توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عوائق الحرية وحدود العدالة : قراءة في كتاب «جون راولز»

يرجع هذا المبدأ الأخير إلى المفكر الإيطالي باريتو،وهو مبدأ يتعلق بالنظام الاقتصادي .مضمون هذا المبدأ هو أن نظاما اقتصاديا يكون فعالا إذا كان من غير الممكن تعديله بكيفية يؤدي فيها هذا التعديل إلى تحسين ظروف البعض ،على الأقل فرد واحد،دون أن يزيد في تدهور ظروف البعض الآخر،حتى ولو كان فردا واحدا. يعني ذلك أن تحسين الظروف الاقتصادية لا ينبغي أن يكون على حساب إلحاق الضرر بظروف اقتصادية أخرى داخل نفس النظام الاقتصادي.غير أنه من الممكن أن يؤدي نظام اقتصادي إلى تحسين ظروف البعض دون أن يلحق الضرر بظروف البعض الآخر،غير أن هذا المعنى الأخير لا يرتبط بمبدأ الفعالية كما صاغه باريتو ،وإنما هو تعديل راولزي له.
إذا كان هذا هكذا بالنسبة إلى توزيع الخيرات بين المستهلكين بناء على مبدأ الفعالية،فإن هذا المبدأ نفسه يصدق على الإنتاج الاقتصادي.فالإنتاج الفعال هو ذاك الذي لا يتوفر على أية وسيلة تمكن من تعديله بحيث يسمح هذا التعديل بإنتاج كمية أكبر من بضاعة ما دون أن يؤدي ذلك إلى النقص من أنتاج بضاعة أخرى ،لأنه إذا ما استطعنا كما يقول جون راولز « إنتاج مزيد من خيرات ما بدون التقليص من إنتاج خيرات أخرى،يمكن استعمال كم الخيرات لتحسين ظروف بعض الأشخاص دون التقليص من تحسين ظروف عيش الآخرين.» ويقدم لذلك مثالا يتعلق بتوزيع ادخار ثابت بين شخصين مستنتجا المميزات التالية:
1- إن مبدأ الفعالية ضروري ليكون هناك توزيع فعال،غير أنه لا يكفي،إذ لا بد أيضا من حضور مبدأ العدالة،لأن مبدأ الفعالية لا يكفي وحده لتطبيق مبدأ العدالة.
2- لا تعطى الأولوية لاعتبارات تتعلق بالفعالية في التوزيع الفعال،وإنما تعطى هذه الأولوية لمبدأي العدالة القائمين على نظرية العدالة باعتبارها إنصافا.
3- يكون تنظيم التوزيع فعالا إذا لم تكن هناك أية وسيلة لتعديله بشكل يزيد في منظورات البعض دون أن يقلص من منظورات البعض الآخر.في هذه الحالة يكون التنظيم الفعال تنظيما عادلا.
4- يكون تنظيم الحقوق والواجبات في البنية الأساسية للمجتمع فعالا إذا وفقط إذا كان من المستحيل تعديل القواعد ،وإعادة تحديد نسق الحقوق والواجبات بكيفية تزيد في انتظارت فرد واحد دون أن تقلص من انتظارات فرد آخر في هذه البنية ،مع ضرورة أن يتوافق هذا التعديل مع مبادئ أخرى،كأن لا ينتهك مبدأ الحرية أو ينتهك مطلب المحافظة على المواقع المفتوحة أمام الجميع.فما يمكن تعديله هنا هو كيفية توزيع مواقع السلطة والمسؤولية وعملية توزيع الموارد والثرة فقط.
قلنا إن مبدأ الفعالية لا يكفي كي يتم تطبيق مبدأ العدالة .ففي نسق الحرية الطبيعية مثلا يتحدد التوزيع الفعال بالتوزيع البدئي للموارد والثروة والمواهب الطبيعية ،ومنه يتم التوصل إلى نتيجة فعالة .غير أن قبول هذه النتيجة كنتيجة عادلة،إنما يتعلق بالمساواة الشكلية .فأن تكون هذه النتيجة عادلة لا بد من قبول أن هذا التوزيع البدئي المحدد باستعدادات قائمة في فكرة المهن المفتوحة على المواهب يفترض مسبقا المساواة في الحرية بالنسبة إلى الجميع ،أي أن الجميع لهم نفس الحقوق في بلوغ مواقع اجتماعية مختلفة.لكن هذا التوزيع البدئي يكون بالضرورة متأثرا بالمصادفات الطبيعية والاجتماعية ،وحصيلة تراكم توزيعات سابقة لخيرات طبيعية،توزيعات تتأثر بالمصادفات الحسنة والسيئة كما تيسر لها ذلك في الماضي،كما يقول جون راولز,
سوف يقوم راولز بتصحيح هذا العيب القائم في نسق الحرية الطبيعية عن طريق القيام بتأويل ليبرالي له.فهذا التأويل يضيف إلى شرط المهن المفتوحة على المواهب شرط الإنصاف والمساواة في الحظوظ.فالمواقع في نسق الحرية الطبيعية لا تكون بناء على هذا التأويل مفتوحة بصورة شكلية إذ تكون للجميع حظوظا لبلوغها .وإن الذين لهم قدرات متشابهة يتوفرون على حظوظ متشابهة ،ولهم نفس المنظورات في النجاح بغض النظر عن مواقعهم البدئية في النسق الاجتماعي
هذا التأويل الليبرالي لنسق الحرية الطبيعية يستهدف إلغاء التأثير الحاصل عن المصادفات الطبيعية والاجتماعية على عمليات التوزيع،ومن ثمة فهو تأويل يفرض على النسق الاجتماعي شروطا بنيوية منها على سبيل المثال:موضعة السوق الحرة ضمن مؤسسات سياسية مشروعة،تقوم بتنظيم القنوات الرئيسية للحياة الاقتصادية،وتحافظ على الشروط الاجتماعية الضرورية للمساواة في الحظوظ. غير أنه لما كان من باب الصعوبة التطبيق الكامل لمبدأ الإنصاف في الحظوظ ضمن نسق الحرية الطبيعية فإنه عند التطبيق يستحيل ضمان المساواة في الحظوظ بالنسبة لأولئك الذين يتشابهون في المواهب وذلك عندما تتم عملية تبني المبدأ الذي يلغي اليانصيب الطبيعي.لذلك سيقوم راولز بتأويل آخر لهذا النسق عند البحث في المساواة الديموقراطية،بعد أن وقف عند مسألة الأرستقراطية الطبيعية.ففي هذه الأخيرة لا تخضع المصادفات الاجتماعية لأية مراقبة، بحيث إن الذين يتمتعون بمواهب طبيعية يقومون بتحسين شروط الفئات والقطاعات الفقيرة في المجتمع .هذا يعني أن تطبيق النموذج الأرستقراطي على النسق المفتوح يكون عادلا من الناحية الشرعية وذلك فقط في الحالة التي يتلقى فيها من هم في الأسفل ما هو أقل إذا منح لمن هم في الأعلى ما هو أقل .هذه هي فكرة النبل الملازمة للأرستقراطية الطبيعية.
وهكذا،فإنه سواء تعلق الأمر بالتصور الليبرالي للحرية الطبيعية أو التصور الأرستقراطي لهذه الحرية،فإنهما معا يتأثران بالمصادفات الطبيعية والاجتماعية ،وهما من هذه الجهة تعسفيين أخلاقيا ،ومن ثمة يرى راولز ضرورة تجاوز كلا التصورين إلى التصور الديموقراطي لهذه الحرية،وهو تصور يقوم على مبدأ الفروق أو الاختلاف.
لا يكون لمبدأ الفعالية أي موقع خاص تصدر منه أحكام بصدد أشكال التفاوت السوسيو-اقتصادية للبنية الأساسية للمجتمع عندما يتعلق الأمر بالتأويل الديموقراطي الذي يجمع بين مبدأ الفروق ومبدأ المساواة العادلة.فهذا التأويل الديموقراطي ينطلق من الأسس التي تقوم عليها المؤسسات الضرورية للمساواة في الحرية السياسية بالنسبة إلى الجميع والمساواة في الحظوظ بحيث لا تكون انتظارات من هم في الأعلى عادلة إلا إذا وفقط إذا كانت تعمل على تحسين انتظارات من هم في المواقع الدنيا للمجتمع.فالنظام الاجتماعي لا يوجد كي يضمن انتظارات الأكثر حظا إلا إذا كان يزيد بذلك في تحسين انتظارات الأقل حظا.ويوضح جون راولز ذلك من خلال جداول بيانية إحصائية انطلاقا مما يطلق عليه اسم النسق العادل تماما ،النسق الذي يزيد في تحسين وضعية الأقل حظا ،ومن هنا ،فإن تعميق الفوارق بين الطبقات الاجتماعية يزيد في انتهاك مبدأ الامتياز المتبادل ومبدأ المساواة الديموقراطية .غير أن مبدأ الفروق يكون متلائما مع مبدأ الفعالية حين يزيد في تحسين شروط البعض دون أن يؤدي ذلك إلى إفساد شروط البعض الآخر،في التصور الديموقراطي.وهذا يعني إمكان تعريف العدالة بصورة تتوافق فيها مع مبدأ الفعالية ،لكن أذا تم تقليص انتظارات الأقل حظا؛فإن العدالة آنذاك لن تتوافق مع مبدأ الفعالية في هذا التصور.أما إذا ما تمكن كل واحد من استخلاص ما يزيد في تحسين وضعيته من مبدأ الفروق مقارنة بالوضع البدئي للمساواة؛فإن ذلك سوف يقود إلى مصالح مشتركة بين الجميع ،وتكون المواقع والوظائف مفتوحة على الجميع.وإذا كانت سلطة القضاة والمشرعين تزيد في تحسين وضعية الأقل حظا،فإنها بذلك تزيد في تحسين وضعية المواطنين عموما.وإنه في إطار هذه المساهمات الإيجابية الحاصلة من امتيازات الأوفر حظا ،يكون لمبدأ الفروق نتائج مشابهة لمبدأ الفعالية داخل التصور الديموقراطي.
يشكل مبدأ المساواة ومبدأ الاختلاف،في نظر راولز،قاعدة للإنصاف؛لأنهما يحولان دون استعمال المواهب الطبيعية والظروف الاجتماعية كامتياز من أجل الحصول على امتياز سياسي واجتماعي،بعبارة أخرى إنهما مبدآن يحولان دون اللامساوة الطبيعية من أجل بناء وضع أصلي للمساواة،المساواة في الحريات الأساسية التي تنبع منها أيضا أشكال من التفاوت والفروق والاختلافات الاجتماعية التي لا تلحق الضرر بالأشخاص الأقل حظا في المجتمع .إنهما مبدآن تتم عملية اختيارهما ضمن وضع يكون فيه الجميع محروما من معلومات تؤسس لأحكام مسبقة،فحجاب الجهل يقوم بالحيلولة دون تدخل هذه المعلومات في عملية احتيار مبادئ العدالة.هنا تقوم المساواة بين كائنات حرة وعقلانية،تجهل كل الامتيازات التي ترجع إلى الطبيعة والمجتمع.
