لا جدال في أننا نمر بمرحلة انتقالية وعاصفة عامرة بالتناقضات واهتزاز القناعات الفكرية ، وبالهزات في كل جوانب الواقع العربي، السياسي والثقافي والفكري والاجتماعي . وهي مرحلة معقدة تحتاج للخطاب النقدي الاصلاحي والتنوير الثقافي العقلاني والتصدي الحازم للمنطلقات والأفكار والمعتقدات السلفية والرجعية المسيطرة والسائدة في حياتنا وعالمنا، وللممارسات الظلامية،التي تشدنا للخلف وتشل تفكيرنا وطموحنا وقدرتنا على العطاء والأنتاج والابداع الحقيقي الخلاق ، وتعيق بناء الشخصية الثقافية الحضارية العميقة واسعة الافاق، القادرة على المواجهة ومجابهة الصعاب وتحديات العصر. أن الوعي التنويري مرتبط بعصر النهضة العربية الذي نشأ وتبلور في أرض الكنانة على يد رفاعة الطهطاوي ثم تطور وانعكس على الحياة المدنية والثقافية في الاقطار والبلدان العربية، وهذا العصر تميز بالحوار والجدل الفكري العقلاني والنقاش العنيف بين انصار القديم والسلفي وبين أنصار الجديد والتجديد والعصرنة. وقد شهدت الحياة الفكرية والثقافية العربية المعاصرة خلال القرن الفائت تحولات دمقراطية ، وظهرت التعددية السياسية والحزبية ، وتشكلت الاحزاب والتنظيمات السياسية والمنابر الفكرية ، وزاد الاهتمام بالثقافة الابداعية التقدمية وبأفكار التنوير والعقلانية والتحرر والتقدم .واحتدمت المعارك السياسية والمطارحات السياسية والفكرية حول القضايا والمسائل الثقافية والدينية والشعبية، وانتشرت المجلات والأدبيات التي تعنى بشؤون الفكر ، وتسعى الى تعزيز الفكر الابداعي التحرري المتنور، وأقبلت طلائع الفكر والثقافة على التراث العربي تنهل من كتابات طه حسين والعقاد والمازني وساطع الحصري والكواكبي واليازجي والشدياق وغيرهم. وفي المقابل ، وبعد نشوء وتغلغل الأصولية الدينية داخل المجتمعات العربية والاسلامية، في العقود الأخيرة، شهدنا انحطاطاً سياسياً ونكوصاً فكرياً، واستشراساً للنظم السياسية والطغم الدكتاتورية الحاكمة، واغتيالاً للوعي النقدي وللفكر العلماني التقدمي ، وانحساراً للعقلانية والتنوير وتراجع المشروع القومي الاجتماعي النهضوي الواعد، وتزايد الصدام والصراع والاستقطاب والاصطفاف الطائفي والانفراد بالسلطة ، وتكرّس الفكر الظلامي الاستقصائي والتكفيري القمعي المتعصب .كما انتعشت الثقافة البرجوازية والاستهلاكية والفنون الضحلة والهشة والمدجنة، وتفاقمت الأزمات المادية والروحية والفكرية والثقافية والأخلاقية ، وترسخت الأنانية والذاتية والنفعية والنرجسية والغاء دور الاخر. والواقع اننا نشهد تراجعاً وانكماشاً لدور المثقفين العرب في عملية النهضة الثورة الاجتماعية، وغياب للمداخلات والمساهمات والحوارات الفكرية حول الأجندة والقضايا الشائكة والمعضلية الهامة ، التي تواجه حركة التنوير العربية في ايامنا هذه. وهذا بالطبع ناتج وناجم عن الانكسارات والهزائم والاحباطات الثورية والنفسية، والوضع البائس الذي يعيشه ويحياه المثقف العربي في ظل الفقر والاغتراب والقمع السلطوي والأرهاب الأصولي الديني. أننا نحس بالألم العميق والقلق ازاء ما الت اليه أوضاع وأحوال حركة التنوير في الوطن العربي ، ولا يجوز بأي حال من الأحوال الاستمرار في توظيف الدين في خدمة الماّرب والأهداف السياسية والمتاجرة بالمشاعر والعواطف الدينية المتأججة ، وتعميق العنصرية والطائفية المقيتة والبغيضة بين شباب هذا العصر. ويجب استكشاف واستنباط مكنونات تراثنا العربي الاسلامي ونشر روح ومبادئ وقيم الاسلام الصحيح وتعاليمه الانسانية، وتقاليده السمحة الداعية للثورة والرفض والتمرد على الظلم والقهر السياسي والاجتماعي والطبقي. أن هذه المرحلة الأنتقالية والخطيرة تتطلب المصارحة والمكاشفة النقدية ، وأعادة النظر في الكثير من المسلمات والطروحات والاجتهادات الفكرية ، ونشر المعارف الانسانية ، وتأصيل العقلانية والتنوير في الخطاب العربي المعاصر .زد على ذلك تعزيز الحوارات ودعم المبادرات الرامية الى اعادة صياغة وكتابة التاريخ العربي ، واحياء وانعاش الفكر الجدلي التقدمي والثوري النهضوي، الذي أنطفأ وخبا نوره بعيد الطوفان والزلزال المدمر الذي حل وعصف بالمعسكر الاشتراكي وبحركة التحرر الوطني العالمية ،حتى نجعل الواقع العربي قابلاً للحياة والتطور والأنتصار. (مصمص)