لازال النقاش في عالمنا العربي، من المحيط إلى الخليج، حول حرية الصحافة موضوعا يستأثر الكثير من الجدل والخطابة التلفزيونية، فيما يفتقد إلى الكثير من البرهان العقلي. وتزداد حدته مع كتابة كل مقال في دورية ما، يكون قد لامس بكلماته مناطق ممنوعة من اللمس، أو ترتفع حرارة هذا النقاش كلما اعتقل صحفي أو كاتب هنا أو هناك؛ بعدها غالبا ما يتم إعادة النظر في العلاقة القائمة بين سؤال السياسة وسؤال الكلمة، أو بصيغة أخرى أدق : بين سؤال الدولة وسؤال المواطن، مادام الصحفي أو الكاتب في البداية ليس سوى مواطن يعبر عن رأيه، وإلا فلمن نترك الكتابة. وعند كل نقاش تبدأ الأسئلة في التناسل من قبيل : ما هي الحدود التي يجب أن يقف عندها كل من السلطة السياسية و«السلطة الرابعة»؟ ما الذي يمكن كتابته، وما الذي يمكن غض القلم وضمير صاحبه عنه ؟ هذه كلها هواجس إشكالية في وطننا العربي، خلقت لدى بعض الكتاب والصحافيين هوس داخلي اسمه " الخطوط الحمراء " والغريب أن هذه الخطوط الحمراء تزداد احمرارها كلما قل صبيب الإشهار أو زاد التهديد بالسجن، حتى أصبح الصحفي في بعض بلداننا ينظر إليه ك«مجرم» وصاحب سوابق عدلية. وهنا أستغرب دور ما يسمى ب«أخلاقيات المهنة» إن لم يجعل هذا الهاجس في غياهب السجون بدل الزج بأصحاب السلطة الرابعة إليها ؟ محمد عزيز الحبابي (19221993) واحد من هؤلاء الفلاسفة الذين تأملوا موضوع حرية الصحافة، في محور من محاور كتابه "من الحريات إلى التحرر" سنة 1972. ولإننا نؤمن إيمانا راهنيا على الأقل أن ما أبدعه هدا المفكر في تاريخه وجل مفكرينا، يمكن أن نناقش به قيمنا وأحكامنا والمعايير التي نضبط بها مقياس العلاقة بين الدولة والصحافة، وأن نراجع بها الكثير من الأمور التي يصبح النقاش فيها ومن أجلها سوى تحصيل حاصل، و هذا القول لا علاقة له بالنزعة الماضوية .. كلا، لكن أليس الفكر شقيا . يحدد الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي في مؤلفه "من الحريات إلى التحرر" هدف الفيلسوف، في إرادة " أنسنة العالم" جاعلا خيره الأسمى يمضي نحو تعبير صادق عن حياة لا تنفصل فيها الفكرة عن الفعل . فما «الفكرة» التي عبر عنها حتى لا تنفصل عن«فعل» الصحافة، وما الذي يمكن أن يتأمله فيلسوف الشخصانية المغربي في موضوع الصحافة ؟. بداية، يجب الإشارة إلى أن الفلسفة الشخصانية التي ينتمي إليها الحبابي لا تنظر إلى الثنائيات في إزدواج مجرد، بل في تكامل تركيبي، مع العلم أن الشخصانية في جوهرها، فلسفة تحرر" تعترف بما هو فردي، وإن كانت لا تسمح بالذوبان التام فيه ". ومنه يبدو جليا أن جوهر الفلسفة الشخصانية هو " التحرر" الذي سينعكس مداه المعرفي والقيمي بالتحليل والفحص النقدي على قضية الصحافة والسلطة ؛ فالبحث عن معنى كلمة "حرية " ساق فيلسوفنا إلى نفي أن تكون هناك حرية مادامت هذه اللفظة مجردة، ترافقها بلبلة، ولا يجد معها الفكر استقامته في نشاطه. لذلك، وكي يوضح أكثر مفهوم الحرية، جعل لها إضافة، وصاغها في السؤال التالي : حرية الصحافة، ما هي ؟ يلاحظ فيلسوفنا، أنه حتى في البلدان الديمقراطية لا يمر شهر مثلا إلا وتمنع صحيفة ما، ويضرب لنا مثال فرنسا أيام الحرب الجزائرية، لأن السلطة لا ترضى على مقال ما ... ثم مباشرة يطرح التساؤل المحرج التالي : فهل معيار حرية الصحافة إرضاء الحكومة ؟ سائرا في تأكيده أن منع الصحف يخالف حرية القول، ويجعل من الحكومة خصما وحكما، في وقت واحد. والحق، أن الفيلسوف لا يطرح هذه الأسئلة فقط من باب تمارين في الفكر السياسي أو ما شابه، بل يمضي إلى طرح تساؤلات محرجة جدا تناسب تماما ما أصبح عليه زمننا الإعلامي العربي المعاصر، هذه التساؤلات من قبيل : أحرية الصحافة هي أن يقول الناس ماشاءوا، فما شاءوا، وفيمن شاءوا، ومتى شاءوا، وأنى شاءوا ؟ إذا أجبنا بنعم، فمعناه أننا نجعل حرية الصحافة مرادفة للفوضى في القول، فاتحين الأبواب أمام التحريضات المختلفة والكذب، والتهديد بالتشهير«شانتاج» ، مما يعرض بحريات الآخرين إلى أخطار مادية ومعنوية. هنا يكون فعل الصحافة جريمة في حق المجتمع الذي«تنتمي» إليه إذا نظرنا إلى مرتبتها في هرم السلطة. تساؤل آخر يطرحه الحبابي في كتابه السابق الذكر، حول معيار حرية الصحافة وفي ما إدا كانت هي مشيئة رجال الأقلام (كأقلية من الناس) ودون أن يخفي حيرته ثانية يتابع تساؤله قائلا " إما أن نجعل المقياس هو إرادة الحكومة، وإما إرادة الصحفيين ومن يوحي إليهم بما يكتبون ". لكن، ماذا عن النقاش الدائر أفكاره حاليا حول «الصحافة» عموما، أليس مشروطا بحرية الإجتماع، والإجتماع تكون فيه آراء ضد أخرى بالضرورة. يقول الحبابي "الحكومة تتكون من أفراد ينتمون إلى هيآت يصعب عليهم أن يعاملوا، بتسامح، حرية الرأي عند خصومهم" ،" إذا كان خصمي حاكمي، كيف أصنع ؟". نعود مرة أخرى إلى الحديث عن الحرية، هناك من يفهم أن الحرية هي الفعل المستقل عن الغير سواء كان فردا أو مؤسسة، نعم .. لكن ليس بالمنتهى الذي يجعل الحرية تسقط في الفوضى العارمة بدل أن تعمر الحرية العالم والإنسان بقيم العادلة والكرامة والخير لكل المواطنين. لهذا نجد الحريات بأنواعها، ومنها حرية الصحافة، في صراع دائم، والصراع إن لم يكن خاضعا لمعايير وضوابط يتحول بصيغة مباشرة أو غير مباشرة إلى «فوضى» غابوية لها خصائص بشرية، فكل الأطراف المتصارعة هنا تعتقد في مبادئها الحق والصواب.ما العمل؟ . يقول محمد عزيز الحبابي " لكي لا يصبح الصراع فوضى، أو حربا شعواء، كان لزاما أن يتدخل رجال السلطة". لكن ضمن أية شروط أو ضوابط يجب أن يعمل رجال السلطة : أخلاقية أم قانونية ؟ ."لا يمكن لهؤلاء القيام بمهمتهم إلا إذا تحرروا من كل القوات المعادية للعدالة، وشعروا، بكيفية واضحة محكمة، بمسؤوليتهم. ولن يصلوا إلى ذلك إلا عن طريق الضمير، فهو منبع المسؤولية الأخلاقية ،خلافا لمن يدعي أن منبعها هو الخوف من القانون. من الواضح أن فيلسوفنا يجعل الحريات رهينة بالأخلاق في صميمها؛ فمصدرها الضمير، وثانيا لأنها، في الأول والأخير، تدعو إلى حكم قيمة :الخير والشر، القبح والجمال. وكلاهما قيم عليا تجمع كل أنواع البشرية، مما يجعلنا نصل معه إلى الاستنتاج التالي:الحريات في أصلها إنسانية،طبيعية، نوعية، أصلية. ومن سائر هذه الحريات: حرية الصحافة. نتساءل الآن:هل يمكن أن تخرج حرية الصحافة من الضمير الفردي إلى الضمير الجمعي؟ وهو تساؤل يتماشى مع تساؤل أخر يخص إمكانية أن يرتفع الضمير الفردي إلى الضمير الجمعي،حيث تتصل الأخلاق بالاجتماع لتكون بينهما صلة متينة؛ بمعنى أننا نطرح للتساؤل ضمير حرية الصحافة كشأن فردي وإمكانية انتقاله إلى قضية جماعية، رغم ضعف الوعي في مجتمعنا بالموضوع لدى الكل. ثم كيف تصان حرية التعبير كحق بالتساوي الملائم، ومعه كيف يصان الحق في حرية" التعليق " مادام الخبر مقدس حتى لا تصبح حرية الصحافة مستواها ضعيف ومحتواها مشكوك فيهوحتى لا تخرج السلطة عن جادة حكمها وحسن تدبيرها. الشعور بالمسؤولية تجاه حرية الصحافة في البلاد من طرف كل من يهمهم الأمر سواء عزم كل واحد منهم على سن قانون ينظم عملها أو يقوم بفتح نقاشات أخرى في ساحاتنا العمومية، البرلمان مثلا من شأنه أن يؤسس لحرية الرأي ودمقرطته، ولا يمكن أن نمضي إلى تحقيق تنمية شاملة وعقلانية دون عقل نقدي يعقل خطواتنا الإصلاحية بكل شجاعة، ويقدم فهما صحيحا لمشروع النهضة والتنمية على الأقل، الذي لا يمكن أن يتم بدوره خارج حرية الصحافة واستقلاليتها، ومن يعتقد غير ذلك فهو أمر مؤسف جدا، لأن البناء الحداثي للوطن العربي لا يستقيم بدون صحافته الحرة. أختم بدعوة للتأمل في فقرة لفيلسوفنا المغربي محمد عزيز الحبابي، عساها تنير طريقا من طرقاتنا الحالكة التي أصبحت حالكة بما يكفي، يقول الفيلسوف:"المعارضة قد تكون للفرد وللمجتمع. فحرية المعارضة أساس كل ديموقراطية . فالديمقراطية ، ليس ما في الدساتير مسطرا، ولكنها تجارب يحياها الفرد في الجماعة، ومع الجماعية. إنها ليست كائنا حيا، ولا عندية مكتسبة، بل فعالية داخل أطر تضمن لها المشروعية المجتمعية، بعد أن صارت واعية لواقعها في التجارب الوجدانية ". المصدر: القدس العربي