ليست الكتابة الفلسفية بغريبة عن الأستاذ علال الفاسي رحمه الله تعالى، فللرجل باع في ذلك، وهو ما يلاحظه من اهتم بتراثه، وبخاصة كتابه النقد الذاتي وكتيبه عن الحرية. وليس المجال هاهنا مجال البحث في الكتابة الفلسفية عند هذا الرجل، وإنما المجال مجال نظر في محاضرة ألقاها في بداية الستينات، ونشرتها مجلة الإيمان في حلقتين (1). وهذه المحاضرة الموسومة ب: هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟ تكشف عن وعي علال الفاسي بالذات ووعيه بالآخر، ووعي بطبيعة العلاقة التي ينبغي، في نظره، أن تربط الوعيين ليغتني الأول بالثاني، ويكشف عن قدرته في اكتشاف ذخائر الذات ومكتسبات الآخر لمواكبة العصر. يقترح الأستاذ علال الفاسي رحمه الله تعالى تناول الموضوع، الذي يعتبره من الموضوعات القيمة التي ينبغي تناولها بالدرس والتمحيص (ص 8)، من خلال جملة أسئلة تسمح له بمقاربة الموضوع من أطرافه وهذه الأسئلة هي: 1 ماهي الفلسفة؟ 2 ماهي الآفاق التي ترتادها؟ 3 ماهو الإسلام؟ 4 هل آفاق الإسلام نفس آفاق الفلسفة أم تتجاوزها إلى ما هو أشمل؟ 5 هل دعا الإسلام إلى الفلسفة أم لا؟ 6 ما الفلسفة التي حث عليها الإسلام وما الفلسفة التي حذر منها؟ سنحاول النظر في هذه الأسئلة من خلال مبحثين: مبحث يتعلق بموقف علال الفاسي من الفلسفة. مبحث يتعلق بما أسماه علال الفاسي فلسفة الإسلام. لنختم هذا القول ببيان مدى حاجة الإسلام إلى فلسفة، وعلاقة ذلك بالفلسفة بصفة عامة. علال الفاسي والفلسفة يربط الأستاذ علال الفاسي ظهور الفلسفة بالدهشة مثلما يصنع أفلاطون وأرسطو فالإنسان في أول مرحلة من حياته خرج إلى الوجود، فبهره بما فيه من قوى عظيمة... (ص 8) فينظر إليها ويعتبرها من جهة دلالتها على قوى غيبية يشعر في فطرته بقربه منها (ص 9)، وسيتجمع لهذا الإنسان من خلال تأملاته، التي يثيرها فيه أيضا إحساسه بالضياع في هذا الكون، نظرات مختلفة ودلائل متنوعة، فيتطلع إلى بناء نظرة نسقية للكون حيث يجعلمن كل الظاهرات التي يراها عالما مستقلا له روابطه ونواميسه (ص 9)، وذلك ليحدد علاقته بالكون ومكانه منه ويعرف مصدر وجود الكون (ص9). ومن هنا يتميز النظر الفلسفي عن النظر العلمي، فالنظر العلمي نظر مختص، في حين أن النظر الفلسفي نظر عام يبحث في الوجود المجرد، ولكن يقترب النظر الفلسفي من النظر الرياضي في أن كلاهما يبحث في الوجود... من جهة الوجود، بقطع النظر عن كونه طبيعة أو مادة (ص 9) فينشأ بذلك مضاهاة الفلسفة للعلم، ومنافسته له، إذ تتخذ الفلسفة من التفكير وسيلة لمعرفة الوجود كحال العلم نفسه (ص 9). وهذا التصور يكشف عن رؤية متقدمة لعلاقة الفلسفة بالعلم، لكن هذا لا يعني أن ليس للفلسفة كيانا خاصا فالفلسفة معرفة طريقها الفكر، ولكنه فكر من نوع خاص فللفلسفة خصوصيات تميزها وتعطيها فرادتها، ولعل هذه الفرادة آتية من فعل التفلسف، فالفلسفة ليست هي الحقائق... ولكنها الطريق، إنها الفكر الحر وأسلوب الدرس والاستقامة في البحث. فالفلسفة هي منهج وفعل وفكر يتضافران للقيام بوظائف معرفية ووظائف أخلاقية؛ فقد اتخذ الإنسان الفلسفة ليعرف منها الحقائق، ويسلك بها طريق التحلي بالفضائل، والفكر الفلسفي يعتمد البرهان والتساؤل، ويعتمد العقل (ص 10)، كما تأتي فرادة الفلسفة من أن المباحث التي تتناولها لا تخرج عما قرره الفلاسفة من بحث في الموجود المحسوس والمعقول، وبحث في القيم (الخير والشر والجمال والقبح) (ص 9). تيارات في تاريخ الفلسفة يعرض علال الفاسي أسماء لتيارات فلسفية حديثة وقديمة، مبرزا موقفه منها، فينتقد أصحاب النزعة الوضعية مبرزا أن خلاصة الفلسفة عبر