في المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال لمدينة فاس في الأسبوع الأخير تدخل أحد الإخوة في جلسة المناقشة وأثار دور الحزب والزعيم علال في وضع كلمات دالة وأفكار دقيقة، نجد الناس أو الأحزاب يتخذونها شعارا لهم مما أثار نوعا من التبرم لدى بعض المناضلين، وضرب بذلك أمثلة منها (مواطنون أحرار في وطن حر) الذي كان شعار أحد مؤتمرات الحزب في الستينيات من القرن الماضي وطبعه الحزب على ظهر ورقة العضوية، كما أشار إلى ما يتداول اليوم من اختيار إحدى الهيئات السياسية شعارا آخر عرفه الحزب في أدبياته وهو (الأصالة والمعاصرة)، وكلمة (التعادلية) التي ادخلها البعض كذلك في أدبياته و كلمتي (العدل والإحسان) التي كان الزعيم علال يستعملها في كثير من دراساته وأبحاثه والتي لا يزال الأخ محمد الدويري يذكرها في كلماته باستمرار، وكأني بهذا الأخ وأمثاله يرون في ذلك ما يضر الحزب أو أفكاره ومثل هذا التساؤل وضع على الزعيم علال الفاسي وكان جوابه رحمه الله إن الهدف من الأفكار وابتكارها والدفاع عنها هو أن تجد لها أنصارا وأعوانا حتى ولو من خصومها. و إسهاما في تأصيل بعض الأفكار في موضوع أصالة ومعاصرة واحتفاظا بريادة الزعيم علال والفكر الاستقلالي لهذا الموضوع أُذَكِّرُ بما سبق لي أن قلته ونشرته في موضوع أصالة ومعاصرة وهو موضوع ساهمت به في ذكرى الزعيم علال التي نظمت بفاس في مايو 2005 تحت نفس الشعار في بداية انطلاق إحياء الذكرى المائوية لميلاد الزعيم علال الفاسي. تعتبر السنة الميلادية (2010م) التي استهل أول شهورها منذ أيام السنة المائة لميلاد الزعيم الأستاذ علال الفاسي رحمه الله، وقد قرر حزب الاستقلال ومؤسسة علال الفاسي اعتبار هذه السنة سنة للتذكير بمآثر الفقيه ودوره الوطني والثقافي والديني والاجتماعي من خلال ندوات علمية وثقافية ومهرجانات فنية لإشعار المواطنين والمناضلين بأهمية ما قدمه طيلة الثلثين الأوليين من القرن الماضي... والذي لا شك فيه أن الرجل قد عاش عمره الأربع والستين سنة التي عمرها بالطول والعرض، إذ بارك الله له ولأمته في هذا العمر الذي أنفقه بأيامه ولياليه في خدمة أمته ودينه ووطنه، إذ بدأ النضال وهو لم يتجاوز مرحلة اليفاعة الأولى لمرحلة الشباب فمنذ الخامسة عشرة التي سجلها شعرا ونثرا لم يعد بإمكانه أن يبقى منشغلا أو مشتغلا بغير مصير أمته ومصير وطنه ودينه، فهي أمة منكودة الحظ لم تنل ما تريده من العيش الرغد وما تسعى إليه من حرية واستقلال ووحدة. ولم تكن الأمة في عرفه هي الأمة المغربية وحدها ولكنها كان ينظر إلى الأمة العربية الإسلامية نظرة واحدة، فالعالم الإسلامي هو مجال حركته ودفاعه ودعوته النهضوية. ولكن كان المغرب بحدوده وتاريخه ودينه ولغته نقطة الارتكاز ومحور البداية. كان ميلاد الرجل في ظروف صعبة من تاريخ المغرب كان مخاض ميلاد مغرب جديد مغرب تهيء له الظروف أن يفقد وحدته وحريته واستقلاله لأول مرة منذ انعم الله على هذه الأرض بالإسلام، ومنذ تأسست الدولة المستقلة المسلمة في المغرب. كان الاستعمار في هذه السنة يهيء الأجواء لفرض الحماية والهيمنة لتحويل مساره العقدي واللغوي وتوجيهه