لقد ظل المشتغلون بالفلسفة السياسية في فترة الخمسينات يتابعون انجازات جون راولز وتطويره لنظرية العدالة التي بدأت بمقال له ثم نشره في إحدى المجلات الفلسفية، حيث لقي هذا المقال حجما كبيرا من المناقشات والتعليقات والمتابعات في الوقت الذي كان فيه راولز يعمل على تطوير أفكاره الأساسية من خلال عدد من المقالات والدراسات، إلى أن أصدر في عام 1971 كتابه الشهير "نظرية العدالة"، وحينذاك كان اسم جون راولز لا يحظى بشهرة كبيرة في الأوساط الأكاديمية لكنه بعد إصدار الكتاب أصبح أحد ألمع أعلام الفلسفة المعاصرة لدى جماهير المثقفين في معظم أنحاء العالم. لقد تم الاحتفاء بهذا الكتاب من طرف الأساتذة البارزين في ميدان الفلسفة السياسية واعتبروه حدثا فريدا من نوعه، بل وصفوه أنه تحفة فريدة، وإسهام منقطع النظير في ميدان الفلسفة السياسية، بل إن هناك من المهتمين من ربط بين هذا الكتاب وبين الأعمال الخالدة لأفلاطون، وجون ستيوارت مل، و ايمانويل كانط. وفضلا عن هذا فقد أُختير هذا الكتاب في باب عرض الكتب الجديدة بمجلة نيويورك تايمز كواحد من أهم خمسة كتب صدرت عام 1971، ومن تم اعتبر الفيلسوف الأمريكي جون راولز 1921 – 2001 من أهم المنظرين للعدالة كنظرية ومفهوم، ذلك انه عندما ترجم مؤلفه لأول مرة أحدث ذلك نقاشا محتدما في العالم القاري، ونفس الشيء حصل في العالم الانكلوسكسوني، بحيث أثارت "نظرية العدالة" نقاشات كبيرة يصعب الإحاطة بها، إذ في الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت الفلسفة الأكثر شيعا و رواجا، بالإضافة إلى هذا لا يمكن إحصاء الكتب والمقالات التي كتبت عن هذه النظرية. وإلى حدود عام1971 كانت الفلسفة الإنجلوسكسونية خاضعة للفكر التحليلي مكرسة بذلك للمنطق الفلسفي الابستيمولوجي، أما الفلسفة السياسية فكانت غير مؤثرة بشكل عميق في التقليد الانجلوسكسوني حيث بقي المذهب النفعي هو المؤثر من الناحية الأخلاقية والسياسية، إلا انه مع نظرية راولز للعدالة عرفت الفلسفة السياسية تجديدا وتحديثا، وهذا ما سيحاول هذا البحث رصده من خلال نظرية العدالة عند جون راولز، وذلك من خلال تحديد مبادئ العدالة ودورها في المجال السياسي العام؟ ومدى إمكانية نجاحها في تحقيق مجتمع ديمقراطي وعادل؟ ولكن هل يمكن الحديث عن العدالة في مجتمع يغلب عليه المذهب البراغماتي في السياسة ؟ والاتجاه اللبرالي في السياسة والاقتصاد ... ؟ يقول كارل شميت " ان الفكر الليبرالي يتملص ويتجاهل الدولة والسياسة ليتحرك في قطبين مختلفي الخصائص وهما الأخلاق والاقتصاد... بحيث يتحول إلى منافسة من جهة الاقتصاد، والى جدال من جهة العقل "1 لكن السؤال هو، هل هذا الحكم ملائم دائما للتطورات المعاصرة للفكر الليبرالي في أمريكا خاصة فيما يتعلق بالفيلسوف الأمريكي جون راولز؟ يقول راولز في فقرة النفعية التقليدية L'utilitarisme classique "هدفي هو إعداد نظرية في العدالة التي ستعيد تقديم حلا في إعادة تغيير الفكر النفعي بصفة عامة، وكذا مختلف المشارب الموجودة"2 خاصة و ان من بين ردود الفعل المنتظرة من قراءة كتاب نظرية العدالة لجون راولز هو الحصول على نظرية سياسية تؤسس للديمقراطية الاجتماعية3 Sociale démocratie لكن بأي معنى ؟ ذلك أن إعادة إدخال شروط إلزامية للعدالة الاجتماعية لا يعني إلغاء حريات وحقوق الأفراد، بل ينبغي المحافظة عليها، ومن هنا فقط يمكن ولادة الإجماع، يقول راولز " كل شخص يملك حصانة قائمة على العدالة لا يمكن انتهاكها حتى باسم رفاهية المجموعة "، و لكن ماهي الفرضيات التي تقوم عليها هذه النظرية ؟ « chaque personne possède une inviolabilité fondée sur la justice qui, même au nom du bien être de l'ensemble, ne peut être transgresse » مفهوم الموقف الأصلي أو الوضعية الاصلية: La position originelle