ينطبق هذان المبدآن على الواجبات والحقوق،ويحددان توزيع الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية.ففي منظور نظرية العدالة يتم تقسيم البنية الاجتماعية إلى جزأين متميزين تقريبا،حيث يحيل المبدأ الأول على الثاني والثاني على الأول منطقيا.وهكذا يتم التمييز بين مظاهر النسق الاجتماعي التي تضمن المساواة في الحريات الأساسية بالنسبة إلى كل واحد والمظاهر التي تقيم أشكال التفاوت الاجتماعية والاقتصادية.من الأساسي أن نلاحظ أنه من الممكن إنشاء لائحة من الحريات الأساسية والتي من بينها أكثر أهمية هي الحريات السياسية مثل حق التصويت،واشتغال منصب عمومي،حرية التعبير،والتجمع وحرية التفكير والوعي،وحرية الشخص التي تضم الحماية من الضغط السيكولوجي ومن التعذيب الجسدي،،والحماية ضد التوقيف والاعتقال التعسفيين،وحق الملكية الشخصية،الخ هذه الحريات ينبغي أن يتساوى فيها الجميع تبعا للمبدأ الأول. وهذا يعني أن المساس بالحريات الأساسية التي يحميها المبدأ الأول لا يمكن تبريره أبدا،ولا يمكن تعويضه بالامتيازات الاقتصادية والاجتماعية للعدد الأكبر . فهذه الحريات لا يمكن أن توضع موضع سؤال إلا إذا كانت في نزاع مع الحريات الأساسية الأخرى.
لكن من الصعب جدا إعطاء تعريف كامل لهذه الحريات في استقلال عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية لمجتمع معطى،فهو يذهب إلى القول إن سؤال الحرية ليس يتعلق بالمناقشات والخصومات الدائرة حول تعريفها؛وإنما يتعلق بالقيم النسبية لكثرة الحريات عندما تدخل في صراع فيما بينها .وهو يرى أنه إن كان بنيامين كونسطان Benjamin Constant قد ميز بين حرية المحدثين وحرية القدماء على اعتبار أن الأولى أكثر قيمة من الثانية؛فإنه لا ينبغي التضحية بالحرية الشخصية والحريات المدنية من أجل المساواة والمشاركة في الشؤون السياسية ،وأن هذا السؤال الذي يخص الفلسفة السياسية ينبغي لنظرية العدالة أن تجيب عنه،على اعتبار أن تعريف الحرية ليس له إلا دور ثانوي ،لذلك يربط راولز تفسيره للحرية بثلاثة عناصر قام بتفصيل القول فيها وهي الفاعلون الذين يتمتعون بالحرية،وحدود حريتهم ،وما هم أحرار في فعله وما ليسوا فيه أحرارا ليفعلوه .
لكن راولز وهو يفسر المبدأ الأول يميز بين الحرية والمساواة، وبين الحرية وقيمة الحرية.فالحريات التي يتساوى فيها الجميع تكون مقيدة بالحدود المعبر عنها بهذه الحرية التي يتساوى فيها الجميع ككل،وكنسق واحد وتبعا لمبدي العدالة،وهنا تكمن قيمتها. مثال ذلك أن قيمة حرية التعبير مقيدة ببعض القواعد التي تضع النظام في حوار ما ،وإلا فقد هذا الحوار قيمته كما تفقد حرية التعبير هذه قيمتها. كما أن قيمة الحرية التي يتساوى فيها الجميع ،هي قيمة تتعلق بالنسبة إلى الأشخاص والجماعات بقدرتهم على بلوغ غاياتهم .فالبعض له قدرة أكبر لبلوغ أهدافه،وأن قيمة شكل ما للحرية تكون تابعة لتعريف شكل آخر لها.هذا يعني وجود اختلاف بين تنظيم الحرية وتقييدها .فالتنظيم يتعلق بالنسق الكلي،والتقييد يتعلق بالحدود التي تخضع لها الحريات المختلفة داخل هذا النسق وهي حدود حاصلة من هذه الحريات نفسها. فبحسب أولوية الحرية يقوم جون راولز بتصنيف مبادئ العدالة تصنيفا قاموسيا حيث الحريات الأساسية لا تكون محدودة إلا باسم الحرية وهاهنا حالتين
1- تقليص الحرية ينبغي أن يقوي النسق العام للحريات الموزع من طرف الجميع
2- ينبغي للتفاوت في الحريات أن يكون مقبولا من طرف أولئك الذين يتمتعون بحرية أقل.لكن بحسب أولوية العدالة يكون مبدأ الحريات سابقا على مبدأ الفعالية وعلى الحصيلة العامة للامتيازات.كما أن المساواة العادلة في الحظوظ تكون سابقة على مبدأ الاختلاف . وهنا نسجل أيضا حالتين :
1- أن التفاوت أو الاختلاف في الحظوظ ينبغي أن يزيد في تحسين حظوظ الأقل حظا .
2- ثم ينبغي أن تلعب حصيلة الادخار دورا في التخفيف من ثقل أولئك الذين يتحملونه
نستطيع أن نتخيل الشكل العام للائحة مثل هذه وبمزيد من الدقة من أجل دعم تصور للعدالة . هناك غياب لحريات من هذه اللائحة مثل حرية الحصول على بعض أشكال التملك ، مثل وسائل الإنتاج وحرية التعاقد مثلما هو الحال في مذهب «ّدعه يعمل» ،لأن هذه ليست من الحريات الأساسية،ولذلك لا تكون محمية بالمبدأ الأول.وحسب المبدأ الثاني،ينبغي لتوزيع الموارد والثروات ومواقع السلطة والمسؤولية أن يتلاءم مع الحريات الأساسية ومع المساواة في الحظوظ .وهنا يمكن القول :إنه من الممكن توزيع جميع القيم الاجتماعية مثل الحرية والإمكانيات الممنوحة للأفراد وكذا الثروة والموارد والأساس الاجتماعي لاحترام الذات بالتساوي أيضا ،أو على الأقل أن لا يكون التوزيع اللا متكافئ لهذه القيم،في مصلحة البعض دون البعض الآخر.وعلى هذا يرى راولز أن الظلم،هو بكل بساطة،يأتي من التفاوت الذي لا يستفيد منه الجميع.لكن هذا الأمر يحتاج إلى تفسير .
لنفترض وجود تنظيم اجتماعي فيه تتوزع الاختيارات الاجتماعية الرئيسية مثل الحريات،والحقوق،واحترام الفرد،وحفظ الصحة،والعقل،الخ،بكيفية متساوية بحيث يكون لكل واحد حقوق وواجبات متشابهة وفي نفس الوقت يكون توزيع الثروات بشكل غير متكافئ.يشكل هذا الافتراض نقطة مرجعية لتقويم التحسينات التي ستحدث:فإذا كانت العلاقات اللا متكافئة في الثروة وفي السلطة تساهم في تحسين وضعية كل واحد بالمقارنة مع الوضعية المفترضة؛فإن هذا التفاوت يكون متوافقا مع التصور العام للعدالة،وإذا لم يساهم في تحسين أوضاع الأقل حظا في المجتمع فليس بموافق لتصور العدالة.ولنفترض أن هناك أفرادا يبدون رغبتهم في أن يتخلوا عن بعض الحقوق السياسية في سبيل أرباح اقتصادية،فالنتيجة هي أن هذا الافتراض لا يندرج ضمن العدالة ومبدأيها.إنهما مبدآن يحولان دون استبدال الحريات الأساسية بالأرباح السوسيو-اقتصادية وهما مرتبان بحسب النظام القاموسي.وعلى هذا يرى راولز ضرورة الانتباه إلى الشروط التي تحدد ما هو نسبي وما هو مطلق في الأهمية المعقولة للامتيازات الاجتماعية والاقتصادية.إن التمييز بين الحقوق والحريات الأساسية من جهة والامتيازات الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى،يكشف عن الاختلاف بين الخيرات الاجتماعية الأولى داخل النسق الاجتماعي.
غير أن أمارتيا سن وهو يتحدث عن المشاكل التي تعترض أولوية الحرية في نظرية العدالة كإنصاف،وهي مشاكل تقبل الحل داخل تصور راولز نفسه يرى أن هذه الأولوية مبالغ فيها،لأنه من الممكن أن تعطى الأولوية مثلا للجوع وسوء التغذية،الخ،بحيث تكون أكثر أهمية من انتهاك حرية شخصية ( فكرة العدالة،ص 96).طبعا يرى أن للحرية أولوية ما،ولكنها ليست مطلقة إذا ما قورنت بعدد من الآليات المتعلقة بضرورة التوازن بين قوى متعاكسة حيث يتم السماح بإعطاء امتياز جزئي لانشغال ما على آخر.
فيما يتعلق بالمبدأ الثاني،مبدأ الاختلاف قام راولز بتقييم الإمكانيات الممنوحة للأفراد بناء على الوسائل التي يتوفرون عليها،دون أن يأخذ بالاعتبار،كما يرى أمارتيا سن التنوع الكبير في القابلية أو الاستعداد المتعلق بتحويل هذه الخيرات الأولية،ومن بينها الحرية،إلى حياة تلبي حاجيات الأفراد المختلفة .فالمرأة الحامل،مثلا،تحتاج إلى تغذية جيدة أكثر من غير الحامل،الخ،وهذا يعني أن حاجيات الناس مختلفة،وان استعداداتهم لتلبية هذه الحاجيات ليست على نفس المستوى من القدرة.
في إطار العلاقات الاجتماعية يتعرف الأفراد على قواعد للسلوك كقواعد إلزامية ,ينبغي عليهم أن يتصرفوا في توافق معها، إذ أنها هي التي تحدد النظام التعاوني الذي يستهدف تحقيق الخير لهم .غير أن المجتمع لا يتسم بالتعاون وحده وإنما أيضا بصراع المصالح،فالناس أثناء عمليات التوزيع ,توزيع ثمار مساهماتهم ,يفضلون الحصول علي جزء أكبر من الامتيازات. لذلك يكون المجتمع في حاجة إلى المبادئ لتوزيع الخيرات وإلى اتفاق حول توزيع سليم لها.تلك هي مبادئ العدالة التي بحسبها يتم تثبيت الحقوق والواجبات داخل المؤسسات الاجتماعية وتبين التوزيع الملائم للأرباح وللمسؤوليات داخل التعاون الاجتماعي.
إن المجتمع المنظم هو مجتمع يسمح بالتوزيع العادل للثروات .لكن ناذرا ما تكون المجتمعات منظمة بهذا المعنى ؛والسبب في ذلك يعود إلى تصورات الناس للعدالة ,بمعنى أن ما هو عدل وما هو ظلم غالبا ما يكون موضوع نقاش.فالناس ,بهذا المعنى ,لا يتفقون عادة حول المبادئ التي ينبغي أن تحدد المصطلحات،المفاهيم والتصورات التي تؤسس تجمعهم واجتماعهم .لكن بالرغم من عدم الاتفاق حول المصطلحات وحول تصور واحد للعدالة ،فإن الناس يحسون الحاجة إلى ضرورة قيام مبادئ تسمح بتثبيت الحقوق والواجبات الأساسية وتحدد ما يعتقدون أنه توزيع ملائم للخيارات وللمسؤوليات داخل التعاون الاجتماعي .ومن هنا يميز جون راولز مفهوم العدالة عن تصورات العدالة :إن الناس الذين لهم تصورات مختلفة عن العدالة يمكنهم ،مع ذلك أن يتفقوا حول المؤسسات العادلة،وهي تلك التي لا تقيم أي تميز تعسفي بين الأشخاص في تثبيت الحقوق والواجبات الأساسية وبالتالي تقيم توازنا ملائما بين المطالب المتنافسة بصدد امتيازات الحياة الاجتماعية .