الوجهة التي ظل الصليبيون الأوروبيون يسعون لها باستمرار، وكانوا يريدون من خلال كل الهجومات المختلفة التي قاموا بها وما مارسوه من كر وفر على الثغور هو التمكين في نظرهم للصليب وطرد الهلال هذا التعبير الذي كان ساندا لديهم سواء منهم السياسي والمبشر والجندي ان صح التفريق بين الثلاثة . وكان رحمه الله قد حظي منذ الوهلة الأولى بنبوغ وموهبة، وكانت الظروف التي عاشها المغرب سنة ميلاده تهيئ من يسعى للعمل على رد الاعتبار وكسر شوكة الصليب في هذه الأرض وإعلاء راية الإسلام ورمزه الهلال، وان الإنسان وهو يراجع هذه المرحلة ويستقرئ أحداثها يلحظ ان هذه السنة وسنوات قليلة قبلها وبعدها كانت في الواقع قد عرفت ميلاد كثير من القادة والزعماء والمجاهدين الذين كان من بينهم جوهرة متلألئة مما جعلهم جميعا يقرون له بالريادة والزعامة ولم يكن هو ليرى في ذلك ما يدفع إلى التراخي بل اعتبره مسؤولية تفرض عليه أعباء كثيرا وتجعله أكثر الناس عملا وأكثرهم تضحية وبذلا وهو يستقبل كل ذلك عن رحابة صدر وسعة فكر وما ما عرفه من اعتقال ونفي في إفريقيا لسنوات تسع إلا دليل على تقبله برضى واطمئنان كل التضحيات في سبيل تحرير الوطن وتحرير الإنسان. وإذا كان التذكير بمكانته ودوره من واجب كل المواطنين والوطنيين اعترافا له بما قدم وتقديرا لخدمته لوطنه وأمته، فإن أصدقاءه وتلامذته ومريده ومن نشأ على هؤلاء من مناضلي ومناضلات الحزب قد دأبوا على إحياء ذكراه وفي الذكرى الواحد والثلاثين بمدينة فاس ساهمت بالكلمة التالية التي أعيد نشرها لأنني أرى ان الموضوع الذي عالجته قد طفا من بين الأحداث من جديد وان كان في الواقع من الناحية الفكرية موضوعا متجددا باستمرار لقد قلت: في هذا اليوم منذ إحدى وثلاثين سنة (1974-2005) التحق الزعيم علال الفاسي رحمه الله بالرفيق الأعلى وها نحن من جديد نحيي ذكراه ومع الذكرى يتجدد الأسى والألم لفراق هذا القائد الذي كان ولا يزال موجها وملهما بفكره وعلمه وعمله لكل العاملين من اجل تحرير وطنهم ومواطنيهم ونحي هذه الذكرى في هذه المدينة العظيمة التي أنجبته وتربى بين دروبها وأزقتها ومساجدها ونهل من معين علمائها وصلحائها وعرفته المساجد والزوايا والمدارس معلما وموجها كما عرفته جموع جماهيرها قائدا وزعيما وعندما يغيب عنها منفيا أو مسجونا نتلهف شوقا ليوم العودة وتجديد اللقاء، وعرف هو لهذه المدينة فضلها ومكانتها ليس في تاريخ المغرب فقط ولكن في تاريخ الإسلام والعالم الإسلامي لذلك تغنى بأمجادها ومكانتها في نثره وشعره ولفاس في فكر الزعيم وقلبه مكانة خاصة ولولا المهام والمسؤوليات ما ارتضى غير فاس سكنا ومقاما وكيف لا؟ وفيها كانت البداية منذ ثمانين سنة ومنها اندفعت الجموع وانطلق زحف الحرية و الوحدة ليكتسح ليل الاستعمار فما لبث أن انبثق فجر الحرية والاستقلال فهانت كل التضحيات لتواصل مواكب الحرية والوحدة طريقها نحو استكمال الرسالة، وأداء أمانة التحرير لكل الأرض ولكل إنسان فوق هذه الأرض. إنها فاس وفي فاس يقول الزعيم علال في قصيدة بعنوان: توقيعات الذكرى: كنا وكان قومنا رؤساء وكانت الدنيا لنا مهد فخار من فكرنا انبثقت العبقرية