبرازهم الوجه المشرق والمسؤول لمصر وهويتها الوطنية العربية والإسلامية. نعم.. بعض أوساط الإعلام الجزائرية خرج عن الأصول، وتطاول على الشعب المصري، وحرض ضده بطرق بشعة، وروج لأكذوبة تعرض بعض المشجعين الجزائريين للقتل في القاهرة، ولكن هذه الأوساط الإعلامية الجزائرية محدودة التأثير، ولا تقارن مطلقا بالمدافع الإعلامية المصرية الثقيلة في المقابل، التي جيشت كتائب وفرقا من الفنانين المعروفين، لنفث السموم وحفر جروح غائرة في نفوس الأشقاء الجزائريين، مثل قول أحدهم «إنها ليست ثورة المليون شهيد.. بل المليون لقيط»، وهي كلمات معيبة لا يمكن إلا أن تمثل قائلها ومستواه الأخلاقي، المتدني، وليس الشعب المصري الأصيل المعطاء الذي عانقت دماؤه دماء أشقائه الجزائريين أثناء حرب التحرير، وقدم آلاف الشهداء في خدمة قضايا أمته وعقيدته. هذا الإعلام نفسه يخوض حاليا حملات تشويه، وإن كانت أقل حدة لأنها في بداياتها، ضد الدكتور محمد البرادعي، الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، لأنه «فكر»، مجرد «تفكير»، في الترشح لمنصب الرئاسة في الانتخابات المقبلة منافسا للرئيس مبارك أو نجله جمال. مشكلة الدكتور البرادعي، من وجهة نظر المجموعة المهيمنة على معظم أوساط الإعلام الخاص وجميع صحف الدولة وتلفزيوناتها، أنه رجل مؤهل، يحظى بسمعة دولية، وقرر أن يوظف خبراته العلمية والإدارية في خدمة بلاده. الدكتور البرادعي ارتكب خطيئة كبرى عندما دخل «المنطقة المحرّمة» على جميع أبناء الشعب المصري، باستثناء الرئيس مبارك ونسله، ولمّح، مجرد تلميح، إلى نواياه بدخول المعترك السياسي ولكن بشروط. الأمر الذي فتح عليه حملة تحريض «مدبرّة» يقودها بلطجية إعلام رجال الأعمال المرتبطين بالمؤسسة الحاكمة في البلاد، والمتحالفين مع لجنة السياسات، ويتمتعون بعضوية الحزب الحاكم ودعمه. قالوا إنه يحمل جنسية أجنبية، وعندما تبين لهم عكس ذلك، أشاروا إلى أنه يفتقر إلى التجربة السياسية والحزبية، التي تؤهله لتولي منصب رئيس الدولة، مثله مثل علماء أجلاء كأحمد زويل وفاروق الباز وغيرهما. فجائرة نوبل تتواضع أمام جائزة الرئاسة. فإذا كان الدكتور البرادعي يفتقر إلى الخبرة السياسية، وهو الذي تعامل مع أكثر القضايا السياسية العالمية خطرا وتعقيدا، مثل الملفين النوويين الإيراني والكوري الشمالي وقبلهما العراقي، وقابل وتعامل مع جميع زعماء العالم الفاعلين والمؤثرين، مثل جورج بوش الابن وباراك أوباما (أمريكا)، وأنجيلا ميركل (ألمانيا)، وغوردون براون (بريطانيا)، ونيكولاي ساركوزي (فرنسا)، وديمتري ميدفيدف وفلاديمير بوتين (روسيا)، فمن هم الزعماء العالميون الذين قابلهم السيد جمال مبارك، وما هي المنظمات الدولية التي تولى زعامتها، والملفات الخطيرة التي تولى إدارة أزماتها؟ ربطُنا بين التحريض الإعلامي ضد الشعب الجزائري والدكتور البرادعي ليس من قبيل الصدفة، لأن القصد من وراء هذا التحريض واضح، وهو مسألة الوراثة، وكيفية تسهيل تمريرها بأقصر الطرق وأكثرها سلامة. فالذين صعّدوا ضد الجزائر أرادوا أن يوظفوا النصر الكروي في خدمة هذه المحصلة في حال إنجازه، وهذا ما يفسر تصدر نجلي الرئيس المشجعين في المباريتين الحاسمتين في القاهرة والخرطوم، أو افتعال أزمة مع الجزائر لتحويل الأنظار عن مشاكل مصر الداخلية المتفاقمة، بتصديرها إلى عدو خارجي، وهذا ما حدث. والذين يصعّدون حاليا حملاتهم ضد الدكتور البرادعي، ونحن لسنا من أصدقائه أو مريديه على أي حال، يجدون أنفسهم أمام «بلدوزر» تتمثل فيه كل الصفات التي تؤهله للمنافسة من موقع قوة، على منصب الرئاسة في حال ما إذا قرر خوضها. مصر، وباختصار شديد، أمام مخاض حقيقي، بدأت إرهاصاته بارتباك أجهزة إعلام الحكم وحوارييه في افتعال أزمات، وقطع علاقات مع معظم الدول العربية، وحالة الحراك السياسي التي بدأت تتفاعل قبل الأزمة الكروية الأخيرة مع الجزائر، وأطلق رصاصتها الأولى السيد محمد حسنين هيكل بمطالبته بمجلس أمناء يحكم مصر، لفترة مؤقتة، ويشرف على انتخابات رئاسية نزيهة، وأطلق رصاصتها الثانية السيد عمرو موسى عندما لم يستبعد نزوله إلى حلبة المنافسة في أي انتخابات رئاسية مقبلة، ولكن قنبلة الدكتور البرادعي، التي انعكست في بيانه الأخير، واستعداده المشروط لخوض معترك الرئاسة، «جبّت» كل ما قبلها، ووضعت مصر أمام عملية التغيير، وهي قادمة لا محالة.