إن هذا التمييز بين مفهوم العدالة وتصورات العدالة يساعد على تحديد الدور الذي تقوم به.فبالإضافة إلى مسألة الاتفاق حول تصورات العدالة،هناك مساءل أخرى تتعلق بالتعاون الاجتماعي، وهي مسألة التنسيق،،مسألة الفعالية،ومسألة الاستقرار.إن مشاريع الأفراد مثلا تحتاج إلى تنسيق يمكِّن أنشطتها من أن تتوافق بشكل يقود إلى ما هو خير بدون أن تكون التوقعات المنتظرة من هذه المشاريع معرضة للفشل.وهذه المشاريع في تحقيقها لبعض الأهداف الاجتماعية تحتاج إلى وسائل تكون في ذات الوقت فعالة ومتلائمة مع العدالة، كما تقتضي أن يكون هناك استقرار في نظام التعاون الاجتماعي،إذ ينبغي أن تكون هذه المشاريع متوافقة مع قواعده الأساسية.حينما تحدث تصدعات ما،مثلا،ينبغي أن تتدخل عوامل الاستقرار لتعيد إلى النظام استقراره وتحول دون وقوع انتهاكات في المستقبل.
إن هذه المسائل الثلاث -الفعالية،التنسيق والاستقرار،مرتبطة بمشكلة العدالة.ثم إنه في غياب اتفاق حول ما هو عدل وما هو ظلم يكون من الصعب أن تكون مشاريع الأفراد متضامنة من أجل رفاهية الجميع.ولذلك، فإن كان الدور الخاص بتصورات العدالة هو ضبط الواجبات والحقوق الأساسية؛فإن الكيفية التي تمارس بها هذا الدور له ارتباط بمشاكل التنسيق والفعالية والاستقرار.وعلى العموم فإننا،كما يرى جون راولز،لا نستطيع القيام بتقييم تصور ما للعدالة انطلاقا من دورها التوزيعي مهما كان هذا الدور نافعا من أجل تعيين مفهوم العدالة.فإذا كانت العدالة أهم فضيلة للمِؤسسات الاجتماعية؛فإن تصور العدالة يتم تفضيله على آخر حينما تكون نتائجه هي المرغوب فيها.
يبين راولز أن مبادئ العدالة التي هي موضوع اتفاق بين المشاركين داخل الوضع الأصلي ،وإن شئت قلت داخل السلطة التأسيسية بتعبير أنطونيو نغري Antonio Negri في كتابه ,le pouvoir constituant يمكن توظيفها في الاقتصاد السياسي في الدولة الحديثة،غير أن هذا أمر يثير إشكالا يتعلق بالادخار وبمشكلة العدالة بين الأجيال،وهذا ضمن العدالة التوزيعية ( نظرية العدالة ، ص 299 وما بعدها ) المتعلقة بمبدأ الاختلاف الذي تقرر ضمن حجاب الجهل ،وهو إشكال يتعلق بالبرامج السياسية المتعلقة بالاقتصاد،وبالمؤسسات السياسة المرتبطة بشؤون الاقتصاد،على اعتبار أنه إذا ما اتجهنا نحو ما يقوله بيير كلاستر في كتابه مجتمعات اللا دولة أن السياسة اليوم هي البنية التحتية،وأن الاقتصاد ينتمي إلى البنية الفوقية مثله في ذلك مثل سائر الأشكال الإيديولوجية الأخرى.يعني أن السياسية هي الموجه الفعلي للبنية الاقتصادية للمجتمع،مثلما تكون هي المحددة لمختلف الأشكال الثقافية والإبداعية،بفعلها يكون للإبداع حقه ،وبفعلها يمكن أن يضيع،وذلك بخلاف النظرية الماركسية المفهومة اقتصادويا.فليست الثورات الاقتصادية،هي التي لعبت دورا حاسما في التاريخ ،وإنما التحولات السياسية الكبرى هي التي قامت بهذا الدور،يعني ظهور الدولة في التاريخ الإنساني،لأنه بظهور الدولة أو بظهور السياسة تخلصت مجتمعات اللادولة من معاناة غياب الدولة.نقول ذلك لأن السياسة ،وهي هنا تتعلق بمبدأ الحرية والعدالة عند راولز سابقة على مبدأ التوزيع،أو أن مبدأ السياسة ومبدأ المساواة والحرية أسبق قاموسيا على مبدأ الاقتصاد والاختلاف.،وأن الأسبق هو الذي يوجه اللاحق عليه .فالمساواة هي التي توجه التفاوت والاختلاف،والوحدة هي التي توجه الكثرة والتعدد،وأن الحرية هي التي تقوي القدرات والمؤهلات وتمنحها إمكانية الظهور.لذلك نجد جون راولز يفضل منح الأولوية للعدالة والحرية على الرفاهية welfare مفهومة نفعيا.فأولوية العدالة نابعة من القدرة على الاختيار وعلى الحرية ،وهي قدرة قائمة في الذات الأخلاقية.غير أن هذه الذات لا تختار لنفسها،وإنما اختيارها اختيار اجتماعي social choice ضرورة بفعل علاقتها باستدلالات العقل العملي.ومن ثمة لا تكون السياسة منفصلة عن الفلسفة،إذ الفلسفة هي التي تقيم لها إمكان استقلاليتها عن الحقول غير السياسية كي تتمكن من احتلال مركز الصدارة في توجيه الحقول الأخرى،بما فيها الحقل الديني على سبيل المثال.هذا الاختيار الاجتماعي هو اختيار للخير العام وللمؤسسات القادرة على تحقيقه.لذلك تكون مبررات هذا الاختيار أخلاقية واقتصادية معا.(ص 300)
لقد طرح أرسطو مسألة العلاقة بين العدل والإنصاف فيما يتعلق بالقضاء ،موضحا أن هذه العلاقة لا تجعلهما متشابهين تماما ،إذ أنه غالبا ما يتم امتداح الإنصاف مقارنة بالعدل ،وفي أحيان أخرى يبدو لنا هذا المدح لنا عبثا،لأن ما هو منصف هو في جزء منه عادل،وهذا يعني أن الإنصاف ليس جنسا مختلفا عن العدل.إنما الاختلاف بينهما ليس اختلافا في الجنس،وإنما في علاقتهما بالقانون.فالإنصاف يُصلح العدل في علاقته بالقانون،كما يُصلح القانون في علاقته بالعدل،السبب في ذلك هو أن القانون والعدل يسِمان نفسيهما بالطابع العمومي،في حين أن الإنصاف له طابع خصوصي.فالقانون وهو يتلبس بهذا الطابع العمومي لا يستطيع أن يعبر بدقة عن حالات نوعية وخاصة أو فردية بخلاف الإنصاف،وهو في هذه الحالة يعترف بنقصه عندما يكون أمام الإنصاف،غير أن هذا النقص لا يرجع إلي القانون من حيث هو كذلك،وإنما إلى المشرع الذي يكون تعبيره عموميا عندما يشرع القوانين .غير أن المشرع ينتبه إلى هذا النقص،وهو نقص يدفعه إلى القيام بإدخال تعديلات في القانون.نفس الأمر يحصل في علاقة الإنصاف بالعدل،إذ العدل يتضمن بفعل عموميته ذات النقص.فالطبيعة الخاصة للإنصاف تصحح عمومية العدل والقانون.وهنا لا حديث عن الإكراه أو الإلزام ،وإنما فحص العلاقة القائمة بين العدل والقانون بناء على مبدأ الإنصاف،ضمن العدالة التعويضية بخلاف العدالة التوزيعية القائمة على اللامساواة التي هي في نظر أرسطو شكل من أشكال المساواة،نظرا للمبدأ الميتافيزيقي الذي يحكم تصوره للكون والمجتمع،وهو مبدأ الأفضلية،فضلا عن مفهوم الغاية الذي يحكم هذا التصور الأرسطي.
مع جون راولز يضم مبدأ الإنصاف جزئين لهما علاقة بالفرد وبالمؤسسات ،الأول يتعلق بالكيفية التي بها يتلقى الأفراد عددا من أشكال الإكراه أو الإلزام ،بناء على أفعال إرادية والآخر يتعلق بالشروط التي تكون بها مؤسسة ما عادلة ،وكلا الجزأين مترابطين؛لأن هذه الشروط هي الضامنة لتلك الأشكال ،ولأن الجور لا يولد أي إلزام أو إكراه.غير أن هاهنا مشكلة يفحصها راولز وهي إمكان تأسيس الإكراه أو الإلزام على الواجب الطبيعي دون ما حاجة إلى مبدأ الإنصاف،وأن يتم تفسير الإلزام بواجب العدالة باعتبار هذا الإلزام من بين الواجبات الطبيعية.إن هذا التفسير صحيح من جهة تأويل الفعل الإرادي كفعل يوسع هذا الواجب الطبيعي .لكن راولز يرى أن ما هو أكثر صحة هو أن نميز بين المؤسسات التي تحكم حقل نشاطنا بكامله،فنكون بذلك أمام الواجب الطبيعي،وذلك مثل الخضوع للدستور والقوانين الأساسية التي تحكم هذا النشاط ،وبين المؤسسات التي تجعلنا ضمن المجرى العقلاني لوجودنا في أن نتصرف بهذه الكيفية أو تلك.هذا يعني قيام تمييز بين الواجب الطبيعي والإكراه الحاصل عن المسؤولية .فالأول يفيد الطاعة،طاعة القوانين العادلة ،والثاني يتعلق بتحمل المسؤولية عندما نكون أعضاء في مؤسسة أو جمعية ما .فالذين يشغلون وظائف سياسية يكونون أمام إكراه أو إلزام سياسي أكثر من كونهم أمام واجبات سياسية. (385)،ولذلك تجد هؤلاء أكثر ارتباطا بالمؤسسات العادلة. وباختصار؛فإنه بمبدأ الإنصاف نميز بين الواجب والإكراه ،إذ أن هذا الأخير متعلق بالمطالب الأخلاقية،والأول مرتبط بالواجبات الطبيعية .غير أن هذا الإكراه يختلف عن المطالب الأخلاقية الأخرى بعدد من المميزات .فهو أولا حاصل عن أفعال إرادية يمكن أن يتحول إلى إلزام وذلك مثل الوفاء بالعهود،وثانيا يتحدد مضمون هذا الإلزام من طرف المؤسسة المعنية،وثالثا يتجه هذا الإلزام إلى أفراد معينين بناء على مبدأ الإنصاف.(143) ففي إطار الاستدلال العملي أبان راولز عن قواعد الأولوية بالنسبة إلى الأفراد،وبالنسبة إلى المؤسسات الاجتماعية فيما يخص مفهوم العدل.فبالنسبة إلى الأفراد هناك مطالب أو مقتضيات تتوزع إلى إلزامات وإلى واجبات طبيعية .ويندرج الإنصاف ضمن هذه الإلزامات مثل الوفاء،في حين أن الواجبات الطبيعية فيها السلبي والإيجابي.السلبي مثل عدم إلحاق الضرر بالغير،والإيجابي مثل الاحترام المتبادل.
لقد اختار راولز مبدأين قائمين على معايير أخلاقية. مبدأين يراعيان حقوق وواجبات الأفراد والمؤسسات ،إن على مستوى التوزيع أو على مستوى الإنصاف،إذ المستوى الأول يراعي ما هو مجتمعي،والثاني يراعي ما هو فردي ضمن هذا المجتمعي. غير أن هذين المبدأين تتفرع عنهما مبادئ أخرى ضمن عملية تنظيم الأولويات.بهذا الصدد يضع راولز خطاطة يتم التعرف من خلالها على مختلف المبادئ داخل الوضع الأصلي للعدالة،مبادئ صالحة للمجتمع والأخرى صالحة للأفراد،والثالثة تتعلق بالقانون الدولي العام،أما الأخيرة فتتبنى القواعد التي تتم بها مسألة الأولوية في اختيار هذه المبادئ.
