في الوقت الذي كانت فيه أكثر من 600 ألف نسمة تحتفل بين بوابة براندنبورغ وسارية النصر ببرلين بمناسبة مرور 60 سنة على تأسيس ألمانيا المعاصرة، كان البرلمان الألماني يشهد فصلا آخر من تدعيم الصرح الديمقراطي للبلد و ذلك بانتخاب الرئيس. و بغض النظر عن السجال السياسي الذي فجره إعادة انتخاب هورست كوله كرئيس للبلد حيث رأى فيه البعض إشارة قوية لطبيعة التحالف السياسي الذي قد تحمله انتخابات البندستاغ في ال 27 من سبتمر القادم بتثبيت أنجيلا ميركل كمستشارة لألمانيا وغيدو فيستهفيله كوزير للخارجية وهو التحالف الذي يحلم به هذا الأخير منذ أن تقلد أمور الحزب الحر الليبرالي. فبغض النظر عن هذه الفرضية كان يوم السبت الماضي يوما استثنائيا في تاريخ ألمانيا الفدرالية التي وقفت فيه أمواج من البشر على مرمى البصر تهتف جميعا " لقد أصبحت ألمانيا بلدا عاديا"، زاد من شعور الفرحة نتائج الاستفتاء الذي قامت به القناة البريطانية البي بي سي والذي أظهر أن ألمانيا أكثر بلد يحبه العالم؛ من خلال استطلاع للرأي شمل13575 شخصاً من 21 جنسية. ستون سنة على إقرار الدستور الألماني قبل ستين عاماً وبالتحديد في الثالث والعشرين من شهر مايوعام 1949، وقف كونراد أديناور، بصفته رئيساً للبرلمان المكلف بوضع الدستور، أمام الملأ ليزف للألمان نبأ الانتهاء من صياغة دستور ألمانياالغربية آنذاك. كان أديناور آنذاك يتولى منصب عمدة مدينة كولونيا ويرأس الحزب المسيحي الديمقراطي في ولاية شمال الراين ويستفاليا. وبعدها بأربعة أشهر، تم اختياره ليصبح أول مستشارا لألمانيا الاتحادية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وكان من المقرر أن يكون هذا الدستور أو "القانون الأساسي" انتقاليا، ولم يتصور أحد آنذاك أن هذا الدستور سيظل معمولاً به لمدة ستة عقود، وسيصبح بعد ذلك دستورا لألمانيا بعد إعادة توحيدها. ولم يكن الطريق أمام أديناور ومن معه مفروشا بالورود، بل كان عليهم مواجهة العديد من التحديات والصعاب حتى تم التوصل إلى صيغة "القانون الأساسي" في مدينة بون. ففي صيف 1948 تم تخصيص قاعة لاجتماعات البرلمان بصورة انتقالية في القاعة الكبرى بمتحف العلوم الطبيعية في بون. وعنى المجلس برئاسة أديناور بوضع مبادئ "القانون الأساسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية". وعلق أحد الإذاعيين، الذين عاصروا هذا الحدث التاريخي والترتيبات الأولى لأول جلسة في المتحف بقوله: "هنا ستُعقد الجلسة رفيعة المستوى محاطة بالأفيال الهندية والهياكل العظمية التي تم تجميعها من جميع بلدان العالم". وفي هذا السياق، اتفق خبراء القانون والدستور في الأحزاب السياسية الكبرى على أن شكل الدولة المخطط سيكون بمثابة شكل انتقالي وتم اختيار مدينة بون لتكون مقرا للاجتماع. وبسرعة شديدة تم تأسيس مكاتب ومنازل لأعضاء البرلمان. وتحت رئاسة كونراد أديناور، عمل رجال القانون والبرلمانيون على وضع برلمان "انتقالي" للبلاد، يحتوي هذا القانون على كل دعائم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وطالب كارل أرنولد، رئيس وزراء ولاية شمال الراين ويستفاليا أعضاء البرلمان أن يفكروا في كل كلمة يكتبوها داخل القانون قائلاً: "يجب أن يصبح هذا القانون ميثاقا للحياة العامة في ألمانيا ويجب أن يضمن للفرد الأمان ويمنحه اليقين بأن حقوقه كإنسان مصانة لا تُنتهك وستدافع الدولة عن حمايتها بكل الوسائل الممكنة، وأن الفرد يمكنه أن يعيش ويعمل بها بلا خوف أو قلق".
