إذَا ظهر أنّ "الإلحاد" - بما هو نُزوعٌ إلى نفي الأُلوهيّة بإطلاق- لا يَقبل أن يُعلَّل عقليّا (لأنّ من يَجرُؤ على نفي «وُجود الله» يُفترَض فيه أن يكون كاملا، على الأقل، في عقله وعلمه حتّى يُمْكنَه أن يُحيط بحقيقة «وُجود الله» الذي يُوصف بأنّ له «كلّ صفات الكمال» ؛ والحال أنّ مُدَّعي "الإلحاد" لا بُرهان له على كمال عقله وعلمه، وبَلْهَ وُجودَه! اُنظر «لماذا لستُ مُلْحِدًا؟»)، فإنّ ما يجب أن يُنظَر فيه هو الكيفيّة التي يُمكن أن يُحتجّ بها عقليّا على «الإيمان بالله» خصوصا أنّه قد صار شائعا أن يُقال بأنّ «التّدْليل العقليّ على وُجود الله» مُمتنعٌ إلى الحدّ الذي لم يَعُدْ بعض "المُبطلِين" يَتردّدون عن القول بأنّ «الإيمان بالله» ليس سوى وَهْمٍ في أذهان من 0فتقدوا رُشدَهم أو خُرافةٍ في أفئدة من لُقِّنوا الخوف من المجهول. ولا بُدّ، 0بتداءً، من مُلاحظةِ أنّ إرسال القول بأنّ الله لا يُمكن أن يُدلَّل عقليّا على وُجوده يَقتضي أنّ "الإيمان" لا عقل (أو لا معقوليّة) فيه و، من ثَمّ، فكُلّ من آمن بالله في مُختلِف العُصور كان بلا عقل أو منقوص "العقل". ولعَمْرِي إنّ قولا يَترتّب عليه مثل هذا الاستنتاج ليُعَدّ قولا لا يَأتيه إلا من يُريد الاستئثار ب"العقل" و"المعقوليّة" كامتياز لا يَعْدُوه إلى من سواه. لا غَرْوَ، إذًا، أن يُؤكّد بالمُقابِل أنّ من كانت تلك رغبتَه أو ظنَّه هو الذي لا يَبعُد أن يكون بلا عقل أو منقوص "العقل"! إنّ كثيرين لا يرون في الانقلاب الكَنْطيّ إلا هَدْمًا للخطاب الميتافيزيقيّ (أيْ "الدِّيني" في ظنِّهم) وتأسيسا للخطاب العلميّ (أو "العَلْمانيّ" كما يُريد بعضُهم). ذلك بأنّهم لا يُريدون من نقد "كنط" ل«الإلاهيّات العقليّة» أن يكون سوى تأكيدٍ لامتناع «التّدليل العقليّ» على وُجود الله (و0متناعه، أيضا، على وُجود النّفس ومحدوديّة العالَم) و، من ثَمّ، 0ستبعاد "الميتافيزيقا" كمعرفة جَدليّة مُتناقضة وحَصْر "الدِّين" في حُدود «العقل المُجرَّد» على النحو الذي يجعل - كما يشتهون- "العِلْم" سيِّد "الحقيقة" بلا مُنازِع لقيامه على التّجرِبة الموضوعيّة. لكنّ المرءَ لن يَحتاج إلى كثيرِ كلام ليُبيِّن أنّ الذين وَقفُوا عند ذلك الحدِّ لم يقرأوا من "كنط" إلا ما يُسفِّه أفهامَهم بالتحديد، لأنّ هذا الفيلسوف هُو نفسه الذي قال «كان عليّ، إذًا، أن أستبعد [أو أُزيل] العِلْم لأفسح المجال للإيمان، [...]» («نقد العقل الخالص»، مقدمة الطبعة الثانية)، أيْ أنّه في نقده ل«العقل المُجرَّد» لم يُبيِّن فقط حُدوده في «التأمُّل الفلسفيّ»، بل أظهر حُدوده في «المعرفة العلميّة» التي لا يُمكن للعقل بطبيعته أن يَتجاوز فيها "الظواهر" المُعطاة في الواقع التّجربيّ (فلا العقل الفلسفي ولا العقل العلمي بقادر على تجاوُز "الظواهر" إلى "البَواطن" التي هي «الشيء في ذاته» الذي 0ستبعده "كنط" من موضوعات المعرفة). ولذلك، فإنّ ما يَغيب عن ضحايا الفهم المغلوط