لكن هناك مستوى ثالث يتعلق بنا نحن من حيث كوننا كائنات عاقلة وذوات أخلاقية،وهو ما قام راولز بالفحص عنه في الفقرة 38 ،والفقرة 77من كتابه هذا.غير أن راولز يعلق على مفهوم الذات الأخلاقية le sujet moral موضحا أنه إن كان أغلب الناس قادرين على تصور معنى للعدالة،فإن منهم من يرفضها عند التطبيق ،فيكون خطر المؤسسات الجائرة مرتفعا ،ومن هنا تكون المساواة المرتبطة بهذا المفهوم الأخلاقي غير صارمة في التطبيق.أن يكون فرد ما قادرا على أن يكون ذاتا أخلاقية ،فإن هذا أمر مشترك؛وإنما لا تكون هذه القدرة غائبة إلا عند الأفراد المعزولين أو أنها حاضرة عندهم في درجة دنيا ،وإذا كان الأفراد مختلفين في هذه القدرة؛فإن هذا الاختلاف لا يكون مبررا لحرمان أولئك الذين لهم هذه القدرة في الدرجة الدنيا من العدالة،إذ أن مبدأ الإنصاف يراعي الحقوق الفردية.
يطرح جون راولز إشكالا يتعلق بتأسيس العدالة على هذه القدرات الطبيعية؟ويجيب بناء على الوضع الأصلي،وحجاب الجهل،أن ليست هناك خصائص طبيعية تبين أن البشر جميعهم متساوون بالطبيعة،لأنهم ليست لهم نفس القدرات وفي نفس الدرجة.فتكون المساواة التي يتحدث عنها المبدأ الأول اعتبارية .فليست هناك،مثلا ضمانة لهذه المساواة في المعاملات الواقعية،إلا في مبادئ العدالة،والسبب في ذلك هو أن المساواة الاعتبارية لا تقيد اللامساواة الواقعية ،وذلك مثل نظام العبودية أو الطبقات المغلقة.الحل الذي يقدمه راولز يتعلق بما أطلق عليه اسم range property ،وذلك لفحص العلاقة بين المساواة والقدرات الطبيعية،والمقصود بهذا الاسم هو خاصية يشترك فيها عدد من الأفراد أو خاصة جماعية تنسب إليها عدالة متساوية فيما بين أعضائها.فليس هناك ما يمنع بهذا المعنى أن تكون قدرة طبيعية ما أساسا للمساواة،غير أن هذا أمر موكول إلى مبادئ العدالة وليس إلى فرضيات إجرائية.
يمكن القول أيضا:إن مبدأ الاختلاف ينظر إلى التفاوت على أنه نوع من المساواة ،فضلا عن المساواة التي يؤكدها مبدأ الحرية,وهنا يرى راولز ضرورة المصالحة بين هذين النوعين من المساواة.فالمبدأ الأول للعدالة هو مبدأ أخلاقي يعطي الأولوية للمساواة والحرية لجميع البشر في استقلال عن وضعهم الاجتماعي،والمبدأ الثاني،مبدأ الاختلاف يقر بتوزيع الخيرات توزيعا يعطي الامتياز للأكثر حظا،دون إلحاق الضرر بالأقل حظا،فيكون بهذا الاعتبار أيضا مساواة،تجعل من بنية التوزيع ومن التعاون الاجتماعي أن يكونا عادلين ،في حين أن الأول له أولوية وأهمية أكبر،وهو ما يحول دون النظر إلى المساواة فيهما ضمن تصور إمبريقي
هنا يطرح راولز عددا من الصعوبات المتعلقة بهذا الاختيار،ويقدم على ذلك مثالا يتعلق بمسألة أولوية الواجبات الطبيعية على الواجبات الاجتماعية ،وهو يرى أن من الواجبات الطبيعية ما هو مندرج ضمن الواجبات الاجتماعية مثل حماية المؤسسات العادلة من طرف الأفراد. ،لذلك يرى أنه من السهولة أن يتبنى الأفراد جميع المبادئ التي تصلح للبنية الأساسية للمجتمع.ويرى أن ما قاله برادلي Bradley عن الفرد بأنه تجريد محض (139)،إنما يعني،في نظر راولز وفي تأويله، أن الواجبات والحقوق المتعلقة بالفرد تفترض تصورا أخلاقيا للمؤسسات الاجتماعية،وهو بناء العدالة على متطلبات الإنصاف
إن علاقة الواجبات الطبيعية بالواجبات الاجتماعية،هي بشكل ما علاقة بين الفرد والمؤسسة ،لذلك يرى ضرورة الخوض في مضمون المؤسسات العادلة قبل الخوض في المقتضيات التي يطلبها الأفراد من هذه المؤسسات. وفي هذا يعارض النزعة الفردية التي تعطي الأولوية للفرد على المجتمع كما هو الحال بالنسبة إلى النزعة النفعية،وهو مع ذلك ينتمي إلى الفردانية. فالفرد غير مقصى بذاته ،وإنما هو الأساس الذي يقوم عليه المبدأ المؤسس للعدل الذي ليس هو المنفعة،وإنما هو مبدأ الإنصاف،إذ أن ما في الفرد ليس فرديا كما يقول بيير فرانسوا مورو في كتابه جذور الليبرالية.
يعلق أمارتبا سن على هذه الفكرة ،في كتابه فكرة العدالة موضحا أن نظرية العدالة عند راولز تقوم على أطروحة مركزية هي بناء العدالة على متطلبات الإنصاف.وهو يرى أن الإنصاف يأخذ أشكالا متعددة ،غير أنه في صميم جميع هذه الأشكال تقوم فكرة جوهرية هي ضرورة الحياد عندما نصدر تقويمات بصدد الوقائع ،وهو يتصور الإنصاف كآمر محايد وغير منحازimpératif d impartialité يجد وظيفته في الوضع الأصلي للعدالة. وهكذا؛فإنه إلى جانب المبادئ الصالحة للمؤسسات الاجتماعية ينبغي أن يحصل اتفاق حول التصورات الأساسية المندرجة ضمن مفهوم العدل مثل الإنصاف والوفاء والاحترام المتبادل،الخ،من حيث تنطبق على الأفراد.
لكن ما المؤسسة؟إن المؤسسة هي نسق عمومي من القواعد ( نظرية العدالة،ص 543 ) التي تحدد المواقع والحقوق والواجبات والسلطات والتحصينات ،الخ،وهي قواعد يتم بناء عليها الترخيص بممارسة أشكال معينة من الأفعال والأنشطة ،وتمنع ممارسة أشكال أخرى .وإذا ما تمت مخالفة ما تسمح به هذه القواعد؛فإن هذا النسق يحدد أشكالا من العقوبات التي تتناسب مع هذه المخالفة أو تلك. ويمكن النظر إلى المؤسسة في صورتها المجردة أو في وجودها المتحقق الفعلي .في الحالة الأولى هي نمط من الممارسات السلوكية داخل نسق من القواعد،وفي الحالة الثانية هي تحقيق لهذه الممارسات والأفعال المترتبة عن هذه القواعد في زمان ومكان محددين.كما أن مبدأ المساواة في إطار مؤسسة ما يتعلق بإدارتها ،بحيث يكون تعلق المساواة بعدالة المؤسسة هو أن تكون هذه المؤسسة حقلا محايدا للقواعد وتفسيرا أو تأويلا لهذه القواعد بناء على قواعد أخرى عملية،وذلك مثل القاعدة التي تقول:ينبغي معاملة الحالات المتشابهة بطرق وكيفيات متشابهة بناء على القانون وعلى القضاء.غير أن هناك مستوى آخر أكثر إشكالية بهذا الصدد يتعلق بالبنية الفعلية والملموسة لمؤسسة ما ،وهي أن تقوم دلالة المساواة على العدالة التي تقتضي فرض نفس الواجبات الأساسية على جميع أعضائها.
لكن متى نصف مؤسسة ما بالعدل أو الظلم؟هل في وجودها المجرد أم في تحققها الملموس؟ والجواب هو أن العدل والظلم يطلقان على عدد كثير من الأمور، فهما يطلقان على القوانين،المؤسسات،الأنظمة،الأفعال الخاصة مثل اتخاذ القرارات حول المواقف والسمات الخصوصية للكائنات البشرية،وعلى هذه الكائنات أيضا،الخ. وإن مؤسسة ما تكون في وجودها المجرد عادلة أو جائرة إذا كانت واحدة من تعيناتها الملموسة عادلة أو جائرة.ويقدم راولز مثالا على ذلك هو المؤسسة البرلمانية. فهذه المؤسسة نسق من القواعد تقوم بإحصاء وحصر وترتيب بعض الأفعال والممارسات بدء من انعقاد دورة برلمانية ،إلى التصويت على مشاريع قوانين إلى بناء قاعدة إجرائية.فهي،إذن،توجد في لحظة ما ومكان ما ،وذلك عندما يقوم المعنيون بتنفيذ الأفعال على الوجه المطلوب ،أي في توافق مع القواعد التي تم الاتفاق حولها.فأن تكون المؤسسة نسقا من القواعد معناه أن كل فرد يعرف ما ذا تطلبه هذه القواعد منه،ويعرف أن الآخرين يعرفون ذلك أيضا..غير أن هذا الشرط الأخير لا يلبى دائما في حالة المؤسسات الواقعية.ومن ثمة فإنه ينبغي لمبادئ العدالة أن تنطبق على تنظيمات لها طابع العمومية،يعني أن القواعد الخاصة بمؤسسة خاصة أو صغرى ينبغي أن تكون مقبولة ضمن هذه العمومية.لأنه بفعل خاصية العمومية هذه نعرف ما ذا سيحدث حتى عندما تكون القواعد المتبعة من طرف جماعة صغرى لمؤسسة ما معروفة فقط عند أعضائها،لأنها بذلك لن تحدث تأثيرا سلبيا على المؤسسات الأخرى.وعلى هذا الأساس فإن المجتمع المنظم،أي المجتمع الذي يشتغل بناء على تصور مشترك للعدالة ،هو المجتمع الذي يقوم فيه تفاهم عمومي حول ما ذا يعنيه الظلم وماذا يعنيه العدل.وشرط العمومية طبيعي في نظرية العقد كما أنه ملازم لمبادئ العدالة.
إن الطابع العمومي لمؤسسة ما ولقواعدها يمَكِّن أعضائها من معرفة الحدود المتقابلة التي عليهم توقعها في تصرفاتهم المسموح بها ،إذ المؤسسة هي أساس مشترك لمعرفة الانتظارات المتقابلة.
يقيم جون راولز تمييزا في قواعد المؤسسة بين قواعد بنائية مؤسِّسة للحقوق والواجبات ومختلف الاستراتيجيات،وقواعد عملية تقوم بتحديد توظيف المؤسسة لغايات خاصة.القواعد الأولى تنتمي إلى النظرية مثلها في ذلك مثل النظرية السياسية البرلمانية بالنسبة إلى المؤسسة البرلمانية.فالقواعد البنائية تحلل الكيفية التي بها يتم توزيع السلطة وتفسر الطريقة التي يستفيد بها المشاركون من الفرص التي توفرها المؤسسة.وهكذا فإنه عندما يتعلق الأمر بإصلاح اجتماعي؛فإنه ينبغي اختبار التصاميم التي يسمح بها وأنماط السلوك التي يشجعها ،وبناء قواعد تجعل الناس مدفوعين بمصالحهم ،ويساهمون بهذه المصالح في تحقيق أهداف مرغوب فيها اجتماعيا.ينبغي لأنماط السلوك التي توجهها المشاريع العقلانية أن تكون في توافق مع النتائج المقصودة والمتوقعة مع العدالة .يعتبر بنتام Bentham هذا التوافق بمثابة توحيد أو تماه مصطنع ،ويعتبره آدم سميث A.Smith بمثابة عمل يد خفية ،وفي نظر راولز يعتبر هذا التوافق هو ما يستهدفه المشروع المثالي عند وضع القوانين،ويستهدفه رجل الأخلاق عندما ينادي بضرورة إصلاحها.
