في كل أسبوع، تحاور جريدة "لوموند" الفرنسية شخصية بارزة، حيث تكون نقطة الانطلاق في الحوار لحظة ما من اللحظات الحاسمة في حياتها. وقد أجرت الحوار، في عددها المزدوج الصادر يومي الأحد والاثنين، مع الأديبة المغربية الفرنسية ليلى السليماني. عينت الكاتبة الفرنسية- المغربية ليلى السليماني، الفائزة بجائزة ال"غونكور" عن روايتها "أغنية هادئة" التي بيعت منها 600 ألف نسخة وترجمت إلى 40 لغة، الممثلة الشخصية للرئيس إمانويل ماكرون للفرانكفونية خلال نونبر 2017. إذ ستترأس جائزة "أنتير" للكتاب خلال يونيو المقبل. لم أكن لأصل إلى هنا لو لا… لو لم يمت والدي عندما بلغت سن الثانية والعشرين، في ظروف مأساوية جدا. فما حدث له أثبت لنا، لي ولوالدتي وأختيّ، ألا وجود لأي حماية في الواقع. لقد رغب أبوانا في أن نحصل على تعليم جيد، ومهن مضمونة واستقلالية مالية. لكن تهاوى كل شيء، حيث أدركنا أن المصائب ممكنة على الدوام، وأنه ينبغي إذاً أن نفعل ما نتوق إلى فعله. لقد استوعبت والدتي تلهفي الكبير ورغبتي في الانخراط في المسرح والكتابة، ودعمتني في ذلك. ثم إنني أظن كذلك أنني لم أكن لأكتب ما كتبته لو كان أبي مازال على قيد الحياة. ربما سكن موته أعماقي. كان والدك عثمان مصرفيا في المغرب. وقد اتهم باختلاسات مالية. أليس كذلك؟ شهد والدي صعودا مهنيا واجتماعيا سريعا جدا. فهو ينحدر من وسط متواضع بفاس، رفقة والدة أمية. درس الاقتصاد بفرنسا، وأصبح أستاذا بكلية الرباط لدى عودته، ثم كاتب دولة في الاقتصاد خلال السبعينيات، ورئيس بنك كبير هو القرض العقاري والسياحي (CIH). طرد من العمل عندما كنت في سن الثالثة عشرة، ولم يعمل مجددا أبدا. إذ وجد نفسه في قلب فضيحة اختلاسات مالية. وكان ذلك بمثابة هبوط إلى الجحيم. لكنه لم يرغب أبدا في الفرار من المغرب، لأنه كان يدرك أنه بريء. توفي بعد مغادرة السجن. بعد بضع سنوات، حصل على براءته من جميع التهم، بعد وفاته. كان ذلك خطأ قضائيا، حيث كان كبش فداء. وقد قلب هذا الأمر حياتنا. عشت فترة المراهقة رفقة والد مقيم بالبيت، ترينه يتحطم… أجل، كان اندحارا قاسيا من جهة. كنت أشعر أنه يتألم جراء ذلك. كان ينتظر شيئا ما لم أكن أدري ما هو. ربما أن تحل المشكلة. أن تستعيد الحياة مجراها. كان على والدتي أن تبقي البيت على قيد الحياة، وأن تدفع تكاليف دراساتنا، وأن تهتم بكل شيء. أكنّ لها إعجابا فريدا! لطالما ساهمت في رغبتي في الاستقلال ونزعتي النسائية. وفي الآن ذاته، كان والدي يتمتع بذكاء ومعرفة قلّ نظيرهما، حيث كان يقرأ كتابين في اليوم الواحد. إذ يكمن الجانب الإيجابي في كوني التقيت بهذا الأب، الذي لم يعد يعمل طوال اثنتي عشرة ساعة يوميا. وهكذا، أضحت الظروف بمثابة مصفاة، حيث لم يعد هناك مكان للمظاهر، وإنما للأصدقاء الأوفياء والحياة العائلية. كان والدي يشاهد المسلسلات التي نحب، ويضحك معنا، ويهتم بجيلنا وأنوثتنا، ونتناقش كثيرا. لم يكن الأمر محزنا. لقد زرع فيّ حب الكتب، واهتمامه بالفلسفة والسياسة. لربما كان سجنه بمثابة طوفان… كان ذلك عنيفا جدا، جدا. عشناه نحن الأربعة، رفقة أمي، المرأة التي تفوق روعتها الروعة العادية. أمي، هذه البطلة الخارقة، بدعمها لوالدي، وكرامتها، وشجاعتها، وحتى قوتها الجسدية، وطريقتها في حمايتنا… كنا ننتمي إلى وسط بورجوازي مريح جدا، حيث كنا نعتقد أن هذه الأمور لا تشمل إلا الآخرين. فالسجن المغربي هو قانون عام، حيث لا نتصور في فرنسا ما يمكن أن يعنيه انتقالك إلى بعد آخر! وقد أمضى والدي بداخله أربعة أشهر، بينما كان عمره واحدا وستين عاما… إذ منحني ذلك، وأنا بعد شابة، شكلا واضحا حول الوضع الاجتماعي والنجاح والصداقة، مما لم يغادرني حتى بعد أن فزت بجائزة ال"غونكور". هل تدينين بجنسيتك المزدوجة إلى جدّيك من أمك؟ نعم، كانت جدتي فتاة شابة تنتمي إلى البورجوازية الألزاسية. التقت بجدي، عندما حرر قريتها عند نهاية الحرب. كان ضابطا في الجيش الفرنسي، كان سِباهيا يعتمر عمامة بكامل أبهته، ووسامته الفريدة. وقد افتتنت بسحره، وهو أيضا. ثم تبعته، حيث كانت تتمتع بمزاج المغامرة. نزلت في بيت تقليدي بمدينة مكناس العتيقة، وسط أصهار يكادون لا يتكلمون الفرنسية… إنها رواية! ستصبح رواية، بالطبع! سرعان ما تعلمت جدتي قراءة العربية وكتابتها. كانت المرأة البيضاء التي تزوجت بأهليٍّ… تتصورون هذا الواقع وسط المجتمع الكولونيالي العنصري في مكناس! لم يكن الفرنسيون يرغبون في زيارتها والتردد عليها. كانت هي كذلك تكافح ضد ذكورة المجتمع المغربي. لم تتنازل عن قناعاتها أبدا. وقد اجتاز الزوجان الفترة الكولونيالية، والاستقلال، وتجاوزا صعوبات مالية شديدة تتعلق باستثمارهما في مجال زراعة الزيتون… فأنا أنحدر فعلا من سلالة نسائية عنيدة جدا وطيبة للغاية! أنشأت جدتي مستوصفا. وكرست والدتي حياتها للطب. كانت متخصصة في أمراض الأذن والأنف والحنجرة، ولم تتلق أبدا تعويضات من الفقراء، حيث اشتهرت بينهم بذلك. وقد علمتنا ما يمكن أن نواجه به الفقر المدقع وقسوة المجتمع المغربي وفوارقه الصارخة. نحن كنا نعيش في فقاعة، بطريقة هامشية تماما، وفق قوانيننا الخاصة وقيمنا، وسط الكتب والأفلام. مع ما توفر لك من تمدرس بالثانوية الفرنسية في الرباط… كنت رفقة أختيّ نحظى بحماية كبيرة، بعيدا جدا عن المجتمع، داخل بورجوازية خارجة عن أعرافها. ورغم أنني كنت مراهقة، إلا أنني كنت أتمرد على واقعي. كانت تحدوني الرغبة في مصير جماعي، في الانتماء إلى جماعة. لم أكن أشعر بأنني مغربية، ولا فرنسية. ومازال الأمر كذلك إلى يومنا هذا. ما أستحضره من الطفولة هو الملل، حيث كنا نسكن بحي بعيد عن وسط المدينة حيث