يتقاطع مفهوم الموقف الأصلي في نظرية العدالة، مع حالة الطبيعة في النظرية التقليدية للعقد الاجتماعي، ذلك ان النظريات التعاقدية تفترض حالة الفوضى والحرب والاضطراب التي كان يعيشها الأفراد في حالة الطبيعة، الشيء الذي أجبر فلاسفة العقد الاجتماعي على التعاقد وإنشاء مجتمع سياسي على النحو الذي صوروه لنا، إلى هنا يبدو الموقف مماثلا، لكن راولز يطرح بعدا جديدا في نظريته، إنه ما اسماه حجاب الجهالةla voile d'ignorons . إلا ان الأشخاص المتفاوضين الذين تصورهم راولز وقد اجتمعوا ليتوصلوا إلى مبادئ للعدل الذي سيتحكم نشاطهم مستقبلا، يجهلون في نفس الوقت كل شيء عن نفسهم، ذلك ان كل شخص لا يعرف سوى المعلومات التي هي في هويته مثل اسمه، عمره، جنسيته والحقبة التي يعيش فيها كما يجهل قدراته البدنية أو العقلية فمجمل معرفته أنه إنسان بغض النظر عن الاسم أو اللون أو الجنس أو العقيدة أو أي شيء من محددات الشخصية الفردية، ويعرف أيضا بموجب معرفته العامة انه باعتباره إنسانا، إذ يعرف أن له أهداف، لكنه لا يعلم ما هي على وجه التحديد ؟ إن ما توخاه راولز من إضافة هذا البعد الجديد (حجاب الجهالة) هو أن تتم عملية التفاوض في جو محايد تماما، وان يحول دون أن يتميز أحد من المتفاوضين بأوضاعه الشخصية بحيث يصمم مبادئ تلاءم أحواله، بل يجب ان لا يختل ميزان العدالة الذي يروم تحصيل إجماع الأفراد على هذه المبادئ، ذلك أن "كل المتعاقدين يجهلون مفهومهم الخاص عن الخير وميولهم النفسية، وبهذا المعنى يمكن القول أن اختيارهم لمبادئ العدل يتم خلف حجاب الجهل"4. إذن فطالما أن كل المتفاوض يجهلون أوضاعه الخاصة فإنه لا خوف من شخص طرح مبادئ غير موضوعية تخدم مصالح البعض على حساب مصالح الآخرين. هذا الموقف الذي نحن بصدد الحديث عنه والذي سيجد المتفاوضون فيه أنفسهم هو ما يسميه راولز بالموقف الأصليla position originelle بحيث في هذا الموقف تكون هناك مجموعة متفاوضين كل فرد فيها يتميز بالحكمة العامة والجهل الخاص، وكل واحد منهم يسعى إلى تحقيق مصلحته الشخصية لكنه يجد نفسه عاجزا على التمييز بين ملامحه وملامح الآخرين، وفي ظل هذا الوضع لا بد لهم من ان يحاولوا البلوغ مبادئ للعدالة تنتفي فيها المفاضلة بين الأشخاص بحيث يمكن أن يستفيد منها أي إنسان أيا كان, وبناءا على هذا يتم الاتفاق بين كافة المتفاوضين على ضرورة التزام الحياد إزاء المبادئ المطروحة وعدم تحيزها، بل يتم اتفاقهم حتى على ضرورة وضع ذوي الميزات الأدنى في الحسبان في هذه المبادئ، ذلك أن أهمية نظرية العدالة لا تتحقق إلا حينما تأخذ مصلحة الفئة الأقل حرمانا والأكثر ضعفا5 هنا تطرح اقتراحات كثيرة للانتقاء ومنها مبادئ للعدالة ومن ثمة تكون لهم مطلق الحرية في استعراض سائر مبادئ العدل التي عرفها تاريخ الفكر السياسي ليختاروا من بينها ما يلائم شروط عيشهم والظروف التي يتم فيها تفاوضهم، فبإمكانهم مثلا أن يتأملوا وجهة نظر القائلة : بأن "العدل هو العمل لمصلحة الأقوى أو الأكثر امتيازا " وبوسعهم أن ينظروا إلى وجهة نظر التي ترى أن الخير يكمن في الرقي بالجنس البشري، كما يمكنهم الاعتماد على وجهة النظر التي ترى أن العدل قوامه هو الانسجام التام مع الطبيعة والتناغم معها...