فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    جثمان محمد الخلفي يوارى الثرى بالبيضاء    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    ملتقى النحت والخزف في نسخة أولى بالدار البيضاء    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو قراءة نقديّة ل«تكوين العقل العربي»
نشر في هسبريس يوم 06 - 08 - 2012


1. تقديم
يبدو أنّ العمل الفكريّ ل"محمد عابد الجابري" - رحمه الله- عملٌ يَستثير النقد بقدر ما أراد له صاحبه أن يكون مُستفِزًّا للفكر. وإذَا ثَبَت أنّ الأمر يَتعلّق بعمل فكريّ قام بالأساس لمُساءلةِ مركزيّةِ "النّص القرآنيّ" في «التُّراث الإسلامي/العربيّ»، فإنّ التّعرُّض بالنقد للجزء الأول من مشروعه في «نقد العقل العربي» يُمثِّل السبيل إلى كشف أحد أُسس ومبادئ تلك المُساءَلة (على الرغم من أنّ مثل هذا العمل النقديّ لا يُمكن أن يُستكمَل إلا بتناوُل باقي الأُسس التي من أهمّها فحص البناء المعرفيّ والفلسفيّ في كتابه «مدخل إلى فلسفة العلوم»).
ولا يَخفى أنّ العمل الفكري للجابريّ سبق أن كان موضوعا للنقد، إنْ جُزءًا أو كُلًّا، من قِبَل كثيرين (علي حرب، طيب تيزيني، هشام غصيب، يحيى محمد، طه عبد الرحمن، جورج طرابيشي، خالد كبير علال، محمد عمارة) عملوا على مُراجعته في هذا الجانب أو ذاك من الجوانب التي تَستدعي الفحص والتّبيُّن. ولهذا، فإنّ جدارةَ هذه المُحاوَلة تقوم في تأكيد أهميّة الاستمرار في نقد فكر "الجابري" إبرازًا لحُدوده المعرفيّة وبحثا عن إمكاناتٍ أُخرى لصَوْغ الإشكالات التي طرحها والعمل، من ثَمّ، على بلورة إجاباتٍ أشدّ تنوُّعا وتعقُّدا من التي 0نتهى إليها أو ساهم في تشكيلها.
ويَجدُر، بهذا الخصوص، تأكيد أنّ عمل النّقد في تأسُّسه المنهجيّ والمعرفيّ لا يُمكن تَفاديه إلا بالخضوع لرُوح الامتثاليّة السّائدة 0ستعجالا و0ستسهالا أو بالتهرُّب من واجب الاجتهاد مُتابَعةً ومُمالأةً. ولا سبيل إلى الخروج من هذين الارتكاسَيْن إلا بالانخراط في سيرورة البناء الفكريّ كمعقوليّة تحاوُريّة ومسؤوليّة تدافُعيّة.
2. أوليّات منهجيّة
سأعملُ، إنْ شاء ٱللّهُ تعالى، على الالتزام في ما سيَأتي بالأُمور التالية:
أ‌- عدم الحُكم إلا على أقوالٍ ثابتة للمرحوم "الجابري" في نُصوصه المنشورة والمعروفة التي تُذكَر حرفيًّا أو يُحال إلى فحواها في مَظانِّها المُتاحة ؛
ب‌- عدم 0نتزاع الأقوال من سياقها الموضوعيّ، بل سَوْقُها كما أوردها صاحبها وكُلّما أمكن الإتيان بفقرات كاملة مع حفظ التّسلسل الطبيعيّ فيما بينها ؛
ت‌- الاكتفاء بالمَصادر والمَراجع التي أحال إليها الأستاذ "الجابري" أو كان يُفترَض 0طِّلاعُه عليها، وتجنُّب أيِّ إلزام له بمَصادر أو مَراجع لاحقةٍ لأعماله أو بعيدةٍ عن مَداركه ؛
ث‌- كل قول لا يَستقيم على سَنَن التّعبير في "اللِّسان العربيّ"، فهو مردود على صاحبه أيًّا يَكُن ؛ إلّا أن يأتي بدليل يَشهد له. وبالتالي، فإنّ كل ما يبدو خطأً إملائيًّا أو تركيبيّا أو دلاليّا أو تداوُليّا أو ترجميًّا، سيُتعقَّب بالتّصويب في حُدود ما يَنبغي ووَفْق ما هو معلوم ؛
