في بداية التسعينات من القرن الماضي، و بينما كنت معتقلا، أتيحت لي الفرصة لمغادرة سجن عين قادوس بفاس في إتجاه السجن المركزي بالقنيطرة قصد متابعة دراستي الجامعية بالسلك الثاني و الثالث بشعبة العلوم الاقتصادية، بجامعة محمد الخامس بالرباط، و هناك تعرفت على العديد من الرفاق المعتقلين القدامى و الجدد منهم، أولائك الذين أصبحوا اليوم جزءا لا يتجزء من الذاكرة المشتركة لمغرب النضال من أجل الديمقراطية و الحرية. بهذا السجن الذي حطت فيه الرحال، عشت تجربة فريدة من نوعها على العديد من المستويات، و سيجيء اليوم الذي سأحكي عنها بكل صدق و افتخار و اعتزاز. و إذا كانت غايتنا هنا بعيدة عن حياكة خيوط ذلك الماضي العنيد و الجريح، ليس هروبا من مستويات أطواره الأيديولوجية و السياسية و التعليمية و الثقافية و الإعلامية و الحقوقية، فلأن الغرض اليوم هو استحضار إحدى الذكريات التي جمعتني بالمعتقل السياسي السابق عبد الله الحريف الذي سلمني ذات يوم من أيام فبراير 1990 ، بإحدى "زنازن المركزي"، بعض الكتب السياسية و النظرية على هامش جلسة نقاش و حوار حول تجربة الطلبة القاعديين التقدميين بجامعة سيدس محمد بن عبد الله بفاس بحضور الصديق بوبكر الخمليشي. و من بين هذه الكتب، أتذكر كتاب " الشيوعية: أية نفحة جديدة؟" للفرنسي "لوسيان سيف"، أستاذ الفلسفة و أحد نشطاء الحزب الشيوعي الفرنسي منذ سنة 1961 الى أن غادره سنة 1994.
و منذ ذلك اليوم و أنا أتابع بعض كتابات و إجتهادات "لوسيان سيف"، كتلك المتعلقة في غالبيتها بالحوار الخصب بين اليسار الماركسي الأوروبي، و خاصة دفاعه المستميت عن ماركس و قدرة الماركسية على التجاوب مع العصر الصناعي.
إن الترحيب الجيد الذي حظيت به أنذاك من لدن كل المناضلين المعتقلين هناك ( من مجموعة إلى الأمام و من بينهم المرحومان السرفاتي و بنزكري، و من مجموعة 23 مارس و لنخدم الشعب و رفاق الدريدي و بلهواري و رفاق عبد الحق الشباضة ومجموعة 26 و مناضلين آخرين)، وقصة هذا الكتاب التي جمعتني بالاستاذ عبد الله الحريف ( الكاتب الوطني السابق للنهج الديمقراطي)، جعلني أتوقف في العديد من المحطات لأقرأ من جديد فصول كثيرة من أطوار هذه التجربة التاريخية. و هي دروس في العلاقات الإنسانية أولا، و في خبايا تجارب نضالية مقاومة غنية ثانيا. إنها مناسبة تاريخية دفعتني منذ ذلك الحين للبحث و التنقيب في أسرار تجربة اليساريين المغاربة و طبيعة أنظمة الحكم السلطوي و التحولات التي شهدتها بعض المجتمعات و نتج عنها أنظمة حكم ديمقراطي.
و خلال هذا المسار الشاق و المتعب، اكتشفت إشكالات أخلاقية و سياسية جديدة لا تقتصر فقط على النضال الطبقي و تحليل المجتمع الصناعي و دراسة الأنظمة السياسية و الديمقراطية و الحكم الفردي، بل تهتم بالحياة السعيدة للإنسان القائمة على العدل و الإنصاف و إقتسام الثروة. و هي قيم لها أسس يقيم عليها الفلاسفة و المفكرون أطروحتهم لتحليل الممارسة السياسية و الأخلاقية في المجتمع.
