المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر    إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات    بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة        المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء    التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور        قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب        19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف جرى مفهوم القطيعة على التراث 1/2
نشر في هسبريس يوم 02 - 04 - 2010


مع الجابري أو خطاب القطيعة الصغرى
لا يمثل مشروع الجابري رؤية مختلفة أو بعيدة عن جوهر التساؤلات و الإستشكلات نفسها، الواردة في المقاربة العروية السابقة. بل يبدو أنه محاولة استدماجية لكل تلك التساؤلات و الاستشكالات، وأيضا للمناخ الظرفي نفسه الذي حكم مقاربة "العروي " لمسألتي التراث و الحداثة، و التقدم و التأخر مع توجيه مختلف وغاية أخرى. فالجابري من حيث السياق الموضوعي لمشروعه ، ينتمي إلى الرهان النهضوي نفسه و الظرفية الوطنية ذاتها التي كانت تشكل المجال الملهم للمقاربة "العروية " . فقد رأى الجابري ما رآه العروي سواء في مغرب يخرج من زمن الحماية ويتولى شؤونه على إيقاع تساؤلات التقدم والتنمية والنهوض ، أو في عموم البلاد العربية التي تعلقت مصائر نهضتها على نكسة خزيران وما عرفه المجال نفسه من اندحارات مقلقة. و عاش ما عاشه و اعترضته الصعوبات نفسها . يمكننا القول، أن مشروع الجابري، بقدر ما هو محاولة لحل مشكلة التراث و الحداثة بقدر ما هو نقض عملي للمقاربة العروية من حيث أن هذه الأخيرة بدت للأول خطرا محدقا وجارفا لمكتسبات أمة لا يمكنه أن تنهض على إيقاع القطيعة الكبرى بل لا بد ها هنا من الحديث عن ضرب آخر من القطائع: القطيعة الصغرى، وإن ظل يلتقي مع بعض مفردات المقاربة العروية لماما، دون أن يؤدي ذلك إلى اتفاق في جوهر المقاربة، و ذلك واضح منذ الوهلة الأولى، حيث بقدر ما يبدو العروي ناقدا للأيديولوجيا، يكون الجابري داعية لها . إن الجابري فاعل ثقافي و سياسي منخرط في الصراع الأيديولوجي ومتبني للغة أيديولوجية. كيف إذن، نظر الجابري إلى مسألة التراث، و بالتالي للحداثة، و ما مدى قربه من فكرة الوعي التاريخي، و ما هي مقترحاته بخصوص مداخل التقدم و آليات إنجاز القطيعة المتوخاة؛ وهل يا ترى توفق فيما أخفق فيه الأول..ما هو الجديد إذن بعد تفاصيل المقترب العروي المذكور الذي جاء به المشروع النقذي لمحمد عابد الجابري ؟
إنه بلا شك، سوف يجعلنا عرضنا للمقاربة الجابرية، في موقع المجيب عن تساؤلات العروي التي مرت معنا، و التي اختار لها الإجابة الجذرية: القطيعة الكبرى. لكن هذا لا يعني أن مشروع الجابري سوف يكون بمثابة الإجابة النهائية على تساؤلات العروي، بل يمكننا بعد ذلك القيام بإجابة "عروية " على إشكاليات " الجابري " و لو بصورة استباقية. ما يعني و هذا ما نسجله مسبقا أننا أمام حالة من الدور المنطقي، الذي يجعل المشروعين، قابلين لتقديم إجابات عن استشكالات بعضهما البعض، دونما إعلان لأدنى مصالحة. و هذا ما قد يعزز لدى البعض فكرة تساوي الأدلة، و يدخلنا في نوبات من النسبوية المطلقة، تلك التي يرفضها العروي و بالتأكيد، يرفضها الجابري أيضا. لم يقرّ الجابري بالقطيعة الكبرى التي دعا إليها العروي، من خلال اشتراطه للفكر التاريخي، وسيلة لطي صفحة الماضي، و الشروع في التخطيط لمستقبل حداثي بامتياز، على أساس النموذج الغربي القائم اليوم. القطيعة التي سوف يرى فيها الجابري أمرا مستحيلا، لأننا لا يمكننا أن نستنسخ الغرب بكليته. فلا بد من عملية انتقائية في التراث، تكون حصيلتها، ربط ما هو فاعل في التراث بما هو فاعل في الحداثة، في إطار مشروع عربي نهضوي جديد، لن يقطع بالضرورة مع تراثه، بل يقطع مع فهم معين لهذا التراث. هذا يتطلب الدخول في مغامرة نقدية واسعة لهذا التراث، غايتها إعادة إنتاجه و تعقيله. إنها مصالحة بين الأصالة و المعاصرة، قوامها نقد التراث و القطع مع الفهم التراثي للتراث، و استبداله بفهم حداثي له. و هذا ما يفسر ضخامة المشروع النقدي للتراث عند الجابري، حيث أعاد نقده في مختلف فعالياته و مستوياته و شخوصه. و هذا ما جعلنا نرى في قطيعته المتوخاة، قطيعة صغرى حيث لم يكن هدفها إعلان القطيعة التامة مع التراث، بقدر ما سعت إلى ضرب من النقض، قاض بتجاوز بعض صور هذا التراث، و استئصالها من أجل إنتاج أو إعادة إنتاج تراث عقلاني جديد. فالقطيعة التي سعى إليها الجابري، هي سلسلة من القطائع الجزئية و التجزيئية، التي تتصل بجوانب من التراث معينة أو بفهم معين له. فحتى مفهوم القطيعة، خضع عند الجابري للنظرة التجزيئية والإنتقائية. و هو الأمر الذي يناقض النقد الشمولي و الجذري عند العروي. و من هنا، كانت غاية مشروعه، تحقيق القطيعة الصغرى مع التراث، و ليس إعلان موته في أفق تصور تاريخاني جذري كما لاحظنا عند العروي.
إن إعلان القطيعة الصغرى، من المنظور النقدي عند الجابري، لا يستجيب للمفهوم التاريخاني. و لذا فإن الجابري، سوف يتوسل بين الفينة و الأخرى بالمفهوم البنيوي للعقل و الثقافة، كي يتسنى له انتقاء ما يصلح وما لا يصلح لقطيعته تلك. وعليه، فهي أقرب ما تكون إلى عملية "أجرأة"، يتسنى بموجبها للناقد فرض شروطه و غاياته الأيديولوجية على التراث. و هذا ما يجعل القطيعة الصغرى عند الجابري، و كما سنوضح لاحقا، تستمد مبرراتها من الأيديولوجيا أكثر من متطلبات النقد المعرفي. ليس الفكر التاريخي هو من يفرض القطيعة. القطيعة بهذا المعنى، هي ها هنا حتمية. لا، بل إن القطيعة حسب هذه المقاربة الأيديولوجية، هي مسألة اختيار. إذا كان العروي لا يرى خيرة أمام العرب سوى أن يندمجوا في الوجهة الأحادية لهذا المسار المسطح للتاريخ، على إيقاع قوانينه القارة، فإن الجابري، يرى أن للعرب أن ينتقوا من بين أشكال البنى التي تعتمل داخل تراثهم، و يمكنهم أن يختاروا النموذج الأنجع الذي يلتقي مع منطق العصر؛ المنطق الذي في نظر العروي لا يمكن البحث عنه في الماضي، بل هو منطق العصر الذي يجب أن يقطع تماما مع منطق الماضي، و بصورة لا رجعة فيها.