وعندنا امتهدت المعرفة نحن حملنا ونشرنا في الوجود رسالة الرسل، تعاليم الخلود. من ها هنا من فاس، من اخواتها عمت شموس الدين والدنيا على كل مكان ولدى كل زمان نحن الذين نظموا العقل ووفقوا بين الطبيعة وبين الإنسان ووحدوا الجسم والروح فلم يعد هناك طير وقفص ******* ومن هنا من وطني المغرب من ها هنا من فاس، من اخواتها من بين أمواج عماء الاستعمار وفي غمار الظلم والإرهاق اندلعت شرارة بها نار ونور واهتزت الأرض وشاهدت الوجود وأصبح الشعب الشجاع يخوض في عوالم، ما فوقها عماء. فإذا وقفت فاس اليوم إجلالا واحتراما لهذا القائد في ذكرى وفاته فإنها طالما وقفت خلال القرن الماضي عن بكرة أبيها لتحيته والإشادة بمواقفه ونضاله وجهاده فها هي فاس في الثلاثينيات تحج إلى جامع القرويين للاستماع إلى دروس في السيرة النبوية تستلهم منها معاني الجهاد والبذل والتضحية فكان الناس يستمعون إلى هذا الشاب الذي اقلق راحة المستعمر، وألهم الشعب أساليب العمل للتحرر من نير الأجنبي وجبروته، وكأني اليوم بجموع هؤلاء المواطنين على اختلاف مشاربهم وحيثياتهم يتوافدون زرافات ووحدانا ليأخذوا مكانهم للاستماع بوعي إلى هذا العالم الشاب الذي أحيا معاني التوحيد الخالص في دعوة سلفية سليمة بعيدة عن الغلو والإيغال فيما الإفادة فيه وهو الأمر الذي لم يرق الإدارة الاستعمارية فما كان منها إلا أن دبرت المكائد تلو المكائد بهدف إبعاده عن الجماهير وإبعاد الجماهير عنه، ولكنها كلما مكرت عاد عليها مكرها بعكس ما كانت تؤمل، حتى كان ذاك النفي القسي وانصرم الزمان وكانت تسع سنين نفيا وهي في العد بمثابة شهور الحمل فولد الزعيم علال ولادة جديدة في المنفى فاستقبلتهالمدينة ومن خلالها الوطن كله استقبالا يليق بعودة زعيم جديد بفكر جديد وعلم جديد وإيمان أقوى وعزيمة اشد فلا غرو إذن ان تحيي فاس الذكرى الواحدة والثلاثين لوفاته والذكرى الثمانين لبداية نضاله لإبقاء فاس حية حياة حقيقية حسا ومعنى ألم يقل القرآن «وجعلنا من الماء كل شيء حي»؟ وقد كانت معركة علال الأولى سنة 1925 في سبيل الإبقاء لفاس على مائها وشريان حياتها الذي أرادت الإدارة الاستعمارية أن تسلبه من هذه المدينة العظيمة. ومن الصدف الحسنة أن يكون إحياء هذه الذكرى تحت شعار علال الفاسي أصالة ومعاصرة. إذ كانت حياته رحمه الله من أجل بناء مجتمع مسلم يعيش عصره ويحفظ عقيدته وأصول هذه العقيدة ولمسألة الأصالة والمعاصرة في الفكر الإسلامي الحديث شأن وأي شأن، وسأحاول في هذه الكلمة أن أتناول هذا الشعار من خلال فكر الزعيم رحمه الله. إشكالية الأصالة والمعاصرة كانت فكرة الأصالة والمعاصرة من القضايا الشائكة التي واجهت المسلمين في القرون الثلاثة الميلادية الأخيرة الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر الهجرية وذلك بدرجات متفاوتة كما كان التجاوب كذلك متفاوتا، إذ كانت هذه القرون قرون التحديات التي تعرض لها العالم الإسلامي في صراعه الدائم من أجل صيانة أراضيه واستقلاله والاحتفاظ بعقائده وكان المغرب في أول دول المواجهة نظرا لموقعه الجغرافي ومكانته في حمل الدعوة الإسلامية والحضارة المؤسسة عليها