مع أركون أو خطاب القطيعة الوسطى هناك بلا شك، ما به تمتاز مغامرة أركون عن نظيريه السابقين (العروي و الجابري)، و ما به يشترك معهما. فأما من حيث الاشتراك، فإن فعل القطيعة حاضر بشكل من الأشكال أيضا في مقاربة أركون النقدية الاستكشافية و التفكيكية للتراث العربي و الإسلامي. و هذا أمر لا جدال فيه، لأن "القطيعة" هي المسوغ النظري الذي يضفي القيمة على أي قراءة حديثة للتراث. لكننا الآن أمام منظور يختلف عن السابق، و ربما بصورة جذرية. إن القطيعة الأركونية، تختلف في صورتها و حيثياتها و مبرراتها. فهل هي قطيعة مع التراث تقضي بإطراحه من حيز الاهتمام و القراءة، و عدم منحه الاهتمام الذي يستحقه، بوصفه تجربة قديمة عفا عنها الزمان. فلا نكلف أنفسنا حتى الانتشاء في روائعه الإنسانية ؟ كلا، فأركون هو أكثر ولعا و اهتماما بهذه التجارب التراثية، و تلك الهوامش الزاخرة بقيم التأنيس، مع أبي حيان التوحيدي، الذي رأى فيه الأب الروحي. وإذن، هل هي قطيعة مع تراث معين، مع الاحتفال التبجيلي بتراث آخر، و إعادة تأسيسه؟ كلا ! و بما أن أركون لا يدعو إلى القطيعة الكبرى، بالمعنى الذي يحضر بكثافة عند عبد الله العروي، و لا هو داعية قطيعة صغرى، بالمعنى الذي يحضر بقوة أيضا في المقاربة الأيديولوجية عند الجابري، فإن أنسب صفة ارتأيناها لمشروعه، هي القطيعة الوسطى. و لهذا الوصف الذي سنكتشف دلالته تباعا مبررات نجملها ابتداءا في الآتي : إن للقطيعة الكبرى تجليات و دلالات التزامية، لعل أهم ما تفضي إليه أن لا صلة بين الحاضر و الماضي، و أن أي صلة ذهنية بينهما تربك وضعية الحاضر و تعيق تحققه التاريخي. فحيثما أصبحت القطيعة بينهما كاملة و شاملة، تحقق الشرط التاريخي للتقدم و التعاصر. و كذلك، نقول بأن للقطيعة الصغرى تجلياتها و دلالاتها الإلتزامية، لعل أهم ما تفضي إليه : أن هناك صلة بين الحاضر و الماضي؛ صلة حتمية لا اختيار فيها. و حيثما كانت القطيعة تامة، لم يتحقق الشرط التاريخي للتقدم و التعاصر. و الحل، أن ننتقي داخل الماضي، ونبحث عن التراث الأنفع لنا و الذي هو موصول و مقبول بحسب منطق الحداثة، ثم نعمل على تطويره و بلورته. أي أن نمارس القطيعة من داخل التراث لا من خارجه. فهي قطيعة داخلية و ليست قطيعة برانية كما هو حال القطيعة الكبرى. فهذان النمطان من القطائع، تعرفنا عنهما قبل قليل مع نموذجين بارزين في الفكر العربي المعاصر: العروي و الجابري. وعليه، نقول : إن مشروع أركون يقع بين تجليات النمطين القطيعيين بقدر ما يتجاوزهما عند الاقتضاء. فهو حتما مشروع لا مأوى له من حيث التموضع، إلا في هذه المنطقة الوسطى. على أن هذا التموضع الوسطي لا يفهم منه الحيز، بل لابد أن ننظر إليه كحالة يتجادل فيها ما هو تجلي للقطيعة الكبرى مع ما هو تجلي للقطيعة الصغرى. من هنا، يسهل على الباحث أن يقف على ما هو محل توافق بينه و بين العروي بالقدر الذي يقف فيه على ما هو محل توافق بينه و بين الجابري. فإذا كان أركون يرى أن التراث يستمر فينا بشكل من الأشكال و هي حقيقة أشار إليها الجابري فهو من ناحية أخرى يشمئز من الأيديولوجيا و يعتبرها مفسدة للبحث العلمي، و هو ما يبعده من الجابري و يدنيه من العروي بوصف هذا الآخر، ناقدا للأيديولوجيا.و لكن ثمة ما يبعده عن هذا الأخير، من خلال نقده للإستشراق الكلاسيكي بوصفه وارثا للنزعة التاريخانية و الفيلولوجية للقرن التاسع عشر. فالتاريخانية العروية سوف ينظر إليها من قبل صاحب الإسلاميات التطبيقية بوصفها منهجا متعجرفا و تقليديا لا يمثل الفائدة المطلوبة بكاملها، بل يحتاج إلى أن يفتح على مناهج أخرى. من هنا تعدد المناهج، الذي يشكل أهم ميزة في المشروع الأركوني. كيف إذن، عالج أركون مشكلة التراث، و مأزق الحداثة في الفكر العربي و الإسلامي المعاصر.. ما هو المنظور النقدي الذي توسله في قراءته للتراث.. ما هي أدواته و أجهزته.. ما هي غاياته و راهاناته ؟ أركون و إشكالية المنهج منذ الوهلة الأولى، يبدو المجال الذي تتحرك فيه القراءة الأركونية للتراث، مجالا أوسع من المجال الذي يتحرك فيه مشروع الجابري. كما تبدو البؤر التي تطالها الأركيولوجية الأركونية، من العمق و الشمول، ما لم نقف عليه عند الجابري. كما أن الجهاز المفاهيمي الذي يستعين به أركون في إنجاز مهمته، هو من الكثافة و التعدد و الدربة في إتقان تطبيقه، ما لا عهد للأول به. و هذا أمر لا يختلف حوله نقاده. و قد يعزى ذلك من ناحية، إلى مكثه الطويل في باريس، كمدرس في جامعة "السوربون" لمدة تزيد على ثلاثة عقود، و بحثه في مجال ما أسماه ب" الإسلاميات التطبيقية ". و هذا يعني أنه يشتغل على مجال، لا يستهلك فيه الترسانة المنهاجية و المفاهيمية فحسب، بل، هو ينظر إلى هذا المجال بوصفه ساحة اختبار لهذه المناهج المنحدرة من العلوم الاجتماعية الحديثة. و أيضا يعود ذلك إلى كونه يشتغل على مادته اشتغال ناقد مشغول الذمة بمسألة استكشاف ما لم يفكر فيه أو ما امتنع التفكير فيه. فهما الشرطان إذن الجديران بجعل المقاربة الأركونية، أكثر تحررا و غنى من الناحية المفهومية من سابقيه؛ بغض النظر عن نتائجها. و يمكننا الحديث هنا عن بعض وجوه ما يميز الأرضية التي يتحرك فيها النقد الأركوني عن مشروع الجابري، و لنتوقف عند جهتين : 1 الجهة الأولى، تتعلق بالمجال التداولي العام، حيث يتجاوز أركون الحيز الضيق لمفهوم "العربية" و "العقل العربي" عند الجابري، ليكسر هذه المركزية لصالح "المجال الإسلامي" و "الوعي الإسلامي". فهو لا يرى في التراثات نظما معرفية متشظية، لا جامع يصل بين قاراتها. بل إنه يتوسل أسلوب الحفر المعرفي، كي يصل إلى المجال العقلي الذي يربط بينها، و هو هنا المجال التاريخي. 2 أما الجهة الثانية، فتتعلق بالبعد الطبقي الذي جعل الجابري مثلا، يركز على الثقافة "العالمة" Savante ، و التي تتحدد بالثقافة الرسمية المكتوبة و المدونة، و ليس ما دون ذلك؛ أي الثقافة الشفهية و العامية أو المنتج التراثي السوسيولوجي الذي تمثله الهوامش أو ما يصطلح عليه أركون، باللامفكر فيه. فلا يمكننا، بناءا عليه، أن نبني صورة عن التراث، من خلال هذا الجانب المكتوب، و نستغني عن الجانب غير المكتوب و الذي يمثل الجانب "اللامفكر فيه" منه، الجانب الأعظم. و بهذا، فإن أركون يفتح المجال أمام "الإسلاميات التطبيقية"، بصورة كلية غير تجزيئية. و يستلمه بصورة بكر، بحيث يرفض التسليم بما فرضته "الأورثذكسية" الدوغمائية؛ و هو يعني بذلك "الإسلام الرسمي السني"، الذي فرض نفسه على التراث، مقصيا بذلك كل أشكال التراثات الأخرى أو تجليات المعنى المتعدد للإسلام. بهذا، يكون أركون، قد أدخل في اهتمام الإسلاميات التطبيقية التي نادى بها و لا يزال؛ كل الظواهر و التجليات التي خلفها تعدد المعنى للخطاب النبوي، و آثار هذا المعنى بالمنظور السلبي للكلمة. إنه يفتح الدراسة المنهجية، كي يحتوي الفكر الإسلامي و العقائدية و الخبرات الإيمانية الممارسة، في ضوء مفاهيم حديثة، مثل "السلوك العملي" Le sens pratique أو مفهوم التمثل الجسدي incorporation و أغلبها لبيير بورديو، إضافة إلى مفاهيم أخرى. إذا كان بمستطاعنا رسم شجرة نسب للسابقين، و مواقع استحضار المفاهيم الحديثة و كيفية تطبيقها على التراث، فإن الأمر يبدو في منتهى اليسر بالنسبة لأركون. حيث سوف تتيح له المناهج الحديثة قدرة، من شأنها أن تدهش من ليس له إلمام بها. قدرة على خلق، ليس أفكارا بالمعنى الذي يدعو إليه و يصر عليه في نقده للإستشراق التقليدي، ومأزق " الباحث" غير "المفكر"، بل إن أفكاره، جلها أشبه ما تكون بمقايسات من الدرجة الرفيعة. إن الهاجس الإبستيمولوجي الأركوني، لا ينتهي إلى آخر الشوط، بل هناك انبثاق لهواجس من النوع الأيديولوجي، يمكن الوقوف عليها في غمر هذه المقاربة الإبستيمولوجية المتذرعة بتحشيد المناهج من دون شرط. إن أركون، و تحت وطأة تعدد المناهج، و التي من شأنها أن تخلق فوضى في صميم الإسلاميات التطبيقية، لا سيما إذا أدركنا، بأن كل منهج بطبيعته يتكامل مع مبادئه، و لا يسمح أن يتبادل المقدمات و النتائج مع منهج آخر، فإن أركون يتقن لعبة تدبير هذه المناهج و خلق فجوات لامتصاص تصادماتها المتوقعة. و تلك هي أهم ميزة في الإسلاميات التطبيقية. و هو ما يبرر كل التناقضات التي نقف عليها في القراءة الأركونية للتراث العربي و الإسلامي. لقد أوجد منطقة وسطى أو لنقل برزخا وسيطا بين منهجين ظلا حتى حين يحتفظان بموقعيتهما النقيضة لبعضهما البعض. أي، التاريخانية و البنيوية. و قد كانت المهمة مزدوجة بالنسبة لأركون، كي يخترق هذا المنغلق الدوغمائي، لصالح مقاربة مفتوحة. هذا التدبير التوافقي للمناهج المتعارضة في الإسلاميات التطبيقية، هو الذي يسوغ إيجاد تلك المنطقة الوسطى كما ذكرنا، بين التاريخانية و البنيوية؛ و هي "التاريخية" نفسها. "فالتاريخانية" لا تحضر بصورتها المتعجرفة القمعية كما كنا رأينا مع عبد الله العروي بل إن أركون يتوسل، ليس بضرب آخر من المناهج و العلوم الاجتماعية لتقويض هذا الطغيان المنهجي التاريخي، و ذلك استنادا إلى علم النفس التاريخي و الأنثروبولوجيا التاريخية، التي جعلت من الممكن دراسة الجانب الإيماني وفق منظور وسطي، لا يقصي التاريخ و لا يقصي القوة الكبرى لهذا التراث الإيماني الحي. إنه موقف لا يدعي أنه غير تاريخي البتة؛ و لا أنه موقف موضوعي كما تدعيه الإتنولوجيا البنيوية عند ليفي ستراوس. بل هو موقف يميل أكثر إلى فكرة "بوديو" حول أسطورة الحياد أو الموضوعية الأنثروبولوجية نفسها. إن أركون، سوف يستعين بالأنثربولوجيا، في رفضه الأحكام التصنيفية و المسبقة و التفاضلية، بين الثقافات. و سوف يستعير منها أيضا، و تحديدا من ليفي ستراوس، أهمية "الكتابة" في الحضارة الغربية، مسقطا إياها على نخبة الكتابة في التاريخ العربي و الإسلامي، و السلطة التي لازمت فعل الكتابة. مقيما بذلك نوعا من التناظر بين المجتمع الوحشي؛ مجال الدراسة الأنثروبولوجية، و بين المجتمع العربي و الإسلامي، بوصفه مجالا للدراسة الأنثروبولوجية التاريخية التي دعا إليها "أركون". و تنضاف إلى ذلك، كل عناصر الأنثربولوجيا "الستراوسية"، لا سيما ما يتعلق بأنظمة القرابة و إضفاء الطابع الأسطوري على النص القرآني، مقيما تناظرا آخر، ينزل الأسطورة في المحيط الوحشي كما توسع في تأويلها ليفي ستراوس، منزلة النص القرآني، بوصفه، هنا "أسطورة" بمعناها الأنثربولوجي الخاص، و ليس بمعناها الخرافي؛ أي بما أنها مصدر تغذية المخيال و الرأسمال الرمزي. و هو التعبير الأركوني المستعار من بيير بورديو، أيضا. وسوف يستعين بمفهوم الخطاب و الحفر الأركيولوجي الفوكوني، ليتجاوز أزمة التأريخ السطحي للأفكار، و يقبض على المجال العقلي الذي يربط بين مختلف الأفكار المتزامنة. و فضلا عن هذه الأركيولوجيا الفوكونية، فهو يستعير الجينيالوجيا الفوكونية ذات المنشأ "النيتشي"، لدراسة كيفية اختفاء الأفكار و بروز أخرى على أنقاضها. إن الجينيالوجيا الفوكونية تقر بمعقولية أي نسق. و لذا فهي لا تولع بإنتاج الأحكام، بقدر تأريخها لانقطاعات النظم المعرفية. إنها استراتيجيا من أجل الفهم. و هذا وإن كان مختار الإسلاميات التطبيقية عند أركون، إلا أن تعددية المناهج لا تسمح بالتزام الحياد دائما. و على عكس ما نحى إليه الجابري في