، لكنهم سيرفضون كل هذه الاقتراحات ووجهات النظر - حسب راولز- لأنه لا أحد منهم سيقبل بأية مبادئ تميل للأقوياء أو المتفوقين لأنها ستكون ضده إذا أزيل عنه حجاب الجهالة، واكتشف وضعه السيئ، أنه من الضعفاء أو المتخلفين، فهذه أسباب كافية لرفضها من طرف المتفاوضين، ويفترض راولز أنهم ربما يطرحون مذهب المنفعة العامة للنقاش والبحث لكنهم سيرفضونه بسرعة في رأي راولز بحجة أن هذا المذهب ظالم، لأنه يسمح بالتضحية بحقوق البعض من أجل الرفاهية العامة وهذا المنطق مرفوض، فالإنسان لا يمكنه القبول بمذهب يمكن أن يهدد أمنه الاجتماعي، ويعرضه للقهر في يوم من الأيام من أجل المصلحة العامة أو غير المصلحة العامة، طالما أن هذا الإنسان هو شخص عقلاني وهدفه هو تحقيق مصلحته الخاصة، مثلما حال باقي أطراف الموقف الأصلي، وهكذا وبعد أخذ ورد يرفض المتفاوضون المبادئ المطروحة، وما فيها من جور، وهي حقيقة يعلمها المتفاوضون حق العلم بمقتضى معلوماتهم العامة التي سبقت الإشارة إليها، وهو ما سيقطع مع فكرة التوزيع غير العادل للخيرات، ولكن كيف يحل راولز هذه المسألة مع العلم ان في المجتمع تضارب في المصالح ؟ بالإضافة إلى تشكيك أفراد المجتمع في إمكانية سن قاعدة تنظيمية يحصل بموجبها نوع من التطابق والتكامل في عملية تحقيق النفع العام؟ انطلاقا من هذا يمكن القول أن راولز يعارض التصور القائم على التفاوت بين الناس الذي تتدخل فيه مجموعة من الاعتبارات "كالأصول الاجتماعية" أو" العرقية" أو "الجنسية" وغيرها، طبقية كانت أو سلطوية، مؤكدا بذلك على ضرورة التوزيع المنصف للثروات، بمعنى انه لا يجوز ان تكون فئة مستفيدة بإحدى الطرق السابقة، أي انه ليس لهم الحق في اكتساب قدر أكبر من الثروات إلا إذا ظهر بأن ذلك سيفيد بشكل أو بآخر أولئك الذين لم ينالوا سوى قسطا ضئيلا (الطبقات المحرومة) من الخيرات والثروات. واضح ان راولز استقى مفهوم العدالة التوزيعية من فلسفة "أرسطو"، حيث تلتقي في كتابه الشهير عدة أطياف فكرية قارية و انجلوساكسونية. واستعاد من "كانط" مفاهيم الاستقلالية والكونية، والاستعمال العموم للعقل "L'usage publique de raison ، كما يستحضر راولز نظرية التعاقد عند "روسو" وإن كان قد اعتبر نظريته على قدر كبير من التجريد. لكن ينبغي التنبيه بملاحظة في غاية من الأهمية، وهي ان "راولز" قد تجاوز كل البنيات الفلسفية السابقة، وهو ما ساعده على بلورة نظرية جديدة للعدالة، التي سيطرح من خلالها مشروعا نظريا لتجديد الليبرالية، ولإعادة التفكير في مستقبل الديمقراطية ذات المنحى الليبرالي في المجتمعات الما- بعد حداثية "Poste Modernité" المركبة بنيتها ثقافيا عرقيا، وما تمخض عن ذالك من أزمات وصراعات بين" دعاة المساواة" و"دعاة الحريات"، على قواعد أخلاقية للعدالة كإنصاف. ومن ثمة رصد الاختلافات التي تخترق الجسم الاجتماعي الليبرالي.، وانطلاقا من هذا، كيف يتصور راولز العدالة كإنصاف في ظل تعاظم الأنانية وتضخم الفردانية واستشراء اللامبالاة السياسية "Dépolitisation"؟ ووفق أية مبادئ للعدالة؟ مبادئ العدالة عند جون راولز خلافا للتصور الليبرالي المفرط لمسألة العدالة يقر راولز بإمكانية تحقق العدالة كإنصاف، شرط الإيمان بمبدأ "التعاون" كعنصر استراتيجي لتوفير الرفاهية للجميع، أي أن راولز يحث على تحقيق البعد الاجتماعي في عملية إنتاج الخيرات مادامت، هاته الأخيرة ، ستوزع بالتساوي على أفراد المجتمع (العدالة التوزيعية)، يبدو من خلال ما سبق أن راولز يضع "مبدأ التعاون"في مقابل "الروح الفردية"، فإذا كان من نتائج التعاون توحيد الصفوف وتكامل الأدوار وإنصاف جميع الأطراف، فإن من نتائج الفردانية، التشرذم وطغيان الذاتية والأنانية على مبدأ المصلحة العليا، وعندما نتحدث عن تضارب المصالح فإننا نعني بذالك أن الأشخاص غير مهتمين أو مبالين بالقواعد التي يتم بها توزيع محصول تعاونهم من جراء تلهفهم لتحقيق أهدافهم، فكل فرد يفضل الحصول على الجزء الأكبر من هذه المزايا بدل الجزء الأقل، أي أن كل واحد يسعى إلى تحقيق مصلحته معتقدا أن مجهوده الخاص كفيل لبلوغ أهدافه وطموحاته وغاياته. ولهذه الأسباب وغيرها يتوصل "راولز" إلى ضرورة وضع مقاربة جديدة لمفهوم العدالة يتسنى من خلالها تحديد مبادئ أخلاقية وسياسية تشمل مختلف التصورات الممكنة لمسألة العدالة الاجتماعية وتكملها، بل ان العدالة كإنصاف، كما يرى راولز هي القاعدة التي ستضمن التوزيع العادل للخيرات وفق تصور أخلاقي ُيرضي الجميع، وذلك من خلال مبادئ العدالة الاجتماعية كما بلورها "جون راولز" والتي ستكون وسيلة فعالة لتوحيد الحقوق والواجبات داخل المؤسسات الأساسية للمجتمع، كما أنها ستساعد على التوزيع السليم والمتكافئ للأرباح. غير انه على الرغم من الاختلاف الملاحظ عند الأشخاص حول المبادئ التي يجب أن تكون بمثابة الأسس القاعدية لمجتمعهم، ومع ذلك فوجود الاختلافات لا يمنع من وجود نظرة خاصة لكل واحد منهم للعدالة، بمعنى أنهم يدركون الحاجة إلى هذه المبادئ وأنهم مستعدون للدفاع عنها. هذه المبادئ تسمح بوضع الحقوق والواجبات الأساسية وتحقيق ما يعتقدون انه توزيع عادل للمزايا والأعباء الناتجة عن التعاون الاجتماعي، ولهذا يمكن القول أن مبادئ العدالة كإنصاف من شأنها أن تقدم تصورا شاملا لكل التصورات المختلفة للعدالة وتحتويها في نفس الآن، بشكل يجعلها تتخذ أبعادا قابلة للتطبيق عمليا داخل البنيات المؤسساتية متى توفرت الظروف المناسبة لذلك. فلابد إذا من وجود تنسيق بين مشاريع الأشخاص حتى يحصل انسجام بين الأعمال التي يقومون بها، وحتى لا يتضرر احدهم، ومن جهة أخرى، فلتحقيق هذه المشاريع يتعين أن يسمح بالوصول إلى أهداف اجتماعية عن طريق استعمال وسائل تكون في ذات الوقت فعالة وغير مخالفة للعدالة. وفي الأخير، فان نظام التعاون الاجتماعي يجب أن يكون مستقرا، وان تحترم قوانينه الأساسية، يتضح إذن أن هذه المسائل الثلاثة لها علاقة وطيدة بمبدأ العدالة، ففي غياب حد أدنى من التوافق بين ما هو عادل وما هو غير عادل سيكون من العسير علينا التنسيق بين الرغبات المختلفة. وانطلاقا من هذا تبرز أهمية إيجاد قاعدة أساسية لبناء تصور معقول لمفهوم العدالة، من اجل إيجاد صيغ مشتركة تضمن الحريات الأساسية للأفراد والمساواة في توزيع الترواث، وتلك هي مبادئ العدالة كإنصاف. إذن نظرية العدالة بما هي إنصاف عند "راولز" تتحدد فيما يلي: 1- كل الناس أحرار (الحرية) ولهم الحق في النسق الموسع للحريات الأساسية بالتساوي (المساواة). 