إنّما هو كونُ "كنط" - في بيانه 0متناع «البُرهان الصُّورِيّ» على وُجود الله- قد نَقل المُشكلة من مجال «المعرفة النّظريّة» (سواء أكانت علميّةً أمْ فلسفيّةً) إلى مجال «المعرفة العَمَليّة»، وبالضبط إلى "الأخلاق" حيث كان يَتصوَّر - هو نفسه- إمكان الدّليل الوحيد على وُجود الله (على الرغم من أنّه لم يَتجاوَز به، في الغالِب، وَضْع "المُسلَّمة"!). ويجب، هُنا، ألا يَخفى أنّ نُقْلة "كنط" تلك لا تعني حصر "الاستدلال" على الله في مجال "الأخلاق" (كما لو كان لا دليل عليه إلا الدّليل الخُلُقيّ)، بل تعني في الحقيقة أنّ "الاستدلال" يُعَدّ بالأساس عَملا خُلُقيّا من حيث إنّه يَتعلّق ب"الخطاب" بما هُو مُمارَسةٌ معياريّةٌ موضوعُها «صِدْق الاعتقاد» و«صحّة العمل» وغايتها طلب «فضيلة الصواب» و«حقيقة الصّلاح». وبهذا، ف"العقل" - بخلاف الظنّ الشائع- أوثقُ صلةً ب«العمل الخُلُقيّ» وأبعد ما يكون عن «الإجراء الفكريّ» (المُجرَّد تماما من كل عمل). إنّه ليس فقط وسيلةً لإدراك العَلاقات بين الأشياء أو الظواهر، وإنّما هو بالأحرى - كما يُؤكِّد الفيلسوف "طه عبد الرحمن"- «عَمَلٌ عَلاقيٌّ» على النّحو الذي يَجعلُه يَتحدّد بما هو "مُعاقَلةٌ"، أيْ أنّه لا يَتحقّق إلا بما هُو «مُعامَلةٌ خُلُقيّةٌ» تَتوسّل «النُّطْق/الخطاب» مُحاوَرةً بالبَلاغ المُبين وتنبني على «الحِجاج» مُجادَلةً بالتي هي أحسن. وعلى هذا الأساس، فإنّ من يَذهب به الظّنُّ إلى أنّ "الاستدلال" على وُجود الله مُمتنعٌ بإطلاق إنّما يُثْبِت سُوءَ فهمه أو سُوءَ نيّته. وإنّه ليَنبغي، بهذا الصدد، تأكيد أنّ "كنط" نفسَه قد وَقَع ضحيّةَ المنطق الصوريّ الأرسطيّ الذي كان يظنُّه تامًّا بما لا مَزيد عليه. ولهذا، فإنّ الذين لا يَفتأون يَلُوكون القول بامتناع «التّدْليل العقليّ» على وُجود الله لا يَفعلون أكثر من الدّلالة على جهلهم بحقيقة الانقلابات الكُبرى في مجال "المنطقيّات" و"البَلاغيّات" على الأقل منذ نهاية الخمسينيّات من القرن الماضي (بالخصوص مع أعمال كل من "شارل پيرلمان" و"ستيفن تُولمين" [1958]). وقد يَكفي، في هذا المقام، أن يُشار إلى أنّ معرفتَنا بحقيقةِ "الاستدلال" تعمّقتْ وتوسّعتْ مُنذئذٍ بما يجعل من لا يزال يَظُنّ أن «التّدْليل العقليّ» لا يكون إلا بُرهانًا صُوريّا في غفلةٍ لا يَرتضيها لنفسه من كان يَدَّعي الحرص على "العقل". ذلك بأنّ "الاستدلال" (reasoning/raisonnement) في واقع المُمارَسة الإنسانيّة أوسع وأغنى من ذلك النوع الذي 0شتهر، منذ "أرسطو"، باعتباره قياسًا بُرهانيّا يُفيد اليقين القطعيّ الذي لا مجال للشك فيه (أو معه). وهكذا، فقد صار «التَّدْليل العقليّ» يَشمل - في إطار المُكتسبَات المُعاصرة- كل أنواع الأدِلّة سواءٌ أمكن صوغُها صُوريًّا أمْ 0متنع بفعل تلبُّسها ببِنْيات اللِّسان الطبيعيّ، بل أُعيد الاعتبار لهذا النوع الأخير من الأدِلّة بصفته أوسعَ وأنسبَ من تلك الأدِلّة التي يُبالَغ في قَطْعها عن سياقها التداوُليّ ويُتشدَّد في تسويتها تجريدًا صُوريّا وتَحْسيبًا آليًّا. بِوُسْع المرء، إذًا، أن يُؤكِّد أنّ "المَنْطقيّات" أصبحتْ مُتداخلةً مع "البَلاغيّات" و"الخِطابيّات" بما يَسمح بجعل «علم الكَلام» (أو "الكَلاميّات") أشدّ حاضريّةً، من حيث إنّه يُمثِّل الطريقَ الأنسب نحو بناء معرفةٍ علميّةٍ بحقيقةِ الأُلوهيّة في صلتها بالعمل الكلاميّ والبيانيّ بما هو عملٌ عَقْليٌّ وخُلُقيٌّ يجد أصلَه في «الكلام الإلاهيّ» (الذي هو «سيِّد الأدِلّة») ويُعبِّر عن الفاعليّة الإنسانيّة في تميُّزها الجوهريّ كفاعليّة دالّة وتجدُّدها الفعليّ 0ستشكالا و0ستدلالا. ومن هُنا يَأتي السرّ في أنّ «الوحي الإلاهيّ» كان بالأساس "كَلاما" و"بَلاغا" يُصاغ في اللُّغة البشريّة بما يَكفُل الدّلالة على «المُراد الإلاهيّ» بما هو هُدًى يُعلَّم ويُتعلَّم كتابًا وحِكْمةً. ومن ثَمّ، فإنّ الدّعوة إلى تجديد «علم الكلام» ليستْ - كما يَعتقد بعضُهم- دعوةً إلى 0سترجاع مُماحَكات الجدل العقيم (كما عُرف ومُورِس في الفكر الوسيط) أو إلى 0ستحياءِ علمٍ زائف قد عَفّاه الزمان، وإنّما هي سعيٌ جادٌّ يقوم على الوعي بأهميّة «التُّراث الكلاميّ» (كتُراث مَدارُه البحث المنطقيّ والمنهجيّ في الاعتقادات حِجاجًا ومُناظَرةً) وأيضا بمُستجدّات الفكر المُعاصر على أكثر من مُستوى (اللسانيّات، فلسفة اللغة، فلسفة المعرفة، فلسفة العلوم، علوم التّعرُّف، إلخ.). وعليه، فلا كلام بعدُ في "الإلهيّات" أو "الغيبيّات" إلا على أساس عِلْمٍ حيّ بأدلّةِ «الكلام الإلاهيّ»، ولا يكون ثمّة علمٌ بهذه الصفة إلا من حيث هُو مُمارَسة خِطابيّةٌ وحِجاجيّةٌ مَبناها على «التّدْليل العقليّ» تدبُّرًا 0عتباريّا وتعرُّفًا عَمليًّا. ولعلّ ممّا يُستغرَب، في مجال التّداوُل الإسلاميّ-العربيّ، أنّ الدّليل على «وُجود الله» طُلِب في كل شيء إلا في الشّهادتين. ولهذا يَجدُر، هُنا، أن يُنظَر بالخصوص في القول الأوّل منهما («لا إلاهَ إلّا اللّهُ») بصفته قولا 0ستدلاليّا يَتضمّن الشهادة التامّة بأنّ الله - عزّ وجلّ- هو «واجبُ الوُجود» الذي لا مراء فيه تعقُّلا ظاهرا وليس تكلُّفًا بعيدًا. وأكيدٌ أنّ مَن يَتلقّى هذا الأمر لأوّل مرّة سيَأخُذه العجب إلى أبعدِ حدٍّ: كيف تكون عبارة «لا إلاهَ إلّا اللّهُ» 0ستدلالا يَصلُح أن يُحتجّ به على «وُجود الله» بأكثر من وجهٍ، بل بوجه فيه الدّلالة على معقوليّة "الإيمان" تماما بخلاف ما يَزعُمه أدعياءُ "الإلحاد" في تعاقُلهم السخيف وتطاوُلهم المفضوح!؟ يَنبغي أن يُدرَك أنّ عبارةَ «لا إلاهَ إلّا اللّهُ» تَتضمّن نفيًا ("لَا") مَقْرونًا إلى 0ستثناءٍ ("إلَّا")، وهو ما يُفيد "الحَصْر" أو "القَصْر": فهي عبارةٌ تَدُلّ على أنّ الأُلوهيّةَ مَنفيّةٌ مُطلقًا عن كل ما سوى "الله"، حيث وَرد فيها لفظُ "إلاه" 0سمًا عامّا مُنكَّرا ولفظ "الله" 0سمَ عَلَمٍ مُعرَّفًا. وفضلا عن هذا، فإنّ عبارة «لا إلاهَ إلّا اللّهُ» مُركَّبة من قولين: «لا إلاهَ» و«إلّا اللّهُ». لكنّ التّركيب فيها يجعل القولين يستلزم أحدهما الآخر، إذْ أنّ «لا إلاهَ» قولٌ لا تَتِمّ إفادتُه لو أُلقي مُنفردًا وغيرَ مقرون إلى «إلّا اللّهُ». ذلك بأنّ من يُريد إرسال «لا إلاه» قولًا مُطلقًا لا مفرّ له من أن يُؤوِّلَه إلى أحدِ هذه الوُجوه الثلاثة: «لا إلاهَ إلّا أنا» أو «لا إلاهَ إلّا أنتَ» أو «لا إلاهَ إلّا هُو». ونجد أنّ من يقول «لا إلاهَ إلّا أنا» إنّما يُخاطب من يُريد أن يُعطيَ نفسَه أو غيرَه مكانةً لا يَستحقّها فتَأتيه تلك العبارة من صاحبها الذي لا يَحضُر معه إلا من يَجدُر به أن يُدرِك أنّ "الله" هو وحده الحاضر المُتكلِّم الذي لا مُعقِّب لكلامه إلا سمعًا وطاعةً. ولهذا، فمن يُريد الوُقوف عند «لا إلاهَ» لا يُعبِّر، في الواقع، إلا عن «إنكار جُحُوديّ» يَستكثر به على "اللّه" الاختصاص بقوله «إنّي أنا اللّه لا إلاهَ إلّا أنا»! أمّا من يقول «لا إلاهَ إلّا أنتَ»، فقد وَجد الأُلوهيّة ثابتةً ومشهودةً حتّى لم يَعُدْ أمامه إلا أن يُخاطبها ذاتًا حاضرةً. وقولُه ذاك «إقرارٌ شُهُوديٌّ» منه لِما لا يَستطيع عقلُه أن يَشهد به إلا تصديقًا وتحقيقًا. وأمّا من يقول «لا إلاهَ إلّا هُو»، فإنّه يَستعظم "الأُلوهيّة" غيبًا لانهائيّا يَتجاوَز وُجودَه وعلمَه كليهما فلا يَملك، بالتالي، إلا أن يَشهد بحقيقةِ «الغيب الوُجُوديّ» إيمانًا وإيقانًا. وإنّك لترى أنّ هذه الوُجوه الثلاثة التي يَقتضيها قولُ «لا إلاهَ» تُعَدّ 0ستدلالا يُوجب على العاقل ألّا يَصِحّ منه القولُ إلّا ب«لا إلاهَ إلّا اللّهُ»: فالله، سُبحانه وتعالى، هو "الحقّ" الحاضر ذاتًا مُتكلِّمةً في غيبها الوُجوديّ والدّال على حقيقته بكلامِ سواه إقرارًا شُهُوديًّا أو إنكارًا جُحُوديًّا! هكذا يَتبيّن أنّ الشهادة ب«لا إلاهَ إلّا اللّهُ» تَدخُل في جوامع الكَلِم، إنّها تلك «الكلمة الطيِّبة» التي أصلُها العقليّ ثابتٌ وفرعُها الإيمانيّ واجبٌ، فلا يَستخفّ بها إلا جاحدٌ ولا يَرُدّها إلا هالك. وإنّ مِمّا يجب، أخيرًا، أن يُنبَّه عليه أنّ "الشّهادة" عموما دليلٌ لا سبيل إلى تأسيس "الاعتقاد" أو 0ستكمال "المعرفة" إلا به. ولهذا، فإنّ شهادةَ أنْ «لا إلاهَ إلّا اللّهُ» تَلزم عنها شهادةُ أنّ «مُحمّدًا رسولُ اللّه»، وهو لُزُومٌ عقليٌّ بَيِّنتُه أنّ الطريق الذي من شأنه أن يَهدي "العقل" إلى معرفة «الغيب الوُجوديّ» لا يَستقيمُ ولا يُستكمَلُ إلّا مع سيِّد المُرسَلين ورسول الله إلى العالَمين (صلّى اللّهُ عليه وسلّم). وإنّ في ذلك لآيةً لِمَنْ كان (أو لا يزال) يَظُنّ أنّ "العقل" يَتضادّ بالضرورة مع "الوحي" كأنّ هذا خطابُ من يَنطق عن "الهوى" وذاك خطابُ من لا يُرَدّ له أمرٌ! ولَيْتَ شِعْري، كيف يَصِحّ أن يكون أمرُ "اللّه" في وحيه كلامًا بلا عقل أو ألّا يصحّ أمرُ "الإنسان" في عقله إلا مقطوعًا عن أمرِ مَوْلاه!؟ [email protected]