قرائته التجزيئية و التصنيفية، يتجه أركون إلى دراسة التراث في كليته دون أن يهمل منه مهمشا أو ما وقع في دائرة الممنوع أو المستحيل التفكير فيه. قد تكون تلك، هي نقطة الضعف في المقاربة الأيديولوجية الجابرية، حيث لا يمكن القبض على البنيات العميقة لثقافة ما دون الإنفتاح على تراثها في كليته و شموليته. لكن يبدو أن أركون، و من خلال التعدد المنهاجي الذي سلكه في الإسلاميات التطبيقية، أمكنه أن يطرق أي مساحة من هذه المساحات، بعدة مفاهيمية تختص بهذا البعد أو ذاك. فمثلا، سوف يتوسل بالمنهج الأنثربولوجي في قراءة النص الديني(=القرآن) و الجانب غير المكتوب من التراث. و بما أن المجال المدروس يقع في الماضي، فإن المطلوب، هو التمكن من تحقيق ضرب من التزامنية synchronique داخل هذا التراث، و تكوين فهم تراثي عن التراث إن صح هذا المعنى. أي أن نفهم " النص" مثلا، كما فهمه الذين عاشوا زمانه. و هذا أمر يكشف عن المسافة التي تفصل بين أركون و الجابري. صحيح، أن أركون، قد انفتح بشكل واضح و صريح على هذه المناهج. و لكنه فعل ذلك، لا لكي يفعل مثل ما فعل الجابري، حيث رأى هذا الأخير، أن هذه المناهج تحقق فهما معاصرا للتراث و تساهم في تحقيق القطيعة مع الفهم التراثي للتراث. إن العدة المفاهيمية لأركون، تتيح له أن يحفر في طبقات هذا التراث لتحقيق الزحزحة الجيولوجية المطلوبة، لطبقاته، قصد تحقيق فهم مختلف عن الأصل الذي تفرع عنه المعنى و آثاره. إن العدة المفاهيمية الجديدة، هي بالنسبة لأركون، في خدمة هذا الفهم التراثي، و أيضا في خدمة نفسها، مادام أن نجاحها في حقل الإسلاميات سيعود عليها بالنفع و على عموم الفكر الإنساني. إذن، بما أن أركون يتحدث عن ضرورة تحقيق هذا النحو من التزامن في المجال التاريخي للفكر التراثي، فهو إذن، يسلك علوما تعنى بدراسة الشعوب الأخرى، و هذا يتطلب عدة مفاهيمية تتيحها الأنثربولوجيا و الإتنولوجيا ، لا سيما الأنثربولوجيا البنيوية . و بما أن شرط المعايشة يتعذر في حال دراسة شعوب أخرى غير معاصرة لنا، فالأمر يتطلب تحقيق ذلك النحو من "التزامن"، الذي يتطلب عدة مفاهيمية، تتيحها الأنثربولوجيا التاريخية، و مناهج الحفر المعرفي و الجينيالوجيا الفوكونية. و قد دعا أركون و خلافا لغيره إلى دراسة بعض المساحات المعرفية التراثية التي هي اليوم كما كانت بالأمس، داخلة في عداد اللامفكر فيه. فإذا كان عبد الله العروي مثلا، لم يأخذ الإعتقاد و الإيمان كموضوع لمقاربته التاريخيانية، و هذا ما يجعل أركون ينعى على هذا المنهج الذي وصفه بالمتعجرف (و الجاف) بإهماله لهذه الظاهرة الإيمانية التي لها أهميتها و دورها في حركة التاريخ؛ و إذا كان الجابري قد اكتفى هو الآخر بنقد العقل العربي و الثقافة التي تقع خارج النص التأسيسي للتراث، فإن أركون سوف يتجه بالنقد إلى أبعد من ذلك، حيث سيجعل العقل الإسلامي أو الوعي الإسلامي، موضوعا للتفكيك و التحليل. كما أن الإسلاميات التطبيقية، ستعمل على تفكيك النص الديني (=القرآن) و ما نتج عنه من معاني متعددة من تراثات مختلفة. و أيضا سوف يستند هنا على علم النفس التاريخي لدراسة الظاهرة الإيمانية، و بحث تاريخ الاعتقاد العربي و الإسلامي. و هذان الموضوعان، ظلا في عداد المستحيل التفكير فيه، و لا يزال، كما يؤكد أركون مرارا، يشكل أمرا محذورا في غاية الخطورة. نحن إذن، أمام مغامرة أركونية تفوق المغامرة الجابرية في كثرة اقتحاماتها و غور مداها. لكنها تسعى إلى التحرر مما لم يستطع أن يتحرر منه العروي أو الجابري. فمن ناحية، تراها تعلن تحررها من ثقل التاريخانية التي قدمها العروي كمدرسة وحيدة للعرب لا مندوحة لهم عنها كما أعلن من ناحية أخرى، عن موقفه من الأيديولوجيا، تلك التي رأى الجابري