لقد أهتم الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي "رايمون أرون"، صديق "جان بول سارتر"، هو الآخر بالمجتمع الصناعي في كاتبه "صراع الطبقات" موضحا أنه ليست أمامنا تجربة و حيدة للتطور بل تجربتان: تجربة العالم الغربي ( الولاياتالمتحدة و أوروبا الغربية) و تجربة الأنظمة التي تدعي دون تمييز اشتراكية أو شيوعية أو سوفياتية، و تساءل في نفس الكتاب عن كيف يثير نمو القوى المنتجة، في هذا النظام أو ذاك، نضالا طبقيا. ورغم الانتقادات التي وجهت له، ظل "ريمون آرون" حذرا من السياسة، و مزعجا يصعب تصنيفه سياسيا، خاصة من طرف دائرة المحيط الثقافي و الجامعي المقرب من "ألتوسير و سارتر" و آخرين منذ صدور كتابه "أفيون المثقفين". أما تحاليله التي اقترنت بالإيديولوجيات ومواقفه من التوليتارية، دفعتني للتعرف كذلك على الكاتب و المفكر الفرنسي "أندريه مالرو" الذي تعرض هو الآخر للنقد بسبب مواقفه السياسية. لكن كتاباته الفكرية و الأدبية و النقدية مثل "الشرط الإنساني" و "الأمل"، جعلته يتبوأ مكانة عالمية خاصة، منذ أعلن مساندته للجمهوريين الأسبان و سارع للنضال ضد الديكتاتور الفاشي "فرانكو" جنبا إلى جنب "ارنست همنغواي" و آخرين.
طبعا لم تكن لدوائرنا التنظيمية و شبكاتنا الاجتماعية و مجموعاتنا النضالية إمكانيات عرض و تقديم مثل هذه التجارب لعموم المناضلين، و لا مقومات البحث عن إجابات مختلفة للتساؤلات المتعلقة بقضية العدالة الاجتماعية و الإنصاف الاجتماعي، حتى صرنا لا نعير الاهتمام لما تتطلبه الأزمات الاجتماعية من تحليل و فق محددات واقع العصر و متطلبات الأجيال الجديدة و ابتكار ثقافة ملتزمة، مبدعة، متفتحة و منفتحة، فحرمنا من التربية على الاختلاف و الإيمان بالتعددية و احترام الآخر، لأن الجديد لا يوجد في ما نقرؤه و في المعارف المسلم بها، و إنما في ما نقوم بإبداعه كل يوم.
لم تتح لي الفرصة مرة أخرى لمحاورة الأستاذ عبد الله الحريف حول ما بعد كتاب " الشيوعية: أية نفحة جديدة؟"، و حول أزمة الإبداع السياسي ببلادنا و حول ضرورة الاعتماد على الذات لقلب المسلمات الإيديولوجية، و حول الثورة التشيكوسلوفاكية و رحيل "غوسطاف هوساك" و نظامه الشمولي كما حدث في رومانيا مع "تشاوسيسكو"، و حول التقلبات التي عاشها العالم بعد سقوط جدار برلين و التي غيرت مسار التاريخي السوفياتي و الأمريكي و الأوروبي و الدول التي كانت على هامش هذا العالم أو ذاك، بما فيها دول أمريكا اللاتينية و آسيا و إفريقيا و العالم العربي.
لقد كانت بداية هذه التحولات التي شهدها العالم مع الثورتين الفرنسية و الأمريكية، و كان لزاما على الإنسانية تحمل الحرب العالمية الأولى و الثانية لإقرار انتقال السلطة من أنظمة استبدادية، شمولية و تسلطية إلى أنظمة ديمقراطية شملت دول أخرى بعد الحرب العالمية الثانية كألمانيا، النمسا، ايطاليا و اليابان. و منذ السبعينات شملت دولا مثل اليونان و اسبانيا و امتدت لأمريكا اللاتينية و بلدان آسيا، ليصل الانتقال الديمقراطي مع نهاية الثمانينات و االحرب الباردة إلى دول أوروبا الشرقية و المجر و ألمانيا الشرقية و تشيكوسلوفاكيا كما أشرنا إلى ذلك. و يرى الباحث "نادين عبدالله" (باحث بمنتدى البدائل العربي)، أن مميزات الموجة الرابعة للإنتقال الديمقراطي تكمن في عملية التحول نحو الديمقراطية و الانتقال السلمي للسلطة الذي حصل أثناء و من خلال الانتخابات، أي إنه تمحور حول العملية الانتخابية ذاتها و عن طريق ديناميكيتها و فعاليتها.
