وصلتني رسالة عن امرأة استثنائية، وظلت هذه الرسالة تتنقل لأيام عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إنها ليست رسائل جديدة عن امرأة اعتبرها الجميع أنها ذكية ومتواضعة وقوية. غادرت المشهد السياسي العالمي دون احتفال رسمي يليق بتاريخ السيدة أنجيلا ميركل، التي أتت في ظروف جد استثنائية لقيادة ألمانيا لمدة أزيد من 18 سنة. إنها فعلا زعيمة، لكن الحزب لا يعتبرها كذلك لأن أي خطأ منها كان يحاسبها عليه أشد عقاب، فالزعامة هي مسؤولية وقيادة مشتركة للحزب. لكن السيدة أنجيلا ميركل ظلت فوق كل الشبهات. قادت بمسؤولية واحترافية وإخلاص لتحقيق أهداف حزبها وإرادة الشعب الألماني معا. بدون ضجة إعلامية، غادرت أنجيلا ميركل منصبها. لم تخرج باكية تريد رِيعا مدى الحياة من أموال دافعي الضرائب رغم خدمتها الطويلة لهم. خرجت وهي تقطن منزلا متواضعا بين جيرانها وأصدقائها. لم تخرج مهللة لأدوارها التاريخية الحاسمة في العديد من القضايا، وأن لولاها ما نجحت ألمانيا وأوروبا قاطبة في الخروج من العديد من الأزمات أو التصدي لعدة تحديات جيوسياسية حاسمة في المنطقة أو في العالم. لم تخرج المرأة المؤثرة في أعظم دولة في العالم لتدعي أنها المجد والعلا وصانعة للمرحلة الجديدةلألمانيا. لم تخرج صارخة في وجه منخرطي ومنخرطات الحزب أو في وجه الشعب الألماني أنها مَن أنقذت اقتصاد بلدها من الأزمة، خاصة بعد انهيار جدار برلين. لم تخرج لتصفية وتحقير منافسيها وأعدائها. لقد خرجت أنجيلا ميركل دون أن تتفوه بأي هراء ودون أن تركب سيارة فخمة مصفحة خوفا على حياتها، فهي تعلم أن التضحية في سبيل الوطن قول وفعل. نعم، خرجت أنجيلا ميركل وهي متواضعة في تصرفاتها وهادئة في تصريحاتها لأنها تعي حجم الأمانة التي في عنقها، مما زاد تعلق شعبها وحزبها بما قدمته. وقد استطاعت أن تبعث برسائل واضحة إلى الجميع مفادها أن محاربة التفاوت الاجتماعي خطوة مهمة لتحقيق دولة قوية وسيادية دون الاتكال على أحد من دول الاتحاد، حتى وإن كانت ألمانيا جزءا مهما من هذا الاتحاد، إن لم يكن هو نفسه الاتحاد. نعم، إنها حقيقة امرأة سياسية، تركت الكرسي الرئاسي للحزب لمن سيخلفها في مسلسل ديمقراطي سلس دون خروج الملايين للهتاف باسمها. تركت الكرسي لمنافسها دون أن تعلق عليه بأن بينهما مجرد "كلام عابر" أو "سلام غير حار". بل على غير ابتلاءاتنا، تجدها تعهدت لمنافسها في اجتماع حزبي مسؤول بأنها رهن الإشارة في أي شيء يتعلق بمصير الحزب والوطن، وبأنها ستبقى المرأة التي تخدم وطنها بكل إخلاص ووفاء. إن هذه الرسالة الرقمية أزعجتني وأسعدتني، ربما هو شعور تقاسمته مع العديد من المغاربة والمغربيات. رسالة ليس فيها نفاق وتمثيل وتطبيل. على عكس ما يلاحقنا هذه الأيام بل هذه السنوات من تفاهات وأقوال عن وطنية مصطنعة تريد أن توهمنا بأن صاحبها أنقذ البلد والعباد. وحتى إن كان كذلك، دع التاريخ يتحدث عنك وعن أمجادك كما فعل مع من غادرونا إلى دار البقاء وتركونا-رغم اختلافاتنا أو تناقضاتنا معهم-نقدرهم ونحترمهم لتواضعهم وحسن سلوكهم وللأثر الطيب الذي تركوه في نفوسنا. بساطة وعفوية ومصداقية الرموز السياسية للبلد أنجح البرامج لتشجيع الشباب على الانخراط السياسي والمشاركة السياسية حتى وإن ارتفعت الضرائب. لكن ماذا نقول عن الابتلاء الذي ابتلي به المشهد السياسي المغربي، البحث عن القيادة "مدى الحياة" دون خوف على المشروع السياسي للحزب ولا على التعاقدات الاجتماعية لإنجاح المشروع التنموي للمغرب. لينضاف إلى هذا التهافت والزعامة المزيفة، برامج سياسية ممسوخة، وتأطير حزبي ضعيف وفارغ، وحضور إعلامي ورقمي ضعيف وباهت يفقد للحزب مكانته وللدستور مشروعه المجتمعي والسياسي. إننا في مرارة العيش في عالم سياسي معتم وعقيم أفسد الديمقراطية الداخلية للأحزاب ومؤسسات الدولة، وكذا شجع على الريع السياسي والاقتصادي بدل محاربته. كم نحتاج إلى امرأة استثنائية أو رجل استثنائي يعيد لنا بعضا من الأمل والثقة في المغرب على أنه قادر على لعب دور قيادي في إفريقيا ولم لا في العالم. شخص قادر أن يبقى ثابتا حتى في حظرة الدب الروسي، ويستطيع المناورة الكلامية مع أكبر صحافيي/ات العالم. الحزب مدرسة تستطيع إنتاج أطر وكفاءات، لهم من الدهاء السياسي ما يجعلهم قادرين على تحقيق أهداف الحزب المرحلية والاستراتيجية ولعب أدوار طلائعية في التغيير الداخلي والخارجي. فالحزب يعي حجم التحديات التي يواجها، سواء على المستوى المحلي أو العالمي. أما إذا كان الحزب لا يستطيع سوى خداع المواطن البسيط أو تحقيق طموح المنافق والوصولي، والرهان على ربح جولة انتخابية بأدوات وآليات رخيصة، فإنه بذلك يدق في كل جولة من جولاته مسمارا في نعش الديمقراطية. إن انتصار الحزب "الجزئي" بأساليب بدائية يمكن أن يربح بها داخليا، بيد أنه لا يمكن أن يقنع بها بقية العالم. فكل دولة مراقبة، وخاصة المغرب نظرا لعدة اعتبارات جهوية وإقليمية. الحزب السياسي لا يجب أن يهلل ويطبل لكل شيء، بل يجب أن يمتلك الجرأة والقدرة على التعبير عن مواقفه السياسية وممارسة المعارضة لإنجاح المسلسل الديمقراطي. إن هذا السلوك والممارسة السياسية قادران على تصحيح المسارات، واسترجاع الثقة، وإنجاح المشروع التنموي. أما الخوف من فقدان الكراسي والزعامات لن يؤدي إلاّ إلى النفور السياسي وإلقاء البلد في الضياع لأن شبابه قادر على فتح قنوات جديدة للتنظيم والتأطير والمشاركة السياسية وفق ما يجده لنفسه مناسبا يعبّر عنه وعنْ مَا يريد. فالسياسة لا تعشق الفراغ… ألم يحن الأوان لأن تقوم بعض الأحزاب-إن لم أقل معظمها-بالمراجعة السياسية؟