السينما والمسرح لا بأس بهما. كنا نشعر أننا نعيش على هامش العالم. لقد غذى الملل شغفي بالقراءة والكتابة. كنت منعزلة جدا. كنت أشتغل كثيرا، لكني كنت أحب ذلك! كان وعيي الأول بالمجتمع المغربي وعيا بالبؤس. وبفضل والدتي، ومربيتي التي كنت أشهد حياتها، وجدتي التي كانت تعالج، منذ الساعة السابعة صباحا بأفعال تعلمتها خلال الحرب، المرضى من العمال الأمازيغ والأطفال الذي احترقوا لأن أمهاتهن يهيئن مطابخهن على الأرض… متى لفت الفارق الكبير بين الجنسين أنظارك؟ في عمر مبكر جدا، خلال السنة الثانية من الدروس الابتدائية، حيث كان يقال لي: "لا يمكنك أن تفعلي هذا، لأنك بنت". وكان هذا الكلام يستفزني. فجأة، رغبت في أن أتحول إلى فتى، وأن أصبح جزءا من أولئك الذين يتشاجرون ويفرضون أنفسهم بالقوة. كنت أستشعر في ذلك فضاء للحرية. في المغرب، تبقى العلاقات الجنسية خارج الزواج ممنوعة. ذات مساء في ليلة العام الجديد، كنت في سيارة مركونة، رفقة صديق لم يكن عشيقي، في انتظار أحدهم. كان عمري 17 عاما. اقترب منا شرطي، وسأل السائق من أكون. لم يخاطبني، ولم ينصت إليّ، ولم يجبني، كأنني كنت لا أُرى، ثم قال بالعربية: "إذا لم تكن أختك أو ابنة خالتك، فهي عاهرة". كان يعرف حق المعرفة أنني لست عاهرة. أدركت أننا كنا موضوع إهانات ممكنة أعظم من ذلك. لقد عالجنا المشكلة بأن أعطيناه بعض المال. لكن ما الذي يجري بالنسبة إلى النساء اللواتي ينتمين إلى أوساط متواضعة جدا؟ هل بعث بك والداك إلى فرنسا، في سن الثامنة عشرة، لاستكمال الدراسة، تحاشيا لهذه الأصناف من التمييز؟ لا. كان الأمر بديهيا، لأن العادة جرت في وسطنا أن نستكمل دراساتنا في فرنسا. عندما وصلت إلى فرنسا، والتحقت بالأقسام التحضيرية في سنتها الأولى، اشتغلت كثيرا، لكنني كنت حرة، ومنعزلة جدا، حيث ظللت كذلك مدة طويلة. لم أكن أعرف المدينة والقوانين، وكنت أشعر بأنني مبتذلة إلى حد كبير. لكن كان يراودني الشعور بأنني سأتغلب على ذلك، بقوة العمل والإرادة، وبما كان يجسده والداي. التحقت بمدرسة العلوم السياسية، ثم بمدرسة الاقتصاد. أي مهنة كنت تستشرفين؟ عندما كنت صغيرة السن، كنت أقول إنني أرغب في الحصول على راتب مقابل التفكير. كان حلمي هو هذا؛ أي حياة مكرسة بكاملها لقراءة الكتب! في فرنسا، بدا هذا الحلم ممكنا. إذ كان ينبغي أن تقودني هذه الدراسات إلى تحقيقه بالضرورة… لقد توفي والدي يوم استكملت دراساتي في العلوم السياسية. هنا، انتهت بعض الأشياء. انخرطت في السينما رفقة صديقة، وتلقيت دروسا في المسرح، رغم أنني لم أكن أرغب في أن أكون ممثلة، وأن أنتظر وأعول على الآخرين. كنت أتوق إلى حياة الجماعة، والخرجات، والمرح، والحرية، وحالة من حالات انعدام الأمن. ثم اكتشفت الصحافة بالمدرسة العليا للتجارة في باريس، والتحقت بمجلة "جون أفريك". هناك أنجزت العديد من الاستطلاعات حول المغرب الكبير… في نهاية المطاف، هناك التقيت بالمجتمع المغربي. كنت أملك جميع الأسباب التي تجعلني أغضب. كان بودي أن أغير مساري، لكن العكس هو الذي حدث، حيث كنت أريد أن أفهم وأنتمي. لقد مللت من كوني "الفرنسية الصغيرة". لم أكن أود أن أفقد ما يربطني مع أبي، ذلك أنه كرس حياته للمغرب. ذهبت إلى مناجم الفوسفاط، وحاورت عمالا وفنانين، واستشعرت ذلك الغليان الثقافي، وفهمت تعقيدات هذا المجتمع ومدى قدرته على مقاومة المخططات المانوية. فأحببت إنجاز الاستطلاعات، والبحث عن الفعالية والتفاصيل، وانبعاث السياقات من جديد. لكن ابني كان صغيرا، حيث رغبت في الاهتمام به أكثر. وعلى امتداد عشرين سنة، كنت أقول للناس: "تعلمون، يوما ما، سأكتب رواية". كيف ولدت هذه الموهبة؟ عندما كنت صغيرة، بما أن عالمي كان مملا إلى حد ما، حيث كنت أستمتع ببعض الهوايات الأخرى، وأعيد اكتشاف نفسي. كان والداي يبديان إعجابا كبيرا بالكتّاب. وأنا أيضا، تساءلت، في سن الثانية عشرة، عندما اطلعت على حيوات دوستويفسكي وموباسان ورامبو، وعما يكتنفها من سحر. بينما كانت حياتي ضامرة، حيث كنت أتوق إلى الرفعة، والعواطف الجياشة، وشغف العشق، والمغامرات، والأسفار! عندما توفي أبي، قلت في نفسي: "الآن أو مطلقا، وإلا ستقولين في سن الخمسين إنني سأصير كاتبة يوما ما…" قررت أن أستغرق سنتين، يوما بعد يوم. فإما أنْجح في كتابة رواية، وإما أن أصمت إلى الأبد. قدمت استقالتي من عملي. ودعمني زوجي في ذلك. وبالنظر إلى تربيتي المتمحورة حول العمل، فقد شرعت في الكتابة في اليوم الموالي، ابتداء من الساعة الثامنة. وهكذا، بدأت تجلسين أمام حاسوبك يوما بعد يوم… أجل، طيلة عام، كتبت وكتبت وكتبت، ثم كتبت رواية مقرفة أرسلتها إلى دور نشر عديدة، لكنها رُفضت. تجري أحداثها في المغرب الكبير، الذي كان يعيش شكلا من أشكال الثورة، وهي أشبه إلى حد ما بالواقعية السحرية على طريقة ماريو بارغاس يوسا. في نهاية المطاف، كانت تافهة. شعرت، في تلك اللحظة، بإحباط شديد، حيث انتابتني فكرة الاستسلام. لكن والدتي وزوجي أهدياني ورشة كتابة لدى غاليمار: "لم أكن لأصل إلى هنا لو…" لم ألتق بناشري "جون ماري لاكلافيتين". لولاه لما أصبحت كاتبة أبدا. لِمَ كان هذا اللقاء حاسما؟ لأنه كان مباشرا ورائعا. إذ رأى فيّ ما لم يره أحد. كان يدرك، قبلي، ما ينبغي أكون عليه، وما ينبغي أن أكتب. وقد أرشدني إلى ذلك. لولاه لما استطعت أبدا كتابة روايتي الأولى، ولا الثانية. ولولاه لما عرفت أن بمقدوري الكتابة. إننا ننخرط في حوار دائم وجوهري وعميق. وهو يعرف أشياء عني لا يعرفها غيره. إذ لا يمكن إلا أن أكون واقعية. اكتشفت موهبتك خلال ورشة الكتابة هذه؟ كان هناك نحو عشرين مشاركا، حيث طلب منا كتمرين شرح سبب الكتابة. وقد كتبت ما يلي: "من أجل المجد والرقائق والكوكتيلات في حي سان جيرمان دي بري…" كان نصا ساخرا جدا بالطبع، لأنني لم أستطع أن أجيب. فالأسباب التي تجعلني أكتب عصيّة عن الوصف، وهي أسباب حميمية جدا تجعلني أفضل أن أتعرى على أن أكشفها. أدركت أنه أعجب بما كتبت. فلطب مني أن أكتب مطلع رواية. أطلعته على مستهل رواية "في حديقة الغول". أثارت فضوله قصة هذه المرأة التي أدمنت ممارسة الجنس. أقنعني بمواصلة الكتابة. انتهيت منها بعد أربعة شهور، حيث اقترحت دار غاليمار نشرها. حدث ذلك سنة 2014، وبعد سنتين، ستنتزعين جائزة ال"غونكور" في سن الخامسة والثلاثين عن "أغنية هادئة"، روايتك الثانية فقط، التي بيعت منها 600 ألف نسخة… هل عشت بعض الصخب؟ إنه الجنون! يوم الإعلان عن ال"غونكور"، كان هناك 350 صحافيا يندفعون نحوي بقوة. كان الأمر غريبا ورائعا، ووجدت أن الفرنسيين يشهدون مثل هذا الاهتمام بالأدب! كنت عتيقة الطراز إلى حد ما. لكن كنت حاملا بابنتي بعد ابني، وبذلك كنت شاردة وهادئة. لطالما راودتني فكرة مفادها أن مصيبة ما ليست محتملة فحسب، بل هي ممكنة. أما عندما تحصل أشياء إيجابية، فلا بد من إعادة شحن البطاريات قصد الاستعداد للمأساة المقبلة. في روايتيك، هناك شخصية المربية التي تقتل الأبناء الذين ترعاهم، وقبلها الشخصية الشبقية التي تدمر ذاتها… هل تكتبين من أجل الإزعاج؟ أكتب لكي أخرج من اللغة وعلاقات الحياة اليومية الإنسانية المشروطة بالخوف، وبالعبارات اللبقة من الناحية السياسية، والأخلاق، والكثير من الأشياء التي تسكننا. فالأدب فضاء يتمتع بحرية واسعة، خاصة بفرنسا. لم يخلق أبدا ليكون مسليا. فنحن نكتب ونستحضر العار والخوف والأفكار السيئة، لنعبر عن كل شيء، ونبين كل شيء، ونتحدث عما لا نتناوله في الحياة الفعلية. ليست هناك حدود. مع ذلك، أنت لا تخرجين أبدا عن سجل المعاناة، عندما تتحدثين عن انشغالك بالكتابة… الكتابة بنسبة 80 في المائة هي كدح! عندما أستيقظ في الصباح، لا أقول: "يا له من أمر رائع! سأنكب على هذا المشهد الذي حاولت كتابته 187 مرة!" ثمة أيام أشعر خلالها بالضجر… آه، نعم! بالطبع! هناك لحظات متعة عظيمة، لحظات نكاد نغادر فيها أجسادنا، حيث نكون في حالة تركيز شديد بحيث نختفي وننسى ذواتنا ونتعالى عليها، كالرياضيين أو الفنانين الكبار. لكن الأمر يبقى محبطا على الدوام، لأننا لا نصل إلى المستوى المطلوب أبدا. أهنا يكمن وقود الكتابة؟ وهل بالإمكان إنجاز عمل أفضل من السابق؟ بالطبع! ولأن هذه الشخصيات تسكنني، فهي ترغب في أن تأتي، ولا أريد أن أحول دون ذلك، بل ينبغي أن أمنحها الحياة بطريقة ما. لطالما رافقتني هذه الأصوات، حيث تملأ عزلتي. وفي الوقت الذي أعيش فيه تجربة ما، أدخل غمار صياغة هذه القصة، أتخيل مشهدها، وأتصور الكلمات التي سأوظفها وأكتب في رأسي ما أعيشه. كتابك الأخير "الجنس والكذب.. الحياة الجنسية في المغرب" (الصادر عن دار "ليزارين") هو تحقيق صحافي غني بالشهادات. في نظرك، هل تعتبر معالجة هذه المسألة أمرا ملحا؟ نعم، هناك مغربيات بُحْنَ لي بأسرار، خلال جولتي الرامية إلى التعريف بروايتي "في حديقة الغول". لكن منذ بضع سنوات وأنا أشعر بالغضب تجاه النفاق الواسع السائد داخل المجتمع الذي ترعرعت فيه. إذ تنظّر السلطات لفضاء هذه اللعبة المزدوجة، وتمأسس الكذب. تقول: "افعلوا ما شئتم في بيوتكم، لكن لا تصرحوا به أمام الملأ". أنا أرغب في الحديث، رغم أن البعض لا يحتمل أن نضع مرآة لن تنعكس عليها الصورة بشكل ساطع، ورغم أن مشروعيتي تتعرض للطعن دائما، لأنني لا أمثل أي شيء، وأنني فرانكفونية وبورجوازية وليبرالية… أنا أنتمي ربما إلى أقلية، لكنني أريد أن أحظى بالاحترام. أريد أن تتحرر الكلمة، وأن أنخرط إلى جانب مناضلين يكافحون يوميا. عندما تكون هناك ستمائة عملية إجهاض سري خلال اليوم الواحد، ونعثر على رضّع في القمامات، وعندما يلقي النساء بأنفسهن من النوافذ عشية زفافهن، وعندما يُسحل المثليون في الشارع ببلادي، ولا نتظاهر بأي شيء، فالأمر يغدو حينها فوق طاقة الاحتمال. هل لأنك تحبين بلدك حبا جما؟ لا، لأنني أحب الحرية والكرامة، وأؤمن بكونية القيم، وبأن لا أحد يستحق أن يمارس الإجهاض داخل قبو، فوق كرسي بلاستيكي باستعمال ماء جافيل. لم "أبِع" نفسي للغرب، بل للحقوق الكونية. فأنا أتمثل وضع النساء في العديد من بلدان العالم، نساء اغتصبن أو هُجرن أو حجر عليهن أو أغلقت عليهن الأبواب، بلا حق في العمل، أو غطين بحجاب من الرأس حتى العقب، أو لقين حتفهن أثناء الوضع، فهذا كله يحرمني من النوم. ويلزمني باعتباري كائنا بشريا، فتتردد في دواخلي صرخة كل النساء. كما تعلم، لقد نشأت خلال العشرية السوداء في الجزائر، حيث ذبحت نساء على بضع كيلومترات مني، لأنهن رفضن ارتداء الحجاب، في عز الإسلاموية الناشئة. إلى جانب هذا، هل تبدو العنصريات وحالات العنف المستنكرة بفرنسا غير خطيرة؟ صحيح أن النساء في الدارالبيضاء لا يفكرن فيما إذا كانت الكياسة الفرنسية ستختفي! لكن لا بد من الإنصات إلى جميع الحوارات في هذه اللحظة التي يتحرر فيها الكلام. لا بد من كسر جدار الصمت وإحداث ضجة. لذلك، فأنتم تنقلون العار إلى الجهة الأخرى. فالصمت فخ للنساء، وهو في صالح المعتدين والنظام الأبوي. أنا أجد حركة #metoo استثنائية! وهي بمثابة كشف للنساء، والرجال، ولأطفالنا. فهي انبثاق للمجتمع النسائي. هل أنت مسلمة؟ الدين في نظري مسألة خاصة، ينبغي تركها في البيت. وهي لا تعني أحدا. ما أراه هو أن كل دين يمكن أن يُؤوَّل بطريقة ظلامية أو العكس، وأن يتضمن عناصر فريدة للتحرر والأمل وعلاقات الحب والسخاء وكثافة الحياة. اليوم، فالدين الإسلامي منغلق على جانبه الأسود، حيث توظفه عقول خبيثة، هي الأكثر صخبا، لكن الأمر سيبقى مجرد مرحلة من التاريخ. هناك أيضا أشخاص رائعون يكافحون ليكشفوا أنوار هذا الدين. أنت تعارضين البرقع، لكن ما رأيك في الحجاب؟ كنت في سن الخامسة عشرة، عندما رأيت الحجاب أول مرة. من قبل، لم يكن موجودا في المغرب. أما أولى النساء المحجبات، فكنا نسميهن ب"الإخوانيات"، وكنا نحذرهن. الآن، أصبح هذا الواقع مبتذلا، حيث يكاد عدد المحجبات يفوق عدد غير المحجبات. كلٌّ يفعل ما يشاء، لكن ينبغي ألا نكذب بخصوص الحجاب أو ننزع عنه قيمته الرمزية، على اعتبار أن النظام الذكوري هو من فرضه، لأنه كان يعتبر المرأة مغوية، عليها أن تحتجب. بعد ذلك، عرفت نساء يضعنه بكل حرية، وباختيار شخصي. لكن يجب ألا ننسى أبدا أن ملايين النساء أجبرن على لباسه، إما على يد أزواجهن أو آبائهن أو إخوتهن، وإما على يد الدولة. لا بد من الكفاح حتى تمتلك هؤلاء النساء حرية الاختيار. لِمَ قبلت أن تصبحي الممثلة الشخصية للرئيس ماكرون للفرانكفونية؟ قبلت ذلك قبل بضعة شهور من صدور كتاب "الجنس والكذب". يلومني بعض الأشخاص في المغرب، كما في فرنسا، لأني أكتب بالفرنسية، ويعتبرونني خائنة، أو مغربنة، أو عميلة للخارج، أو ضحية راضية بالكولونيالية الجديدة، في أحسن الأحوال. ويذهب البعض الآخر، في فرنسا، إلى حد اعتبار أنه يجدر بي، حال الكتابة عن المغربيات، أن أفعل ذلك بالعربية. وهم يتسترون تماما على أنه توجد في المغرب حياة ثقافية فرانكفونية، وبعثات، ومسرحيات، ونقاشات بالفرنسية، وأن 20 في المائة من الكتب المنشورة في المغرب تصدر بالفرنسية. أنا أنحدر من بلد متعدد اللغات، حيث يمثل هذا التعدد فرصة يجب الحفاظ عليها. لكن البعض يتظاهر بتجاهلها، وهو أمر يثير استيائي. باختصار، تبدو لي هذه العلاقة الإيديولوجية باللغة متجاوزة ومقلقة في الآن ذاته. وهي تغذي خطاب الإسلاميين الذي مافتئ يردد أننا نملك لغة واحدة، وكتابا واحدا، وأفقا ممكنا. أعتقد أنه لا بد من الدفاع، من أجل صالح الأجيال المقبلة، عن علاقة حرة ومرحة ومتعددة باللغات وإبعادها عن التقاطبات الإيديولوجية. هل أنت بصدد كتابة رواية جديدة؟ ألا ترهقك جائزة ال"غونكور" بضغطها الكبير جدا؟ لا، بل منحتني بعض الثقة. أقول في نفسي: "ينبغي أن تكوني كاتبة على كل حال. ربما كان جون ماري (لاكلافيتين) على حق، لما قال لي إنك ستكتبين عدة روايات أخرى". لن أكون ضحية نفسي. وسيكون ذلك بمثابة تقليل من الاحترام الواجب لأشخاص يتمتعون بموهبة رائعة، لكنهم لم يعرَفوا. أن تكون كاتبا يعني أن تعمل بجد. لقد حالفني الحظ بشكل كبير. في جعبتي مشروعان روائيان، ولا أعرف أيهما سيكون هو المقبل. لجون ماري الاختيار بينهما. سأنتهي إلى الأخذ برأيه. عن جريدة "لوموند"