مما جعل المغرب مستهدفا من طرف الإمبراطوريات الأوروبية الناشئة ولاسيما ما كان معروفا لدى جيرانه في الشمال بسياسة الاسترداد. لقد كان التحدي كبيرا، غير أن هذا التحدي بلغ أوجه في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولقد واجه المغرب بكل مكوناته هذا التحدي كل حسب موقعه وإمكاناته المادية والأدبية، وكانت النخبة المتعلمة في مقدمة التصدي لتجاوز مضاعفات هذه الهجمة الشرسة من الخصم الذي أصبح تفوقه غير قابل للتجاهل أو التجاوز وليس في الميدان العسكري فقط، بل في الأنظمة السياسية والاقتصادية والثقافية والصناعية ومناهج التعليم وغيرها، ولم تكن الذهنية أو العقلية المغربية في ذلك الوقت في مستوى الجواب على التحدي، رغم ما بذل من جهد وما كان يتوفر عليه الناس من الصدق في التناول والإخلاص في المواجهة فكان ما كان مخوفا ووقع المحظور وأصبح المغرب كأكثرية البلاد العربية والإسلامية واقعا تحت نير الاستعمار والحكم المباشر لإدارته. وكان واقع العالم الإسلامي في أغلبه لا يختلف ففرض ذلك مواجهة الأمر الواقع بشكل فيه نوع من التناغم بل وحتى التنسيق في حالات كثيرة، وكان السؤال المركزي لماذا نحن هكذا والآخر على ما هو عليه. أين الخلل؟ وما الأسباب؟ وبالإجمال لماذا هم الغالبون ونحن المغلوبون؟ هذا السؤال الذي أصبح لماذا هم متقدمون ونحن متأخرون؟ وبالطبع عن هذه الأسئلة تناسلت أسئلة أخرى كثيرة إلا أنها في أغلبها تعود إلى السؤال الأساس، وهكذا برز ما عرف قبل ذلك وبعد ذلك بالانبعاث أو النهضة، ولعبت السلفية سواء في شكلها القديم أو في شكلها الجديد دورا كبيرا في الإجابة على التحدي، كما وفرت نسقا فكريا معينا إن لم يكن موحدا فقد كان في خطوطه الأساس يتناول نفس القضايا بمنهجية متنوعة ووفق خصوصية كل بلد وبرز في هذا السياق قادة ومصلحون ومفكرون وزعماء وانخرط الجميع في معركة مزدوجة من جهة تحاول تغيير العقلية والذهنية لدى الإنسان المسلم العربي، ومن جهة أخرى تقاوم الاحتلال الأجنبي وتسعى لتحرير الأرض والإنسان. لذلك لا غرابة في كون العمل الفكري السلفي مواكبا لما كان يجري في الجبال للدفاع عن الأرض والحيلولة بين القوة الغازية وتحقيق أهدافها كما كان مواكبا في نفس الوقت لثورة أخرى منظمة بأسلوب جديد ومشبعة بروح سلفية وقناعات سياسية تصل إلى حد التفكير في تأسيس حكم مبني على دستور يحدد ماهية النظام وحقوق وواجبات المواطنين إنه اجتهاد جديد وصنف من المقاومة غير الصنف الذي تمارسه القبائل في أماكن أخرى إنني أعني بهذا الكلام ثورة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي. في هذا الوقت ستعرف جماعة السلفية الجديدة التي ستنظم العمل وستنتخب علال الفاسي رئيسا لها وسيكون هذا الإنسان هو الذي سيتولى حمل مسؤولية الصدارة في قيادة العمل المباشر، والمسؤول الأساس في التنظير لهذا العمل، سيكون المفكر الذي يجابه المعارك الفكرية والتصدي لفتاوى القوة المضادة من الضفة الأخرى الطرقية وغيرها كما سيكون في نفس الآن الإنسان الذي ينظم الأناشيد الوطنية والقصائد الشعرية الحماسية التي سيتغنى بها الشباب والكهول والشيوخ على السواء إنه