هناك تمييز آخر يقيمه راولز في هذه القواعد،وهو التمييز بين قاعدة بسيطة أو مجموعة من القواعد وبين البنية الأساسية للمجتمع باعتبار هذه البنية نسقا كليا.أساس هذا التمييز هو أنه من الممكن لقاعدة ما أن تكون جائرة بدون أن تكون المؤسسة نفسها جائرة،ويمكن لمؤسسة أن تكون جائرة دون أن يكون النسق الاجتماعي في كليته جائرا .كذلك فإن الكل يمكن أن يكون جائرا إذا تضمن في ذاته عنصرا جائرا ،ويمكن أن يكون جائرا إذا لم تكن أية واحدة من عناصره ،منظورا إليها في انعزال،جائرة.وعلى هذا يمكن القول:إن الظلم والعدل حصيلة توليف وتركيب نسق وتشكُّل نسق واحد.
يذهب راولز إلى أبعد من ذلك عندما يبين أنه يمكن لمؤسسة أن لا تكون عادلة ولا جائرة وذلك مثل الطقوس ،وهي لا تعنيه في عمله هذا،إذ أن الذي يهمه هنا هو القيام بدراسة الحالات النموذجية للعدالة الاجتماعية.يفترض أيضا إمكان أن تتوافق قواعد بنية ما مع تصور معين للعدالة دون أن تكون مبادئها مقبولة إذ تظهر جائرة ومقيتة.لكن إن كانت هذه المبادئ تقوم بدور العدالة؛فإنها ستحدد عملية توزيع الامتيازات التي يوفرها التعاون الاجتماعي،فيكون تصور العدالة مقبولا من طرف الجميع،وتتم عملية مراقبة سير المؤسسات من طرف قضاة وموظفين.هذا النوع من العدالة هو المسمى بالعدالة الشكلية.كيف ذلك؟
لنفترض تصورا يختزل العدالة في المساواة.هنا عندما تقوم العدالة بتوظيف هذا التصور وتشغيله؛فإنه يجب على المؤسسة أن تقوم بتطبيق القوانين على الأعضاء والفئات بكيفية متساوية .وهذا النمط من التطبيق يكون مورطا بالقوانين،ويمكنه أن يقود إلى الظلم،فيما يرى سدكويك Sidgwik .يعني ذلك أن المعاملة بصورة متساوية ليس بضامن كاف لعدالة واقعية.وفي حالة المؤسسات الشرعية تكون العدالة الشكلية مجرد مظهر لسلطة القانونrule of law .فالعدالة الشكلية بهذا الاعتبار تخضع لسلطة القانون بناء على تصورها لذاتها بأنها مساواة.
هكذا يصل راولز إلى نتيجة تتعلق بالعدالة السياسية ،وهي أن قوة العدالة الشكلية إنما هي في تحقيق العدالة الواقعية .أجل إن البعض يعتبرهما متطابقتين ،غير أن الظلم إنما هو آت من عدم التشغيل المحايد لهما.كما أنه سيكون هو عدم التزام القضاة والموظفين بالقواعد الملائمة ،أو بتأويل هذه القواعد عندما يتعلق الأمر بفض المنازعات.كذلك حتى في حالة وجود قوانين أو مؤسسات ظالمة ؛فإنه ينبغي أن تطبق بكيفية منطقية،يعني أن الذين يخضعون لها يمكن أن يحموا أنفسهم منها،وأن الذين يستفيدون منها ويطعنون في حقوق الآخرين وحرياتهم لا يسمحون بأن تتسرب الشكوك إلى هذه القوانين التي تضمن مصالحهم.
وعليه؛فإن الطابع الفضفاض للقوانين والمجال الواسع الذي يوفره تأويلها يشجعان عملية التعسف والاعتباط في اتخاذ القرارات .غير أن هذا التعسف لا يمكن تقليصه وإلغاؤه إلا بالوفاء للعدالة الاجتماعية.لذلك يرى راولز أن العدالة الواقعية تحضر حيثما حضرت العدالة الشكلية،وبالتالي يمكن أن تغيب إذا غابت.والقصد من حضورهما الطردي هو المتابعة المحايدة للقواعد ومعاملة الحالات المتشابهة بصورة متشابهة ،وتطبيق معيار العمومية على العدالة الاجتماعية والاعتراف بحقوق وحريات الآخرين.سوف يقوم راولز بتفصيل القول في هذا المعنى،وذلك بعد أن يقوم بتوضيح مبادئ العدالة سواء في عقلنا أو في مواقفنا الإنسانية ،كي يتبين مزيد الفهم بالترابط القائم بين العدالتين الشكلية والواقعية
في أطار النظرية الأخلاقية يمكن القول: إن نظرية العدالة ،هي نظرية أخلاقية تتمحور حول مفهوم الشخص.والشخص هنا منحدر من مفهومين أساسين للأخلاق هما العدل والخير.وكل نظرية أخلاقية إنما تتسع أو تضيق بمقدار ما توسع أو تضيق بين هذين المفهومين المركزيين..لكن ضمن النظريات الأخلاقية تقوم نظريات غائية téléologiques تربط بين هذين المفهومين بطريقة بسيطة .تتمثل هذه الطريقة في تعريف الخير مستقلا عن العدل ،ويكون العدل هو الذي يجعل الخير في الدرجة القصوى ،وتكون أحكامنا القيمية هي التي بها نحكم على قيمة الأشياء في استقلال عن العدل.فعلى ىسبيل المثال إذا ما عرفنا الخير باللذة ؛فإنه سيتم تصنيف اللذات تبعا لقيمتها وبناء على معايير لا يفترض فيها معيار العدل.أما إذا نظرنا إلى توزيع الخيرات؛فإننا بذلك ننفصل عن النظريات الغائية في دلالتها الكلاسيكية،لسبب هو أن التوزيع يأتي من مفهوم العدل كما يفهم حدسيا.
كذلك،فإن الاختلاف بين المذاهب الأخلاقية ناتج عن الكيفية التي بها تُعرف الخير:فإذا ما تم تعريف الخير بأنه تحقيق ما هو رائع في الأشكال الثقافية نكون أمام النزعة الإتقانية le pérfectionisme ؛ وإذا ما تم تعريف الخير باللذة كنا أمام مذهب اللذة le hédonisme ؛وإذا ما تم تعريفه بالسعادة كنا أمام مذهب السعادة l endémonisme . أما مذهب المنفعة فهو الذي يعرف الخير بإشباع رغبة ،بل ورغبة عقلية.هذا المذهب الأخير هو الذي سنتبين علاقته بنظرية العدالة عند راولز .
يقيم جون راولز مقارنة بين مذهب المنفعة ونظرية العدالة كإنصاف موضحا أن تصور هذا المذهب للعدالة يقوم على أولوية الفرد على للمجتمع،أو أن المجتمع يختزل إلى الفرد،يعني تطبيق المبدأ الذي يكون صالحا للفرد على المجتمع ،ومن تم معاملة كثرة من الأشخاص كما لو كانوا فردا واحدا ،يعني أننا هنا كما لو كنا أمام متفرج محايد فوق خشبة مسرح المجتمع مسلح بنوع من التعاطف أو الخيال الذي يؤهله ليعيش رغبات الآخرين كما لو كانت هي رغباته،ويكون التعاون الاجتماعي حصيلة امتداد مبدأ الاختيار الصالح للفرد ليعم المجتمع ،وأنه كي يكون هذا الامتداد فعالا ينبغي التعامل مع الجميع كما لو كانوا فردا واحدا،وذلك بناء على النشاط التخيلي لهذا المتفرج المفترض. إن الكثرة والحالة هذه لا تؤخذ بالاعتبار في مذهب المنفعة.في نظرية العدالة يتم استبعاد النظر إلى كثرة الأفراد كما لو كانوا فردا واحدا؛لأنه إن كان بعض الفلاسفة يميزون ضمن قناعات الحس المشترك بين مطلب الحرية ومطلب العدل من جهة والزيادة في رفاهية الجميع من جهة أخرى،فإن الحرية في نظرية العدالة تتأسس على العدالة،وأنها من بين أولوياتها،أي على ما يطلق عليه اسم الحق الطبيعي ،ويعني ذلك أنه لا يمكن تبرير فقدان البعض لحريته يسبب وجود خير أكبر يتقاسمه آخرون فيما بينهم..فالحرية في المجتمع العادل لا تكون موضوعا لمتاجرة سياسية .
تأخذ نظرية العدالة بقناعات الحس المشترك المتعلقة بإعطاء الأولوية للعدالة على المنفعة ،نظرا لكون العدالة حصيلة اختيار لمبادئها في الوضع الأصلي .لكن صاحب النزعة النفعية ينظر إلى هذه القناعات بأنها ذات صلاحية ثانوية،أو أنها وهم نافع اجتماعيا.نقول بعبارة أخرى،هناك اختلاف بين هذه النزعة ونظريات العقد التي تنتمي نظرية العدالة إليها،وهو اختلاف لم يعد يطرح على صعيد الإشكالات الفلسفية.وبالنظر إلى أن المذهب النفعي يؤسس اختياره على الفرد؛فإن نظرية العدالة ،من حيث تنتمي إلى نظريات العقد،تعطي الأولوية للاختيار الاجتماعي حيث تكون العدالة موضوع اتفاق أصلي.ومن تم لا يمكن أن ننتظر من الاختيار الاجتماعي أن يكون أيضا اختيارا فرديا،أو أن يؤدي هذا الأخير إلى الأول نظرا إلى أن المبدأ الذي يحكم موضوعا ما هو بالضرورة تابع لطبيعة هذا الموضوع.فمن جهة نظرية العقد لا يمكن الوصول إلى العدالة،أو إلى الاحتيار الاجتماعي عن طريق تمديد ما يصلح للفرد إلى المجتمع ،التمديد الذي يمارسه ذلك المتفرج المحايد بفعل الخيال.
يضاف إلى ذلك انتماء النزعة النفعية إلى المذهب الغائي،بخلاف نظرية العدالة التي هي من بين نظريات العقد الاجتماعي .فنظرية العدالة لا تفصل الخير عن العدل مثلها في ذلك مثل نظرية أخلاقيات الواجب،ولا تجعل من العدل وسيلة للرفع بالخير إلى الدرجة القصوى كما تفترض النزعة النفعية .فنظرية الواجبات هذه ليست غائية ،ولا تصف ما يكون عادلا في المؤسسات في استقلال عن نتائجها،كما أنه في نظرية العدالة كإنصاف يجهل المشاركون في الوضع الأصلي منافعهم الخاصة وغاياتهم الخاصة ،وذلك من أجل بناء أسس العدالة والمساواة والحرية.وهكذا يخلص راولز إلى أن الإيثيقا الفعلية هي التي تقوم بتقييم نتائج ما بناء على ما هو عادل فيها،وبدون ذلك سوف تنتفي العقلانية عن كل مذهب يعتبر نفسه إيثيقيا.فالتفاوت الحاصل من مبدأ الفروق داخل الوضع الأصلي لا يكون مبررا إلا إذا كان عادلا،أي إذا كان يساهم في مصلحة كل واحد.