فما هي إذن، ملامح هذه القطيعة و طبيعتها. ما هي حيثياتها و مبرراتها. و ما هي المساحات التي خضعت لإكراهات القطيعة الجابرية الصغرى؟
التراث و الحداثة.. و مأزق العلاقة
لقد قدم الجابري مشروعه في نقد العقد العربي وهو التصريف المفترض لإحدى طرفي النقد المزدوج المتوخى بوصفه عملية نقد عقلانية للتراث العربي و الإسلامي، في أفق مقاربة معرفية إبستمولوجية. و مع أن هذا المشروع انتهى إلى إعلان مواقفه الأيديولوجية صراحا، إلا أن الجابري نفسه تعرض لكل أشكال المقاربات الموجودة و الممكنة، و دخل معها في نقاش عارم ، محاولا إيجاد "نمذجة" لها، دون أن يتردد في وصفها بالأيديولوجية. فكيف إذن، يمكننا الجمع بين الجابري في ادعاءاته الإبستيمولوجية و بين ادعاءات نقاده أو اعترافاته أحيانا بنزعته الأيديولوجية ؟! هذا التضارب و الإزدواجية تعودان إلى أن باحثنا يتجاذبه تياران أو لنقل، إنه يمارس التفكير بذوقين فرضهما عليه مجال اختصاصه، وأيضا تراكم خبراته. فمن ناحية نزوعه ووفائه الإبستمولوجيين، فهو أستاذ فلسفة و باحث أكاديمي، مشدود إلى إكراهات البحث العلمي بقواعده المشروطة و إجراءاته المقررة. هذا، فضلا عن اهتمامه الخاص بالإبستيمولوجيا، كما دل على ذلك اهتمامه بجاستون باشلار، و هو ما أثمر عمله الإبستيمولوجي المدرسي الواقع في جزئين.[1] لكن هذا الاهتمام الخاص بمبحث الإبستيمولوجيا، و ذلك الخضوع إلى إكراهات البحث الأكاديمي المشروط بقواعده المقررة، لا ينفي الجانب الأيديولوجي الممارس، الخارج من أتون الصراع السياسي و الأيديولوجي. و هذا يحدده انخراط الجابري في العمل السياسي و الأيديولوجي داخل حزب "الإستقلال" المغربي ابتداءا، ومن ثمة داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بعد الانشقاق عن حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، المنشق بدوره عن حزب الاستقلال.[2] و الذين عاشوا في كنف هذا الحزب، يدركون أهمية الصراع الأيديولوجي، حيث يعتبر الحزب الأخير في حينه، حزبا أيديولوجيا فيما غدا الجابري الذي جمد عضويته في المكتب السياسي، واحدا من أبرز منظريه الأيديولوجيين. إذن، ليست مشكلة الازدواجية بين التراث و الأصالة التي وسمت الواقع العربي و الإسلامي حسب الجابري، هي وحدها الازدواجية المفروضة على الفكر العربي، بل الازدواجية المذكورة بين الجابري ذي الاختصاص الإبستيمولوجي، و الجابري ذي المنزع الأيديولوجي، هي نفسها الإزدواجية المفروضة على أساس التكوين ومجال الاشتغال. كيف إذن، سيسعى الجابري المتردد بين نزعتين : إبستمولوجية و أيديولوجية، إلى فك لغز الازدواجية المفروضة على الفكر العربي و الإسلامي بخصوص علاقة التراث بالحداثة أو الأصالة بالمعاصرة ؟ و يبرر الجابري هذه النزعة التوظيفية للمناهج المختلفة، و أيضا استدماجه للنزعتين معا، الإبستيمولوجية والأيديولوجية، بالوضع العربي نفسه وبطبيعة الموضوع المدروس هنا أيضا. إنها ليست مسألة اختيار، بل هو أمر يفرضه الواقع الخارجي للموضوع، و أيضا طبيعته. فعلى الرغم من تسليمه بأن الفكر العربي، هو فكر لا تاريخي، إلا أنه لم يجعل من التحليل التاريخي فارس مقاربته المذكورة. فهو يرى إلى أزمة الفكر العربي المعاصر، بوصفها أزمة بنيوية. يقول الجابري بهذا الصدد : " الواقع أن أي تحليل لتاريخ الفكر العربي و الثقافة العربية، سواء كان من منظور تاريخي أو من منظور بنيوي، سيظل ناقصا، و ستكون نتائجه مضللة، إذا لم تأخذ في حسابه دور السياسة في توجيه هذا الفكر و تحديد مساره و منعرجاته [...] من هنا أزمة الفكر العربي المعاصر، أزمة الإبداع فيه. إنها أزمة بنيوية : أزمة عقل قوامه مفاهيم و مقولات و آليات ذهنية ... ".[3]
و كذلك الأمر نفسه بالنسبة للتردد بين الأيديولوجي و الإبستيمولوجي. حيث يرى هذا الأخير، أن الفلسفة العربية و الإسلامية لم تشهد فصاما بين المحتوى المعرفي و المضمون الأيديولوجي. فلقد كانت الفلسفة العربية قراءة لفلسفة أخرى، هي الفلسفة اليونانية، وظفت لأهداف أيديولوجية.[4]حتى أن الجابري يستخلص من واقع هذا الربط بين المحتوى المعرفي و المضمون الأيديولوجي في الفلسفة الإسلامية، أنه إن كان يتعين علينا البحث عن جديد في الفلسفة الإسلامية، فينبغي البحث في الوظيفة الأيديولوجية التي أعطاها كل فيلسوف لهذه المعارف، و ليس البحث في المعارف التي تم استعراضها و استثمارها.[5] إن الفصل بين المحتوى المعرفي و المضمون الأيديولوجي في الفلسفة الإسلامية، ليس مسألة اختيار نظري، حسب الباحث، بل هو أمر مفروض من وضعية هذه الفلسفة. إن الجابري، يعترف بأهمية النقد الإبستيمولوجي، غير أنه لايخفي منطقه الأيديولوجي. بل لعله الباحث الأكثر اعترافا بنزعته الأيديولوجية. و لكنه يحمل مبررات قد تكون في نظره موضوعية. طالما أننا لا يمكننا التنصل من الأيديولوجيا. فالذين ينكرون الطرح الأيديولوجي، هم يزاولونه، لكن بصورة لا واعية. ما يجعل نتائج البحث معكوسة. و يشرح ذلك بوضوح كافي :
"لقد ارتأى بعض النقاد أنه كان ينبغي الذهاب بالتحليل الإبستيمولوجي إلى أقصى مداه و الانصراف بالتالي عن القراءة الأيديولوجية. و على الرغم من أنني أدرك بعمق الأهمية البالغة التي يكتسيها التحليل الإبستيمولوجي بالنسبة لوضعيتنا الفكرية و الثقافية الراهنة، و بالتالي بالنسبة لتحديث العقل العربي، فإنني لا أتصور كيف يمكن السكوت عن المضمون الإيديولوجي في فلسفة جعلت كل همها توظيف المادة المعرفية التي قدمتها لها الفلسفة اليونانية. في أهداف أيديولوجية. الم تكن إشكاليتها الرئيسية إشكالية إيديولوجية بالأساس : إشكالية التوفيق بين النقل و العقل، بين الدين و الفلسفة بين ما لله و ما لقيصر... بين الشاهد (الدنيا) و الغائب (الآخرة)؟ ثم هل يمكن الادعاء بأن قراءة ما تصدر في تصورنا للماضي عن حاجات في الحاضر؟ و هل يمكن الادعاء بأن هذه "الحاجات" ليست أيديولوجية؟ لقد سبق أن صرحنا بالطابع الأيديولوجي لقراءتنا، و نحن نؤكد هنا، مرة أخرى، أنه لأفضل ألف مرة أن نحاول قراءة تراثنا قراءة أيديولوجية تريد أن تكون واعية، من أن نستمر في قراءته قراءة أيديولوجية غير واعية، قراءة مزيفة مقلوبة".[6]