قائد الجوقة وحاديها بفكره تستنير وبشعره تتغنى وبرأيه تستهدي في دائرة قيادة جماعية متضامنة ليس فيها واحد إلا و يجدر أن يكون من الأول هذه كانت البداية وعلى هذا الأساس استمرت المسيرة ولم يؤثر عليها ما صادفها من صعاب، أو واجهها من عقبات، بل إن بعض هذه الصعوبات والتضحيات كانت له جوانب ايجابية في حياته الفكرية والتنظيرية، وبالأخص إذا كان الأمر يتعلق بسجن أو نفي أشبه بما يسميه المؤرخون (توينبي) بالغيبة والعودة في نشوء العقائد والحضارات فالمفكرون العظام وأصحاب الرسالات يأخذون في العادة مسافة بينهم وبين قومهم وأوضاع مجتمعهم للتفكير بعيدا عن كل تأثير ليعودوا بعد ذلك وهم مؤهلون لأداء الرسالة مع ما يتطلبه ذلك من صفاء الذهن وعمق التفكير. النفي والعودة لذلك فإذا أخذنا غربته منفيا في الكابون كمثال على ذلك فلربما كان هناك سؤال مشروع حول هذه الغربة وهل لها أثر على إيمانه بحرية شعبه وبلده وعلى قناعاته الفكرية التي انطلقت منها هذه البداية، لقد كانت الغربة القسرية فرصة له لأخذ مسافة معينة للتفكير الهادئ ولذلك فإن ما ألهم هناك من أشعار وما اشتغل به من حياة فكرية خالصة، ومجاهدات في خلوته تلك أصل أكثر لديه هذه القناعات التي آمن بها، والتي كانت تنبعث من تصور شامل للحياة وما يؤمله لبلده وهو قد استعاد حريته وتحرر من نير الاستعمار وقيود الاستعباد وأغلاله ومراجعة سريعة لإنتاجه الأدبي والشعري في ذلك المنفى القصي وفي تلك الغربة المفروضة تؤكد للإنسان أن الرجل ازداد إيمانه، وقويت قناعاته، وأن خلوته تلك كانت الخميرة الأساس لذلك، الفيض من الإنتاج الفكري والأدبي فيما بعد ذلك وان حماسته لأفكاره الأولى في الحرية نمت وانتعشت أكثر، وان اندفاعه لبناء أسس النهضة المرتقبة لمغرب مستقل وشعب متحرر كان أقوى من ذي قبل. وهناك مؤهلات أساسية يمكن أن يلاحظها كل باحث ودارس لحياة الزعيم علال الفاسي بوأته المكانة التي وصل إليها في الفكر والتنظير والاجتهاد ويمكن إبراز بعضها فيما يلي: 1 _ العلم الواسع بأحكام الإسلام وشريعته وتاريخ الأمة الإسلامية والتطورات الحضارية للشعوب والأمم. 2 _ معرفة أحوال المجتمع المغربي ومكامن ضعفه وقوته. 3 _ الإخلاص لدينه وأمته ورسالته الإصلاحية. 4 _ التضحية والاستعداد لأداء الواجب مهما كلف من ثمن. 5 _ الاجتهاد والتحرر من التقليد بجميع أشكاله فكان يرى الأمور باستقلالية فكرية ونقدية وهذا جعله يعيش حياة فكرية وعلمية تتسم بالحيوية والنشاط. 6 _ نزعة قوية نحو التجديد والابتكار مع سعة الأفق والاطلاع. 7 - تدقيق المفاهيم وضبط المعاني مما يساعد على وضوح الرؤية والتعبير الدقيق عن المعنى المراد. علال وتدقيق المعاني: كان رحمه الله يملك القدرة والإرادة على تدقيق وتحقيق المعاني وضبط الكلمات ضبطا محكما، فكان لا يستعمل الكلمة إلا في محلها الصحيح لا سيما وأن الاحتكاك باللغات الأجنبية التي تنحت مصطلحات جديدة كل يوم وتبتكر كلمات لمسميات جديدة تتطلب مسايرة في اللغة العربية مع الحفاظ على دقة المعنى لدى اختيار مقابل لهذا المصطلح أو لذلك المسمى، حتى لا تضيع الحقيقة المقصودة، والمعنى المراد والسليم، وبالأخص