جسر الصداقة الذي أنقذ برلينالغربية من الجوع المحقق
قبل ستة عقود، في الرابع والعشرين من يونيو 1948 أمر الرئيس السوفيتي آنذاك جوزيف ستالين بإغلاق جميع الطرق البرية والنهرية المودية إلى غرب برلين. كان هدف ستالين من وراء ذلك منع المارك الألماني من الدخول إلى شرق المدينة الذي كان تحت سيطرة السوفييت. كما هدف إلى إرغام الحلفاء الغربيين، الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا على العدول عن مشروع تشكيل حكومة لمناطقهم تمهد لقيام ألمانياالغربية، إضافة إلى إرغامهم على تسليم برلينالغربية وضمها للمناطق التي سيطر عليها الاتحاد السوفيتي وشكلت لا حقا برلينالشرقية. غير أن الحلفاء لم يتركوا برلين لقمة سائغة لستالين، إذ لم يترددوا في إنقاذها ومنع انتشار المجاعة فيها عن طريق جسر جوي تم عن طريقه تزويد المدينة المحاصرة بالوقود والأغذية والأدوية. بدأ العمل بهذا الجسر، الذي ما يزال الأهم من نوعه عبر التاريخ في مجال نقل المساعدات الإنسانية، بعد يومين على إغلاق الطرق، أي في السادس والعشرين من يونيو 1948. وخلال فترة العمل به حتى الثاني عشر من مايو 1949 تم القيام بأكثر من 270 ألف رحلة طيران نقلت ملايين الأطنان من البضائع لتموين سكان غرب برلين الذي بلغ عددهم آنذاك أكثر من ملوني نسمة. لم يكن الكولونيل جيل هالفورسين الذي يبلغ الآن من العمر 87 عاما من أوائل الطيارين الذين تجرئوا على القيام بالرحلات الخطيرة فقط. فقد جاء كذلك بفكرة رمي الشوكولاته من نوافذ الطائرة قبيل هبوطها على مدرجات مطار تيمبلهوف. وقد نفذ هذه الفكرة مع رفاقه الذي رموا السكاكر لأطفال برلين يوميا. وقد فرح هؤلاء مع ذويهم لذلك أطلقوا على الطائرات التي نقلت لهم المؤن "قاذفات الزبيب" تيمنا بالحلويات التي رمتها أثناء الهبوط. كما أطلقوا على الكولونيل لقب العم شوكولاته. وفي عام 1948 كان في مقدمة الطيارين الذين نقلوا المؤن إلى غرب برلين المحاصرة. وفي تصريح له في هذا السياق قال: "منذ بدأت الطيران بمعدل ثلاث مرات يوميا إلى غرب برلين انطلاقا من غرب ألمانيا في عامي 1948 و 1949، أضحت المدينة وطني الثاني". ومنذ بداية تزويد غرب برلين بالمؤن تبدلت النظرة المعادية للأمريكان من قبل الألمان باعتبارهم محتلين لوطنهم، وكذا من قبل الأمريكان تجاه الألمان على خلفية العداء للنازيين، مما أرسى بالتالي الصداقة الدائمة بين الطرفين.
مرحلة إعادة الإعمار والبناء في الوقت الذي تمكّنت فيه ألمانياالغربية عقب تأسيسها عام 1949 من بدء حقبة زرع المبادئ الديمقراطية وإعادة الإعمار بفضل خطة مارشال، التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكي حينها جورج مارشال وتم بموجبها ضخ مبالغ ضخمة في مشروعات إعادة البناء، كان الأمر مختلفا في ألمانياالشرقية ذات النظام الاشتراكي. فقد غادرها ثلاثة ملايين شخص باتجاه ألمانياالغربية بحثا عن حياة أفضل، ما دفع القوى الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، إلى بناء جدار برلين عام 1961 لمنع مواطني ألمانياالشرقية من المغادرة إلى الشطر الغربي. أما ألمانياالغربية وقتئذ فقد تمكّنت من إعادة بناء صناعتها والتحوّل إلى دولة صناعية مصدّرة. ولكن سرعان ما وجدت نفسها دون يد عاملة كافية لتلبية الطلب المتزايد على السلع. وللتغلب على ذلك، قامت ألمانيا بجلب اليد العاملة الأجنبية التي أطلق عليها "العمال الضيوف"، و التي انطلقت في الخمسينيات وتوقفت سنة 1973 وهي الاتفاقيات التي جلبت اليد العاملة من إيطاليا، تركيا البرتغال، أسبانيا واليونان ومن دول عربية كالمغرب وتونس.