على هذا الضوء، يتبدى الموقف المتردد للجابري حيال التراث، بين نزعة إبستيمولوجية و نزعة أيديولوجية، يجد مسوغه في حتمية الإزدواجية المفروضة بين التراث و الحداثة. حيث أن خصوصية هذا التراث من الناحية الإشكالية، هي في كونه من جهة، بعيدا عن واقع حداثتنا و من جهة أخرى، هو تراث لا يحضر في فكرنا كما لو كان تراثا مستقلا بالفعل. بل هو تراث مستمر يتجدد عبر المساحة التاريخية الفاصلة بيم الماضي و الحاضر، منذ عصر التدوين. فثمة عقل يعمل على تجديد هذا التراث، بينما ثمة عقل ثابت يعيد إنتاج نفسه بنفسه، كما سنبين لاحقا. إن التراث الذي يبدو اليوم موضوع دراستنا، لسنا نحن من اختاره، كما لسنا نحن من يختار الحداثة. فكما أن الحداثة فرضت نفسها منذ الهيمنة الأولى للاستعمار و انبساط هيمنته الاقتصادية و الثقافية و الأيديولوجية، فإن النموذج التراثي " أغنى الموروث من ماضينا : لم نختره لأنه إرث، و الإنسان لا يختار إرثه كما لا يختار ماضيه و إنما يجره معه جرا، و أكثر من ذلك يتمسك به و يحتمي داخله عندما يجد نفسه معرضا لأي تهديد".[7] و بما أن المسألة هي خارج اختيارنا، حيث لا مجال لأن نختار بين النموذجين، فتصبح المشكلة، ليست في أن نختار هذا النموذج أو ذاك أو نوفق بينهما، بل مشكلتنا هي في ازدواجية موقفنا من هذه الإزدواجية.[8] و في هذا السياق يرفض الجابري الدعوة التي تصل بهذه الازدواجية إلى حد الإعلان عن مواقف جذرية كالرفض التام لكل ما هو حديث بوصفه جاهلية، أو تلك التي تدعو لرفض كل ما هو تراث، بوصفه مصدر تخلف. وإذا كان موقفه من التيار الأول واضحا إلى حد ما؛ أي الموقف من التيار السلفي الرافض لكل ما هو حديث، فإن الموقف الثاني يحدد موقف الجابري مما جاء في مقاربة عبد الله العروي، والتي مفادها؛ القطيعة الكبرى. فهو يرى أن مثل هذه الدعوة موجودة دائما حتى في تراثنا، و أيضا هذا النحو من الرفض يشهده النموذج الأوربي المعاصر أيضا.[9]
إن هذه الإزدواجية أمر واقع فرضه النموذج الغربي في إطار التوسع الاستعماري و تعميم النموذج الغربي الحديث. فقد تساءل الجابري حول ما إذا كانت إشكالية التراث و الحداثة أو الأصالة و المعاصرة، كما تحضر في الفكر العربي الحديث و المعاصر هي انعكاس أيديولوجي لصراع الطبقات الاجتماعية أم أنه انعكاس لإشكالية ثقافية؟
الجواب في نظر الناقد، هو أنها إشكالية مرتبطة بالمشكل الثقافي. و بالتالي "فهي إلى أن تكون تعبيرا عن الوعي بهذه الازدواجية أقرب منها إلى أن تكون انعكاسا لصراع اجتماعي طبقي معين".[10].
لكن اتصال موضوع الأصالة و المعاصرة بالعملية النهضوية، و بالتالي، واقع هذه العملية التي تفرض صراعا بين قوى التجديد و المحافظة اللتين يفرزهما التطور الاجتماعي العام، يجعلان الصراع بين الأصالة و المعاصرة، كانعكاس للصراع الطبقي على الصعيد الاجتماعي.[11] و هذه هي الحالة التي يصح فيها نسبة الإشكالية المذكورة إلى واقع الصراع الطبقي الاجتماعي.
و لكي نفهم أكثر، كيف أن طرو العامل الخارجي على واقعنا أدى إلى بروز هذا الواقع المزدوج كما تعكسه الوضعية الإزدواجية المفروضة للتراث والحداثة، فلابد أن نلتفت إلى واقع تعاطي المثقف العربي مع تراثه مقارنة مع تعاطي المثقف الأوربي مع تراثه. فإذا كان هذا الأخير يرى إلى تراثه موصولا بمشروع مستقبله، و لا يراه مشروعا مستقلا عنه، ولا مناقضا لحاجاته المعاصرة، فإن المثقف العربي، ينظر إلى تراثه العربي و الإسلامي، كأمر منفصل عنه بإشكالياته و قضاياه.[12]
فالتراث إذن، مصدر أزمة، ليس من حيث "هو"، في سياقه التاريخي فحسب حيث سيعمل الباحث على قراءته على خلفية تتبع أزماته و تمفصلاته و تشكلاته البنيوية بل من حيث واقع الازدواجية المذكورة التي تفرض علينا نحن العرب و المسلمين، أن نخطط، ليس لمستقبلنا الثقافي فحسب، بل، التخطيط لماضينا أيضا. و قد يتساءل الإنسان : كيف يتم التخطيط للماضي، و كيف يرى الجابري إمكانية من هذا القبيل بالنسبة لزمان، طبيعته سيالة، حيث إذا كان تاريخنا قد انفلت من سيطرتنا، و كنا نحن ثمرة لمآزقه؛ بل ولأننا لازلنا تحت سلطته، إذ مجرد عدم امتلاكنا لحداثتنا تجعل للتراث سلطة نافذة على حاضرنا ؛ أجل، كيف يمكننا التخطيط بأثر رجعي لماض متصرم ؟
بالنسبة إلى المنظور الإبستيمولوجي الذي ينطلق منه الجابري، يعني هنا، بالتخطيط للماضي، ليس امتلاكه، بل يعني محاولة فهمه ثم استحضار محطاته المشرقة، و تبني نزعته العقلانية . بمعنى، أنه في نهاية المطاف، تخطيط للحاضر، و التفاف على الحاضر لحل معضلته في التراث. يقول بهذا الخصوص : "فكان لا بد من أن ينتهي بنا التحليل إلى ما أن ما هو مطروح علينا ليس التخطيط لمستقبلنا الثقافي وحده بل التخطيط كذلك لماضينا الثقافي بصورة تجعله معاصرا لنفسه بإعادة الزمنية و التاريخية إليه، و معاصرا لنا بإضفاء المعقولية عليه، بإعادة ترتيب العلاقة بين أجزائه من جهة و بينه وبين اهتماماتنا المعاصرة و المستقبلية من جهة أخرى ".[31]
و هذا بطبيعة الحال، مسوغ أساسي لقيام مشروع أو تدشين "عصر تدوين " جديد . و هو بمثابة المنطلق الأساسي للنهضة العربية المتوخاة . هذا المشروع يتطلب تشريحا للعقل العربي في مختلف تمظهراته و في مختلف المستويات التي تمت فيها ممارسة هذا العقل؛ سواء مجال المعرفة أو مجال السياسة أو مجال الأخلاق. على أن مفهوم العقل الذي يسعى الجابري إلى نقده و تفكيكه، يحمل دلالتين مختلفتين، و إن كانت لهما علاقة جدلية. إن العقل كما يراه الجابري و يدعو إلى ممارسته، هو فعل لا ملكة. و هو في هذا الإطار، لا يستقي تعريفه للعقل من تلك اللحظة التراثية المتيم بها اللحظة الرشدية حيث ساد في تلك الحقبة مفهوم للعقل ينزل به رتبة الجوهر. و لم يكن ابن حزم أو ابن رشد أو ابن خلدون أو الشاطبي، ينظرون إلى العقل إلا نظرة عصرهم؛ حيث ساد خلال العصر الوسيط، ذلك المنظور الأرسطي للعقل، بوصفه جوهرا. لقد تبنى الجابري منظور "ألمو" ulmo للعقل بوصفه فعلا.[14]ومن جهة أخرى، فقد تبنى الجابري معنيين للعقل بصورة واضحة و معلنة، هما المعنيان اللذان طرحهما أندريه لالاند: العقل المكون بفتح الواو مع الشدة و العقل المكون مع كسر الواو مع الشدة . إذن نحن بصدد ضرب آخر من الإستعارة المفهومية لماهية العقل، تحدد لنا مختار الجابري، حيث يمكننا تقديمها كالتالي:
العقل كبنية (=استعارة من عموم البنيويين؛ "بياجي" في مفهوم اللاشعور المعرفي أو "دوبريه" في مفهوم اللاشعور السياسي؛ و أيضا تحوير لمفهوم "العقلية" نظير العقلية البدائية عند "بروهل)".
