سألني بعض الأصدقاء عن سبب ظهوري اليومي على "فيسبوك" وعلى بعض المنابر الإعلامية المغربية فجأة، رغم أنني لم أكن معتادا على ذلك سابقا، حيث كنت نادرا ما أنشر شيئا للعموم. وهذه هي إجابتي حول الأسباب التي جعلتني أكتب عن المغرب: أولا، الهجوم الشرس وغير الأخلاقي الذي يتعرض له المغرب خلال السنوات الأخيرة من أقرب الشعوب إلينا استفزني بشدة، وجعلني أقتنع بأن كل صوت إضافي يدافع عن مصالح المغرب، مهما قل تأثيره، مطلوب ومهم في هذه المرحلة. ثانيا، غادرت المغرب قبل نحو تسع سنوات، قضيت منها أكثر من ست سنوات في الدراسة والبحث المكثف في مجالي، إضافة إلى محاولة التأقلم مع بلدي الجديد وفهم ما يدور فيه. خصصت كل وقتي وطاقتي لتحقيق الأهداف التي هاجرت من أجلها؛ ومنها إثبات الذات على أعلى المستويات في هذا البلد المعطاء. وكان هاجس الزمن يضغط علي بقوة، لأنني هاجرت في سن تقارب الأربعين. لم يكن لديّ الوقت أو القدرة على متابعة شؤون المغرب عن قرب، أو على الكتابة عن أي من الأحداث، رغم ميولاتي الصحافية بحكم تكويني في مجال الإعلام والاتصال. وقبل مغادرتي، كانت وجهات نظري تجاه المغرب قاسية نوعا ما، يغذيها التباعد بين الطموح والواقع، وإحباطات الحياة اليومية، كأي مواطن يشعر بأنه لم يحصل على ما يستحق، وأن الحياة لم تكن عادلة معه. ووجهة النظر هذه تظهر جلية في كتاب صدر لي سنة 2008. ومن حسنات الهجرة أنها، بأخذ المسافة الكافية، تجعلك تدرك عظمة الوطن الذي تنتمي إليه، والذي لطالما بالغت في مطالبك منه! ثالثا، ازداد طفلي الثاني في الأسبوع السادس والعشرين من الحمل (أقل من 6 أشهر)، أربع سنوات بعد وصولي إلى كندا. وكان الأمر صعبا خلال سنته الأولى، خصوصا أنه كان في المستشفى لمدة 3 أشهر في البداية. لكن، والحمد لله، هو الآن ولد لطيف ونشيط وبصحة ممتازة، والحمد لله، كأنه لم يمر بتلك الظروف أبدا. رابعا، العيش في كندا جعلني ألتقي بأشخاص من مختلف الجنسيات. وبطبيعة الحال، لدى الإنسان غريزة الافتخار بأصله، تماما مثل الافتخار بأمه مهما كانت عيوبها. كنت أشعر بفخر كبير عندما أسمع أصدقائي يتحدثون عن المغرب، سواء لأنهم زاروه وانبهروا به، أو لأنهم يخططون لزيارته بعدما سمعوا عنه من أقاربهم أو معارفهم. ومن الطرائف التي عشتها: كان لي صديق جزائري اعتبرته أخا؛ لكننا افترقنا بعد أن اشتد التوتر بين المغرب والجزائر في السنوات الأخيرة، وانخراطه في السردية الرسمية للنظام العسكري هناك. كنا كلما التقينا شخصا وسأل عن أصلنا، يواصل الحديث معي عن المغرب ويتجاهله تماما، وكان هذا يثير غيرته. ذات يوم قال لي مستاء: "كلشي يعرف المروك، الدزاير ما يعرفها حتى واحد!" ولأخفف من امتعاضه، أجبته مازحا، وربما بشيء من المكر: "الجزائر يعرفها الكثير من المثقفين في الدراسات ما بعد الكولونيالية." خامسا، كانت تستفزتني بعض الملاحظات التي كنت أسمعتها حول ملف الصحراء المغربية من بعض معارفي. وبما أنني باحث، لم يكن من المقبول أن أرد على هذه التساؤلات بيقينيات مغربية مسبقة؛ بل كان عليّ تقديم إجابات علمية وموضوعية تقطع الشك باليقين. لهذا، بدأت أبحث بعمق في الملف كمُتعلم ذاتي (autodidact)، من منظور العلاقات الدولية، القانون، الدراسات ما بعد الكولونيالية، والتاريخ النقدي (Historiography). اطلعت على القرارات الأممية منذ بداية النزاع، وراجعت الكتابات الأجنبية حول الموضوع، التي كان كثير منها للأسف منحازا غير دقيق أو غير ملمّ بتفاصيل الملف. هذا البحث الموضوعي والمحايد زاد من أسفي، لأنني أدركت حجم الظلم الذي تعرض له المغرب، وكيف تلاعبت بعض القوى بملف الصحراء. اكتشفت أيضا أن نقاط قوة الموقف المغربي لم تستثمر بالشكل المطلوب إعلاميا وأكاديميا. ينتظرنا بعض العمل لإيصال وجهة نظرنا بالأدلة القوية التي نمتلكها، سواء القانونية أو الأخلاقية أو التاريخية أو السياسية. في كثير من الأحيان، عندما أتابع النقاشات حول القضية في القنوات الأجنبية، أشعر بأن بعض الضيوف المغاربة لا يقدمون الحجج الدامغة التي نملكها؛ ما يمنح خصومنا فرصة للتشكيك، رغم أن الرد عليهم سهل جدا. لهذا، أرى أنه من المهم المساهمة بما أملك من الأفكار المتواضعة والأدلة حول الملف. سادسا، لاحظت أن الساحة الإعلامية أصبحت شبه فارغة، مع تغول سلطة "المؤثرين" في مواقع التواصل الاجتماعي، التي أعترف بأني لم أنتبه إليها أبدا بسبب مشاغل الحياة اليومية، والتي أصبحت تشكل خطرا حقيقيا على المغرب. ولهذا، أصبح لزاما على كل غيور له أفكار واقعية ألا يخجل من النزول إلى هذا المعترك، لحماية البلد من كل آفات التطرف والانحراف. سابعا وأخيرا، كنت بحاجة إلى مسافة زمنية حتى أتمكن من الكتابة عن المغرب بموضوعية ودقة. ومرة أخرى، البحث الدقيق جعلني أدرك عظمة هذا البلد والمعجزات التي يحققها اليوم. فعلى الرغم من موارده المحدودة، فإن المغرب يمتلك اليوم بنية تحتية تضاهي تلك الموجودة في الدول المتقدمة. ولن أتحدث هنا عن التراث والمعمار والزخرفة والمطبخ والتاريخ والثقافة، التي لم أدرك عظمتها حقا إلا بعدما عشت خارج المغرب. وأنا هنا لا أنكر المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها البلد، وتقصير أو فساد بعض المسؤولين، وكذا بعض المواطنين؛ لكنني أؤكد أن دولا أغنى منا بكثير لا تملك ما لدينا! وأتمنى أن أستمر في الكتابة لأساهم، ولو بالكلمة، مع كل من يدافع عن هذا الوطن العظيم في نصرة قضاياه، ودفعه نحو التقدم والازدهار. والسلام!