رد على مقال : هل من تبرير فلسفي لمنهجية الإنشاء الفلسفي؟ معضلة المقدمة نموذجا للأستاذ : شفيق اكريكر، الصادر في جريدة «الأحداث المغربية»، بركن : «ملتقى الفكر»، في عددي: 13و21 من شهرمارس 2010 . 1) تقديم: تعتبر الدعوة إلى فتح نقاش عمومي حول كتابة الإنشاء الفلسفي بكل عناصرها ، بما فيها عنصر المقدمة، دعوة مشروعة، لانملك إلا تثمين إلحاح الأستاذ شفيق اكريكر، صاحب المقال المذكور أعلاه، عليها. لكن هل يستقيم مطلب المناقشة هذا مع اعتبار النقاشات التي تعرفها اللقاءات التربوية كلما أثير موضوع الإنشاء الفلسفي بين المدرسين، بأنها مؤشر سلبي يجب تجاوزه نحو إجماع وحده يعتبر قارب النجاة لتجاوز تعقد الكتابة الإنشائية الفلسفية؟ فهل هناك إمكانية للنقاش مع تمجيد الإجماع والتماهي معه ورفض التعاقد كفضاء لممارسة الاختلاف والسعي إلى إقصائه؟ وهل فعلا أن ماسماه صاحب المقال بالتسويغ الفلسفي لعناصر الكتابة الإنشائية الفلسفية يشكل عنصر إجماع وليس عنصر تعاقد بين المدرسين؟ ألم يدافع الأستاذ شفيق في الجزء الثاني من مقاله عن هذا التعاقد بشكل ضمني؟ وهل مذكرة 159 المتعلقة بتحديد الأطر المرجعية لمواضيع الامتحان الوطني الموحد للباكالوريا في مادة الفلسفة ينقصها هذا التسويغ؟ ثم هل هذا الأخير وحده كاف لحل معضلة الإنشاء الفلسفي بما في ذلك مقدمته؟ ألا يحيلنا هذا الإنشاء حتما، بماهو تمرين يستهدف تقويم مدى تكوين التلميذ، إلى مناقشة كل العناصر المتدخلة في هذا التكوين بما فيها التلميذ والأستاذ والأساليب الديداكتيكية التي يوظفها في دروسه ؟ 2) التسويغ الفلسفي لمنهجية الإنشاء الفلسفي : تعاقد وليس إجماع؟ إن التسويغ الفلسفي لمنهجية الإنشاء الفلسفي قبل أن يكون إلزاما مؤسساتيا، أو التزاما أخلاقيا، فهو ضرورة معرفية ومنهجية وقيمية، معرفية لأن بموجبها يتم الوعي بأن الأمر يتعلق بكتابة يفترض فيها مبدئيا أن تقوم على استحضار وتوظيف معارف وأطروحات لمعالجة إشكالات فلسفية ومنهجية، لأن على أساسها يفترض أيضا أن تجسد هذه الكتابة الإنشائية، منهجا في التفكير، هو التفكير الفلسفي أو التفلسف بما هو اكتساب لكفايات فلسفية رئيسية هي: الأشكلة، المفهمة، الحجاج. وقيمية تعبر عن نفسها في كفايات، هي عنوان التفكير العقلاني الحر والمتفتح والنقدي والمسؤول. وهكذا ففي جميع الحالات، فإن المطلوب بالدرجة الأولى، من الكتابة الإنشائية الفلسفية، هو تجسيد هويتها الفلسفية. وعندما نأخذ بعين الاعتبار هذا المطلب، فإنه لايقتضي منطقيا الاجماع كما يعتقد صاحب المقال، وإنما يقتضي التعاقد. وهذا ما يعني أن هناك فروقا دقيقة بين المفهومين. فالإجماع كما يقول قاموس لسان العرب، كلمة مشتقة من فعل أجمع. يقال «أجمع أمره أي جعله جميعا بعدما كان متفرقا» و«يجتمع القوم ولايتفرقون خوفا من الضلال» أما اصطلاحا، فالإجماع مفهوم أصولي فقهي، يحيل في رسالة الشافعي إلى المصدر الرابع في التشريع الفقهي، بعد القياس والسنة والكتاب. فهو مفهوم يستمد قوته التشريعية من كونه إجماع على حكم ديني يستنبطه مجموعة من العلماء من الكتاب أو السنة. ومن هنا فهو يتسم بطابع القداسة وماتحيل عليه من قهرية. فمفهوم الإجماع إذن في دلالتيه