ج‌- كل قول يُدلي به صاحبه، فلا يُقبَل منه إلا بشاهد بيِّنٍ أو دليل مُفصَّل أو على سبيل التّسليم ٱستدراجًا وٱمتحانًا ؛
ح‌- ما سيُعرَض، هُنا، إنّما هو ٱجتهادٌ مُعلَّلٌّ في إطار ما يَسمح به نقد الفكر. وفي المُقابل، فإنّ كل ردٍّ أو ٱعتراض قد يَأتي لا يَصحّ ٱعتبارُه إلا إذَا كان مُوجَّها ومُناسِبًا ومُدلَّلا، وإلا فإنّه سيُعدّ من الأقوال الْمُرسَلة أو الأحكام السّائبة ؛
خ‌- على القارئ النّبيه أن يَبذُل ما بوُسعه لتفهُّم ما سيُلقى إليه قبل أن يُسرِع إلى ردِّه أو التّهوين من شأنه، فلا شيء ممّا سيُكتَب آتٍ بفعل الاستعجال أو الاستسهال كما هو واقع الحال لدى كثير من أدعياء الفكر والكتابة ؛
د‌- يُرجى من الذين لا يُحسنون سوى التّشغيب أو من الذين ٱستيقنت أفهامُهم أشياء - حتّى لم يَعُدْ يَلُوح لهم أيّ شك فيها أو إمكان قيام شيء آخر بخلافها- ألا يُتْعبوا أنفسَهم بقراءةِ ما يَلي أو التّعقيب عليه ؛
ذ‌- الشكر موصولٌ إلى كل من يَدُلّ الكاتب على هَنَةٍ أو خَطإٍ أو سهوٍ مِمّا يُمكن أن يُوجد على هذا المستوى أو ذاك ؛
ر‌- كل ما هو موضوع بين خطَّيْن معقوفين هكذا [...]، فهو مُضاف إلى النُّصوص الأصليّة بحيث ينبغي (أيْ "يَحسُن") التوقُّف عنده وٱلِانتباه إلى ما يشتمل عليه أو يُحيل إليه ؛
ز‌- ستُرقَّم كل الفقرات لكي يسهل على القارئ تتبُّعُها في تسلسلها المنطقيّ أو الردّ عليها بذكر رقمها وفي ٱرتباطها بما يسبقها أو يلحقها ؛
س‌- كل فقرة تُورَد ستَسبقها علامة الفقرة (§)، وما يَتلوها عبارة عن مُلاحَظات نقديّة تُرقَّم تبعًا لها (مثلا: § 1. 1، أيْ مُلاحَظة أُولى على الفقرة الأُولى) ؛
ش‌- كُلُّ مَن لا يَستطيع الصبر على إيراد التّفاصيل في كثرتها المُمِلَّة والمُدوِّخة وتَسلْسُلها المنطقيّ والرَّتيب لن يرى في هذا العمل سوى ثرثرةٍ لا جدوى منها. لكنّ إقامة الدّليل على بُطلان ٱدِّعاءاتٍ مُعيّنةٍ أمرٌ لا غنى عنه ولا يكفي فيه إرسال الكلام أحكامًا سائبةً من دون تقييد أو تركها غُفْلا من كل تنسيق وتحقيق. ولهذا، لا مفر من خوض رحلةٍ طويلة ومُضنيةٍ عبر سُبُلِ تقليبِ النّظر في مُختلِف أوْجُه الأقوال الموضوعة بين يَدَيِ 0لفحص النقديّ. وحتّى لو كان العمل في الظّاهر قليل الفائدة، فإنّ من طبيعة الفكر أن يُستثمَر فيه كثيرًا وألَّا يأتيَ أخيرًا إلا بنتائجَ تبدو هزيلةً (ورُبّما سخيفةً) لمن لم يُكلِّف نفسَه عناءَ القيام بزحزحةِ شيء من بادئِ الآراء أو راسخ الاعتقادات ؛
ص‌- أنْ يُفكِّر المرءُ بنفسه ما ٱستطاع إلى ذلك سبيلا، بعيدًا عن إكراهاتِ ٱلِاستعجال وإغراءاتِ ٱلِاستسهال، هو ذا رهانُ ٱلِاجتهاد ٱستشكالا وٱستدلالا ؛ وليس مُتابَعةً لفُلان أو مُناصَرةً لعُلان، ولا بالأحرى ٱسترضاءً لهواه الخاص في ٱتِّباع ما يُعجبه ويَشتهيه أو خضوعا لراسخ عوائده كسلا وٱتِّكالا أو مُجاراةً لداعي الحال في القول بما شاع وٱشتهر من دون مُمارَسةِ الحق في ٱلِاعتراض والمُطالَبة بما يُوجبه من بناء الأقوال بيانًا مُتَّسقا وبلاغا كافيًا. ولا نامت أبدًا أعيُن «أنصاف ٱلدُّهاة»!