تاريخها الطويل من طاليس إلى ديكارت هي الثقة بالعقل، متخذا ذلك مناسبة لإبراز كيف ساد العقل بعد صراع مع عقائد العصر ومع تشكيك السفسطائية، ومع إقصاء المسيحية للعقل، لكن سينتصر العقل مع سقراط وأفلاطون قديما، ويسود الفكر الحر في عصر النهضة ليصبح العقل في وضعية غير مستقرة؛ فمن مؤمن به ديكارت ومن منكر له (لوك وهيوم) إلى مؤمن به في العلم ومنكر له في الميتافيزيقا (كانط). ويقف علال الفاسي عند الجدلية التاريخية (المادية الجدلية) باعتبارها كانت سائدة في عصره ولها صولة، فلسفة وإيديولوجيا وقوة عسكرية كبرى، عارضا النظرية الماركسية من خلال أقطابها وخصومها (ص 12) مقررا الطابع المادي والإلحادي لها، غير غافل عن أن الماركسية (هي) محاولة أخيرة... لننقل الفلسفة إلى خدمة المجتمع (ص 12). فلسفة الإسلام لا يعرض علال الفاسي تصوره للإسلام بمعزل عن الهاجس الذي يحركه في هذه المحاضرة، وهو التساؤل عن علاقة الفلسفة بالإسلام، وبدقة أكبر هل للإسلام فلسفة؟ فالإسلام جاء باعتباره دينا إلهيا يستجيب للفطرة ليؤكد وحدة الدين ضدا على هذه التيارات التي تقر بالخالق وتجعل له شريكا من اليهود والنصارى والمجوس والصائبة والمشركين (ص 12). ومن هنا أهمية التوحيد في الإسلام. فالتوحيد هو جماع العقيدة الإسلامية، وهو صنفان: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. ويعتقد الأستاذ علال الفاسي أن التوحيد هو المنبع الذي يستخرج منه كل ضروب الفلسفة في الإسلام والتي تتفرع إلى ثلاث: معرفة الوجود الحقيقي، معرفة مركز الإنسان في الوجود، معرفة القيم الأخلاقية (ص 22). وقد عمل الرسول الأكرم، من جملة ما عمل، على تعليم الناس الحكمة التي هي المسماة في عرف العقليين اليوم بالفلسفة (ص 23)، هذه الحكمة التي تستنتج من النظر في ملكوت الله عندما تنفتح العقول، وقد رغب الإسلام في أن يمارس الناس الحكمة، وقد كانت مهمة الرسول عليه السلام تدريب الناس عليها من خلال تدريبهم على الفهم والعلم والفقه في شؤون الحياة (ص 23)، وقد عمل القرآن الكريم على توجيه الناس إلى الفلسفة بدعوتهم إلى الفكر ومناهضته للتقليد. وينبه الأستاذ علال الفاسي إلى حقيقة مهمة وهي أن الإسلام عندما وجه المسلمين إلى الفلسفة، فإنه لم يوجههم إلى أن يتلقفوا ما يقوله الفلاسفة، ولكن وجههم إلى استخدام عقولهم في النظر الصحيح، فالفلسفة تعني النظر والدليل لا النتائج التي يجب على الناس أن يستنتجوها (ص 25). فعلال الفاسي هنا في انتصاره لفعل التفلسف أشبه بما صنعه ابن رشد في كتاب فصل المقال الذي يبدو أنه أثر في الفكر المغربي الحديث كما نجد عند الحجوي في محاضرته التعاضد المتين (2) هل الإسلام بحاجة إلى فلسفة؟ يميز الأستاذ علال الفاسي في الإجابة عن هذا السؤال بين أمرين: فإذا كان المراد من السؤال النظر والتبصر، فالإسلام راغب في أن يكون المسلمون فلاسفة حكماء وإذا كان المراد نظرية من النظريات، فمعنى ذلك الحكم على الإسلام بأنه لم يأت بما يسد حاجة البشر لا في ميدان العقيدة ولا في ميدان العمل (ص 25) تمكن الثقافة الدينية الواسعة للأستاذ علال الفاسي من أن يعرض خطوطا عامة لنظرية فلسفة الإسلام؛ الفلسفة الحقيقية التي هدى إليها القرآن وأرشد لأدلتها (ص 26)، وهي الفلسفة التي حيل بينهم وبينها قديما، عندما اشتغلوا بالكلام والمنطق الصوري. وحديثا عندما شغلوا بنظريات الفلاسفة الغربيين (ص 26)، وسيقدم الأستاذ علال الفاسي هؤلاء المفكرين الذين أبرزوا في نظره ما يسميها بالفلسفة القرآنية من أمثال ابن تيمية الذي سبق بيكون وجود ستيوات ميل! والغزالي الذي سبق كانط وسبق هيوم! وابن خلدون مبتكر