يترتب عن ذلك قول في الإشباع وتلبية الحاجيات .إن للإشباع قيمة في ذاته في التصور النفعي،وأنه الأصل في العدل،وأن المهم هو مدى تأثير الإشباع على الحصيلة الكمية للرفاهية الاجتماعية،ويترتب عن ذلك إمكان التقليص من حرية الآخرين ،لأنه من الممكن الحصول على رفاهية أكبر بوسائل أخرى تدمر الوسائل المؤدية إلى رفاهية أخرى.في نظرية العدالة كإنصاف يكون مبدأ الحرية هو الأسبق على المنفعة،وأن تصور الخير لا يكون منتهكا لهذا المبدأ،وأن كل مصلحة تنتهك مبدأ العدالة هي بلا قيمة .ومن تم فإن قيمة الإشباع ومعقولية الخير تتحددان بمبادئ العدالة،وليسا بسابقين عليها.نقول بعبارة أخرى:إن الأولوية إن كانت تعطى للخير على العدل في المذهب النفعي،والمذهب الغائي،فإنه في نظرية العدالة تعطى الأولوية للعدل على الخير،والحرية على إشباع الرغبات.يعلق ميكايل ساندل على هذه الأولوية موضحا بأنها تظهر كإثبات أخلاقي يعارض المذهب النفعي ،وأن هذه الأولوية تعطي للعدالة وضعا ميتا-أخلاقي ولاسيما عندما كان راولز بصدد تقديم الحجج لصالح نظرية أخلاقيات الواجب في تعارض مع النظريات الغائية téléologiques ( العدالة وحدود الليبرالية ،ص 44-45),هذا الوضع الميتا-أخلاقي يتعلق بالذات باعتبارها أنا قادر على الاختيار قبل أن يختار أهدافه وغاياته الأخلاقية،وكأنه يوجد خارج الأخلاق كي يقوم بتأسيس الأخلاق،وخارج السياسة ليقوم بتأسيسها بناء على أولوية العدالة التي هي موضوع هذا الاختيار.فالقدرة على الاختيار أسبق عن الاختيار نفسه.وعندما تختار الذات الأخلاقية،فإنها تختار العدالة قبل كل قيمة أخرى.
ليست الميول والأهواء والرغبات معطيات ينبغي البحث عن وسائل لإشباعها ،وإنما مبادئ العدالة هي التي تحدد طبيعة هذه الميول ،فلهذه الأولوية قيمة مركزية؛لأنها لن تؤدي إلى إنتاج ميول متناقضة كما هو الحال بالنسبة إلى الميول الطبيعية.،ويؤدي ذلك أيضا إلى تحديد ما هو بالفعل خير .طبعا إن النزعة النفعية ترفض الميول،ولكن فقط تلك التي تؤدي إلى التقليص من الحصيلة الكلية للإشباع .لكن المشكلة عندها هي أن هذا التقليص لا يمَكِّنها من معرفة المؤشرات الدالة على هذه الميول الفاسدة.مشكلة النزعة النفعية هي في ارتكازها على الظروف الطبيعية ومصادفاتها وملابسات الواقع الإنساني من أجل تحديد خصائص وسمات ما هو أخلاقي.في حين أن أخلاقيات الواجب التي ينتمي إليها حون راولز تحدد هذه الخصائص بناء على وحدة الذات الأخلاقية،وهي وحدة لا تُفسر بتحققها في مجرى التجربة الإمبريقية،أو عن طريق الرفع من حصيلة التجارب الحالية للذة القائمة في باطن الحدود النفسية لهذه الذات ،كما يذهب إلى ذلك التصور الغائي؛وإنما تُفسر كوحدة حاصلة في الأنا قبليا ،أي قبل الاختيارات التي يقوم بها الأنا في مجرى تجاربه الخاصة كما يقول ميكايل ساندل ( ص 49-50)
لا يقف راولز عند هذا المستوى،وإنما يقيم ،بالرجوع إلى المذهب النفعي الكلاسيكي ،المذهب القائم عند بنتام Bentham،وسدكويك Sidgwick،والاقتصاديين النفعيين إدغ وورث Edg Worth،وبيغو Pigou،مقارنة بين النزعة النفعية عند هيوم Hume،ونظرية العقد عند لوك Locke،وبينهما وبين نظريته للعدالة كإنصاف،موضحا أن هيوم في نقده لنظرية العقد عند لوك يحافظ على مبدأ الوفاء ومبدأ البيعة أو الطاعة،ومن تم ليست من النزعة النفعية الحقيقية،حتى ولو أن الوفاء والبيعة مشتقان من المنفعة ،ولكنها منفعة تعني الضروريات والمصالح العامة للمجتمع ،وحيث يستحيل الحفاظ على النظام الاجتماعي بدون هذين المبدأين.,وبهذا المعنى لا يكون تأويل هيوم في نزاع مع نظرية العدالة،إذ المنفعة هنا تبدو مماثلة لخير الجميع ولمصلحة كل واحد. لكن أولوية مبادئ العدالة تجعل من العدل أن يسمو على اعتبارات الرفاهية،وعلى إشباع الرغبات .فهذه المبادئ تمارس نوعا من الإكراه على مجموع القيم التي ترتبط بإشباع الرغبات ،كما يمارس العقل الأخلاقي وقوانين الإرادة إكراها على الميول عند كانط.
إن أولوية العدل على الخير تجعل من العدالة مبدأ لا مشروطا يقوم ضد جميع النزعات الغائية والنفعية لصالح أخلاقيات الواجب.والمقصود من ذلك هو أنه عندما نجعل من المنفعة وسيلة من أجل الحصول على الخير ،فإن ذلك سيؤدي حتما إلى حرمان البعض من الحرية التي يتساوى فيها الجميع ،فلا تكون هناك ضمانات للحريات المتعلقة بالحقوق المدنية ،لأن أولوية الخير والمنفعة على العدل تجعل العدالة تابعة لمبادئ غائية.كما يرى ميكايل ساندل.غير أن يورغن هابرماس في كتابه أخلاقيات المناقشة يرى أنه لا يمكن الفصل بين هذين المبدأين ،إذ أن هذا الفصل يضر بوحدة الحياة الأخلاقية كما يرى هيغل.فهذا الأخير يوجه نقدا مزدوجا للكونية الصورية المجردة للعدالة كما تعبر عن نفسها في النزعة الفردانية للحداثة التي تجد أصولا لها في الأخلاقيات الكانطية ،ويوجه نقدا للنزعة التجزيئية particularisme الحسية في الأخلاق السياسية عند أرسطو أو في تصور طوماس الأكويني للخير. وفي أخلاقيات المناقشة يسعى هابرماس بعد فهم هذا المقصد الهيغلي إلى التبرؤ منه بوسائل كانطية. غير أنه يتجاوز ،في أخلاقيات المناقشة المقاربة الباطنية الخالصة عند كانط التي تتوقع من كل شخص بأن يباشر داخل عزلة حياة الروح كما يقول هوسرل القيام بتنفيذ القواعد أو النصائح العملية لفعله،حيث تتلاقى الأناوات الإمبريقية في مفرد الوعي الترانسندنتالي كما يقول.
نلاحظ من جهتنا أننا أمام وسائل كانطية عند راولز يسعى من خلالها إلى تجاوز مختلف تصورات العدالة القائمة على الميول،غير أنها وسائل تطرح نقاشا حول ما إذا كانت ترانسندنتاية بفعل قيامها على فرضية سابقة على قيام المجتمع أم أنها سياسية تؤسس لعدالة المؤسسات الاجتماعية والسياسية .وبالفعل إنها وسائل تقيم العلاقات الاجتماعية على أخلاقيات الواجب وليس على أسس نفعية غائية أو حدسية.فلقد ميز كانط في مذهبه الأخلاقي بين الوسيلة والغاية،أو بين القيم الوسيلية وبين الذات الأخلاقية.فهذه الذات أو الشخص أو الأنا الأخلاقي ليس وسيلة من أجل غاية،وإنما هو قيمة في ذاته،إنه ليس بضاعة تخضع لقوانين السوق،قوانين البيع والشراء والعرض والطلب،وإنما هو ذات تحظى بالكرامة.والكرامة تعلو فوق جميع أشكال المتاجرة السياسية. غير أنه ينبغي أن نلاحظ علاقة هذا الأنا الأخلاقي بغاياته .فليست الغايات التي يختارها الإنسان هي التي تكون جوهرية بالنسبة إليه كشخص كما تزعم النظريات الغائية،وإنما الأهم من ذلك هو قدرته على اختيارها.فهذه القدرة تكون سابقة على الأهداف التي نختارها.ليست الذات الأخلاقية وعاء تتراكم فيها الغايات الحاصلة من التجارب الإمبريقية،ليست سلبية،وإنما هي أنا أو ذات فاعلة لها إرادة تجعلها مستقلة ومتميزة عن الظروف المحيطة بها ،وقادرة على الاختيار ( ساندل،ص47).إن الأنا سابق على الغايات التي يختارها.إن كانت هذه الفكرة مبدأ مؤسسا لأخلاقيات الواجب،فإنها أيضا مبدأ إبستمولوجي ؛لأن الذات وهو تفحص الموضوعات التي تبحث فيها تستقل عنها كي يكون هذا الفحص موضوعيا. وهكذا يمكن القول: إن أخلاقيات الواجب بخلاف النزعات النفعية والغائية،هي أخلاقيات موضوعية بهذا المعنى الكانطي.يضاف إلى ذلك أن هذه الأخلاقيات تراعي حق الفرد في الحرية التي يتساوى فيها الجميع ،وذلك بخلاف النزعة النفعية التي يمكن فيها لمصالح الأغلبية أن ترفض للفرد مثل هذه الحرية،وتكون النزعة النفعية بذلك مخالفة لمبدئها المؤسس هو أولوية الفرد.نقول إنها نفعية وليست فردانية. فالحديث عن ما إذا كان مبدأ المنفعة من ضمن الاختيار الاجتماعي لمبادئ العدالة داخل الوضع الأصلي،هو حديث يثير مناقشات تتعلق بفهم هذا المبدأ في التصور النفعي الذي هو في الحقيقة لم يكن مشجعا للفردانية،حتى ولو أن الطابع الفردي من سماته الرئيسية.لذلك ،فإن مبدأ المنفعة لا يهم المشاركين في الوضع الأصلي للعدالة،وإنما تهمهم أولوية العدالة فقط،والتي تتفرع المنفعة عنها.
يسعى راولز في دراسته للنزعة الحدسية إلى رفعها إلى مستوى من العمومية كي يكون تحليله لها ممكنا؛لأن تعقد الظواهر الأخلاقية يتجاوز القيام بضبطها انطلاقا من مقياس واحد يعطيها ما تستحقه هذه الظواهر من أهمية .إن الأطروحات المتعلقة بالنزعة الحدسية لا تعتبر المفاهيم الأخلاقية قابلة للتحليل ،كما أن مبادئ الأخلاق إذا ما تمت صياغتها بصورة جيدة تعبر عن قضايا بديهية مفردة ،فنكون أمام كثرة من القضايا التي يمكن أن تدخل في نزاع فيما بينها وأمام توجهات متناقضة أيضا فيما بينها،إذ لا وجود هنا لمنهج واضح وصريح يقود إلى حكم واضح.،وبناء على ذلك تؤدي هذه الكثرة إلى تصور متعدد للعدالة.أما إذا ما نظرنا إلى هذه النزعة من زاوية إبستمولوجية؛فإننا نكون أمام أشكال كثيرة لها،وذلك عندما ندرجها ضمن هذه العمومية،إذ أن هذه الأخيرة هي التي تمكننا من التمييز بين مختلف هذه الأشكال.وهكذا فإننا نعثر على هذه الكثرة فيما يتعلق بالتصور الحدسي للعدالة ،بناء على كون أن هذه النزعة تأخذ، ضمن الحس المشترك،شكل مجموعات من المبادئ العملية،الآتية من الحياة اليومية ومن العادة أو العرف.كل مجموعة تطبق على مشكل خاص من مشاكل العدالة؛بعضها يتحدث عن الإنصاف في الأجور،وبعضها يتعلق بمشكلة الضرائب ،وبعضها يتناول مسألة العقوبات،الخ .وفيما يتعلق بالإنصاف في الأجور ،مثلا،نجد أنفسنا أمام تعدد آخر وأمام مقاييس متنافسة ،مثل الحديث عن مطلب التكوين أو الأهلية ،وبذل الجهد والمسؤولية ومخاطر المهنة،الخ ،كما أن تحديد الأجور من طرف المؤسسات القائمة يرتبط بتقدير الوزن النسبي لهذه المقتضيات،وهو تقدير يتأثر بالمصالح الاجتماعية وتأثيرات السلطة والنفوذ.ومن جهة أخرى؛فإن الذين لهم تكوين يطالبون بالحقوق المناسبة لتكوينهم وكفاءتهم،وأن المحرومين من هذا يطالبون بالحقوق المناسبة لحاجياتهم. ولكي يجد جون راولز حلا لهذه المقاييس المتنافسة رأى ضرورة التركيز على أهداف السياسة الاجتماعية للدولة.غير أن هذا له علاقة أيضا بالحدس ،نظرا لكون أن هذه الأهداف تسعى إلى اعتبار مختلف الأغراض الاقتصادية والاجتماعية ووضعها في الميزان ،تبعا للأهمية النسبية لهذه الأغراض،غير أن هذه الأغراض والغايات تتطابق مع تعارضات سياسية عميقة في الغالب.