العقل كفعل أو فعالية (=استعارة من "ألمو" و من رأى رأيه ).
العقل كجدل بين عقلين؛ مكون و مكون (=استعارة من "أندريه لالاند").[15]
وعليه، فإن القراءة الجابرية للتراث، تستهدف هذا العقل مكونا بكسر الواو مع التشديد و مكونا بفتح الواو مع التشديد ، لنخلص إلى نتيجة مفادها، أن إعادة القبض على اللحظة المنسية من تجدد الفكر العربي و الإسلامي في نهاية القرن الخامس عشر الهجري؛ أي اللحظة التي أعقبت أزمته مع رائدها أبو حامد الغزالي، و التي تزعمها ابن حزم و تياره بالأندلس، هي ما يوقف هذا التجادل لو صح هذا الوصف، بين العقل المكون والمكون، تماما ما أسماه الجابري بالبنية المحصلة، التي تحين نفسها من خلال عقل يمارس نشاطه تحت السلطة المعرفية لهذا التراث؛ لعقل نما و تكون في ضوء هذا المتكون نفسه. و هذا المشروع القرائي للجابري، يسعى إلى تفكيك بنية هذا التراث، و من ثمة إعادة تأسيسه بصورة مختلفة. و كأننا أمام محاولة إنقاذ و رد اعتبار من قبل الجابري، لأولئك الذين كانوا حسب رأيه على هامش هذا التراث، لم ينصفوا و لم تتح لهم الفرصة لتعميم مشروعهم على امتداد العقل العربي. أي لم يحققوا حلمهم في أن تتحول مدرستهم إلى حيز التطبيق الفعلي. حيث التجديد نفسه ليس مسألة دعوة عند الجابري بل هي ممارسة تاريخية.
هذه العملية التفكيكية التي قام بها الجابري، تترصد العقل العربي كما ذكرنا، في مستويات ثلاثة من نشاطه و فعاليته: المستوى المعرفي، المستوى السياسي و المستوى الأخلاقي.
الجابري و تثليث المعرفة العربية
لقد كان واضحا، أن الجابري منذ إعلانه الأول عن سعيه إلى تفكيك التراث و إعادة تأسيسه، فهو باحث عن بنية أو بنى تتحكم بمسار تطوره. فهو إذن بهذا المعنى، صاحب مشروع حفري. ما جعله يلتقي أ تسامحا مع نتائج المنحى الحفري " الفوكوني" كما في "حفريات المعرفة" و "نظام الخطاب". إنه يبحث عن النظام المعرفي "Episteme". وسوف يوظف مفهوم اللاشعور ، أيضا، الذي سيعكس العقل المكون بفتح الواو مع الشدة ؛ اللاشعور المعرفي الذي يحضر و يتقاطع و يؤثر في الفعل العقلي العربي بصورة طبيعية. إنه إذن يحفر في بنية الخطاب العربي، باحثا عن النظام أو النظم المعرفية. وهو، أيضا، يقترب من المنحى الجينيالوجي الفوكوني نفسه، وإن كانت غايات الجابري، لا تقف عند مجرد بيان كيفية نشوء النظم المعرفية على إثر اندثار أخرى، بل إن الجابري، و كما ذكرنا وكما سنرى، لا يلتزم بقواعد أي منهج. ولا يخفى أنه يتعامل مع المنهج بصورة إجرائية بحتة؛ أي إخضاعه إلى غايات الموضوع. بل إنه يسعى إلى تحيين نظام معرفي ما، ومحاولة تأسيس التراث على وفقه، كي يتسنى له فيما بعد انتزاع روحه العقلاني، و لتحقيق القطيعة المذكورة مع بعض النظم المعرفية الأخرى داخل هذا التراث. و هذا ما يعني، أن الباحث،و كأنه يريد أن ينشئ القطيعة داخل حقل التراث قبل تحقيقها في حاضرنا. أي أن يجعل هذه العوالم المعرفية داخل التراث في حالة من القطيعة، كمقدمة لوصل الحاضر بروح النظام المعرفي الذي أثبت جدارته من داخل التراث.
لقد استطاع الجابري من خلال قراءته في التراث المعرفي العربي و الإسلامي، الخروج بنتيجة مفادها أن العقل العربي على الصعيد المعرفي يتشكل من ثلاثة نظم معرفية أو لنقل، ثلاث بنى منفصلة في تكوينها عن بعضها البعض؛ ألا وهي: البيان و البرهان و العرفان. إن الثقافة العربية منذ عصر التدوين أي منذ العصر العباسي تعيش على إيقاع ثلاثة نظم معرفية؛تشكل عوالم معرفية و مفهومية مختلفة. وهي كالتالي:
1 البيان
يقصد الجابري بالنظام المعرفي البياني، ذلك النظام الذي تحدد وفق النموذج المعرفي الذي تتيحه العلوم العربية الإسلامية الخالصة، كاللغة و علم الكلام و الفقه. إنه بتعبير آخر، الحقل المعرفي للفكر العربي الذي يتحدد تاريخيا في الفترة التي تمتد من عهد الرسالة و الخلفاء الراشدين إلى الدولة الأموية. ميزة هذا النظام المعرفي، تكريسه لرؤية ما للعالم قائمة على الإنفصال و اللاسببية. كما يقوم أيضا، على ضرب من الإنتاج المعرفي قائم على قياس الغائب على الشاهد و الفرع على الأصل.[16]
2 العرفان
يقصد الجابري بالنظام المعرفي العرفاني نظاما يتحدد وفق النموذج المعرفي الذي تتيحه بعض العلوم كالتنجيم و الكيمياء السحر و الطلسمات كما تتيحه التيارات الصوفية و الإشراقية و الفلسفة الإسماعيلية و الفيضية و الفكر الشيعي. إنه بتعبير آخر، الحقل المعرفي للفكر العربي الذي يتحدد تاريخيا بأوائل العصر العباسي. كما يتحدد مصدره، خارج الثقافة العربية، باعتباره يشكل وافدا غنوصيا من الخارج تحت تأثير الثقافة الهرمسية، أو موروثا سابقا على الإسلام. ميزة هذا النظام المعرفي، تكريسه لرؤية ما للعالم قائمة على المشاركة و الإتصال، و أيضا يقوم على ضرب من الإنتاج المعرفي قائم على أساس الاتصال الروحاني المباشر بالموضوع.[71]
3 البرهان
يقصد الجابري بالنظام المعرفي البرهاني، النظام الذي يتحدد وفق النموذج المعرفي الذي تتيحه العلوم و المنطق و الفلسفة اليونانية الأرسطوطاليسية. إنه بتعبير آخر،الحقل المعرفي للفكر العربي الذي يتحدد تاريخيا بعصر المأمون وبدأ نشاط الترجمة. ميزة هذا النظام المعرفي، تكريسه لرؤية ما للعالم قائمة على السببية، و أيضا يقوم على ضرب من الإنتاج المعرفي قائم على أسس منطقية ترتب النتائج على مقدماتها.[18]
لقد عاشت هذه النظم داخل الثقافة العربية و الإسلامية،على إيقاع الإنفصال والإتصال. لقد غلب الإنفصال بينهما في مرحلة التكوين، لأن كل نظام كان يسعى لاستكمال نسقه و بنيته. لذلك كان التميز و الإختلاف أمران يفرضهما واقع التكوين. وتلك هي حقا بداية لما كان يسميه الجابري بأزمة الأسس. أما في المراحل اللاحقة، فقد بدأ نوع من التداخل و الإتصال طلبا للإستقواء؛أي استقواء كل بنية بالأخرى. و عادة ما كان ذلك يتم في صور تأسيس العرفان أو البيان على البرهان. هذا التداخل الذي كان يأخذ في فترات التكوين طابعا محدودا، يهدف إلى تعزيز كل بنية لبنياتها، و دون أن تخسر خصائصها. و هذا ما عبر عنه بالتداخل التكويني. أما في الفترات اللاحقة حيث أصبح التداخل بين بنيات متشظية و فاقدة لتماسكها، وهو مؤشر على بداية عصر"تأسيس الأزمة"، فهو تداخل أفقد العقل نفسه محدداته، حيث بدا غير مستقر. و هذا ما عبر عنه بالتداخل التلفيقي.[19]