3. عرضٌ عامّ لمُحتوى الكتاب
صدر كتاب «تكوين العقل العربي» في طبعته الأولى عن دار الطليعة-بيروت عام 1984، وأعيد طبعه عام 1985 من قِبَل دار النشر نفسها ؛ ثُمّ صدرت طبعتُه الثالثة عن مركز دراسات الوحدة العربية-بيروت عام 1988، وتعدّدت طبعاتُه إلى أن وصلت الآن إحدى عشرة طبعة (2011). ويَتألّف الكتاب من مقدمة (ص. 5-8) ومن قسمين مُتفاوتَيْن في الطول (الأول في 64 صفحة، والثاني في 260 صفحة)، يَتكوّن أوّلُهما («العقل العربي... بأي معنى؟ مقاربات أولية»، ص. 9-72) من ثلاثة فصول (الأوّل: [«عقل... ثقافة»، ص. 11-36] ؛ والثاني: [«الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم»، ص. 37-55] ؛ والثالث: [«عصر التدوين، الاطار المرجعي للفكر العربي»، ص. 56-72]) ؛ ويَتكوّن ثانيهما («تكوين العقل العربي: المعرفي والايديولوجي في الثقافة العربية»، ص. 73-331) من تسعة فصول (أولها: [«الأعرابي صانع "العالم" العربي»، ص. 75-95] ؛ وثانيها: [«التشريع للمشرع، 1- تقنين "الرأي" و"التشريع" للماضي»، 96-114] ؛ وثالثها: [«التشريع للمشرع، 2- القياس على "مثال سبق"»، ص. 115-133] ؛ ورابعها: [«"المعقول" الديني واللامعقول "العقلي"»، ص. 134-161] ؛ وخامسها: [«العقل المستقيل، 1- في الموروث القديم»، ص. 162-185] ؛ وسادسها: [«العقل المستقيل، 2- في الثقافة العربية الاسلامية»، ص. 186-219] ؛ وسابعها: [«تنصيب العقل في... الإسلام»، ص. 220-252] ؛ وثامنها: [«أزمة الأسس... وتأسيس الأزمة»، ص. 253-294] ؛ وتاسعها: [«بداية جديدة... ولكن!»، ص. 295-331]) ؛ ثم خاتمة («العلم والسياسة في الثقافة العربية»، ص. 332-351)، فقائمة للمَراجع (ص. 353-360) وفهرست (ص. 361-384). وبالجملة، فالكتاب 0ثنا عشر فصلا مُتباينة في الطول (أقصرها الفصل الثالث من القسم الأول [16 صفحة]، وأطولها الفصل الثامن من القسم الثاني [الحادي عشر من الكتاب] في 42 صفحة)، وكل منها مُقسَّم إلى فقرات (أو فُصَيْلات) مُرقَّمة. ويُلاحَظ أن الخاتمة (في 20 صفحة) بمثابة فصل توضيحيّ يَستجمع خُلاصات الفصول السابقة بقدر ما يفتح على القادم من مشروع "الجابري" النقديّ.
4. عُنوان الكتاب وإشكالاته
وضعَ "الجابري" عُنوان «تكوين العقل العربيّ» للجُزء الأوّل من سلسلته الرُّباعيّة في «نقد العقل العربي». وتَستدعي عبارة «تكوين العقل العربيّ» المُلاحَظات التالية:
1.4 - لفظ "تَكْوين" (بصيغة "تَفْعيل") ٱسمٌ يَرجعُ إلى فعل "كَوَّنَ" المُتعدِّي ("كونَّه" "يُكوِّنُه")، ٱسم "ٱلفاعل" منه "مُكوِّنٌ"، وٱسم "ٱلمفعول" منه "مُكوَّنٌ". وكما وَظّف "الجابري" ٱسم "ٱلفِعْل" (الذي يُسمّى عادةً ب"ٱلمَصدر"!) في عُنوان الكتاب، فإنّه سيُوظِّف صِفتيْ/ٱسْمَيْ "ٱلفاعل" و"ٱلمفعول" في ترجمةِ مُصطَلَحيْ الفيلسوف الفرنسي "أندري لَالاند" (André Lalande): «عقلٌ مُكوِّن» (raison constituante) و«عقلٌ مُكوَّن» (raison constituée) ؛
