في ثمانينات القرن العشرين، بدأت علاقتي بجهاز التلفزيون، صندوق كبير في البيت، بالأبيض وبالأسود يعرض برامجه، ومدة بثه زمنيا قصيرة، وببرامج محدودة، فيما إذا فتحت الجهاز، من باب فضول الطفولة، وجدته فارغا إلا من صوت ضجيج الفراغ "تششششش". لم أولد في بيت فيه تلفزيون، بل كنت صغيراء، أمارس اللجوء إلى بيت الجيران لمشاهدة التلفزيون، ولا زلت إلى اليوم لا أعرف سبب عدم إدخال التلفزيون مبكرا، إلى البيت الأسري الذي كبرت فيه. في سهرات السبت الأسبوعية، الموعد المقدس للأسر المغربية، كلما أتيحت لي فرصة المشاركة مع الجيران وأنا صغير السن، أو مع العائلة في منازلهم، كانت تطل سيدة مغربية نحيفة وطويلة، كان شعرها مميزا أيضا، لكنها كانت لما تبدأ الغناء، كان الصمت يخيم على اللمة العائلية، وإذا تحدثت تلكزني الخالة أو أي شابة في البيت. يعم الصمت الجلسة العائلية، وهذه المغنية تقدم أغانيها الجميلة بصوت اكتشفت مع الوقت كم كان مميزا، عن باقي الفنانين الذين كانوا يشكلون المخيال الغنائي الجماعي للمغاربة، في السنوات الأولى لانتشار التلفزيون. مع الوقت ترسخت عندي جمل من أغنيتي "ياك آجرحي" وجريت وجاريت"؛ أغنيتان خالدتان في بيوت المغاربة جميعا، من سنوات الرومانسية الجميلة في ثمانينات القرن العشرين. نجحت سيدة الغناء المغربي، الراحلة نعيمة سميح، في جمع المغاربة على قلب نص غنائي واحد، أصبحت تتحدث بلسان أوجاع المغاربة في قصص الحب، وفي يوميات الكفاح في الحياة. فابنة الدارالبيضاء، كبرى مدن المغرب، وجدت لها عشاقا في كل المغرب. ففي شمال المغرب حيث كبرت صبيا شقيا وفضوليا، كانت سهرة السبت الأسبوعية تحمل طابعات خاصا لما تغني نعيمة سميح بصوتها ببحة وبنبرة استثنائية. تتوقف بنات الجيران أو العائلة اختياريا عن تناول حبات عباد الشمس/ الزريعة، لما تغني نعيمة سميح، يتركن الصمت يخيم على المكان، قبل الغرق الجماعي الاختياري في الإصغاء إلى ما تتفنن سميح في تقديمه على خشبات مسارح المغرب. في اليوم الموالي، لا تتردد الفتيات المغربيات في العائلة بالدندنة بأغاني نعيمة سميح، كان تعبيرا صادقا عن عشق صوت نعيمة سميح، وإقرارا بأن هذا الصوت الملائكي المغربي يكشف ما يختلج في القلب من نبضات عشق أولى في مسلسل الحياة. أثتت الراحلة نعيمة سميح خيال أجيال من المغاربة، صوتها بقي حيا على الأقل طيلة 30 عاما، باعتبارها نجمة صف أول، يسمعها الكبير والصغير، نساء ورجالا. في زمن انهيار الذوق العام، وانتشار ثقافة تمدير الجمال، توارت نعيمة سميح بشكل اختياري وإرادي؛ لتبقي عند جمهورها صورة مرصعة بالتألق، لا يخدشها وهن ولا مرض.