علم العمران، فهؤلاء الأقطاب الثلاثة الذين يسميهم علال الفاسي بالفلاسفة الاستقرائيين أبانوا عن حدود الفلسفة اليونانية، بل وسبقوا الفكر الحديث في أمر الفلسفة!! (ص 27)، وما صنعوا ذلك إلا لأنهم كانوا من المستقلين في آرائهم... يعتبرون أن الفلسفة هي كل محاولة عقلية لتفهم الكون وبناء المجتمع، أي أنهم كانوا ينتصرون لفعل التفلسف، وليس لما ينتجه هذا الفعل. ومن هنا نجد الأستاذ علال الفاسي يجأر بأن الإسلام ليس بحاجة إلى فلسفة ينتحلها من غيره، لأن له من أصول الحكمة والنظر ما يغني عن الفلسفات، لكن هل يعني هذا أن على المسلمين أن يرفضوا فلسفات الآخر؟ في العلاقة مع الآخر إن الإحساس بغنى الذات لا يعفي من الانفتاح على الآخر المختلف، ومن هنا ضرورة الاتصال بالفلسفات الأخرى لكن على أساس أن يكون الحكم في نتائجها وأساسها (ص 27)، وينبه بالآخر والاتصال الذي يقيمونه به اليوم؛ فقديما اتصل المسلمون بفكر اليونان والفرس والهند في ظل سيادة الحضارة العربية الإسلامية، أما اليوم فيتم الاتصال في ظل سيادة الحضارة الغربية، مما يجعل المسلمين في وضعية خاصة، وصعبة تفرض عليهم فيها الفلسفة فرضا، فينظرون إليها نظرة قداسة، ويتهافتون عليها، فينشأ بحسب تأثرهم بها اختلافهم. ولعل علال الفاسي كان ينتقد حالة خاصة سادت الستينات، واستمرت في السبعينات من القرن العشرين. ويدعو الأستاذ إلى أن يتحرر المسلمون من وهم كمال الفكر البشري الذي: إما أن يقلد، وإما أن يموت، داعيا إلى العودة إلى النفس لتأسيس فلسفة خاصة بالمسلمين، دون أن ينعزلوا عن تيارات العالم، مع الانتصار للعلم وللفكر وللقيم الكبرى، عوض قيم التطاحن بين الناس والحرب الدائمة والتنافس في الهدم. عود لبدء وأخيرا فلم يخل عصر الأستاذ علال الفاسي من هذا الجدل الخالد الذي يطبع علاقة الدين بالفلسفة عموما، وهذه المحاضرة التي جاءت إجابة عن سؤال طرح منذ أربعين سنة خلت، تكشف طبيعة هذا الجدل بين الإسلام والفلسفة خاصة. وقد حاول الأستاذ بعقلية الفقيه المنفتح على ثقافة عصره أن يقدم إجابة تدل علي رغبته الأكيدة في الجمع بين المنقول الصحيح والمعقول الصريح. وقد سلك مسلك الفقيه حيث نجده يقرر الارتباط بين الحاجة إلى الفلسفة والحاجة إلى الدين (ص 9)، وحين نجده يشتق غاية الفلسفة من نص لعلي بن أبي طالب (ص 10) ويشتق الجمع بين الاتجاه العقلي والتجريبي في الفلسفة الإسلامية من نص للعلامة الحلي (ص 27)، ويرجع إلى ابن تيمية وإلى الغزالي، ويمتح من القرآن الكريم الذي أحدث ثورة فكرية واجتماعية عفت على كل التقاليد والخرافات، وهي الثورة التي فتحت للمسلمين بابا للتفلسف عريض، فحركتهم قديما إلى إنشاء فلسفتهم القرآنية والعمرانية، وينبغي أن تحركهم اليوم إلى إنشاء فلسفتهم التي تعبر عن ذاتهم في علاقاتها بالآخر وهو ما يجلي بعد الانفتاح عند أستاذنا الفقيه. والمحاضرة، عموما، وإن كانت تتميز بالغموض نتيجة التركيز الشديد في المعلومات، فإنها من النماذج المهمة في تاريخنا الثقافي المغربي التي تكشف عن متابعة فقهائنا ومفكرينا لهموم الواقع الثقافي الذي كان يفرض عليهم من الأسئلة ما يتولون الإجابة عنها بكثير من الصبر والعمق والانفتاح... 1 علال الفاسي، هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة؟ مجلة الإيمان الصادرة عن جمعية شباب النهضة الإسلامية، العدد الأول والثاني، السنة الأولى دجنبر 1963 يناير .1964 2 انظرها في الفقيه والسلطان بإخراج الدكتور سعيد بن سعيد العلوي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، وقد هيأنا حولها دراسة نرجو أن ترى النور قريبا إن شاء الله.