2.4 - بِما أنّ لفظ "تَكْوين" ٱسمٌ من فعلٍ مُتعدٍّ ("كوَّنَه"، أيْ «جَعَلَه يَكُون»)، فإنّه يَدُلّ على معنى «تَعْدِيَة "ٱلكَوْن" إلى شيءٍ ما»، أيْ «جَعْلُه يَكُون». وبالتّالي، فإنّ من يَتلقّى عبارة «تكوين ٱلعقل ٱلعربيّ» يُفترَض فيه أن يُدرِكَ أنّ ما سمّاه المُؤلِّف «العقل العربيّ» كان مفعولا أو موضوعا لفعلِ فاعلٍ هو الذي «جَعلَه يَكُون على ما هو عليه من حال». وكتاب "الجابري" عملٌ يُظهر أو يصف «فِعْلَ ٱلتَّكْوين» الذي ٱنصبّ على «العقل العربيّ» والذي جعله "مُكوَّنًا" على نحو مُعيَّن. فهل هذا هو المعنى المُراد بالضبط من قِبَل "الجابري" أمْ أنّ المعنى المطلوب إنّما هو ذاك الذي يُؤدِّيه الاسم المأخوذ من الفعل اللازم "تَكَوَّنَ"، أيْ "ٱلتَّكَوُّن"؟ وما حقيقة هذا ٱلِاختيار المقصود والمُعلَّل أوْ ذاك ٱلِالتباس غير المقصود والمُهْمَل؟
3.4 - يَرتبط لفظ "تكوُّن" بلفظ "تَكْوين"، لأنّه إذَا كان الثاني يَدُلّ على معنى "ٱلتّعْدِيَة"، فإنّ الأوّل يَدُلّ على معنى "ٱلمُطاوَعة": إذَا كُوِّن الشيءُ، فإنّه يَتكوَّن ٱنفعالا وٱستجابةً كأنّ «فِعْل ٱلتّكْوين» يَنعكس فيه أو عليه. لكنْ، رغم تَبَعيّة معنى "ٱلتّكوُّن" لمعنى "ٱلتَّكْوين" (إذْ لا "تَكَوُّن" من دون "تَكْوين")، فإنّ لفظ "ٱلتّكوُّن" يَحمل معنى "ٱلِانفعال" كما يَحمل معنى «ٱللُّزوم ٱلذاتيّ» كأنّ الشيءَ "ٱلمُتكوِّن" له قُدرةٌ ذاتيّةٌ على تكوين نفسه بنفسه من دون حاجةٍ إلى من يُكوِّنُه من خارجه بحيث لا يَعُود مجرد "مفعول" (أو "موضوع") لفاعلٍ هو الذي يَملِكُ القُدرةَ على «تَعْدِيَةِ فِعْل ٱلكَوْن» إليه. فهل كان "الجابري" يَقصد معنى "ٱلتّكوُّن" أمْ معنى "ٱلتَّكْوين" مَقْرونًا إلى معنى «ٱلعقل ٱلعربيّ»؟
4.4 - لا بُدّ، هُنا، من الإشارة إلى أنّ لفظ "تَكْوين" يُستعمَل في العربيّة للدّلالة على معنيَيْن مُرتبطين بلفظين أجنبيَّيْن: أوّلُهما معنى «ٱلإنتاج/ٱلوِلادة» أو «ٱلتّولُّد/ٱلتّخلُّق» ٱنطلاقا من اللّفظ الأجنبيّ «genesis/genèse» (من الأصل اليُونانيّ "گِنيسيس" [] القريب صوتيًّا من اللّفظ العربيّ "جِنْسٌ"!) ؛ وثانيهما معنى «ٱلتّشْكيل/ٱلتّشكُّل» ٱنطلاقا من اللّفظ الأجنبيّ «formation». وبخصوص المعنى الأوّل المُرتبط بلفظ "تَكْوين" («ٱلإنتاج/ٱلوِلادة» أو «ٱلتّولُّد/ٱلتّخلُّق»)، نجده قد ٱسْتُعمِل في التّرجمة من اليُونانيّة لعُنوان السِّفْر الأوّل من "ٱلتّوراة" الذي سُمِّيَ ب«سِفْر ٱلتَّكْوين» (في العبريّة "بِرِشِتْ" بمعنى «في ٱلبَدْءِ») على الرغم من أنّ موضوعَه يَتعلّق ب«خَلْق» ٱللّه تعالى للسّماوات والأرض وسائر المخلوقات. ولأنّ التّرجمة السَّبْعينيّة تمّت من اليُونانيّة التي لا تَمْلِكُ إلا لفظ "گِنسيس" للدّلالة على معاني «ٱلإحداث/ٱلحُدوث» و«ٱلوِلادة/ٱلتّولُّد» و«ٱلخَلْق/ٱلتّخلُّق»، فإنّ لفظ "تَكْوين" صار يدل في العربيّة على معنى "ٱلإيجاد" أو "ٱلإحداث" أو "ٱلخَلْق" (كأسماء من أفعالٍ مُتعدِّيَة) باعتبار أنّ لفظ "كَوْن" لا يدل فيها أصلا إلا على معنى "ٱلحُدُوث" و، من ثَمّ، «ٱلثُّبُوت/ٱلوُجود» («كان الشيءُ» معناه «حَدثَ» و«ثَبَت وُجودُه» [أيْ "وُجِدَ"]). ولهذا، نجد المُترجِمين القُدامى في ترجمتهم لأرسطو قد ٱستعملوا لفظ "ٱلكَوْن" لأداء معنى «ٱلتّولُّد/ٱلحُدوث/ٱلثُّبوت/ٱلوُجود» (في مقابل معنى "ٱلفساد" في اليُونانيّة "دِياكريزيس" «»). وأمّا بخصوص المعنى الثاني، فإنّه وُلِّد حديثًا في العربيّة من خلال التّرجمة حيث صار معنى "شَكَّله" («أعطاه شكلا» أو «جعلَ له شكلا» بالقياس على "صَوَّره"، أيْ «جعل له صُورةً») يدل على معنى "أَوْجَده" و"كوَّنَه" (أنْ يكون للشيء شكلٌ أو صورةٌ، فمعناه أنْ يكون له وُجود ؛ على الرغم من أنّه قد يكون ثمّة وُجودٌ بلا شكل أو صُورة كما في «ٱلوُجود ٱلإلاهيّ»). ولهذا، ليس غريبًا أن يُترجَم - فيما بعدُ- عُنوان كتاب "الجابري" باستعمال لفظ «formation» (في الإنجليزية بالخصوص)[1] ؛
5.4 - لكنّ المعنى الذي قصده "الجابري" باستعماله لفظ "تَكْوين" يَرجع، بالأساس، إلى ما عُرِف في الفترة المعاصرة ب«ٱلبنيويّة ٱلتّكوينيّة» («Genetic Structuralism/structuralisme génétique») في ٱرتباطها ب«ٱلنّزعة ٱلبِنائيّة» (constructivism/constructivisme)، سواء مع "جون پياجي" («علم ٱلنّفس ٱلتكوينيّ») أو "غاستون باشلار" («الاپستمولوجيا التكوينيّة») أو مع "لُوسيان غولدمان" (وهو تلميذ "پياجي" وصاحب "سوسيولوجيا الأدب" ذات التوجُّه "البنيوي-التّكوينيّ") أو مع "پيير بُورديو" الذي كان يُسمّي توجُّهَه في "ٱلاجتماعيّات" و"الإنْسِيَّات" إمّا ب«ٱلبنيويّة-ٱلبِنائيّة» (le structuralisme constructiviste) أو «ٱلبِنائيّة-ٱلبنيويّة» (le constructivisme structuraliste). وإذَا أخذنا بعين الاعتبار أنّ "ٱلبنيويّة" تقول - عموما- بأنّ "ٱلبِنْية" (أو "ٱلبِنْيات") ذات أولويّة على العناصر المُكوِّنة للموضوع، فإنّ «ٱلنّزعة ٱلبِنائيّة» تُؤكِّد أهميّة "ٱلذِّهن" في بناء "ٱلواقع". ولذا، فإنّ ما يُسمّى «ٱلبنيويّة-ٱلتكوينيّة» يجعل "ٱلبِنيات" مُرتبطةً بتكوُّنها التّاريخيّ وبالوعي الذاتيّ للفاعلين على النّحو الذي يَستبعد أيّ «نزعة ٱختزاليّة» (ترُدّ الذوات الفاعلة إلى البنيات الموضوعيّة كنماذج توصيفيّة وتفسيريّة تُغيِّب «ٱلفاعليّة ٱلذاتيّة») أو «نزعة واقعيّة» (تُشيِّئ أبنية الفكر فتُعطيها وُجودا واقعيّا وموضوعيّا). فهل يَتعلّق الأمرُ، هُنا، ب"ٱلتَّكْوين" في تعدِّيه الموضوعيّ أمْ ب"ٱلتَّكوُّن" في لُزومه الذاتيّ؟
6.4 - إنّ المُشكلة في ٱختيار "ٱلتَّكْوين" أو "ٱلتَّكوُّن" مُتعلِّقة بترجمة أحد الألفاظ الأربعة التالية: «genesis/genèse»، «construction»، «formation»، «constitution». ولهذا، فإنّ مَنْ لم يُميِّز، من جهةٍ، بين معنيَيْ "ٱلتّعدِيَة" و"ٱللُزوم" وبين، من جهةٍ ثانية، معنيَيْ "ٱلتّكوين" (كإحداث/إيجاد) و"ٱلبِناء" (كإجراء قائم على "ٱلإنشاء" و"ٱلنَّظْم") لا يَكاد يُفرِّق بين "ٱلتَّكْوين" و"ٱلتّكوُّن" (ميزةُ العربيّة على اللغات الأجنبيّة أنّها تَمْلِكُ صيغتين ٱسميّتين تُحيل أولاهما إلى معنى "ٱلتّعدية" وتدل الثانية منهما على معنى "ٱللُّزوم"، في حين أن اللُّغات الأروبيّة لا تملك إلا 0سما واحدا يَدُلّ على معنيين لا يَتميزان إلا بالرجوع إلى الفعل الذي 0شْتُقّا منه ؛ مثلا، في الفرنسية: «former/se former», «construire/se construire», «constituer/se