كل هذا و أشياء أخرى حصلت في العالم منذ آخر لقاء جمعني بالاستاذ عبد الله الحريف بالسجن المركزي بالقنيطرة. و هنا أقول للأستاذ الفاضل الحريف، لقد أضحى واضحا أن المهم في التاريخ ليس نشاط الأشخاص المنفردين و لو كانوا عظماء و مشاهير، إنما التغيرات الموحدة للجماهير الواسعة. نعم في المجتمعات الصناعية تسمى هذه الجماهير من الناس بالطبقات، فقط علينا استخلاص الدروس و العبر من تاريخ هذه المجتمعات للتمييز بين المجتمعات الصناعية و ما بعدها من جهة، و بينها و بين "مجتمعات التأخر التاريخي" (بلغة الراحل عبد السلام الحيمر) من جهة أخرى. و هنا أستحضر كتاب الإقتصادي الفرنسي "ثلاث محاضرات حول المجتمع ما بعد الصناعي" لصاحبه دانييل كوهن، الذي قمت بتدريسه لطلبتنا في المعاهد التكنولوجية و في سلك الماستر، و غايته حياكة و نسج أهم معالم المجتمع العالمي الذي نعيش فيه. هذا الكتاب، لقي إقبالا و ترحيبا لدى عموم الطلبة داخل المغرب وخارجه، و الذين و جدت لديهم حاجة ماسة للتعرف على الثورات الجديدة التي حصلت في العالم منذ الثورة الصناعية و التي نتكلم عنها في الجامعة المغربية قليلا. و هي الثورة التقنية و الثورة الاجتماعية و الثورة العالمية.
و هذا يجرنا للاعتراف بدور العلوم الاجتماعية المرتبط بتغير طابع الواقع التاريخي و بتعاظمه الشديد نظرا لما تتصف به المرحلة المعاصرة من تطور اجتماعي، و ما تفرضه من نماذج اجتماعية و اقتصادية و سياسية مرتبطة فيما بينها. كما لا بد من الإشارة في هذا الباب للعديد من التصورات و الدراسات التي تفسر لنا الأساس الاقتصادي و الاجتماعي المشترك لنظامي الانتاج الاشتراكي و الرأسمالي، كما عبرت عن ذلك دراسات عالم الاجتماع اّلألماني "رالف دارندوف" حول موضوع "المجتمع الصناعي"، و "المجتمع ما بعد الصناعي" عند "ألان تورين" و "مجتمع الاستهلاك الشعبي العالي" كما نجده عند "والت ويتمان روستو". و انطلاقا من هذه التراكمات النظرية الجديدة، أقول للأستاذ الحريف أن الجيل الجديد من شبابنا في حاجة للإطلاع على تراث جيل آخر من المفكرين الذين يرون أن الصراع الطبقي في التصور الماركسي التقليدي الذي يدور حول ملكية وسائل الانتاج، لم يعد السبب الوحيد للصراع داخل المجتمعات، و أن ممارسة الزعماء السياسيين في العديد من التجارب أدت إلى ديكتاتورية الحزب و المكتب السياسي بدلا من ديكتاتورية البروليتاريا.
و أن في العديد من الحالات يظهر أن المجتمع يحافظ على النظام بواسطة ما يعرف بالضغوط القوية وقوة السلطة التي تفرضها بعض المواقع الاجتماعية في مجتمع ما على المواقع الأخرى. وهذا التوزيع التفاضلي للسلطة هو العامل الحاسم في نشوء وتبلور الصراعات الاجتماعية. كما أن هناك من المفكرين من يرى أن ما يحدث من تطور داخل أنظمة الإنتاج الصناعية و ما تفرزه من علاقات اجتماعية ، سيضعف الايديولوجية و سيقرب بين الاشتراكيين و الرأسماليين.
و نحن نستعرض هذه النماذج التي تنتعش حولنا اليوم، نؤكد على ضرورة البحث و الدراسة و الانفتاح على العلم و الفكر، لكي لا نساهم في الاعتقال السياسي للمسار الديمقراطي التي تعيشه بلادنا، و حتى لا نعمق الأمية السياسية بيننا و نتيه في المعارك الثانوية و ننسى الرهانات الكبرى التي تدور اليوم حول العلم و المعرفة.