بأن لا مناص من طرحها على نحو صريح وواعي. إن المشروع الأركوني الموسوم بالإسلاميات التطبيقية، يتوسل بالعلمي ويستبعد الأيديولوجي. بل و يعمل على طرده عنوة من حقل الدراسات الجادة. إن أركون يقصد بهذه الممارسة النقدية وضع العقل الإسلامي في مواجهة نقدية مع نفسه. و ذلك قصد تحريره من عقده و من أسيجته الدوغمائية. و من ناحية أخرى، قصد إغناء التجربة الفكرية نفسها. حيث المجال الإسلامي هنا، يمثل محكا جديدا للمناهج الحديثة، و التي يرى فيها البعض مناهج أو علوما غربية. إن مقتضى هذا الإختيار المنهجي، هو إخضاع التراث العربي و الإسلامي إلى المناهج الحديثة، و تحريره من سلطة ما يسميه أركون ب : التيولوجيا التقليدية، تلك التي نجدها حاضرة بقوة في مشروع الجابري. أعني القراءة التي يتبناها كل تيار تراثي، دفاعا عن معتقده أو مدرسته. و أركون يعلن هنا ثورته على الواقع التجزيئي للتراث، كما تم فرضه تاريخيا، و لا يزال يفرض من قبل ما أسماه أركون ب : الأرثوذكسية الدوغمائية. و هو تعبير يقصد به أركون، ذلك الجانب التأويلي من الإسلام، أو ذلك المعنى الواحد الممكن الذي فرض نفسه تاريخيا، و ألغى المعاني أو التراثات الأخرى بفعل الغلبة. و يقصد أركون هنا : الإسلام السني، الذي عمل على فرض نفسه بوصفه الإسلام الحقيقي أو التعبير الحقيقي عن الإسلام. إن أركون لا يعتقد أن للإسلام معنى واحدا. و أن النص التأسيسي الأول ، سرعان ما أدى إلى بروز ما يسميه هذا الأخير، بآثار المعنى. إن تفكيكا حقيقيا لمراحل انتظام هذا التراث، و التراكم الذي أدى به إلى أن يتحول إلى "مقدس" تقديس الشروح و التفاسير و المعاني اللاحقة عن النص الأصلي أو ما يسميه الباحث بالخطاب النبوي- يوقفنا أمام حقيقة هذا التغليب الأورثذكسي لمعنى واحد من عدد من المعاني الممكنة للإسلام. إن الحقيقة في نظر أركون، هي حقيقتين : حقيقة سوسيولوجية، و حقيقة معرفية. فالأولى، تستمد مشروعيتها من القاعدة السوسيولوجية، ومن تبني المجتمع لها، حيث لا يفيد هنا أن يكون العلم بخلاف ذلك الاعتقاد. كاعتقاد المجتمعات القديمة بدوران الشمس حول الأرض، بوصفه حقيقة. يمكننا القول إذن؛ أن أركون، لا يعير أهمية للحقيقة التراثية ذات المرتكز السوسيولوجي. أي لا يبحث عن الحقيقة في التراث بوصفها حقيقة اجتماعية، بل هو يبحث عن الحقيقة بوصفها حقيقة معرفية. الإسلاميات التطبيقية لكي نكون صورة عن طبيعة الرؤية التي كونها أركون عن التراث من جهة، و عن علاقة هذا الأخير بالحداثة، لابد من أن نكون صورة عن مشروعه الكبير، و الذي قدمه تحت عنوان : الإسلاميات التطبيقية Islamologie appliquée . و إذا أردنا أن نقف على أصل هذا المشروع، فما علينا إلا أن نقرأ النص التالي حيث يقول : "إن الروابط ما بين العلم و التطبيق أو على الأقل، التصور الذي نكونه عن هذه الراوبط كانت قد عدلت بشكل عميق (و جذري) منذ النموذج الذي قدمه ديكارت في كتابه "مقال في المنهج"، و حتى النموذج الذي أعطاه كارل ماركس. ينبغي علينا إذن أن نبتدئ بتحديد موضع الأنتربولوجيا التطبيقية في مكان ما بين هذين النموذجين المتضادين" [1]. هذا النص الذي يقف عنده أركون بقوة و يدعو إلى تأمله، هو مقطع من كتاب لروجر باستيد، تحت عنوان : "الأنتربولوجيا التطبيقية" Anthropologie Appliquée . واضح إذن، أن الإسلاميات أو الإسلامولوجيا التطبيقية هي مقايسة على الأنثربولوجيا التطبيقية لروجر باستيد بكل ما يحمل هذا المشروع من ثورة على ذلك النمط المعرفي الديكارتي، الذي جعل المعرفة طريقا للسيطرة. و هو النمط الذي حكم "الإسلاميات الكلاسيكية"، التي ازدهرت إبان المرحلة الاستعمارية. إن أركون يصر على أن يضع إسم إسلاميات أو إسلامولوجيا بدلا عن الإستشراق، و تلك هي عادته