constituer»). ولهذا، فإنّ لفظ «genesis/genèse» في دلالته الأصليّة على «0لوِلادة/ٱلتّولُّد» أو «ٱلحُدُوث/ٱلثُّبُوت» (في الوُجود) و، من ثَمّ، دلالته الاصطلاحيّة على «مجموع الأشكال أو العناصر التي ساهمت في إنتاج شيء ما» أو «الكيفيّة التي تَكوَّن/تَشكَّل بها شيء ما» (la manière dont une chose s'est formé) أقربُ أن يُؤدَّى معناه بلفظ "ٱلتّكوُّن" في لُزومه ؛ في حين أنّ كون لفظ «construction» يدل في الأصل على معنى "ٱلبِناء" (أو "ٱلإنشاء" أو "ٱلتّأليف" أو "ٱلإيجاد") يَصلُح لأداء معناه لفظ "ٱلتَّكْوِين" في تعدِّيه إلى موضوعه. وأمّا لفظ «formation»، فإنّ كونَه مُولَّدًا من لفظ «form/forme» بمعنى «شَكْل/صُورة» يَقتضي أن يُؤدَّى معناه، في آن واحد، ب"تشكُّل" لُزومًا أو ب"تَشْكيل" تَعْدِيَةً، وهُما لفظان يَشتركان مع "تكوُّن" و"تَكْوين" في المعنى العامّ ويَختصان بإفادة معنًى يَتعلّق ب«الحصول على الوُجود أو تحصيله شكلا». أخيرا، فإنّ لفظ «constitution» في دلالته على معنى «الإقامة/الرَّفْع على أصل» و«البناء كتَأْليف» يجعله يَقبل أن يُترجَم إمّا بلفظ «تَأْسيس/تأسُّس» وإمّا بلفظ «إقامة/قِيام» ؛ ولأنّه يُشير إلى معنى "0لأساس" أو "0لْقِوام" الذي يُعطي للشيء كونَه أو وُجوده، فإنّ بعض المُترجمين لا يكاد يُميِّزه عن "0لتَّكْوِين" (من هُنا، يُقال: مُكوِّنات الشيء أو أُسسه أو مُقوِّماته) ؛
7.4 - الْمُشكلةُ، إذًا، قائمةٌ في أنّ لفظ "0لتَّكْوين" يُفيدُ «إعطاء الشيءِ الكونَ إحداثًا وإيجادًا» بمُقتضى صيغة "0لتّعدِيَة" فيه بخلاف لفظ "0لتّكوُّن" الذي يَدُلّ على «حُصول الكَوْن للشيء حُدوثًا ووُجودًا» بفعل صيغة "0للُّزوم" و"0لْمُطاوَعة" فيه، مِمّا يَقتضي أنّ الحديث عن «تَكْوِين 0لعقل» يَستلزم أنّه موضوعٌ لنوع من الفعل الذي "يُحْدِثُه" بعد أنْ لم يكن و"يُوجده" فيُثْبِتُه كواقع حقيقيّ و"يُنْتِجه" فيُعطيه الوُجود كأنّه "يَخْلُقه"، في حين أنّ الحديث عن «تكوُّن 0لعقل» يُشير إلى أنّ الأمر يَتعلَّق بواقع حُدوثِ أو وجُودِ أو ثُبوتِ "0لعقل" بما هو شيءٌ "يَتولَّد" أو "يَتخلَّق" أو "يَتكّوَّن" على أساسِ طبيعته الخاصة وفي علاقته بشُروطٍ واقعيّة مُعيّنة ؛
8.4 - وإذَا 0تّضح الفرقُ بين «تَكْوين 0لعقل» و«تكوُّن 0لعقل»، فإنّ 0ستعمال أحدهما لا يكون دالًّا إلا بالنِّسبة إلى الْمُشكلة المُتعلِّقة بتصوُّر حقيقة "0لبِنْية" و"0لبِناء" في علاقتها بدور كل من "0لذِّهن" (الدّاخل) و"0لواقع" (الخارج): فالحديث عن «تَكْوين 0لعقل» يُحيل إلى أنّ «0لبِنْيات 0لذِّهنيّة» موضوعٌ لفعل "0لواقع" وتأثيره، بحيث يبدو "0لعقل" مجردَ مفعولٍ به، تماما كما لو كان نتاجًا معلولا لظروفٍ وأسبابٍ خارجيّة وموضوعيّة وسابقة ؛ في حين أنّ الحديث عن «تكوُّن 0لعقل» يقود إلى إدراك أنّ «0لبِنْيات 0لذِّهنيّة» لا ترجع فقط إلى الفعل الخارجيّ، بل هي بناءٌ مُشترَكٌ ومُتكامل بين ما هو ذاتيّ وما هو موضوعيّ ؛