طبعا لا يجادل اليوم أحد في ما أحدثته الكولونيالية من تحولات في البنيات الإجتماعية - السياسية التقليدية للمغرب، و ما فرخته من مفاهيم و علامات سوسيو- إجتماعية و ايديولوجية و دينية، و ما أنتجته هذه التحولات التي عكسها علم الاجتماع السياسي الكولونيالي. كما لا تنسى ذاكرة المغاربة الموشومة بماهية التبرير الأساسي للسيطرة الكولونيالية على المغرب، و المتمثل في عجز النظم و الأعراف المغربية عن خلق أسس نمو رأسمالى في المغرب. وللجواب على هذا الوضع المغربي الجديد، برز بعض الرواد و الباحثين السوسيولوجيين أمثال "ميشوبيلير" المهووسين بالبحث عن الوثائق التي تسمح بدراسة المغرب و إعادة تأسيس تنظيمه و حياته، و التنقيب على المعلومات التي تخص الجماعات و القبائل و الأسر من أجل فهم ما يجب فهمه في أفق فرض الوصاية على البلد وعلى بلدان أخرى من بلدان البحر الأبيض المتوسط من سوريا إلى المغرب، كما كان ينظر إلى ذلك عالم الاجتماع "بول باسكون" (أنظر "نمو الرأسمالية في عهد الحماية في حوز مراكش").
لكن لسنا الشعب و لا المجتمع الوحيد الذي عاش هذيان القرن الواحد و العشرين، و اكتوى بنيران الكلونيالية و الاستبداد. فالقومية و الفاشية و النازية و شيوعية الأنظمة المتوحشة و غيرها، كلها أشكال غازية أغرقت العديد من المجتمعات و الشعوب في الحروب و القمع و التسلط والميز و التخلف، و رغم ذلك انتصرت و تحررت (هذه الشعوب) و أرست آليات و مقومات الدفاع عن الديمقراطية المتعلقة بالمؤسسات رغم وجود تيارات توليتارية داخل حركاتها.
كما أن الكل يعلم أنه و بعد عقود من الزمن، تبين بالملموس أن ما كانت تهدف إليه الكلونيالية هو إجراء إصلاحات عميقة قي قلب البنيات المغربية مع الحفاظ على مظهر السلطة/السلطات التقليدية، و إرساء دينامية ذاتية غريبة عن بلدنا.
نعم.. لقد عمرت الحماية أربعين سنة، تخللها هدم النظام القديم و تطور اقتصادي و اجتماعي غير طبيعي، و تفسخ في البنية المجتمعية القديمة، و تحكم في خيرات البلاد و مصيرها السياسي، و الاستحواذ على ملك الدولة: "الأحباس" و "الجيش"...، و حجز أملاك المغاربة الذين وقفوا ضد الكلونياليين، و احتلال أراضي أخرى من طرف القياد و البشوات (حوز مراكش نموذجا صارخا)، و استخدام عمالا مأجورين ب"الخبزة" و ب"الخمس"، و طرد الأهالي و إخلاء مناطق و أماكن بكاملها، و حصر السكان في مناطق محددة، و خلق المعامل و الخدمات ووظائف للمأجورين، و انتشار أحياء القصدير و أكواخ من الخشب و "النوالات" (ظهور أولى أحياء الصفيح و القصدير في مكناس منذ 1900 و "كاريان سنطرال" في مدينة الدارالبيضاء في العشرينات من القرن الماضي).
إنها مرحلة تاريخية استثنائية تغنت بها الكلونيالية و روجت لنتائجها، معتبرة دولتها ممركزة ثابتة تمثل مصالح جميع طبقات الأمة و تسعى لخدمتها، و الأمة من جهتها واعية بوحدتها موالية لحكامها. أما المغرب، فالمخزن - في نظرها - هو الذي يمثل الدولة، و هو (أي المخزن) جهاز طفيلي لا غير، فرض نفسه على الأهالي في البداية بالسيف و لا تبقى سيطرته إلا بالسيف. يعيش على الابتزاز المالي و على الضرائب و لا يؤمن حاجيات الأهالي، و القمع هو جوابه على الإحتجاجات.( أنظر "جرمان عياش": حول تكوين وحدة الشعب المغربي، المجلة المغربية للاقتصاد و الاجتماع، ع. 4/1978).
و اليوم، و بعد سنوات من التجربة و الخطأ، إكتشفت أننا لا زلنا نجتر السوسيولوجية الكلونيالية بخيرها و شرها، و لا نكلف أنفسنا عناء الإبداع و الاجتهاد. كما إقتنعت أن الانتقال الديمقراطي ببلادنا ليس معتقلا في زنازن السلطة فقط، بل كذلك داخل مقرات و برامج الأحزاب السياسية و النقابات و جمعيات المجتمع المدني، و أن الشعب ينتظر الافراج عنه منذ حكومة ذ. المناضل عبد الرحمان اليوسفي.