و كان الغزالي هو من ناضل في سبيل تحقيق هذا التداخل، و بالتالي تكريس هذه الأزمة. يقول الجابري بهذا الصدد: " لقد أدخل الغزالي، إذن،التصوف بقسميه، العملي و النظري، إلى دائرة السنة من باب السنة الواسع: الفقه، فأصبح منذئذ مكونا أساسيا من مكونات الفكر السني، لا بل العقل البياني نفسه{...} العقل العربي الذي انتهى إلينا عبر طريق المتأخرين، و روافدها و امتداداتها و الذي ظل منذ الغزالي، مسرحا لصراع المقولات و اختلاط المفاهيم..".[20]
من التأسيس إلى إعادة التأسيس
يتهم الجابري أبا حامد الغزالي بعملية "التفكيك وإعادة توزيع القطاعات المعرفية في الثقافة العربية"،[21] بوعي منه و بصورة منهجية. و تلك هي حسب الباحث، لحظة انفجار أزمة الأسس في الثقافة العربية الإسلامية، و بدأ تأسيس أزمة العقل العربي و الإسلامي. إن عملية التأسيس هذه أعقبتها صور أخرى لتأسيسات أو إعادة التأسيس. لا سيما على صعيد إعادة تأسيس البيان على البرهان. و هنا يحاول الجابري أن يفتح النافذة على تأسيس آخر شهدته الثقافة العربية الإسلامية، كان يرمي إلى التخلص من هذا الإرث السينوي الغزالي. وهو التأسيس الذي يتعين على الفكر العربي و الإسلامي المعاصر أن يتأمله و يعيد قراءته و تقريبه ضمن التأسيسات الأخرى التي لم تستطع إنقاذ البيان أو البرهان من سلطة العرفان. و هذه اللحظة كان قد دشنها ابن حزم الظاهري. لتتكامل هذه اللحظة الحزمية مع ابن رشد الذي سوف يقوم هو الآخر بعمل مزدوج؛ بناء البيان على البرهان من خلال " الكشف عن مناهج الأدلة " و "بداية المجتهد و نهاية المقتصد" و تحرير البرهان من العرفان كما أظهرت ذلك أعماله الفلسفية، و نقده لابن سينا. هذه اللحظة الحزمية الرشدية، هي نفسها تجد تأثيرها في الفقيه الحنبلي "ابن تيمية". و سيستمر هذا التأسيس لثلاثة قرون بالأندلس، مع كل من ابن ماجة الفيلسوف و ابن خلدون المؤرخ و الشاطبي صاحب "مقاصد" الشريعة. نعم، لقد ظلت هذه الرشدية على هامش العالم العربي و الإسلامي، لكنها عاشت مستقبلها في أوربا. و عليه، يدشن الجابري هنا لحظة قطيعية من داخل التراث، تجعل القطيعة بين ابن سينا و الغزالي من جهة، و ابن رشد و تياره من جهة ثانية، قائمة في حقل الثقافة العربية الإسلامية نفسها. و من هنا فالقطيعة تأخذ هنا معنيين: قطيعة بين تراثين؛ التراث السينوي الغزالي الهرمسي، والتراث الحزمي الرشدي العقلاني. فإذا " كان الغزالي يجسم لحظة الأزمة في الثقافة العربية الإسلامية؛ الأزمة التي بدأت أعراضها قبله بقرن أو يزيد. وهكذا، إذا كانت لحظة الغزالي تجد نقطة بدئها في ابن سينا، فإن لحظة ابن رشد تجد نقطة انطلاقتها في ابن حزم".[22]
و من ناحية أخرى، فهي قطيعة جغرافية، حيث أبطالها فلاسفة و فقهاء ينتمون إلى المجال الغربي من العالم الإسلامي، و تحديدا المغرب و الأندلس. و إذا كان هناك أثر لهذه القطيعة في بعض النماذج المشرقية كما هو الحال بالنسبة لابن تيمية، فذلك راجع إلى تأثير ابن رشد، حيث يحصي الجابري نقاط التشابه بين آرائه و آراء ابن رشد. و إذا كان ابن حزم قد وجد قبل الغزالي، فهذا يشير إلى أن مفهوم القطيعة عند الجابري، ليس مفهوما تاريخيا بقدر ما هو مفهوم بنيوي، قد يكون المقطوع معه متقدما تاريخيا وهذا أشبه ما يكون بتقدم الناسخ على المنسوخ مما يؤكد على غياب الفكر التاريخي عند الجابري.
فما هي ملامح هذه الثورة الحزمية الرشدية، وما مميزات هذه القطيعة بين مشرق "متهرمس" و مغرب "عقلاني" ؟ يحاول الجابري أن يعيد رسم صورة عن ابن حزم على خلفية رؤية تنزله منزلة رائد النقد التجاوزي في الفكر العربي الإسلامي. و انتصارا لنهج ابن حزم المتحرر من سلطة الأصول و الأئمة من أصحاب المذاهب الفقهية. فقد رأى في هذه الأحكام اختزالا و ظلما و تعتيما على شخصية ابن حزم، ربما كان قد دفع ضريبة ملابسات الوضع السياسي إبان العصر العباسي. حيث بدا مشروعه مناقضا للأيديولوجيتين: العباسية والفاطمية معا. هذا، مع أن ظاهرية ابن حزم،منظورا إليها من الزاوية الإبستيمولوجية المحض، هي مشروع فكري فلسفي الأبعاد، يطمح إلى إعادة تأسيس البيان و إعادة ترتيب العلاقات بينه وبين البرهان مع إقصاء العرفان إقصاءا تاما".[23]
لقد كان الفضل لابن حزم على ابن رشد نفسه، الذي سوف يواصل هذا المشروع إلى أقصى حد ممكن، في ضوء تخليص البرهان من العرفان، و إعادة الوهج الى نظام السببية و العلم:" من رفع الأسباب فقد رفع العلم".[24]
و هذا ما جعل ابن رشد وارثا شرعيا لهذه الحزمية، حتى أنه ما من أحد تأثر بابن حزم فيما بعد، إلا وتأثر بهذه البصمات الرشدية الواضحة. لقد حاول الجابري إبراز وحدة الثقافة بين هذا الجيل من الفلاسفة والفقهاء في الأندلس، كي يوضح إلى أي مدى استطاع هؤلاء تحقيق قطيعة مع الشرق العربي و الإسلامي. و قد رأى الباحث، أن الأمر هنا "يتعلق فعلا بلحظة جديدة تماما في تاريخ الفكر العربي، لحظة تميزت بنقد الأساس الإبستيمولوجي الذي قام عليه الحقل المعرفي البياني منذ عصر التدوين و اقتراح أساس جديد توظف فيه المفاهيم الإبستيمولوجية المؤسسة لعلم عصرهم، مفاهيم البرهان كمنطق و طبيعيات، بصورة خاصة، توظيفا يرتفع بالممارسة النظرية في الحقل البياني إلى مستوى الممارسة العلمية البرهانية".[25]
من هاهنا جاءت الدعوة دعوة الجابري إلى إعادة كتابة التاريخ، و إعادة تأسيس جديد للتراث و إعادة توزيع حقوله المعرفية بما ينزع عنه عوائقه المعرفية المتمثلة في السلطة المفاهيمية للبيان و العرفان تحديدا. إنها دعوة إلى عصر تدوين جديد يقوم على أساس استيعاب الرشدية في مدياتها العقلانية. فالقطيعة مع التراث، هي بالأحرى قطيعة مع فهم ما و وعي ما للتراث.