2- من الطبيعي أن تنتج عن هذا النسق الموسع للحريات فوارق اجتماعية واقتصادية هائلة بين الناس لكن شريطة أن تنظم بالكيفية التالية: أ - أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا les plus défavorisés)) أي ضحايا النظام الرأسمالي. ب - أن تكون نابعة من مبدأ تكافؤ الفرص égalités des chances) ( في الوظائف. لا يرى راولز مانعا في بقاء اللامساواة لكن شرط أن تكون في مصلحة الأكثر حرمانا والأقل حظا من الناس، وإذا كانت أيضا حصيلة تكافؤ الفرص التي يتيحها النظام الليبرالي الذي يكون قد قبل بمبدأ العدالة كإنصاف، وحصل توافق جماعي حول مبادئها التي نلخص أهمها في ما يلي:"المساواة، الحرية، التعاون الاجتماعي". ومن هنا يتضح أن هدف نظرية العدالة كإنصاف هو محاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بإمكانية تحقيق مجتمع عادل يضمن لأفراده الحرية والمساواة، بحيث تكون الحدود المنصفة للتعاون موضع توافق بين المواطنين أنفسهم مادام الدخول لمجتمع التعاون يفترض المرور بمرحلة الوضعية الأصلية كإجراء لعرض نظرية العدالة كإنصاف. إذن فما هي مبادئ العدالة التي على أساسها سيكون التوزيع منصفا بين أفراد المجتمع، لما اسماه راولز المنافع الأساسية مثلا: الحقوق و السلطات والفرص والدخل والثروة، ومخولات احترام الذات ... ببساطة تتمثل حسب جون راولز في المبادئ التالية: - المبدأ الأول: لكل شخص ان يحصل على حق مُسَاوٍ في أكثر أشكال الحرية شمولا وأوسعها مدى، دون المساس بحرية الآخرين. - المبدأ الثاني: يتم تسوية التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية بحيث تكون أعظمها نفعا لأقل المستفيدين، ويترتب عليها مراكز ومناصب متاحة أمام الجميع تحت شروط المساواة العادلة في الفرص. إن المبدأ الأول هو مبدأ الحرية المتساوية، يهدف إلى منح كل شخص حقه وحريته السياسية الأساسية: كالحق في التصويت، وإمكانية شغل مناصب عامة، وحرية التعبير والرأي والفكر، والاجتماع والحق في الملكية الخاصة، واللجوء إلى القانون، وذلك دون النظر إلى وضعيته الاجتماعية. أما المبدأ الثاني فيتضمن ما يسميه راولز ب " المبدأ الليبرالي للمساواة المنصفة في الفرص" إذ يقتضي حصول الجميع على فرص متكافئة للمنافسة على شتى المناصب. هنا يدرك راولز ان هذا التنافس يحسم بنتيجة تكمن في حصول البعض على مواقع وثروات مما يسمح بظهور فروق اجتماعية، لكن داخل إطار محكوم بتكافؤ الفرص. المشكل بالنسبة لراولز هو السماح بوجود تفاوتات شريطة ان لا يخلق هذا مجتمع فئة محرومة من حقها في الحصول على حقوقها الكاملة والفرص الأساسية لحساب فئة أخرى تتمتع بامتيازات. ومن اجل تحقيق هذا المجتمع دعا إلى المساواة الديمقراطية L'égalité démocratique. انطلاقا مما تقدم وتأسيسا عليه، يمكن القول، وأنه لا يمكن التضحية بالمبدأ الأول لفائدة الثاني، فللمساواة في الحرية أسبقية عن المساواة في الفرص، ولهذه الأخيرة أولوية على توزيع المتساوي للثروات، وداخل كل واحدة منها لا يقبل التفاوت ولا تقبل اللامساواة إلا إذا كان سيستفيد منها أولئك الذين هم أكثر تعرضا للحرمان والضعف والفقر من غيرهم، وانطلاقا من هذه المبادئ سيتم التوزيع العادل للمنافع الأساسية حسب راولز كأهم نقطة عملية نحو استعاذة العدالة داخل كل مجتمعات الحديثة.