في تغيير الألفاظ و وضع أسماء بديلة تحمل مضامين مختلفة. بهدف نزع الصورة النمطية عن المفهوم و أثر المعنى الذي يحمله، مثل الإستشراق في مثالنا هذا، أو تبديله إسم "القرآن" بالخطاب النبوي أو "النص" و هلم جرا. فالإسلاميات التطبيقية جاءت للإجابة عن جملة من الشروط التي يفرضها الوضع العلمي إزاء مجال لم يدرس بالصورة المطلوبة. تلك الشروط التي لم تتوفر لا في داخل العالم الإسلامي، حيث لا أحد يجرؤ على ذلك، لأسباب كثيرا ما كرر ذكرها الناقد. و أيضا لم تتحقق في الإسلاميات الكلاسيكية، حيث سيطر على الاستشراق الكلاسيكي مذهبان لا يكفيان لإنجاز الدراسة الشمولية في نظر أركون؛ و هما التاريخانية و الفيلولوجيا. إن استرداد الإسلام لحيويته في المجتمعات العربية و الإسلامية، يفرض هذا الإنخراط في حقل الإسلاميات. و لابد أن ندرك بأن غاية أركون من الإسلاميات التطبيقية، الوصول بها إلى قلب الفكر المعاصر، و إلحاقها بمجمل الإنجازات التي حققتها الأنثروبولوجيا الدينية. فالإسلاميات الأركونية بهذا المعنى، هي محاولة استدراك قصوى، لإخضاع الإسلام إلى نوع من التأويلية المعاصرة، و المقاربة متعددة المناهج، كتلك التي خضعت لها الديانتين المسيحية و اليهودية في الغرب. إن الإسلام بهذا المعنى هو وحده من نجا من مثل هذه المقاربة. و ذلك هو الأمر الذي يسعى إلى تحقيقه أركون و يدعو إليه باستمرار. و لذا فإن "الإسلاميات التطبيقية هي ممارسة علمية متعددة الاختصاصات. و هذا ناتج عن اهتماماتها المعاصرة "فهي تريد أن تكون متضامنة مع نجاحات الفكر المعاصر و مخاطره"[2]. و لهذا السبب تحديدا يشترط أركون على عالم الإسلاميات شروطا في تحصيله العلمي، ربما تفوق ما يتطلبه أي تخصص في أي ميدان من الميادين. إنه يشترط عليه إلماما بمناهج و علوم شتى، رأى أنها تمثل مداخل أساسية لفهم أعمق للظاهرة الإسلامية، فعالم الإسلاميات بناءا عليه، مطلوب فيه تحقيق مهارات في علوم اجتماعية متنوعة، مثل الأنثروبولوجيا و الإتنولوجيا و الإتنوغرافيا و الأنثروبولوجيا التاريخية و علم النفس التاريخي و اللسانيات، هذا بالإضافة إلى الإلمام بكل ما كتب حول الإسلاميات في شتى اللغات الحية. إنه لا يطلب مجرد اطلاع و معرفة سطحية و عابرة بكل هذه الإختصاصات التي قل ما يتاح للمختص أن يلم بها جميعا مع الإتقان و التفنن، بل هو يطالبه بالإلمام الكامل بهذه العلوم. فمثلا، لما يتحدث عن اللسانيات و أهميتها، يقول : "و هذا يعني أنه ينبغي على عالم الإسلاميات أن يكون مختصا بالألسنيات بشكل كامل، و ليس فقط متطفلا على أحد أنواعها"[3]. كما أن الإسلاميات التطبيقية تهدف إلى بلوغ اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي. ثم لا ننسى أن أهم العقبات التي يتعين على الإسلاميات التطبيقية تذليلها؛ هو تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة النزعة التيولوجية المتعالية (Le transcendantalisme théologique).[4] إن الإسلاميات التطبيقية الأركونية تنعى على الإستشراق الكلاسيكي التواطؤ بشكل غير واعي مع ما هو سائد في كبريات النصوص الإسلامية، و الذي يمثل وجهة النظر الإسلامية المغلبة. و هذا ما يؤدي حسب أركون إلى جملة من الإهمالات التي طبعت الإسلاميات الكلاسيكية و قد أجمل أركون هذه الإهمالات في النقاط التالية : 1- إهمال الممارسة أو التعبير الشفهي للإسلام عند شعوب لم تعرف الكتابة كالأفارقة و البربر و عموم الجماهير الشعبية. 