سؤال القطيعة الإبستيمولوجية
لقد بنا الجابري استراتيجيته "القطيعية " على أساس مناقض تماما لمفهوم القطيعة عند العروي. إنها قطيعة محكومة بتصور مختلف للتراث؛ هذه القطيعة لا يمكنها بأي حال من الأحوال تأكيد الإستغناء عنه أو رميه في المتاحف. ولذا، فهو يخطئ وجهة النظر المتطرفة حيال التراث و يعلن عن خطأ العروي في طرحه للمسألة على الصورة المذكورة، و يتهمه بالإنحياز إلى التراث الأوروبي أكثر من انحيازه إلى التراث العربي الإسلامي. و يقترح طرحا آخر يراه صحيحا و بديلا عن الإقتراح الذي قدمه العروي و نظراءه. يقول : "يطرح بعض المثقفين الذين يبدو أن صلتهم ب " التراث" الأوروبي أقوى من صلتهم بالتراث العربي الإسلامي مشكلة استيعاب الفكر العربي المعاصر لمكتسبات الليبرالية "قبل و بدون أن يعيش مرحلة ليبرالية" و يقصدون بالليبرالية: " النظام الفكري المتكامل الذي تكون في القرنين السابع و الثامن عشر، و الذي حاربت به الطبقة البورجوازية الأوربية الفتية الأفكار و الأنظمة الإقطاعية". تلك هي إشكالية عبد الله العروي و زكي نجيب محمود و ماجد فخري وآخرين كثيرين، منهم من يطرحها من منظور فرنسي ديكارتي و منهم من يطرحها من منظور أنجلوسكسوني تجريبي وضعي، و ذلك حسب وضع التراث الأوربي الذي يشكل منظومته المرجعية الثقافية و الفكرية".[26]
يقدم الجابري رأيا مختلفا عن القطيعة، بوصفها هنا ليست قطيعة مع التراث بالمعنى اللغوي المتداول، بل هي قطيعة تحمل دلالة إبستيمولوجية. إن رفض التراث و إطراحه نهائيا، هو في نظر الجابري، موقف "لا علمي و لا تاريخي".[27] و هذا أقصى و أقسى نقد أمكن لناقد العقل العربي أن يوجهه ضد المقاربة التاريخية لعبد الله العروي. حيث رغم ارتكاز هذه الأخيرة على الفكر التاريخي، ينتزع الناقد منها صفة "التاريخية". و هذا الموقف حسب الناقد دائما، لي أمرا جديدا، بل هو نفسه من رواسب الفكر التراثي في عصر الإنحطاط.[28]إن القطيعة الإبستيمولوجية التي يدعو إليها الجابري، تتعلق بالفعل العقلي. و الفعل العقلي لاحظ هنا كيف تتم الاستعارة الجابرية لفعلية العقل من "أولمو" هو نشاط يقوم على طريقة ما و يستند إلى أداة مفهومية في مجال تداولي معين. فالذي يتغير هنا، هو طريقة معالجة الإشكالية و الطرق المعتمدة. إذن، هي دعوة إلى التخلي عن فهم تراثي للتراث، أو بتعبير آخر، أن نحتوي التراث بدل أن يحتوينا هو. إن القطيعة التي يدعونا إليها الجابري، " ليست القطيعة مع التراث، بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من "كائنات تراثية" إلى كائنات لها تراث، أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، المقوم الجامع بينها في شخصية أعم، هي شخصية الأمة صاحبة التراث"[29]
و يظل السؤال مطروحا؛ كيف نستطيع احتواء التراث و كيف يمكن مد الجسور إليه دونما الإغراق فيه. وأي منهج سديد يجب اتباعه، و كيف يمكننا استحضار النظام المعرفي البرهاني في صورته الرشدية الناجعة في عصرنا الذي يبدو قد قطع هو الآخر مع هذه الرشدية !؟
يقترح الجابري صيغة لذلك، ألا و هي وصل القارئ بالمقروء. و كأنها دعوة إلى ضرب من المعايشة التي تجعل القارئ للتراث يعيش الإشكالية ذاتها في إطارها التاريخي نفسه. و يقترح لذلك منهجا، يقوم على ضرب من الحدس الإستشرافي.[30] إن التراث ليس مجرد إنتاج تاريخي، بل هو حصيلة تظافر عمل التاريخ و المجتمع. فالذات الإنسانية المنتجة للتراث، ما كان لها أن تتنتجه إلا بعد ما أمكنها التحرر من التاريخ والمجتمع نسبيا. و لهذا تحديدا، يأتي عطاء الإنسان تحت طائلة الرقابة المجتمعية، عطاءا غير مباشر و غير مكتمل. لذا لزم على الناقد البحث عن الحقيقة وراء أسوار اللغة و المنطق. و هذا، يعني اختراق حدود اللغة و المنطق لا يتم إلا بالحدس[31]
إن الحدس هنا، لا يلتقي ، حسب الجابري ، مع الحدس الصوفي أو البرجسوني أو الفينومينولوجي، بل هو أقرب لديه من الحدس الرياضي. وهذا ما يسوغ للجابري ممارسة النقد على أساس يتداخل فيه الإبستيمولوجي بالأيديولوجي. نظرا للتوظيف المتبادل بين المتضايفين الزمنيين:الماضي و المستقبل. لكي تندك الواسطة بين القارئ و مقروئه في حالة اتصال حدسي استشرافي، و ما كان بما "كان سيكون"، فيندمج الموضوعي مع الأيديولوجي، و يتحول "المستقبل الماضي" الذي كانت الذات المقروءة تتطلع إليه، إلى" المستقبل الآتي"، الذي تجري الذات القارئة وراءه. فيصبح المقروء المعاصر لنفسه، معاصرا لقارئه.[32]
إن ما يبرر هذا المنهج الحدسي لدى الجابري، هو واقع التراث نفسه من حيث هو مجال لما يعبر عنه ب"المضنون به على غير أهله". و بالتالي، فالمهمة تقضي، بأن نتمكن من التصريح بما ضن به الأسلاف. و هذا يتوقف على أن نسلك مسالك هذا الحدس الذي يصل القارئ بالمقروء و يحقق التحاما بتاريخيته، أي الوعي بتاريخيته. حيث يشكل هذا النمط من "المعاصرة" المتبادلة، ما به يتقدم الوعي و يستمر في البحث عن الحقيقة.[33]
