نهض الفكر الحديث على أساس قيم العقل والحرية والتقدم، وهي تماما قيم التنوير الذي شكل أساس الحداثة، حين انتشل الوعي الغربي من حالة الخضوع للخرافة والاستبداد والركود ونقله إلى حالة النهضة والإصلاح والثورة.يقدم عثمان أشقرا في كتابه "موجز فكر التنوير"، الصادر عن "دار بترا ورابطة العقلانيين العرب" بدمشق، موجزا عن فكر التنوير الأوروبي، من خلال استعراض أفكار الفلاسفة والمفكرين، الذين ساهموا في إرساء هذا الفكر، وينطلق من اعتبار التنوير سيرورة وسياقا عاما، وليس مجرد "مذهب" أو "فلسفة"، كفلسفة الأنوار مثلا، إلى جانب كونه لا يتحدد بمرحلة تاريخية عاشتها الإنسانية وانقضت، أي قرن الأنوار، لتليها مرحلة "الحداثة"، ثم مرحلة "ما بعد الحداثة"، حسب التقسيم الشائع. ويعتبر أن الفكر الحديث نهض على أساس قيم العقل والحرية والتقدم، وهي تماما قيم التنوير الذي شكل أساس الحداثة، حين انتشل الوعي الغربي من حالة الخضوع للخرافة والاستبداد والركود، ونقله إلى حالة النهضة والإصلاح والثورة. ويعنى ذلك أن الرؤية الفكرية الحديثة القائمة على أساس فكر التنوير وقيمه، هي التي ستتحول إلى قاعدة التأسيس للفكر الأوروبي الحديث والمعاصر. إذ في تلك الفترة سيغادر الوعي الأوروبي، وبمعنى من المعاني، دائرة "الأزمنة" التاريخية الطاحنة والحادة، وينخرط في مشروع التأسيس لحداثته، والتنوير ليس هو، وحسب، مقدمة الحداثة، بل إنه هو أسها ولبها وزمنها المشرع، وأفقها المفتوح دوما، فمن جهة، فإن العقل الأوروبي المنعوت تحديدا بالعقل الحديث أو الحداثي، إنما هو كذلك باعتباره تأسس على قيم العقل والحرية والتقدم، التي تعرف بقيم التنوير بامتياز، واستوعبها، وبمعنى من المعاني حتى أصبحت هي "روحه"، حسبما ذكر هيغل في كتابه فينومينولوجيا الروح. وبالعودة إلى البدايات، نجد أن الشاعر الفرنسي بودلير، أول من استخدم كلمة الحداثة، ونظر لها على الصعيد الفني (الشعر والفن)، واعتبر أن الحداثة هي الانتقالي، العابر، الجائر، وتشكل نصف الفن الذي يشكل نصفه الآخر الأزلي اللا متغير. وعليه، فإن الحداثة ولدت بالمفهوم البودليري من تقاطع الزمن الراهن مع الأزل، راهن يتلاشى، ويمتد على عدة عقود خلت، ويتشكل في قلب الأزمنة الحديثة، لكن أيمكن للزمن الراهن ألا يتشكل إلا من تقاطع الراهن مع الأزل؟ وكان بودلير يتحدث عن جوهر الفن الأزلي السرمدي للحداثة، وقدم صورة نظرية للحداثة، يكسوها الانبهار بأضواء المدينة، وبإرهاصات الشاعر المتسكع في شوارعها المليئة بالحياة، لذلك صور البولفار (الشارع العريض) كمرآة للحداثة، وسحره على الدوام ذلك الجمال العابر، المتلاشي للحياة الحديثة، وعنت الحداثة له، تدمير كافة الأشكال الجامدة المتحجرة، التي تقف في وجه الفن والشعر. ويعرض مؤلف هذا الكتاب، سيرورة فكر التنوير في هولندا وإنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، ويقدم عرضا للتيارات الرئيسية التي انتقدت فكر التنوير، بدءا بهيغل وماركس، ونيتشه، ووصولا إلى مدرسة فرانكفورت (هوركهايمر،أدورنو، وماركوز)، ويعرض بعض الأفكار لتيارات معاصرة في تجديد التنوير، متمثلة بمدرسة ماربورغ وإرنست كاسيرر، إضافة إلى أفكار الفيلسوفان