9.4 – ولذلك، فإنّ تبيُّنَ الفُروق بين "0لتَّكْوين" و"0لتّكوُّن" و"0لبِناء" و"0لتّشييد/0لتّأسيس" يُوجب إعادة النّظر في ما يُسمّى «0لبنيويّة التَّكْوينيّة» أو «علم النفس التّكوينيّ» أو «الإپستمولوجيا التّكوينيّة»، لأنّ الأمر في هذه التّسميات لا يَتعلّق ب"ٱلتَّكْوين" (ك"إحداث" و"خَلْق")، وإنّما ب"0لتّكوُّن" في دلالته على "0لحُدوث" و"0لوُجود" وفي علاقته ب"0لبِناء" الذي يَأتيه «0لذِّهن 0لبشري» في تَعرُّفه ل"0لواقع" وتصرُّفه فيه بِمُقتضى التّفاعُل الدّائم بينهما وليس من منطلق أنّ أحدهما يُكوِّن الآخر تكوينًا أو يُؤثِّر فيه تأثيرا كما لو كان موضوعًا بين يديه كمجرد "مفعول" أو "مُنفعل" لا قُدرة له مطلقا على ردِّ الفعل والاستجابة تُجاه تأثيرات الواقع الخارجيّ ؛
10.4 - وإنّ وُجود عدّة كُتب قَبْل كتاب "الجابري" تَحْمِلُ في عناوينها لفظ "تَكْوين" (مثلا: جُون هرمان راندال، تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمة، دار الثقافة-بيروت، 1955 [2] ؛ وغاستون باشلار، تكوين العقل العلمي: مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة الموضوعية، ترجمة د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 1، 1981، ط 2، 1982 [3]) ليُرجِّح أنّه أخذه منها وتبنّاه من دون أيِّ مُراجَعةٍ أو تمحيصٍ، بل إنّه سها حتّى عن كتابٍ ورَدَ فيه لفظُ "تَكوُّن" ذكره من بين مَراجعه ولم يَعبأْ بتحريفٍ وقع في عُنوانه: إنّه «تكوُّن الكتاب العربيّ» لصاحبه "فرانسوا زبال" (معهد الإنماء العربي-بيروت، 1976)!
11.4 - يَتبيّنُ، على ضوء ما سبق، أنّ "الجابري" لم يَبْنِ مفهوم "0لتّكْوِين" 0ستشكالا و0ستدلالا من خلال التّبيُّن النقديّ في علاقته بكل من مفاهيم "0لتّكوُّن" و"0لبِناء" و«0لتّشكيل/0لتّشكُّل» و«0لتَّشْييد/0لتَّأْسيس»، وإنّما أخذه كمُعطى شائع وبديهيّ غافلا عن الإشكال المُحيط به. ولهذا، يبدو أنّ عدم إحاطته كفايةً بحقيقة النّقاش المُعاصر الذي أدّى إلى تَبلوُر مَجالاتٍ مَعْرفيّة تدرُس ظواهر "0لتّكوُّن" و"0لبِناء" جعله يُسيءُ نَقْل بعض عَطاءاتها فيُنزلها على مَجال مُغايِرٍ لها تماما ؛
12.4 - ويَترتَّب على ذلك أنّ عدم الوعي بسياق 0ستعمال مفهومَيْ «0لتكوُّن/0لبِناء» و"0لبِنْية" هو الذي قاد "الجابري" إلى أوّل وأهمّ خطإ منهجيٍّ في عمله: يَتعلّق الأمر بكونه سبَّق تناوُل الجانب التاريخيّ («تكوين العقل العربي») على الجانب البنيويّ («بنية العقل العربي»)، في حين أنّ الدراسات المُعاصرة منذ نهاية القرن 19 نَحَتْ - في أكثر من مجال ("سُوسير"، "دُوركايم")- إلى تأكيد الأولويّة المنهجيّة للتناوُل البنيويّ باعتبار أنّ أيّ موضوع تُراد مُقاربته بشكل موضوعيّ ومنهجيّ يَلْزم التركيز على إبراز "0لبِنْية" أو "0لبِنْيات" التي يُظهرها توصيفُه وتوضيعُه، وذلك قبل الانتقال إلى دراسة تاريخ تكوُّن هذه "0لبِنْية" (أو "0لبِنْيات"). وبالأحرى حينما يَتعلّق الأمر ب"0لعقل" الذي هو آلةٌ تُطلَب معرفةُ بنيتها الآنيّة للتّمكُّن من معرفة كيفيّة 0ستعمالها، أكثر مِمّا هو تُحفة أَثَريّة يُراد تقويمُها بمعرفة تاريخ تكوُّنها. وأدهى من هذا، فإنّ التّركيز على «0لتّكوُّن 0لتاريخي» للعقل يَضعُنا أمام إشكال "0لتّاريخانيّة": الميل إلى القول بأنّ كل ما هو نِتاج للعمل الإنسانيّ يُمكن (ويجب) تفسيرُه (وتعليلُه) بالنّظر في تاريخه. فهل يَقبل "0لعقل"، 0بتداءً، أنْ يُفسَّر (ويُعلَّل) بالِاستناد إلى تكوُّنه التاريخيّ؟ وهل "0لعقل" مجرد نتاج للتاريخ أمْ أنّه في أكبر جزء منه نَسَقٌ عُضويّ وذِهْنيّ سابق للتّاريخ ومُتعالٍ عليه؟