و هنا أستحضر عالم الاجتماع الألماني "ما كس فيبر" و هو يتحدث عن الشرعية الاجتماعية التي تكتسبها بعض الفئات الاجتماعية في مجتمعاتها، و ذلك لمحاولة فهم دينامية العلاقة بين الدولة و المجتمع في سياق انهيار الدولة التقليدية و نخبها المهترئة في العديد من دول العالم العربي. كما أستحضر ما كتبه "برهان غليون" في كتابه "بيان من أجل الديمقراطية"، حول إحدى الحقب الزمنية من التاريخ العربي الحديث، و تفسير ما وصل إليه العالم العربي، خاصة بعض التجارب التي حصلت في المشرق (مصر، سوريا، العراق)، لنفتح اليوم حوارا جادا حولها (التجارب) و حول ما آلت إليه.
و إذا كان الدافع اليوم من استحضار هذه الإشكالات هو محاولة فهم ما يجري من حولنا من انهيار "الدولة العربية" التي ظلت أقوى من مجتمعاتها حقبا طويلة، وعجزها عن التجاوب مع طموحات و تطلعات شعوبها، و استعداد قوى متربصة، مضادة، لنصب المشانق الفردية و الجماعية في كل مكان؛ فإن اختيار توجهات جديدة، ديمقراطية و حداثية، و مقاربات موضوعية للتفكير في الظواهر الاجتماعية مثل النزاعات الاجتماعية، والايديولوجية، و الدين، و السلطة، و العنف، و النظام، و الحرب، و الرأسمالية، إلخ، تتطلب من الجميع حوارا مجتمعيا من أجل تقويم نقدي و رؤية مستقبلية تضع نصب أعينها جيل جديد من المغاربة، لم يتربى في حضن الصراعات الايديولوجية و لا في أحضان أحزاب لا تمثل سوى نفسها و حاشيتها، و لا في جمعيات "بارا- ميليشياتية-؛ جيل لم يصنع مجده بانتمائه لهذه العائلة السياسية أو النقابية أو الجمعوية أو لهذه العشيرة الدينية أو تلك.. إنه جيل المدرسة، و الكفاءة العلمية و النخب المتعلمة، جيل الشهادات الجامعية في مختلف التخصصات، جيل الشهادات العليا المعترف بها عالميا، جيل يبني مشروعه الجديد على قاعدة المشروعية الديمقراطية و الإنصاف و المصالحة.
و لعل ما نعيشه اليوم من ردة سياسية حقيقية، يبدو - حسب العديد من المؤشرات - مرتبطا باستمرار العقلية التوليتارية و الزعماتية الماضوية الرافضة لاستغلال كل مساحات الضوء و استغلال امكانيات تغيير حقيقي لميزان القوى لصالح مجتمع حداثي ديمقراطي، قائم على الانصاف و العدالة الاجتماعية و على صيانة الوحدة الوطنية، و على أساس الترابط المتين بين المواطنين و المؤسسات الديمقراطية التي تمثلهم، و على دور الأنظمة التحتية في تكريس الوساطة داخل المجتمع ( العلاقة الوسطية بين الدولة و جمعيات المجتمع المدني و النقابات و مؤسسات أخرى ذات الطابع الاقتصادي و الاجتماعي).
لقد كانت الوضعية (ثمرة الفلسفة الوضعية) التي إزدهرت في النصف الثاني من القرن 19، تعتقد جازمة بأن العقل و العلم هما اللذان ينبغي أن يقودا البشرية نحو الحضارة و التقدم و الرقي ( العلم بدل الدين)، و بالتالي يجب أن يحلا محل اللاهوت المسيحي التقليدي (ضد محاكم التفتيش و تأخر المجتمع)، حيث من المعلوم أن هذه الفلسفة رافقت صعود المجتمع الصناعي و نتج عنها الإيمان المطلق بالعلم و التكنولوجيا. و لكي يكون لهذا التحليل معنى و تجسيد مادي على أرض الولقع، كان لا بد من ثورة " جول فيري" صاحب المدرسة العلمانية المجانية الاجبارية في فرنسا، و هي الثورة التي أعدمت الأمية بدون رحمة و لا شفقة، و ساهمت في خلق و طن جديد تكلف برعاية جيل جديد من البشر و المؤسسات. فما أحوجنا لثورة "جول فيري" حتى يعيش الجيل الجديد من المغاربة في أحضان العدالة التعليمية و الاجتماعية و الثقافية والعلمية، و حتي يساهم الجميع في بناء المجتمع الحداثي الديمقراطي.