2- إهمال ما هو معاش دون أن تتم كتابته حتى في المجال الذي يعرف الكتابة. إهمال ما هو معاش غير مكتوب و لكنه محكي. 3- إهمال الكتابات المتعلقة بالإسلام من جنس ما هو غير مرغوب فيه من قبل إسلام الأغلبية، "هكذا تستمر الكثرة الساحقة من علماء الإسلاميات بالإهتمام فقط، و حتى هذه السنين الأخيرة، بإسلام الأغلبية المدعو (أرثوذكسي سني)، الذي هو في الحقيقة ليس إلا تنظيرا دوغمائيا، جاء فيما بعد، لسلسلة من الأعمال المنجزة تاريخيا. إن الإسلام السني مرتبط بشدة بالأيديولوجيا الرمزية للسلطات التي كانت قد فرضت نفسها بدءا من عام 661 (بدء بالعهد الأموي)"[5]. 4- إهمال الأنظمة السيميائية غير اللغوية التي تشكل الحقل الديني أو المرتبطة به : ميثولوجيات، شعائر، تنظيم المدن، فن العمارة، الديكور... فالمشكلة الضخمة "للتفاعل المتبادل (أو التحكم المتبادل) ما بين الإسلام كظاهرة دينية و بين كل المستويات الأخرى للوجود الإنساني (اقتصاد، سياسة، علاقات اجتماعية... إلخ) لم تدرس حتى الآن إلا بطريقة استثنائية و سريعة".[6]. إن هذه الإهمالات هي ما يسوغ مشروعية الإسلاميات التطبيقية، التي جاءت لتسد هذا النقص. حيث كان لهذه الإهمالات نتائج مضاعفة بفعل ما عانت منه الإسلاميات نفسها من إهمال في المجال الغربي. فأركون يعقد مقارنة بين وضع الإسلاميات الكلاسيكية، و بين الآثار المزلزلة التي أحدثتها أعمال كلود ليفي ستراوس. و هو ما نفهم منه، أن حلما كان و لا يزال يراود صاحب الإسلاميات التطبيقية بأن يصبح مشروعه هذا من النفوذ داخل الثقافة الغربية بحجم نفوذ الأنثروبولوجيا التطبيقية نفسها أو النفوذ الذي حققته أنثروبولوجيا ليفي ستراوس في انقلابها التاريخي على الأنثروبولوجيا الكلاسيكية. إنها لحظة من لحظات المقايسة الأركونية التي تتوسل بالعلم الغربي، أن يحرر الإسلاميات مما ران عليها، ليس بوصفها، أي الإسلاميات الكلاسيكية، هي إسلاميات مشحونة بالعجرفة التاريخيانية و جمود المنهج الفيلولوجي فحسب، كما يصفها دوما أركون، بل لأن هذه الإسلاميات الكلاسيكية، إضافة إلى تمركزها العرقي المزمن، تتواطأ مع التيولوجيا الإسلامية المهيمنة في المجال الإسلامي نفسه. إن المتهم الأول و الأخير، بالنتيجة هو الإسلام التاريخي نفسه بوصفه لم ينخرط في دورة العلم و الفكر المعاصرين. في مفهوم التراث ربما قد ينتاب الباحث للوهلة الأولى من اطلاعه على مشروع الإسلاميات التطبيقية، إحساس ما، بأنه أمام جملة من التناقضات الحادة التي تعكس تعددية المنظورات المنهاجية التي جعل منها أركون مداخل أساسية لفهم التراث العربي الإسلامي. لا سيما و أننا أمام ناقد بقدر ما ينهض مشروعه على ما يفيد التهوين من أمر هذا التراث الممارس من قبل أرثذكسياته، واصفا إياه بالتحجر و الإغتراب و القمع و كل الصفات التي تشكلت أساسا في سياق الإستشراق الكلاسيكي الذي واجه نقدا لاذعا من قبل أركون لهذا السبب تحديدا. ولكننا أيضا أمام ناقد سعى إلى تحرير التراث من سلطتين معرفيتين : إحداهما تتعلق بالإستشراق الكلاسيكي الذي اعتبره الوارث الشرعي للنزعة الوضعية العلموية المتطرفة و التاريخانية و تتعلق بتسلط الأرثوذكسية الإسلامية التغلبية التي أقصت أشكال التعبير الأخرى عن الإسلام. إنه بقدر ما يدعو إلى إيجاد مسافة نقدية بين المسلم و إسلامه و هي الدعوة التي يصر عليها و أحينا بالتوسل و إبداء النية الحسنة [7].ما يراه هو أمرا مستحيلا، فهو من ناحية أخرى يخوض نضالا كبيرا في فرنسا لأجل إدخال التعليم الديني إلى الجامعة و نقده الشديد للنمط اللائكي العلماني المغلق في فرنسا. كل هذا لا يمكن فهمه ببراءة. و بمنأى عن الأهداف التي تضطلع بها الإسلاميات التطبيقية. بتعبير آخر، إن أركون و بغض النظر عن الموقف الممكن اتخاذه من مشروعه الفكري هذا يفرض على قارئه إطلاعا واسعا و حدا أدنى على الأقل من الإتقان لأكثر من أربعة مائة سنة من التاريخ الفكري و العلمي للغرب. و أيضا إلماما معمقا بالأجهزة المفاهيمية التي يستند إليها في كل مقارباته، معرفا بها