و مع تحقق هذا الشرط، حيث يفترض أن الجابري قد تحقق لديه بوصفه متصديا لهذه المهمة، فإن التقدم باتجاه الحقيقة المتوارية خلف لغة التراث و منطقه، و التي تدخل في عداد "الهو" أو "المضنون به على غير أهله"، تكشف حقيقة أو مسلمة يتعين استيعابها في سياق تبرير القطيعة. أي وحدة الفكر و وحدة الإشكالية. بمعنى أن الفكر في مجتمع معين أو عصر معين هو واحد مهما تعددت فرقه و اتجاهاته. هناك كل يحتوي ذلك الخلاف. ووحدة الفكر هذه ناتجة عن وحدة المشكلات التي ينظر فيها ذلك الفكر، و التي تتصل في سلسلة من العلاقات، حيث تتحول إلى جماع مشكلات مركبة غير قابلة للحل بصورة انفرادية؛ أي بعد أن تتحول إلى إشكالية. إن وحدة الإشكالية هي من يؤسس، بل و يحدد وحدة الفكر في مرحلة تاريخية معينة.[34]
إن وحدة الإشكالية تحدد وحدة الفكر و تاريخه. و من هنا، فالمجال التاريخي عند الجابري، لا علاقة له بالمفهوم التاريخي الذي قد نصادفه عند العروي مثلا، و الذي يجعل الفكر بناءا على مذهبه في الفكر التاريخي، منتجا للتطور الجاري في الهياكل و البنى التحتية و في الحرب و الاقتصاد. إن الجابري يمنح للفكر هامشا نسبيا من الاستقلالية. و لذا يتعين أحيانا لحظ مكونات الفكر ذاته في تحديد مجاله التاريخي. فالمجال التاريخي، هو "عمر الإشكالية" بتعبير الجابري، أي "الفترة التي تغطيها نفس الإشكالية في تاريخ فكر معين". و هذا المجال التاريخي، أو عمر الإشكالية يتحدد بشيئين: هما الحقل المعرفي، الذي يرمز إلى الحقل الذي يستقي منه هذا الفكر "المادة المعرفية"، من مفاهيم و تصورات و آليات...أما الثاني، فهو المضمون الأيديولوجي الذي يرمز إلى الوظيفة السياسية و الاجتماعية الأيديولوجية التي يخلعها أصحاب الفكر على "المادة المعرفية"[35]
و هنا تظهر طبيعة و أهمية المقاربة الأيديولوجية الجابرية. فهي إذ تحكم على المحتوى المعرفي بالموت؛ أي بالوجود الواحد، فهي تحكم على المحتوى الأيديولوجي، بالأبدية و التكاثر. فالفكرة الواحدة، يمكنها أن تحمل مضامين أيديولوجية مختلفة.[36] إن منطق تطور المعرفة ليس ذاته منطق تطور الأيديولوجيا. وحده المضمون الأيديولوجي الذي له تاريخ. و لذا فإن الجابري يستبعد المحتوى المعرفي لهذا التراث، و يركز على صيرورة مضمونه الأيديولوجي.هذا الأخير كما نجده ماثلا في حلم الفارابي أو ابن سينا في اللحظة الأولى ثم كما في حلم ابن باجة وابن رشد في اللحظة الثانية. و يرى الجابري، أنه لا مجال لتمسكنا باللحظة الأولى، و أن ما تبقى من تراثنا هو اللحظة الثانية التي قطعت مع الأولى. وهي الجديرة بأن تعيش معنا في عصرنا. إذن، بهذا المعنى تكون قطيعة ابن رشد و التيار الحزمي الرشدي الأندلسي مع كل من الفارابي و ابن سينا و الغزالي و عموم العرفانية المشرقية، قد أعفانا من القيام بذلك. فهي قطيعة حسمت داخل التراث نفسه. ولكن تظل هذه الرشدية هي ما يستحق الاستمرار معنا بامتياز: "ما تبقى من تراثنا الفلسفي، أي ما يمكن أن يكون فيه قادرا على أن يعيش معنا عصرنا لا يمكن إلا أن يكون رشديا، فلننظر الآن إلى ما تبقى من الرشدية كعناصر صالحة للتوظيف في حياتنا الفكرية المعاصرة".[37]
لقد حاول الجابري أن يعدد حيثياث هذه القطيعة وما يتعين علينا أخذه منها. فهي إذ قطعت مع الغزالية السينوية الهرمسية، كانت قد قطعت مع عالم زاخر بكل أشكال النجامة و الطلسمات و السحر و الخيمياء. أي المادة المعرفية اللامعقولة لو صح التعبير، أو تلك التي تؤسس المادة المعرفية لللامعقول أو"العقل المستقيل". فإذا كان ابن رشد قد قام بهذه القطيعة تجاه هذا الإرث السينوي اللامعقول، فما علينا إلا أن نخوضها "معركة حاسمة ضده".و تنضاف قضية أخرى أو مظهر آخر من مظاهر هذه القطيعة الرشدية، لا سيما ذلك الذي يتجلى في القطيعة الرشدية مع طريقة المتكلمين و الفلاسفة في معالجة العلاقة بين الدين و الفلسفة، رافضا كلا الطريقتين الكلامية و الفلسفية، حيث رفض بحث العلاقة على أساس كلامي؛ أي قياس الغائب على الشاهد. و رفض بحث العلاقة على أساس فلسفي قاض بالتوفيق بين الدين و الفلسفة، و قال بالقطيعة بينهما، حيث حدد لكل منهما مجال اشتغاله. إذن، نحن اليوم مطالبون، حسب الجابري، بأن نأخذ من ابن رشد هذه القطيعة و توظيفها في علاقة الأصالة بالمعاصرة من أجل بناء "العلاقة بين تراثنا و الفكر العالمي المعاصر". و يقصد الجابري بذلك، طبعا، أن نجعل الفكر العالمي المعاصر، بمنزلة الفلسفة اليونانية بالنسبة لابن رشد. و إذا كان ابن رشد قد ميز بين الآلة و المادة، و قال بأخذ الآلة (المنهج) و بناء المادة (النظرية) بأنفسنا، فذلك ما ينبغي أخذه عنه في تعاطينا مع الفكر العربي المعاصر. إن الجابري باختصار، يدعو العرب إلى تبني "الروح الرشدية"، تلك التي مثلت كل ما هو واقعي و علمي ونقدي و عقلاني، ضد كل ما هو خرافي غنوصي سينوي شيعي مشرقي. إنها ما تبقى صالحا من التراث؛ و ما لا يزال يحتفظ براهنية محتواه الأيديولوجي وعمره الإشكالي. و تلك هي القطيعة التي يجب أن نصل بها إلى أعلى مستوياتها. فإذن، غاية المقاربة الأيديولوجية الجابرية للتراث هي تحقيق جملة من القطائع المعرفية، و بالتالي إن غاية المقاربة الأيديولوجية الجابرية للتراث، تحقيق ضربين من القطائع:
1 قطيعة تاريخية، قوامها القطع مع المجال التاريخي العربي و الإسلامي ال" ما قبل رشدي" ، أي القطع مع عمر الإشكالية السينوية و الغزالية؛ بمعنى آخر: الهرمسية.
2 قطيعة جغرافية، قوامها القطع مع الشرق العربي و الإسلامي، بوصفه لا يزال يعيش عمر الإشكالية السينوية و الغزالية، و لا يزال حتى اليوم، مشدودا إلى هرمسيته.