جون راولز ويورغان هابرماس. ويرفض المؤلف فكرة انحسار فكر التنوير في دائرة خصوصية ثقافية وجغرافية، بل و"عرقية" مزعومة، فالبعد الفلسفي الأصيل لمفاهيم العقل والحرية والتقدم، بوصفها تشكل مضمون فكر التنوير وتؤسس بناءه الذهني وتخترق نسيجه المعرفي، يضعنا إزاء نوع من محاولة التأسيس لما يمكن دعوته ب "الخطاب الفلسفي للتنوير". ولا يمكن اختزال فكر القرن الثامن عشر، أي فكر التنوير، في مجرد "نصوص" تحريضية و"شعارات" ثورية، قادت رأسا وأساسا نحو اندلاع الثورة الفرنسية في 1789، أو في أحسن الأحوال اعتباره اختزالا لفلسفة "نفعية"، إنجليزية أو أنجلو سكسونية في العموم، ولكنه، أي فكر التنوير، يمثل ما هو أعم وأشمل وأعمق، وهو المشترك الحضاري الإنساني العام من داخل التعدد الثقافي الخاص. فالثقافة قديمة قدم الاجتماع الإنساني، وبهذا المعنى فهي تفيد ما به تأسس ويتأسس الاجتماع الإنساني نفسه. ويؤشر البعد لإنساني العميق والشمولي لفكر التنوير على أن الحداثة ليست مجرد تحقيق ل "روح" رأسمالية أوروبية مزعومة بنفس درجة أن الرأسمالية ليست تحقيقا ل "أخلاق" بروتستانتية معينة، حسبما زعم ماكس فيبر، ولكنها، أي الحداثة، نقطة انصهار لمثال "النهضة" وأخلاقيات "الإصلاح الديني" وقيم "العقلانية" و"التجريبية" بنفس درجة أن "النهضة" و"الإصلاح الديني" و"العقلانية" و"التجريبية" قد فعلت فيها فعلها، مؤثرات ثقافية غير أوروبية، مثل فلسفة ابن رشد، وبالتالي، فالحداثة في مضمونها التنويري الدقيق والعميق هي معطى إنساني شامل، شمولية مفاهيم الحرية والعقل والتقدم، التي هي مضمون فكر التنوير بامتياز. من جهة أخرى، فإن الحداثة ليست نوعا من "السرد الكبير"، على حد تعبير أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة، وهو الفيلسوف ليوتار. وحسب أطروحة هابرماس، التي تعتبر الحداثة مشروعاً لم يكتمل بعد، فإن الحداثة تعرف كمشروع فكري وسياسي واقتصادي واجتماعي انخرطت فيه المجتمعات الأوروبية تحديداً، انطلاقاً من القرن الخامس عشر، خلال عصر النهضة، والقرن السادس عشر، قرن الإصلاح الديني، والقرن السابع عشر، قرن العقلانية والتجريبية والكشوفات والنظريات العلمية الحاسمة، والقرن الثامن عشر، قرن فلسفة الأنوار. والقرن التاسع عشر، الذي ينعته عادة مؤرخو الفكر بقرن تبلور الحداثة اصطلاحاً ومفهوماً ومضموناً، بعد صدور كتاب "فينومينولوجيا الروح" للفيلسوف الألماني هيغل، وتأصيل الحساسية الفنية الجديدة مع الشاعر الفرنسي بودلير. وعليه يلزم طرح السؤال التالي: ما هي علاقة التنوير بالحداثة؟ هل التنوير هو مجرد مرحلة من مراحل الحداثة جرى تجاوزها إلى مرحلة أرقى هي مرحلة الحداثة ذاتها، ثم مرحلة ما بعد الحداثة؟ ويمكن القول إن التنوير ليس مجرد مرحلة في مسار تحديث العقل الأوروبي خاصة والفكر الإنساني عامة، إلى حد اختزاله، مثلاً، في مجرد فلسفة الأنوار الموسوم بها القرن الثامن عشر في فرنسا. ففلسفة الأنوار التي قدمها فولتير، وديدرو، وروسو، ليست إلا أحد تجليات فكر التنوير، الذي سطعت شمسه على مجتمعات أوروبا الرائدة، كالتنوير في هولندا، والتنوير الإنجليزي، والتنوير الألماني. عن صحيفة "البيان" الإماراتية.