13.4 – ومن ثَمّ، فإنّ المرء لو سَلَّم بوُجود «عقل عربي» وأراد دراسته علميّا، لوَجَبَ عليه أن يَستنبط بنيته النّسقيّة والمَنْطقيّة التي تأتي معرفتُها في المرتبة الأولى، قبل البحث عن معرفة الكيفيّة التي تكوَّنت بها بنية (أو بنيات) هذا "0لعقل" في 0شتغاله الوظيفيّ ؛
14.4 – وبِما أنّ مفهوم "0لتَّكْوين" قد قَرَنه "الجابري" بمفهوم "0لعقل" الذي خصَّصه بصفة "0لعربيّ"، فإنّ الإشكال لا يقف عند مُستوى المفهوم الأول ("0لتَّكْوين")، بل يزداد إلحاحًا وحِدّةً لكون "0لعقل" يَتّسم بالعُموم والشُّمول ويَميل النّاس إلى تصوُّره بصفته فاعلا للتَّكْوين وليس مفعولا له (أيْ أنّه، بالأساس، هُو "0لْمُكَوِّن"). وقد 0نتبه "الجابري" إلى الجانب الأوّل من هذا وحاول الإجابة عنه في الفقرة الأولى من الفصل الأوّل من كتابه، مِمّا يُوجب ترك كل التّفاصيل المُتعلِّقة بمُواصَلة التفكير في العَلاقة بين المفهومين المَعْنيّين ("تَكْوين" و"عقل") إلى حين تناوُل مُحتوى تلك الفقرة بإذن 0للّه ؛
15.4 – وهكذا، إذَا تَبيَّن أنّ عُنوان كتاب «تَكْوين 0لعقل 0لعربيّ» يَحْمِل مُراد "الجابري" المُتعلِّق بأنّ "0لعقل" موضوعٌ لنوع من "0لتَّكْوين" الذي يَجعلُه مَشْرُوطًا سببيّا للواقع الخارجيّ (الماديّ أو الرمزيّ/الثقافيّ) أو بسُوء الفهم المُرتبط بعدم الظُّهُور على حقيقة الإشكال المُتناوَل في إطار الفكر المُعاصر (بنيويّة موضوعانيّة وحَتْمانيّة أمْ بنيويّة ذاتيّانيّة وبِنائيّة)، فإنّه يُمكن تأكيد أنّ الجُزء الأوّل من المشروع النقدي للجابري يُنْبِئ منذ العنوان عن تعثُّر مَعرفيّ ومَنْهجيّ، مِمّا يَدفع إلى التّساؤُل عن مدى كون الأمر يَتعلّق فعلا بعمل مُؤسَّس إپستمولوجيًّا - كما ظل يَزعُم صاحبُه- بالشكل الذي يُعطيه من المَشروعيّة والرِّيادة ما يسمح له بأن يكون عملا فلسفيّا مُجدِّدًا وحَداثيًّا (كما 0ستقرّ في مُعتقَد كثير من قُرّاء وشُرّاح "الجابري"). ذاك ما سنُواصل بحثَه في ما سيَأتي، إنْ شاء 0للّه، من مقالات بهذا الخصوص.
[email protected]
هوامش:
[1] يَتعلّق الأمر ب:
- Mohammed Abed al-Jabri, The Formation of Arab Reason : Text, Tradition and the Construction of Modernity in the Arab World, I. B. Tauris Publichers, 2011, 320 p.
[2] اُنظر:
John Herman Randall, JR., The Making of Modern Mind, Houghton Mifflin Company, First edition 1926, Revised Edition 1940.
[3] اُنظر:
- Gaston Bachelard, la formation de l'esprit scientifique: contribution à une psychanalyse de la connaissance scientifique, Librairie Philosophique J. Vrin, 1938.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.