اللغوية والاصطلاحية، يتهيب من الاختلاف ويقصيه. وهذا المعنى هوما ظل حاضرا عند الأستاذ شفيق في توظيفه لمفهوم الإجماع، والذي أراد له أن يكون سائدا بين صفوف المدرسين (في الجزء الأول من المقال) بحيث لايفسح المجال للاختلافات، وذلك سعيا منه إلى طرد الغموض الذي يكتنف عناصر الكتابة الإنشائية الفلسفية. أما مفهوم التعاقد فهو كما عرفه فلاسفة العقد الاجتماعي، أمثال روسو فهو يحيل على تلك الإرادة العامة التي هي حصيلة إرادة كل فرد في التنازل عن كل حقوقه للجماعة كلها التي ينتمي إليها، بحيث تصبح هذه الإرادة العامة فضاء تتحقق فيه الحرية المدنية لكل فرد، وهذا ما يجعل «ملكاته تتدرب وتنمو وأفكاره تتسع وعواطفه تتنبل وتسمو روحه بأكملها». (في العقد الاجتماعي. روسو. ص:55 ترجمة ذوقان قرطوط). وهكذا فإن مفهوم التعاقد يحيل على الاختلاف ضمن الوحدة. وهذا ما توحي به مذكرة 159المذكورة أعلاه عندما أشارت إلى مجموع الأهداف التي توختها، في تحديدها للأطر المرجعية لمواضيع الامتحان الإشهادية في مادة الفلسفة، إذ من بين هذه الأهداف «توحيد المرجعيات بالنسبة لكل المتدخلين والمعنيين لجعل الامتحان يقوم على أساس تعاقدي بين جميع الأطراف المعنية، مدرسين وتلاميذ ولجن إعداد المواضيع» فالأمر يتعلق بتوحيد تعاقدي وليس إجماعي، أي بتوحيد لايلغي الاختلاف. فما يوحد جميع هذه الأطراف هو خصوصيات أو ثوابت الفلسفة ممثلة في: المفهمة والحجاج والأشكلة والقيم المرتبطة بها ككفايات تؤشر عليها مجموعة من المهارات، كالفهم والتحليل والمناقشة والتركيب. أما ما يجعلها مجالا للاختلاف بين المدرسين بالخصوص، فهي الأساليب الديداكتيكية التي يوظفها كل مدرس وفق تصوره الفلسفي، كما أشار إلى ذلك صاحب المقال، بحيث يختار على أساسه، المعارف وطرق تدريسها وأشكال تقويمها. وهذا ما كان في إمكان الأستاذ شفيق الانتباه إليه عندما استحضر قولة جاكلين روس التي استشهد بها، لكن هيمنة روح الإجماع عليه، جعلته يعتبر ما أسماه بأسئلة التسويغ الفلسفي عنوانا للتشكيك في كل شيء عبر عنه بطرح وابل من الأسئلة ذات الطابع العدمي، لدرجة السؤال عما إذا كانت المقدمة ضرورية في الإنشاء الفلسفي أم يمكن الاستغناء عنها في حالة ما إذا كان موضوع الكتابة الإنشائية مباشرا ولا يثير أي التباس، وكان ليس من شروط التسويغ الفلسفي المتعاقد عليها بالنسبة للموضوع الفلسفي، أن يحيل على اللبس. نعم لقد كان في الإمكان استثمار هذه الأسئلة في مجال الديداكتيك كمجال للاختلاف، لكن شريطة تأطيرها ضمن ما هو متعاقد عليه في الإنشاء الفلسفي، وما يقتضيه من كفايات ومهارات. وهكذا بدلا من السؤال عن هذه الأخيرة وكأنها وصفات جاهزة يفترض تحديدها بدقة لكي يحفظها الأستاذ ومن بعده التلميذ عن ظهر قلب كالسؤال عن ماهو الطرح الإشكالي، ماهو التحليل، ما المقصود بالمناقشة والخاتمة ...؟ كان المطلوب أن نسأل عن الوسائل الديداكتيكية، وعلى رأسها التمارين الفلسفية ذات الطابع التكويني وغير الجزائي، التي تساهم في تكوين التلميذ إجرائيا في مجال الكتابة الإنشائية مثلا، فكما تقول فرانس رولان السؤال الذي يجب على مدرس الفلسفة طرحه هو سؤال الممارسة بما هي ذلك الفضاء الأمثل لتكوين التلميذ إجرائيا، السؤال لا عما يجب قوله وتحفيظه للتلميذ، بل عما يجب فعله من أجل دفع هذا التلميذ لكي يتكون، ذلك التكوين الذي عرفه الفيلسوف آلان بالقول «إن الإنسان يتكون من خلال المعاناة لذاته الحقيقية، يجب أن يفوز بها، أن يستحقها، يجب أن يعطي قبل أن يأخذ، إنها القاعدة». 3) مقدمة الإنشاء الفلسفي ومعضلة التعاقد يتحدث صاحب المقال عن مقدمة الإنشاء الفلسفي باعتبارها معضلة بالنسبة للتلميذ، تعبر عن نفسها، في كونها هي ما يبدأ به هذا الأخير، ويستفتي مدرسه، في كيفية هذا البدء ومصدره ووسيلته. وهذه أسئلة تعبر عن الحيرة التي يعيشها التلميذ، والتي تكون نتيجتها، كتابة مقدمة نمطية يتشابه فيها كل التلاميذ، وتغيب فيها ذاتيتهم، بما هي مؤشر على غياب الإبداع لديهم. لكن بدل أن يتساءل الأستاذ شفيق، عن مدى فعالية الوسائل الديداكتيكية التي اختارها المدرس في تكوين كفاية الكتابةالإنشائية بصفة عامة، وكتابة المقدمة بصفة خاصة، بدلا عن ذلك يوجه أصابع الاتهام لمذكرة 159 باعتبارها تفتقر إلى الوضوح التام، الشيء الذي أفقدها خاصية الإجماع. وهذا مايعني ضمنيا بأنه لادخل للوسائل الديداكتيكية التي اختارها الأستاذ في دروسه، في ما يعانيه التلميذ من مشاكل أثناء كتابة المقدمة، وأنه هو بدوره ضحية لغموض هذه المذكرة، وما يثيره من أسباب الاختلاف بين الأساتذة لدرجة أنهم لا يستطيعون إنقاذ تلامذتهم من الحيرة والنمطية في هذه الكتابة. وإلا كيف لهم أن يستنجدوا بمذكرة «لاتتحدث عن مقدمة ولاعن طرح إشكالي، بقدر ماتتحدث عن قدرات ومهارات: الفهم، التحليل، المناقشة، التركيب، إضافة إلى الجوانب الشكلية». وهكذا يتناسى الأستاذ أن هذه المذكرة هي حصيلة تعاقد «لجن وطنية تخصصية بتمثيلية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين»، تعاقد لايتمتع بقوة المؤسسة والتأسيس إلا لأنه مبنى، بحيث لايلغي حق الاختلاف والاجتهاد في كيفية التطبيق والإنجاز، وليس معطى، فهو قد تم بناؤه انطلاقا من ثوابت التفكير الفلسفي ككفايات أساسية: الأشكلة والمفهمة والحجاج، والتي تؤشر عليها مجموعة المهارات والقدرات، يمكن للمدرس أن يجتهد ديداكتيكيا في تحقيقها بشكل يسمح له بالاختلاف عن باقي المدرسين.وهذا ما أشار إليه صاحب المقال بنفسه في الجزء الثاني من المقال عندما قال: أن تكون المقدمة محلا للطرح الإشكالي نصوغ في آخرها أسئلة واستفهامات، تلك قضية لاجدال في مادتها ولا في صورتها، ولكن، ألا تطرح هذه الأسئلة إلا عقب التمهيد لها بشيء ما فتلك قضية يطال الاتفاق صورتها دون مادتها، إذ ماهذا الشيء الذي يسبق الأسئلة ويمهد لها؟» طبعا الإجابة عن هذا السؤال يفترض أن تكون مختلفة، لأن كيفية التمهيد بما هو لحظة تؤشر على كفاية الأشكلة، متروكة لاجتهاد المدرس، أي للأسلوب الديداكتيكي الذي يختاره. وهذا ما لايتناقض مع روح مذكرة 159، كما أن هذا ماعبر عنه الأستاذ شفيق في الجزء الثاني من مقاله، فهو قد طرح فيه تصوره الديداكتيكي الخاص لكيفية تطبيق ماورد بهذه المذكرة، وإن كان لم يكشف لنا عن نوعية التمارين التكوينية التي يوظفها في ترسيخ كفاية الأشكلة لدى التلميذ، لأن تقديم نموذج لهذه الأشكلة من كتاب