يقدم جون راولز نماذج بيانية للتوازنات بين المساواة والإشباع الكلي للحاجيات ،حيث التزايد في الإشباع يعوض النقص الحاصل في المساواة.وترى النزعة الحدسية أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تصور أخلاقي يساند هذه التوازنات ذات الطابع الهندسي؛لأن الخاصية العقلية للهندسة أو الدالة الرياضية ليس لها معيار أخلاقي.إنها تعتقد بأن تعقد الظواهر الأخلاقية يتحدى مجهودنا المتعلق بالاعتبار التام لأحكامنا.،وهذا ما يستوجب قيام كثرة من المبادئ المتنافسة ،وأن الذهاب إلى ما وراء هذه المبادئ لا يقود إلا إلى أخطاء،وأنه لا وجود لجواب بنائي لمشكل التوازن بين المبادئ المتنافسة .غير أنها لا ترفض قدرتنا على وصف التوازن بين هذه المبادئ المتنافسة ،وأن تكون الأحكام المنتظرة منها منسجمة
يتساءل جون راولز حول ما إذا كانت النظريات الحدسية نظريات غائية أو ضمن أخلاقيات الواجب ،ويرى أن جميع النظريات الأخلاقية قد تتفق بشكل أو بآخر مع الحدس في مستوى ما من المستويات .فعندما يتم ضبط وتدقيق قيم الإبداع والجمال والتأمل مثلا،في استقلال عن العدل فإننا نكون أمام نظرية غائية من طراز النظرية الإتقانية،ولكن النظريات الحدسية غالبا ما تكون من بين أخلاقيات الواجب في إطار العدالة التوزيعية التي يكون توزيع الخيرات بحسبها قائما على القيمة الأخلاقية
وعلى خلاف ذلك،تتجنب النزعة النفعية كل لجوء إلى الحدس،لأنها تقوم على مبدأ واحد وليس على كثرة من المبادئ ،وأنه لا وجود إلا لمقياس واحد لتقييم التوازنات هو مبدأ المنفعة ،وأن الأحكام الأخلاقية هي نفعية ضمنيا ،وأن حل النزاع القائم بين المبادئ العملية لا يمكن أن يتم إلا على مبدأ هو مبدأ المنفعة فحسب.،وعلى العكس من ذلك؛فإنه في نظرية العدالة لا تعطى الأولوية إلى هذا المبدأ كما لا يتم اللجوء إلى أحكام مباشرة وحدسية في تقييم هذه التوازنات حتى ولو أنه يتعذر إلغاء الحدس بصورة نهائية، لسبب هو أن الحدس سيقول لنا عندما نختار العدالة في الوضع الأصلي:بما أن رفاهية كل فرد،في نظام المؤسسات الاجتماعية، ترتبط بنظام التعاون الاجتماعي الذي بدونه لا يمكن لأي واحد أن يشبع حاجياته؛فإن توزيع الثروات والامتيازات ينبغي أن يدفع الأقل حظا نحو التعاون الإرادي،وأن يساهم الأكثر حظا في رفاهية الأقل حظا .لم يختر راولز مبدأ واحدا ولا كثرة من المبادئ فيما يتعلق بهذه الأولوية،وإنما اختار مبدأين تتأسس عليهما مبادئ فرعية ،الأول مرتبط في جوهره بالذات الأخلاقية والثاني مرتبط بالمجتمع وبمؤسساته المختلفة وبالطريقة التي ينبغي أن تتم بها عملية توزيع الثروات الاقتصادية والاجتماعية .الأول مؤسس للعدل والحرية والمساواة والإنصاف والثاني يبرر للاختلاف.شريطة أن يكون هذا الاختلاف مندرجا ضمن الإنصاف والمساواة في الحظوظ في مختلف المواقع التي ينبغي أن تكون مفتوحة أمام الجميع.
يستفاد مما تقدم أن جون راولز وهو ليبرالي يؤسس نزعته هذه على أخلاقيات الواجب أقام النظرية الحقوقية على أساس سياسي.ويبدو هذا في نظر ألان تورين فصلا للسياسة عن الدين،وإن شئت قلت فصل السياسة عن الميتافيزيقا.غير أنه إن ولينا وجهنا شطر فرضية الوضع الأصلي،نلاحظ أساسا فلسفيا لهذه النظرية؛لأن أولوية العدالة تجعل من هذه الأخيرة أمرا لا مشروطا،حيث إن أولوية العدالة التي تنظم وتربط برباط أخلاقي وسياسي بين سائر القيم الأخلاقية والسياسية الأخرى،تشبه مقولات الفاهمة التي تربط برباط الضرورة والكلية بين معطيات التجربة في فلسفة كانط النقدية.نظرية راولز عمل نقدي للسياسة قائم على العدالة باعتبارها أساسا قبليا لا مشروطا مؤسسا للاتفاق قبل تنظيم المجتمع،ونظرية كانط عمل نقدي للمعرفة والأخلاق قائم بدوره على أسس قبلية تنتظم بها المعرفة كما الأخلاق .لكن ألان تورين ،وهو يعود إلى فرضية الوضع الأصلي عند راولز يلح على أن هذه الأخير يجعل من نظرية العدالة نظرية في الشأن السياسي بعيد عن الفلسفة،لأن ما اعتبرناه عند راولز قبليا ولا مشروطا إنما هو لجوء راولز إلى مفهوم الحق الطبيعي المؤسس للحرية والمساواة معا،في وضع توضع فيه مصالح وأهداف قوى اجتماعية فاعلة بين قوسين.وفي نظرنا أن هذا الوضع بين قوسين هو فلسفي أيضا،شبيه بتعليق أطروحة العالم عند إدموند هوسرل،نعني بذلك أن قراءة المجتمع تقتضي عملا موضوعيا يقوم على استقلال الباحث عن أهدافه وأغراضه الشخصية،وبهذا المعنى تتأسس الفرضية،والفرضية في الفلسفة هي حقيقة،كما يقول هيغل.ويمكن القول أيضا أن عالم المثل الأفلاطوني هو فرضية تمت به قراءة العالم «الواقعي»، غير أنها فرضية اعتبرها أفلاطون مبدأ حقيقيا لتفسير نظام الجمهورية ،وهذا يعني في نظرنا أنه بدون الأفكار يستحيل تنظيم الأشياء،بل ويستحيل أن نعيش في العالم بصورة إنسانية؛لأن الإنسان ينظم حياته الواقعية بفعل الأفكار.،وهكذا.نقول :متى كانت السياسة منفصلة عن أسسها الفلسفية؟ فالفلسفة بدأت سياسيا،وسقراط كما أفلاطون ارتبطا بالسياسة،وهما معا أرادا تخليص المدينة من جهلها ،وإنزال العدالة عليها كي تكون فاضلة.غير أن سقراط لم يكن سياسيا،كما هو حال السفسطائيين،وإنما كان بحق فيلسوفا،فكر السياسة ونزل بها إلى المدينة من أجل إصلاحها.صحيح أن نظرية الحق الطبيعي هو نقد مباشر الحق الإلهي،ولكن الذين أقاموا هذه النظرية هم أيضا فلاسفة.
إن وصف حالة الوضع الأصلي باعتبارها حالة وجود أشخاص أحرار ،متساوين وعقلانيين،معناه استقلاليتهم عن كل المعلومات المورثة عن المجتمع،وعن المصادفات الطبيعية ،من أجل تأسيس مجتمع عادل.وهذا،في نظرنا، شبيه بمسح الطاولة الذي تقوم عليه عملية إعادة البناء،وهو مسح فلسفي كما هو معلوم.كما أن هذه الاستقلالية أساسية أيضا في الحقل السياسي،وهي التي تحدد صيغة العمل الذي تمارسه الديموقراطية في نظر ألان تورين طبعا.
يتم فهم العدالة كمزيج بين مبدأين مستقلين يجري أحدهما في عكس اتجاه الآخر وهما:الحرية والمساواة.فالحرية التي يتساوى فيها الجميع هي المبدأ الأول،والمساواة ترتبط به،وهدفها هو التقليص من حدة التفاوت والفروق الاقتصادية والاجتماعية .فالإنصاف ،والحالة هذه هو دمج بين الحرية والمساواة ،يعني بين رؤية فردانية للقوى الفاعلة وبين رؤية سياسية للمجتمع.يعني وجود أفراد عقلانيين يشكلون مجتمعا منسجما رغم الاختلافات وأشكال التفاوت القائمة فيما بينهم.وهذا يفيد نوعا من المصالحة بين العدالة والمصلحة ،بين الحرية وتعدد المصالح ،حيث تكون العدالة مبدأ للتوازن بين الفرد والمجتمع،بين الحقوق والواجبات الفردية والحقوق والواجبات المتعلقة بالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ينقل هابرماس Habermas فرضية الوضع الأصلي للعدالة في كتابه أخلاقيات المناقشة Ethique de la discussion ( الفصل الأول) إلى أن تكون عنده أساسا بين المشاركين في المناقشة. غير أن نظرية العدالة كإنصاف وهي تقوم بتقييم محايد للأسئلة الأخلاقية بناء على هذه الفرضية جعلت من الأخلاق الراولزية أخلاقا صورية.يقول هابرماس « يقترح جون راولز ،كما نعلم ذلك،وضعا أصليا يكون فيه جميع المشاركين كائنات عقلانية ،متعاقدين فيما بينهم على أساس المساواة ،جاهلين طبعا وضعهم الاجتماعي المتبنى فعلا ،وضع أصلي يعتبر وضعية الانطلاق ملائمة تضمن أن تكون التوافقات المندرجة في هذه الوضعية توافقات منصفة ( fair ) «.وهو ينقل بدوره هذه الفرضية لصالح أخلاقيات المناقشة،كما قلنا، عندما قال:» ففي عمليات الحجاج يجب على المشاركين أن ينطلقوا من اعتبار أن جميع المعنيين،هم مبدئيا مشاركون أحرار ومتساوون في البحث المشترك عن الحقيقة التي وحدها يمكن أن تقوم مقام القوة من دون ضغط آت من حجة جديدة .لقد تم اعتبار المناقشة العملية من حيث إنها الشكل الصارم للتشكل الحجاجي للإرادة التي يجب عليها ( مثل الوضع الأصلي عند راولز ) أن تضمن،بفعل الافتراضات المسبقة الكونية للتواصل وحدها، صحة ( أو إنصاف ،la fairness ) كل توافق معياري ممكن مستخلص من هذه الشروط ،حيث يمكن للمناقشة أن تلعب هذا الدور بفضل الفرضيات المسبقة ذات الطابع المثالي التي يتوجب على المشاركين استعمالها في عملهم الحجاجي».غير أنه يميز بين هذا الوضع الأصلي في نظرية العدالة ووضعها في أخلاقيات المناقشة،وهو تمييز يخفي في هذه الأخلاقيات الأخيرة الطابع الخيالي والصوري لفرضية الوضع الأصلي،وكذلك حجاب الجهل الذي اقترحه راولز،.وهابرماس يستند هنا إلى ما يقوله G .H.Mead عن الذات التي تقوم بإنجاز حكم أخلاقي.،إذ التبني المثالي للدور يستوجب عملية إنجازه من طرف كل واحد ،ضمن المسار البينتفهمي القائم بين المشاركين في المناقشة.ينبغي أن يقوم في المناقشة مبدآن هما الكرامة والاحترام المتبادل،وهما مبدآن يكملان مبدين آخرين هما العدالة والتضامن .فالعدالة،كما هي عند راولز تقتضي المساواة في الحقوق وفي الحرية التي يتساوى فيها الجميع ،وهذا ما يبدو أنه حاصل في أخلاقيات المناقشة،في حين أن التضامن،وهو هنا يقوم مقام الاختلاف عند راولز،يتطلب الرعاية والتعاطف مع الغير.