في علوم الاقتصاد والسياسة والقانون وما يعبر عنه إجمالا بالعلوم الإنسانية لأنها الأكثر تأثيرا ومساسا بالحياة الفكرية والوجدانية والثقافية للإنسان العربي المسلم، وكان يساهم مساهمة واضحة في الأبحاث اللغوية التي تنشرها مجلة اللسان التي يصدرها المكتب الدائم لتنسيق التعريب كما كان عضوا مراسلا في المجمع اللغوي بدمشق وفي موضوع التدقيق والضبط كتب بحثا حول تحريف الدلالة نشره في العدد الأول من مجلة اللسان تناول فيه موضوع تحريف دلالة الألفاظ التي يتم تعريبها وفي هذا يقول: ومباحث الدلالة لا تفيد فقط في تقسيم الكلام الحديث فحسب ولكنها ضرورة لتفهم النصوص التاريخية وتعمق معانيها فكثيرا ما يخطئ الناس حين يؤولون النصوص المقدسة فاهمين لكلماتها على المعنى المفهوم في عصرهم متناسين ما كانت تدل عليه وقت نزول تلك النصوص المقدسة أو النطق بها (مجلة اللسان عدد 1 يونيو 1964 ص 7). ورغم المجهود الذي بذله العرب في وضع مقاييس ومعايير لاختيار الألفاظ المناسبة عند التعريب أو الترجمة فإنهم وقعوا في نظره في استعمار لغوي هو أبعد ما يكون عن التطور الصحيح للكلمات وعن التسامح في التعريب والاقتباس ذلك أن كلمات عربية لها معانيها الخاصة في اللغة ولها خصائصها في الاصطلاح الإسلامي، لتدل على المراد آنذاك، أفرغت من محتواها النبيل وأعطيت محتوى كلمات أعجمية هي أبعد ما تكون عنها وعن الوسط الذي انبثقت فيه، وسمي رحمه الله هذا العمل تحريف الدلالة وأعطى مثالا على ذلك كلمة الإقطاع لتعريب الكلمة الفرنسية ( فيودالتي) والإقطاعية لكلمة الفيودالية، مع اختلاف مضامين الإقطاع في التاريخ العربي عن مضامين الإقطاع في التاريخ الأوروبي، وتناول هذا بالتحليل وكذا كلمة الحمى والفيف إلخ. بل إنه اختار كلمة من الكلمات التي يتم تداولها بين أبناء الوطن ولكنهم لا يتفقون على تدقيق معناها فرغم التضحيات التي قدمها المغاربة في سبيل الاستقلال مثلا فإنهم لا يتكلمون عن الاستقلال بنفس الفهم والإدراك والدقة وفي هذا يقول: كلمة الاستقلال واختلاف فهمها لدى الوطنيين: إن لبعض الكلمات سحرا يجلب الأنظار ويستهوي البصائر والأبصار فلنأخذ كلمة «الاستقلال» لقد استطاعت أن تلف حولها في بلادنا مجموع الأمة المخلصة، ولكن ما وصلنا إلى المرحلة الأخيرة من كفاحنا في سبيله حتى وجدنا أنفسنا أحزابا، هنالك من تعمق معنى الاستقلال ففهم منه وحدة التراب وجلاء الجيوش الأجنبية عن الوطن، ورفع اليد الموضوعة على الاقتصاد القومي، واسترجاع الأراضي التي اغتصبها الاستعمار، والتحرر الفكري من كل سيطرة للثقافة الأجنبية وغير ذلك من المفاهيم والمعطيات، وهؤلاء رفضوا كل تفاوض قبل إعلان الاستقلال، وهناك فئات كانوا يقبلون كلمة الاستقلال ولا يرون بأسا من قيام تكافل اقتصادي بين فرنسا وبين المغرب، ولا من السكوت على المناطق المغتصبة ولا من إبقاء دار لقمان في الاقتصاد وفي الاستعمار الرسمي على حالها، فلو أننا جميعا حققنا مدلول الاستقلال على وجهه في أذهاننا وتعرفنا إليه لما وقعت لنا بلبلات واختلافات لا مبرر لها ولا موجب غير عدم وضوح الفكرة في أذهان بعض المفكرين من أبناء قومنا. ومثل ذلك يمكن أن نقوله عن الأقطار الشقيقة التي حصلت أخيرا على الاستقلال في إفريقيا والتي لا ترى بأسا من وجود قواعد أجنبية على ترابها ولو كانت هذه القواعد ذرية على اعتبار أن ذلك لا يناقض الاستقلال؟ ومثال آخر التقدمية: وثمة كلمة أخرى تروج اليوم على ألسنة قادة الرأي العام المغرب وهي: (التقدمية) فالكل ينادي بها ويدعو لها ويدعيها لنفسه أو هيئته، ولكننا نجد البعض يفهمها على أساس أنها الاشتراكية، والآخر على أنها الإسلام، والثالث على أنها شيء غامض لا يدري محتواه، وإنما يكرره مع الناس، لأن سحر الكلمة وأثرها في الشباب يغريه بها. انه رحمه الله هنا يضع الأصبع على مرض أصاب الناس في مرحلة معينة حيث فتنوا بهذه الكلمة دون أن يعرفوا لها معنى محدد وهو ما حصل لهم بالنسبة لكلمة الحداثة حاليا. الاشتراكية: وهذه «الاشتراكية» التي أصبحت تتردد على ألسنة الناس في المشرق وفي المغرب، أنهم يفهمون منها مجرد مدلولها البدائي في اللغة وهو إشراك الناس في السراء والضراء، ويوشك أن يحملهم هذا التلقف المرتجل للكلمة على قبول الاشتراكية كمثل يعملون له، ولكنهم لا يقتربون من معناه متى أتيحت لهم زيارة بعض البلدان الاشتراكية التي مضت عليه، حتى يكفروا به، ومتى رأوا حكومة بلادهم تطيق بعض مظاهره التي تمسهم في شيء من مصالحهم، انقلبوا متظاهرين ضد هذا المثل الذي جرفهم وهم لا يشعرون. قيادة الشعوب والإشارة الصوفية والاستمرارية بدل التوفيق: ويخلص من كل هذا إلى أن للكلمات معانيها التي أعطيت لها بالوضع، وتحقيق هذه المعاني ضروري لمعرفة الموقف الذي يتخذه الإنسان منها، ولا يصح في ميدان الاجتماعي وقيادة الشعوب أن يكتفي بمفهوم الإشارة على طريق المتصوفين، والدعوة لفكرة ما ينبغي أن تقوم على التفهم العميق لتلك الفكرة وما يكتنفها من جوانب وينبني عليها من أثار، وإبلاغ ذلك كله للشعب ليكون على بينة مما يختار، وليس من المصلحة في شيء أن ندع الشعب في غموض حاسبين أن ذلك خير لما ندعو له من أفكار. ومن خلال تدقيق الكلمات والمعاني وتحديد مضامينها الواضحة يمكننا أن نعبر عن ذاتنا وعن الحقيقة التي نشدها ومنها كانت دعوة علال الفاسي إلى بناء حياة جديدة ونهضة سليمة ليس قوامها التوفيق ولكن وقوامها الاستمرار إذ يعني الاستمرار التمسك بأصول القيم التي عشنا عليها في الماضي باعتبار أن هذه القيم وأصولها بالضرورة ليست مما يستورد أو ينقل ولكنه استمرار في الفهم لتراثنا واستنطاقه الاستنطاق الذي يفضي إلى ذات الأمر ومن هنا كان النقد الذاتي وكانت الإنسية. ذلك أن النقد الذاتي الذي كان في الواقع التأصيل للمعاصرة الأصلية إن صح التعبير اصطدم بنظام هجين بعد الاستقلال لا هو تقليدي ولا هو معاصر ولا هو توفيق بينهما ولكنه نظام هباء فهو لا لون له، إذ هو يرمي للحرية وفي الواقع ينتج العكس ويدعي العقلانية وهو في قمة الاعتباطية ويدعي الديمقراطية ويحرف إرادة الشعب ويزور الانتخابات ومن هنا كانت دعوته إلى تحقيق المعاني. أمرا ضروريا وذلك لأنه الكلمات تحمل معها القيم والمصطلحات مشحونة بدلالات حضارية وفلسفية فلذلك كان يرى أن استعمال كلمة التعادلية لمذهب يرمي إلى تحقيق