إذا كانت بوادر القطيعة هي تراثية؛ أي قطيعة فهم تراثي مع فهم تراثي آخر، فما علينا إلا أن نتبنى هذه القطيعة في صورتها التاريخية الممتدة فينا و القابلة للمعاصرة، و هي هنا الرشدية، كي نرقى بروحها إلى درجة الحسم. فالشرخ الذي يعد نتيجة حتمية للقطيعة التي يدعو إليها الجابري و يستلهم روحها من التراث، و من التجربة الرشدية نفسها، هو شرخ تاريخي و جغرافي، يشترط اقتطاعا أو إعادة توزيع المجال العربي جغرافيا و ثقافيا. و يبدو السؤال هنا واضحا: بما أن المشروع الجابري النقدي، اهتم بالثقافة العالمة في التراث، و أهمل التراث اليومي و الشفهي و الأدبي، و كل ما هو في عداد المنسي أو المسكوت عنه، و لكن أيضا، الحاضر في الثقافة العربية و المؤثر في سلوكها الجمعي، كيف يخرج من حدود الاشتغال النخبوي، ليصدر أحكاما عامة تخص المجال كله: الشرق ! لم يتساءل الجابري في هذا المجال حول ما إذا كان المجال السوسيولوجي و الثقافي المغربي، رشديا عقلانيا واقعيا، بخلاف المجال السوسيو ثقافي المشرقي بوصفه سينويا غنوصيا. هذا في حين، أن الاجتماع المغربي غلب عليه التصوف الطرقي. و ثمة مناطق في الشرق، تحققت فيها الثورة البيانية "التيمية" نسبة إلى ابن تيمية ، و هو ما يشكل المعقول الديني عند الجابري، و قطعت مع التراث الهرمسي الغزالي السينوي؛ فهل يا ترى، تحققت النهضة العربية في مثل هذا الربوع. و هل المغرب المتصوف مورد القطيعة مع شرق عاد إليه النظام البياني و المعقول الديني لتحقيق القطيعة. ثمة بالتالي، جملة من التساؤلات التي أثارت ردود أفعال في المغرب و المشرق على هذه المقاربة في إطارها المعرفي. بل لا بد من الإشارة إلى أن الجابري كان قد نقلنا إلى أشكال أخرى من "القطيعة" في نقد العقل العربي، ضمن مستويات تفكيكية أخرى، في نقد العقل السياسي و في نقد العقل الأخلاقي في الثقافة العربية. وهما المستويان اللذان خضعا إلى ضرب آخر من التشريح جعلهما يواجهان المصير نفسه للمستوى المعرفي الأول؛ و هو خضوعهما لأنظمة جديدة و مختلفة و إن كانت سيرورة البحث تتجه مع الجابري إلى تحقيق القطيعة على أساس الشرخ و التجزيء و تمزيق الخرائط. لم يعد مهما اليوم الوقوف عند دقائق الأمور وتفاصيل النقد الجابري للتراث. فلقد أوضح أكثر نقاده ذلك التغليب الأعظم للأيديولوجي على المعرفي. ليس تغليبا نابعا من اختيار حقيقي كما أشار الباحث مرارا. بل التغليب الذي رافقه إهمال وتسامح كبير مع معطياته المعرفية ، سواء من حيث تقنية التحليل والتركيب ، أو من حيث تحصيل المعلومات وطريق التعاطي مع المصادر بانتقائية تعسفية لا تستجيب للضرورة المنهجية. لم يستطع ناقد العقل العربي الخروج ، على غرار نظرائه ، من أسر الطوباوية التي ما زالت قدر المشاريع الأيديولوجية العربية . حيث رأوا إلى مأزق التأخر و نظروا إلى الحلول كما لو كانت مجرد إعادة ترتيب خرائط أيديولوجية في لعبة التعقيل المغشوش لتراث ، لم يصنع في مختبرات تتحكم بها إرادات ، حتى يتسنى لنا إعادة فك بناه وبنى بناه ، أو إعادة تصنيعه أيديولوجيا.لقد تنكر الجابري للمعرفة في هذا التخييل الملحمي الذي صور التراث العربي ، مثل خردة معروضة في مزاد علني ، وحيث يتطلب الموقف تبني أجود القطع ، لاستئناف عملية التحول التاريخي. من الممكن جدا أن يخضع التراث إلى هذا النوع من التشريح البنيوي في أي مخيال مهووس بالنهضة . لكنه في واقعه التاريخي لم يوجد إلا كلا ، ومتداخلا حيث ما كان له إلا أن يتحقق كما هو وبكل مكوناته. إن الجابري يحمل تصورا طوباويا ، وفي الوقت نفسه مغالطا لحركة التاريخ ومنطق التحولات الاجتماعية والحضارية. ذلك لما اعتقد بأن النهضة لا تقوم إلا بالبرهان . والحقيقة أن النهضة تقوم بكل المكونات الاجتماعية والثقافية . إنها نهضة يشارك فيها البيان والبرهان والعرفان. هذه الجغرفة الأيديولوجية والنماطية الجابرية التي شطت بعيدا لتعيد صياغة التراث في شكل جزائر منفصلة ومعسكرات متناحرة وعوالم مفككة ، تعكس أزمة العقل العربي نفسه . إنها واحدة من تجليات الانسداد الأعظم في وجه الحلول الواقعية لراهن عربي متخم بنكباته وجروحه وصدماته. إنها بالأحرى ، تعكس مأزم هذا العقل المهجوس بالاستئصال والاقتطاعية وليس القطيعة، ورفض التعددية. فالذي يتتبع الاختلاف ليبيده نظريا هو بالأحرى لن يكون سوى رافض لأي واقع تعددي راهن. إن نظرة الجابري للتراث غير ديمقراطية وهو ينفي فيه الاختلاف كما لو كان تراثا لم ينشأ ولم يكتمل فوق الأرض: إنها النزعة الطوباوية دائما في الايديولوجيا العربية ؛ قوامها البحث عن الوحدة والنقاء والاصطفائية في واقع كما خلقه الله واعتبره العقلاء لم ولن يكون إلا مختلفا متنوعا ، بينما النهضة تقوم باختلافها لا بواحدية أبعاضها التجريدية الخالصة التي كانت إحدى مصائب الفكر العربي المعاصر وإحدى عوائق مصائر نهضته المبكية/المضحكة متى تأملنا شقوة صناع مشاريعها وطرائق تفكيرهم. ولئن كان ثمة ما يجعل أركون في مشروعه النقدي يتفوق على الجابري ذي النزعة التقليدية والغاية التبسيطية في قراءة التراث ، فهو استيعاب أركون لهذه التعددية كما سنرى ذلك في الجولة الثالثة من حديثنا عن أشكال القطيعة في الفكر العربي المعاصر.
[email protected]
----------------------------
[1] أعني كتابه الموسوم : "مدخل إلى فلسفة العلوم" بجزئيه : تكور الفكر الرياضي و المنهاج التجريبي.
[2] حدث الانشقاق الأول عن الحزب الأم – حزب الاستقلال – سنة 1959م، تحت إسم "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، ثم سرعان ما حصل انشقاق ثاني سنة 1974 باسم "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية".
[3] د.محمد عابد الجابري؛ إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ص 60 – 61؛ سبق ذكر المصدر
[4] د.محمد عابد الجابري؛ نحن و التراث، ص 6، ط 6-1993-المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء
[5] المصدر نفسه ص 7
[6] المصدر نفسه ص 7
[7] إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ص 18، سبق ذكر المصدر
[8] المصدر نفسه ص 19
[9] المصدر نفسه ص 19
[10] المصدر نفسه ص 45
[11] المصدر نفسه ص 46
[12] المصدر نفسه ص 47
[13] المصدر نفسه ص 47
[14] العقل عند "جان أولمو" ليس ملكة أو مجموعة مبادئ، بل إنه نشاط و فعالية؛ أنظر : "العقل و العقلانية"، ص15، إعداد و ترجمة : محمد سبيلا و عبد السلام بن عبد العالي، سلسلة دفاتر فلسفية – دار توبقال ط1 – 2003 – المغرب.
[15] لعل هذه واحدة من مفارقات المقاربة الجابرية. فالاستعارة أعلاه، توقع الباحث في تلفيق و تناقض صريح، لا سيما بين العقل كبنية، و العقل كفعل.
[16] محمد عابد الجابري؛ إشكاليات الفكر العربي المعاصر، ص59
[17] المصدر نفسه ص 59
[18] المصدر نفسه ص 59
[19] محمد عابد الجابري؛ بنية العقل العربي، ص 499-500، ط 1 – 1986 – المركز الثقافي العربي-الدار البيضاء-المغرب.
[20] المصدر نفسه ص 504-505
[21] المصدر نفسه ص 503
[22] المصدر نفسه ص 502
[23] المصدر نفسه ص 528
[24] المصدر نفسه ص 550
[25] محمد عابد الجابري؛ نحن و التراث، ص52، سبق ذكر المصدر
[26] المصدر نفسه ص 52
[27] المصدر نفسه ص 20
[28] المصدر نفسه ص 20
[29] المصدر نفسه ص 21
[30] المصدر نفسه ص 25
[31] المصدر نفسه ص 25
[32] المصدر نفسه ص 25
[33] المصدر نفسه ص 26. أقول : إن مثل هذا التوجه النسبي جديد كل الجدة على د.الجابري. و يبدو لي أنه، و كما تشير المقدمة الجديدة للكتاب، هو توجه لاحق و لا ينسجم مع جوهر الاختيار الأيديولوجي و المنهجي لصاحب الكتاب. إنه بهذا المعنى يجدد منهجه و يصف به مشروعه بأثر رجعي. إن هذه اللغة الحدسية و النسبية المستعارة من أنصار التفكيك لا علاقة لها بالنهج الأيديولوجي للباحث.
[34] المصدر نفسه ص 27
[35] المصدر نفسه ص 29
[36] المصدر نفسه ص 30
[37] المصدر نفسه ص 49


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.