حتى نتمثل جيدا أن إرادة القوة والصراعات الحية والواقعية هي التي تتحكم في وضع المعايير، لنأخذ، على سبيل المثال، مكانة دول العالم الثالث أو دول الجنوب في مناظرة فيينا حول القوانين والمواثيق الدولية، فقد لوحظ أن القانون الدولي التقليدي هيمنت عليه مجموعة ضيقة من الدول. وقد كانت قواعده المتعاقد عليها وأعرافه تنظم العلاقات بين الدول المتكافئة، وكانت هذه القواعد تمارس لعبة الهيمنة وتكرس قبضة الدول القوية على الدول الضعيفة. هددت الولاياتالمتحدة باستخدام «الفيتو» ضد أي قرار يصدر في اتجاه قبول انضمام فلسطين إلى الأممالمتحدة بفتح ملف الفيتو الأمريكي ضد الدول العربية. منذ تأسيس الأممالمتحدة سنة 1945 استخدم الاتحاد السوفياتي (روسيا الآن) حق الفيتو 12 مرة، الصين 5 مرات، بريطانيا 32 مرة، فرنسا 18 مرة، بينما استخدمته الولاياتالمتحدة 87 مرة!! والعرب، وخاصة الفلسطينيين- كانوا أوائل ضحايا «الفيتو»، إذ صدر في حقهم 60 مرة لمناصرة الصهاينة. من يضع المعايير؟ كيف تتحكم في العدالة؟ من يجير ضحايا هذه المعايير من هذه السطوة؟ لم يعد القانون الدولي، حسب شارل شومون، سوى «مجموعة من المعايير الصورية المنسلخة عن محتواها الملموس، وخليط من الخدع والأوهام القائمة على منطق قانون الأقوى وعلى تمجيد فكرة «القانون من أجل القانون «باعتباره غاية في ذاته». وأما جورج أبو الصعب فيعبر عن كون المعايير لا يمكن أن تكون مجردة وصورية لأنها لن تحمي امتيازات الدول القوية، بل إنها لا تدعي المعيارية إلا لإخفاء الخلفيات المبيتة ضد الدول الضعيفة: «... لقد استعملت المواثيق لإحقاق الاستغلال والهيمنة وتثبيت القبضة على الدول الضعيفة. وهي غالبا ما تخدم فرض الحماية والاستغلال الاقتصادي وحماية الامتيازات، فكثير من الدول المستقلة حديثا لمست عن كثب ما فرض عليها من مواثيق مجانية وما ألزمت به من الانضمام إلى الأخلاق العسكرية تحت ضغوط قوية». وفي القانون الداخلي، نلمس أن المعايير التي يحكمها المشرعون غالبا ما تتجافى مع البعد الإنساني وإن بررت أحكامها ركونها إلى العدالة. وغالبا، أيضا، ما تنازع المعايير الموضوعة كخلفية للأحكام المتعلقة بالعدالة قوى المحافظة وقوى التغيير حتى إننا أخذنا نلمس أن الاحتجاجات والمظاهرات والنزاعات هي التي تصنع القانون وتعترف، أحيانا، بمؤسسات تصبح شرعية بحكم نزعة لا أخلاقية كالزواج المثلي والاعتراف بالأسرة غير الطبيعية. وفضلا عن هذا، فإن مسألة «تنازع القوانين» ما تزال تكشف عن علاقات غير متكافئة تتعارض فيها منظومات قيمية متباينة. لنعد الآن أدراجنا إلى علاقة العدل بالعدالة، من وجهة نظر فلسفية نقدية في إطار القانون الداخلي للمجتمع الذي هو نتيجة لفواعل متداخلة تؤثر فيه. يقول راولز: «يكون مجتمع ما منظما ومتراتبا إذا كان مجتمعا محكوما بتصور سياسي للعدالة الاجتماعية». فما هي العدالة، إذن؟ إنها العدل وقد صار مفعولا للعقلانية، أي نتيجة للتناول الجدي والحوار الحي بعيدا عن الإجماع العقدي، أي الوهم الطوباوي؛ فالإنسان يصنع علاقته وتصنعه من خلال تحققه وفقها. وعلى هذا النحو، يمكن أن نعتبر أن التصويت، مثلا، أساس التشريع، كالأساس الجديد، فمن خلاله نلمس أن القرار يتخذ اجتماعيا على أساس فردي حيث يجتمع العمومي والخاص باحترام الاستقلالية الفردية. في هذا السياق الفلسفي، والإبستيمولوجي والسياسي، لن تغدو المصالح السياسية والآمال التي ينشدها «المجتمع المدني» خاضعة لمستلزمات الحياة السياسية ومتطلبات الخيارات والرهانات الاجتماعية بقدر ما سيغدو الفرد/المواطن ينتقي الفرق بين العدل والعدالة. وعلى أساس هذه النتيجة، يزول الفرق أيضا بين المذهب الفردي والمذهب الاجتماعي. إن القرارات بشأن الحياة العمومية/العامة لا تكون مشروعيتها موقوفة على العدالة والعدل المطلقين، بل إنهما يتبعان الإجراءات الديمقراطية، حيث يكون المواطنون عاقلين ومستقلين، وبالتالي مسؤولين وأحرارا قادرين على التمسك بالحاضر ونبذ الماضي بالجرأة على المستقبل. ينبغي الانتقال من سيادة الدولة إلى سيادة الشعب، ومن هنا أولوية القيم السياسية على باقي القيم. ولسنا نعبر عن كون هذه القيم السياسية خالصة، بل إنها مركبة من رغبات ونوايا وآمال واستشراف المواطن الحر، العاقل والمسؤول. إن الليبرالية السياسية هي تحقق التكامل التام بين العدل والعدالة. وهي تشكل، أيضا، جوابا عن التحدي الذي تمثله التعددية لليبرالية السياسية المركزية، يمكن من ضمان الحريات المتساوية لكافة المواطنين دون اعتبار للفروقات الثقافية ولا للأصول العرفية ولا للاعتقادات الدينية ولا لمشاريع هؤلاء المواطنين في الحياة الفردية. تخصص العدالة والعدل الديمقراطية كصورة لتنظيم المجتمعات داخليا وفي ما بينها دوليا. ومهما تضاربت بشأن هذه النتيجة أشكال التحليل التي تنشأ على مستوى العلاقات المتبادلة بين ما هو سياسي وما هو فلسفي وما هو أخلاقي وما هو قيمي ينتسب إلى العدل، فإن مسألة «تغليب» القيم والأخلاق أو العكس لا تفهم إلا في سياق علاقات القوة داخل المجتمع أو بين المجتمعات. في فقرة تحت عنوان «المواقف الشخصية والتشكلات السياسية» عقدها فالرز في كتابه «بحث في التسامح»، ظهر جليا أن التخلي عن التفريق بين العدل والعدالة صار لازما للإيمان بالتعددية وعدم احتكار المعايير باسم الإطلاقية القيمية والتبادلية، منذ أرسطو، صارت في أزمة، ذلك أن «رفض الحق الطبيعي صار يعني أن كل حق هو وضعي». استنتاج لم أنهج إنشاء كلاميا في إشكالية تغليب القيم والأخلاق على المحاكمة العادلة انطلاقا من رغبة في تقديم إجابة حاسمة تقيم الفروق والتمايزات بين الأخلاق والقيم والمحاكمة ونحوهما. كما أنني لم أستطرد بصدد الإشكالية في نطاق تنازع خلفية الوقائع التي قادتني إلى تبني وجهة نظر «نظرية العدالة» التي راجعت الأسس التي قامت عليها التصورات التقليدية للمسألة، وأترك لعناية القارئ الاستفاضة إن قصرت في شيء. عبد الواحد شعير - أستاذ التعليم العالي/كلية الحقوق-المحمدية