العدل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية ادعى إلى القبول، كما انه يعبر عن الروح الفلسفية والعقدية للأمة فهو يسعى للحفاظ على مبدأ الملكية الخاصة بجانب وجود ملكية عامة في المسائل التي من الضروري أن تكون عامة بين الناس، وفي الوقت نفسه لا يقع في التناقض أو الإبهام عند استعمال كلمة الاشتراكية مثلا لأنه ليس هناك فهم واحد لها حتى لدى أصحابها الأصليين فبالأحرى عند مقلديهم من أبناء الشعوب الأخرى وقد أثبتت الوقائع التاريخية صحة إدراكه وفهمه لإبعاد المصطلحات والكلمات الشائكة ، وعند استعماله لكلمة الإنسية لإبراز الذاتية المغربية ضمن الذاتية الإسلامية العربية فإنما كان يسعى أن يفصل المنهج التعليمي المغربي عن مناهج الغير وبالأخص في موضوع حساس يرتبط بالهوية القومية وهكذا كان يختار كلماته التي تكون في بعض الأحيان صادمة لما هو مألوف ولكنه سرعان ما يدرك الناس أهمية وصواب الاختيار. علال الفاسي والآخر: وينبغي ملاحظة أن هذا الإصرار من طرفه على الاستقلالية الفكرية واللغوية مع الالتزام الوطني دفع البعض ليتكلموا عن علال الفاسي فيحلون لهم ان يثيروا صراعه مع الآخر هذا الصراع الذي ربما حاولوا من خلال إثارته أن يصلوا إلى القول برفضه للآخر ومن تم الادعاء بأن هذا موقف ضد المعاصرة أو يتنافى مع قيم العصر والواقع أن علال الفاسي عندما يشير إلى المعركة أو الصراع مع الأجنبي فإن هذا الأجنبي ليس إلا ذلك المستعمر المتكبر المتغطرس المتسلط الذي عانت منه شعوب الأرض كلها ومنها شعوب الإسلام، وليس علال الفاسي وحده يقف هذا الموقف من المستعمر بل هو موقف كل رجالات الفكر الأحرار الذي اكتووا بتصرفات الرجل الأبيض الاستعماري كما كان يعبر آنذاك فغاندي رغم دعوته السليمة كان له موقف من هذا الصلف الأوروبي وخليفته نهروا على نفس الطريق. ومحمد إقبال المفكر الذي أنتج فلسفة وفكرا بالإنجليزية ولكن هذا لم يمنعه من الإيمان بفلسفة الذات، والذات الإسلامية بالأساس والذي دفعه إلى هذا الموقف الإيماني بالذات هو تصرفات المستعمر الانجليزي في بلاده بالإضافة إلى القيم الإنسانية التي تعلمها وتشربها من محكم التنزيل والدكتور على شريعتي ذلك المفكر والعالم الاجتماعي الإيراني الذي لم يتردد في تحليل وضعية المجتمع الإيراني ومن خلال المجتمع الإسلامي ليكتب نقدا علميا لتصرفات بعض علماء المذهب الجعفري ولكنه في الوقت نفسه كتب كتابة رائعة في العودة إلى الذات، ولا بأس هنا من إشارة دالة إلى المفكر الجزائري مالك بن نبي الذي حلل واقع المجتمع الإسلامي والجزائري وأنجز سلسلة مشكلات الحضارة في العالم الإسلامي ولكنه كان له موقف واضح من الرجل المستعمر ونفس الشيء بالنسبة لصاحب كتاب معذبو الأرض فرانزفلنون أن أصالة هؤلاء وغيرهم وإيمانهم بمجتمعهم وقيمه ووقوفهم في وجه الشقاء الاستعماري لم يمنعهم كل ذلك من الأخذ من العصر أجود ما فيه ودعوتهم شعوبهم وأممهم ودول العالم الثالث إلى الأخذ بأسباب التقدم والعصرنة في كل المجالات إلا المجالات التي تفضي بهم إلى فقدان ذاتهم والذوبان في الغير. وفي القسم الثاني من هذه المداخلة سنتناول مفهوم الأصالة والمعاصرة.