هل ينطلق راولز من الدولة أم من الفرد؟جواب ألان تورين هو أن راولز مثل المفكرين الأنجلوساكسونيين،ينطلق من الفرد ،وهو نفعي بالرغم من نقده للنزعة النفعية وتجاوزها انطلاقا من أخلاقيات الواجب.ففي الوضع الأصلي هناك أفراد قادرون على التحرك وعلى التعاون ،وتمكنهم استقلاليتهم من رؤية ما هو خير وصالح ضمن حدود التعاون الاجتماعي.نقول بعبارة أخرى:إن نظرية العدالة كإنصاف تعترف بمبدأ الاختلاف،وهو مبدأ يعترف بالمصلحة الفردية التي لا يتساوى فيها الجميع ،ولكن دون أن تلحق هذه المصلحة ضررا بالحرية التي يتساوى فيها الجميع.لكن الجمع بين الحرية والمساواة في هذه النظرية هو،من الناحية السياسية، بمثابة الجمع بين الوحدة والتعدد،وحدة السياسة وتعدد القناعات،وحدة المجتمع السياسي والتعدد الثقافي الذي يعرفه المجتمع المدني.والسؤال هو :هل يمكن الموازنة بينهما في نظام سياسي واحد؟هل يمكن لوحدة المجتمع السياسي أن تتوافق مع تعدد القناعات والمعتقدات؟ لقد وضع راولز هنا نفسه في ملتقى الطرق بين من يشدد على الحريات الفردية ،وبين من يرى في وحدة المجتمع والشعب أفضل ضمانة للدفاع ضد أشكال اللامساواة ،بين من يعطي للحرية المرتبة الأولى،ومن يرى أن المساواة هي التي ينبغي أن تحتل مركز الصدارة. .هذا الملتقى أو الوسط الذي وضع فيه راولز نفسه يفسر بجمعه بين مبدأين للعدالة كما سلف.غير أن سؤالا آخر يطرح نفسه وهو: هل الجمع بين الحرية والمساواة يمكنه أن يسفر عن مؤسسات قادرة على التنظيم الذاتي للمجتمع؟ إن النظام الجمهوري،مثلا،يفضل النسق السياسي على المجتمع المدني،فهو يركز على المساواة ويفرضها على المجتمع المدني الذي يسود فيه الاختلاف ،يفرض الوحدة على التعدد.وكأننا هنا عند راولز أمام عملية الجمع بين فكر جان جاك روسو حيث تقوم وحدة السياسة،وفكر جون لوك الذي يحترم تعدد المصالح واختلاف الآراء.وربما أن هذا من بين الأسس الفلسفية لإعلان حقوق الإنسان.فهذا الإعلان يجمع بين فكر روسو ولوك،فضلا عن كانط المؤسس لمبدأ الكرامة.
يسعى راولز،والحالة هذه،إلى الجمع بين نظام ليبرالي تعددي ونظام جمهوري يفرض الوحدة على الاختلاف،الجمع بين الفردانية والمواطنة؛غير أنه لم يحسن الجمع بينهما مثله في ذلك مثل إعلان حقوق الإنسان الذي حاول الجمع بين روسو ولوك،كما يرى بعض الباحثين.وهكذا؛فإن نظرية العدالة كإنصاف يخترقها تعارض قائم في مبدأيها بين الحرية والمساواة،تعارض قائم بين ديموقراطية جمهورية تقوم على المساواة والمواطنة،وديموقراطية تعددية قائمة على الحرية والتنوع الثقافي .
لكن لماذا الجمع بين هذين المبدأين؟ بين الحرية والمساواة؟ أليس لهذا الجمع ما يبرره في المجتمع الأمريكي إبان تأليف راولز لكتابه هذا؟. يرى لوران بوفيه Laurent Bouvet أن النظرية الليبرالية التي اقترحها جون راولز في الستينات من القرن الماضي قد سمحت بإعادة تجديد الفكر السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية ،بعد أن بدا موته الوشيك في الخمسينات من نفس القرن،إذ أنه تم التخلي عن التراث الليبرالي للحقوق الطبيعية لصالح النزعة النفعية والماركسية.غير أن النزعة النفعية أصيبت بعيب يتمثل في تدويتها للأخلاق .أما عيب الماركسية فقد لحقها بسبب صورتها السوفياتية.
تريد الليبرالية الأمريكية أن تجعل من الولايات المتحدة الأمريكية ضامنة للعالم الحر.ولقد بدأ هذا التصور منذ الخمسينات في البرجماتية ممثلة في فكر جون ديوي John Dewey.لكن السياق السوسيو-تاريخي سوف يتغير في الستينات سواء داخل أمريكا أو خارجها،فتم وضع «النموذج الأمريكي» موضع سؤال. لقد ظهرت أمريكا ،بفعل نموذجها الليبرالي كقوة إمبريالية،ولاسيما مع الحرب الفيتنامية،فضلا عن تصاعد مطالب الأقليات الزنوج داخلها مما جعل الشك يتسرب إلى هذا النموذج .وفي هذا الإطار ظهر كتاب نظرية العدالة لجون راولز.فهو والحالة هذه ليس مجرد كتاب للتحليل والتفسير،وإنما هو أيضا كتاب للإنقاذ،إنقاذ الليبرالية،وإنقاد الفكر السياسي الأمريكي من الانهيار.هنا تكمن جدوى الكتب والمؤلفات القيمة والرائعة.
إن قوة جون راولز تكمن،إذن،في كونه أعطى للفلسفة الأمريكية ،في الوقت الذي كانت في أمس الحاجة إلى ذلك،إمكانية التفكير من جديد في تحديات المجتمع المعاصر،التفكير فيها على أسس أخلاقية وسياسية جديدة،أسس تجمع بين الحرية والمساواة،وبين المساواة والاختلاف الذي لا يضر بأي واحد،بل يزيد في تحسين ظروف من هم في المواقع الدنيا للمجتمع.
غير أن راولز لم يكن وحده الذي أعطى للفلسفة السياسية نفسا جديدا وإمكانيات جديدة في تفكير قضايا الإنسان المعاصر.؛وإنما هناك آخرون .فعلى سبيل المثال حنا أرنط وشارل تايلور وهار الذين جمعت أبحاثهم في مؤلف يحمل عنوان :الفلسفة والسياسة والمجتمع ( 1967) Philosophy,Politics and Society،كما حصل تجديد في الدراسات الماركسية وفي النظرية النقدية بعد مدرسة فرانكفورت، تجديد زاد في تمتين الأعمال التنظيرية في السياسة.
لقد أقام مفكرون آخرون ،بناء على أطروحات راولز،نظريات في احترام الحقوق،غير أنهم لم يقبلوا المضمون الذي قدمه راولز عن الليبرالية،وهي أطروحات تنتمي إلى النزعة المفرطة في الحرية libértarisme ،( «الإباحية») بخلاف النزعة التي ترفع من قيمة المساواة égalitarisme.وهما في نظرنا نزعتان متطرفتان .من أصحاب النزعة المفرطة في الحرية الذين مزجوا بين الفلسفة والاقتصاد روبرت نوزيك Robert Nozick الذي أكد على أولوية الحرية الفردية وحق الملكية في كتابه الفوضى،الدولة والطوباوية Anarchie ,Etat et Utopie ،طبعا إلى جانب الطابع الإكراهي للدولة. كما وجد مفكرون آخرون دفعوا بالليبرالية الراولزية إلى أبعد مدى،من بين هؤلاء بروس أكرمان Bruce Ackerman في كتابه العدالة الاجتماعية في الدولة الليبرالية Social justice in the liberal state فيه يتخيل بناء مجتمع يتكون من أفراد يوجدون في كوكب فارغ ،ويتخيل القواعد التي ينبغي أن يضعوها لأنفسهم من أجل ضمان عدم أي تصور شخصي للحياة يكون كقاعدة مهيمنة.
لكن الفلاسفة لم يكونوا وحدهم الذين اهتموا بنظرية العدالة عند راولز،وإنما القضاة والمشرعون أيضا،لا سيما وأن فلسفته حاولت الجمع بين المساواة والحرية الفردية،وهذا مع رولاند دوركين Roland Dworkin الذي اهتم بقضايا تتعلق بالإعدام والإجهاض والشذوذ الجنسي والبيوإثيقا .فلقد رجع في سلسلة من المقالات تحمل عنوان:»ما هي المساواة والليبرالية؟» إلى الأسس النظرية لعدالة توزيعية ليبرالية. فشدد على الإجراءات الضامنة للمساواة في الحقوق بناء على عدالة اجتماعية مقبولة من طرف الجميع.
تشكل هذه الأعمال متنا ليبراليا مرتبطا بالنزعة الإجرائية عند راولز،وحياد الدولة والحقوق الفردية والجماعية .غير أن أعمالا أخرى سارت في اتجاه مضاد لراولز جمع المحافظين والليبراليين الجد ،فضلا عن الماركسيين،إلى جانب الحركات النسائية والجماعاتيين communautariens ،وكذا النقد الموجه إلى راولز من وجهة النظر الجمهورية من طرف ميكايل ساندل،الخ.
وعلى العموم يمكن القول:إن الجمع في نظرية العدالة بين الحرية والمساواة،ومبدأ الاختلاف أو التفاوت هو تعارض قائم بين ديموقراطية جمهورية تقوم على المساواة والمواطنة،وديموقراطية تعددية تقوم على الحرية والتنوع الثقافي،وهذا ما نواه اليوم قائما كتعارض بين الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الدرس الذي يمكن استفادته من نظرية العدالة هو ضرورة احترام الحريات الأساسية التي يتساوى فيها الجميع بحيث لا تكون موضوعا لأية متاجرة سياسية،وفي هذا تتأسس الديموقراطية.أما الاختلاف والتفاوت في توزيع الثروات ،وهو تفاوت تقره النفعية الليبرالية ،فهو في درس راولز لا ينبغي أن يضر بمصالح الأقل حظا في المجتمع،بل على العكس من ذلك ينبغي أن يزيد في رفاهيته،وهذه هي اللبرالية الراولزية التي تجد جذورها الأخلاقية في أخلاقيات الواجب مفهومة كانطيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.