الغزالي: تهافت الفلاسفة رغم أهميته الديداكتيكية يبقى مجرد وصفة تحتاج إلى التطبيق. ومن هنا فإن مايعتقده صاحب المقال بأنه لبس وغموض في هذه المذكرة هو مجرد سوء فهم مصدره في اعتقادنا الرغبة في تحويل هذه الأخيرة إلى إجماع، أي إلى حقيقة معطاة أو أداة تشريعة مقدسة تجسد الحقيقة المطلقة والتي لامجال فيها للاجتهاد. ويكفي هنا أن نستحضر، ما اعتبره الأستاذ شفيق مظهرا من مظاهر هذا الغموض، وهو ربط مهارة الفهم بمقدمة الإنشاء الفلسفي فقط، مع العلم أن صنافة بلوم في نظره تربط هذه المهارة بكل الأفعال المعرفية التي تحيل عليها جميع لحظات الكتابة الإنشائية. لكن الحقيقة غير كذلك، فبرجوعنا لهذه الصنافة نجدها تصنف الفهم في المرتبة الثانية بعد مايسميه بلوم المعرفة أي الحفظ ويليه التطبيق وبعده التحليل ثم التركيب وأخيرا التقويم. (انظر كتاب، محمد الدريج : تحليل العملية التعليمية ص: 45)، إضافة إلى هذا لابد أن نأخذ بعين الاعتبار بأن المهارات متداخلة فيما بينها، بحيث يصعب مثلا تحقيق مهارتي التحليل والتقويم بدون فهم، لهذا فإن التمييز بينها هو تمييز منهجي فقط تراعى فيه درجة حضور كل مهارة . فلا أحد يمكنه أن ينكر بأن الشرط الأساسي في مقدمة الإنشاء الفلسفي، المرتبط بالنص، كمجال للتأطير الإشكالي، هو الفهم وليس التحليل. من هنا فلا تناقض هناك إن تم ربط الفهم بالتحليل عندما يتعلق بموضوع يحيل على قولة للتحليل والمناقشة. لأن الطابع الكثيف والمركز للقولة، يفترض في تحليلها حضورا قويا للفهم، مقارنة مع تحليل النص، يعبر عن نفسه في القدرة على تفكيكها ورصد تمفصلاتها غير الصريحة فيها، دون أن يعني هذا إقصاء هذا الفهم من المقدمة. إضافة إلى كل هذا. فكفاية الأشكلة. تقتضي أن يتم تحديد المعارف والمضامين وفقها، فهي التي تفرض على المدرس اختيار الوسائل الديداكتيكية الملائمة من أجل توظيف أمثل لها، وليس العكس. من هنا يصبح سؤال التلاميذ عن الدرس أو المحور الذي يتأطر ضمنه الموضوع، لايقتضي جوابا مستفزا يقفز عن المشاكل الحقيقية التي تحول دون تحقيق الدرس لوظيفته التكوينية في مجال الكتابة الإنشائية، من مثل الجواب: ضمن محور الشر، بل جوابا آخر: ضمن فشل تعاقد بين المدرس والأستاذ سعت مذكرة 159 إلى ترسيخه بدلا عن إجماع، شعاره: الفلسفة النصيحة. 4) عود على بدء : التسويغ الفلسفي كتعاقد إذا كنا في هذا الرد على مقال الأستاذ شفيق اكريكر قد أبدينا نوعا من الدفاع عن مذكرة 159، فهو دفاع لايجب أن يفهم منه، بأنه من مفعول طابعها المؤسسي الإكراهي، بل هو دفاع عن وثيقة تستمد مشروعيتها من الفلسفة نفسها ككفايات، قدرنا كأساتذة هو أن نتوحد إزاء ترسيخها في عقول ووجدان تلامذتنا، كفايات تدعونا لنؤسس وحدتنا على الاختلاف والاجتهاد وليس على الإجماع بماهو إقصاء للمختلف فهي مذكرة تستمد قيمتها إذن من طابعها التعاقدي. وأعتقد بأن الجزء الثاني من مقال الأستاذ هو من وحي هذا التعاقد، لأنه من خلاله عبر عن تصوره الخاص لكيفية أجرأة كفاية الأشكلة، ولو نظريا، ككفاية توحدنا، دون أن تلغي اختلافنا في أجرأتها، وإن كنت أوافقه في كثير من ماورد في تصوره . (*) أستاذ الفلسفة بثانوية مولاي رشيد قصبة تادلة.