الحرب الباردة والخريف الألماني تزامن الازدهار الاقتصادي الذي طبع سنوات الخمسينات و الستينات في ألمانياالغربية بتوتر العلاقات مع ألمانياالشرقية والدول الموالية للاتحاد السّوفياتي السابق. وكان فيلي برانت، الذي انتخب مستشارا لألمانياالغربية عام 1969، هو أوّل من بدأ بإجراء حوار مع دول أوروبا الشرقية المنضوية تحت حلف وارسو، في خطوة خفّفت من توترات الحرب الباردة. وبعد استقالته واجه خلفه المستشار هلموت ما سمي بفترة الخريف الألماني، وهي فترة وصفت آنذاك بأنها أكبر تحد يواجه ألمانياالغربية والتي تمثلت في ظهور "منظمة الجيش الأحمر"، التي كانت حركة حرب عصابات يسارية، نُسبت إليها مسؤولية قتل 34 شخصا من رجال أعمال بارزين وشخصيات عامّة في ألمانياالغربية، قبل حلّها عام 1998.
شكل سقوط جدار برلين في نونبر 1989 كما شكل بناءه سنة 1961 الحدث الأبرزلألمانيا خلال الستين سنة الماضية. ولقد مهد هذا السقوط لاعادة توحيد ألمانيا سنة 1990. لقد اعتبر عدد من السياسيين و المراقبين في ألمانيا أن سقوط جدار برلين هو يوم التحرير الحقيقي الذي يمثل النهاية الحقيقية للدكتاتورية في أوروبا. ففي مقال كتبه في صحيفة "فيلت ام زونتاغ" يشكك هوبرتوس نابي، أحد المؤرخين الألمان، في رواية التحرير قائلا: "كان الثامن من مايو يوم استقلال جلب الحرية والديمقراطية. كان تحريرا لكنه كان تحريرا ضد إرادة الذين جرى تحريرهم." وأضاف أن "الملايين في ألمانياالشرقية لم يروا شيئا من تلك الديمقراطية. ويخشى نابي من أن يخفي الحديث عن التحرير خطوة تعفي الالمان من المسؤولية. وقال "اذا كان الألمان تحرروا في عام 1945 فإنهم لا يمكن أن يكونوا اذا مسؤولين وانما ضحايا للنظام." الا أن المؤرخ فولفغانج فيبرمان لا يوافق على فكرة التهرب من المسؤولية عبر الحديث عن التحرير. ويرى أنه لا بد من النظر الى الثامن من مايو على أنه "يوم للتحرير لانه أنهى المحرقة وحرر أولئك الالمان الذين عارضوا النظام." وتمكّنت ألمانيا الموحّدة من الظهور بشكل متميّز على الصعيد السياسي العالمي من خلال مشاركتها على سبيل المثال بجنود في قوات حلف شمال الأطلسي في البلقان وأفغانستان. كما أنه من خلال رفض المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، المشاركة في الحرب التي قادتها الولاياتالمتحدة ضد العراق في آذار/ مارس 2003، ازدادت شعبية ألمانيا في عدد من دول العالم. وفي عام 2005 تولّت أنجيلا ميركل، كأوّل امرأة في التاريخ الألماني، منصب المستشارية، لتستلم بدورها مسؤولية الخروج بألمانيا من فترة عصيبة، ألا وهي تداعيات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد الألماني. كأس العالم 2006 و الاعتزاز بالنفس لم يكن تنظيم كأس العالم في ألمانيا سنة 2006 فرصة لاستعراض التطورات التقنية فقط بل أيضا كان فرصة للألمان أن يقفوا فيها مع أنفسهم ليتأملوا ما مضى من الآيام. فمن المعلوم أن دورة 2006 هي أول دورة تنظمها ألمانيا الموحدة تحت شعار العالم ضيفا عند الأصدقاء. و لقد خلفت هذه الدورة جدالا سياسيا بعدما تمكن الألمان ومنذ الحرب العالمية الثانية أن يقولوا وبصوت مرتفع" أننا فخورون بكوننا ألمان" حيث بدأت ترفرف الأعلام الوطنية ويردد النشيد الوطني دون السقوط في الشعور الوطني اليميني الذي يحيل على فترة النازية. لقد استطاع الألمان التأكيد على أن البلد بدأ يخطو خطواته في اتجاه التطبيع النفسي و التاريخي.