في حقولها العلمية التي تشكلت داخلها، و أيضا القيمة المضافة التي يضفيها الإستعمال الأركوني عليها بحسب السياقات التي تفرضها الإسلاميات التطبيقية. و هذا ما قد نقف عليه في مسألة التراث و موقعه من الإسلاميات التطبيقية. إن لفظ "تراث" لا يحضر مجردا أو مطلقا في المتن الأركوني. إنه يعبر به عن ما هو خاص أحيانا و عما هو عام، و عما هو خاص داخل الخاص (خاصة الخاص). لذلك نجده في أعماله حيث هي كلها في الأصل مؤلفة بالفرنسية يتردد بين استعمال لفظ تراث "tradition" بحرف "T" كبير و تارة بحرف "t" صغير. إن السياقات التي يفرضها تعدد المنظورات المنهاجية عند أركون و تنوع مستويات التحليل، هي من يكشف عن المعنى الراجح آنيا للتراث عند أركون [8]. إن التراث هنا قد يأخذ معنى الإسلام المثالي الذي تقدمه كل جماعة على حدة. فهو هنا يأخذ معنى المذاهب التي تنغلق على نفسها، و ترى إلى أن طريقها هو السنة الصحيحة المعبرة عن الإسلام الحقيقي؛ وهو ما يصطلح عليه بالأرثوذكسية. فالتراث بهذا المعنى يتنزل منزلة المذهب. فنكون و الحال هذه، أما تراثات و ليس تراثا واحدا. و كذلك قد يأخذ التراث في الأسيقة الأركونية معنى آخر عن الأول، أي التراث كما يميزه أركون ب "التاء" " t" الصغيرة في اللغة الفرنسية " tradition". مشيرا إلى المعنى العام للتراث الإسلامي "الكلي" بدون حذف أو بتر أو ما يسميه ب"السنة الإسلامية الشاملة" أيضا. إنه يسعى من خلال هذا المفهوم الثالث الذي جعل منه غاية للإسلاميات التطبيقية، إلى اختراق النزعة الأرثوذكسية المهيمنة على التراث و على الإسلام، و التي تقدم تأويلها للإسلام، بوصفه التأويل الوحيد و الحقيقة المطلقة فيما تعمل على إقصاء التأويل الآخر. إن فتح المجال أمام الأشكال الأخرى من التعبير في التراث العربي الإسلامي، و أيضا نظرا للتأطر داخل الأنثربولوجيا الجديدة و التطبيقية، سيدفع بأركون إلى تبني مفهوم "اللامفكر فيه" L'impensé . و من هنا فالبحث عن اللامفكر فيه داخل هذا التراث هو مهمة استدراكية تزعم الإسلاميات التطبيقية، بأنها تنهض بها. فإذا تبين بأن اللامفكر فيه هنا هو ثمرة لتراكم ما كان مستحيلا التفكير فيه في مراحل من التاريخ، أي أن اللامفكر فيه L'impensé ما هو إلا نتيجة حتمية ل "المستحيل التفكير فيه" L'impensable ، لأسباب يرجعها الناقد إلى الرقابة الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، فهذا ما يعني، و كما يؤكد مترجم أعماله د.هشام صالح : "يمكن القول بأن محمد أركون يفكر اليوم بكل ما لم يفكر فيه الفكر العربي الإسلامي طيلة أربعة عشر قرنا من الزمن و بكل ما فكر فيه أيضا لكي يدرسه و ينقده من الداخل".[9]. البحث في اللامفكر فيه التراثي مهمة خطرة، لأنها تخرق الأسيجة الدوغمائية بحسب وصف أركون لها. أي تلك النزاعات التي فرضت تأويلها للإسلام ورأت في إخضاع التراث للفكر العلمي الحديث خطرا على "المقدس" الذي خلعته على التراث إلى درجة مزجها بين التاريخي والأسطوري، الذي يفرضه العقل الأرثوذكسي بكثافة تبلغ حد التمثل الجسدي incorporé في ممارساته الطقوسية، حيث يقمع انبثاق حقيقة البنية الدينية بوصفها بنية مفتوحة و منغلقة على نفسها في الوقت نفسه. إن هذا الواقع التراكمي للمستحيل التفكير فيه يجعل المهمة صعبة من دون التوسل باستراتيجية تفكيكية لزحزحة هذه الترسبات الجيولوجية للمستحيل التفكير فيه impensable. إنها استراتيجية لتحرير المكبوت، بالمعنى "التحليل النفسي" psychanalytique" للكلمة. و يجد أركون في مفهوم الزحزحة le deplacement و التفكيك la déconstruction ، ضالته في تحقيق هدفه الكبير، ألا و هو اختراق العقل الأرثوذكسي و القبض على اللامفكر فيه. يقول أركون بخصوص مفهوم "اللامفكر فيه" : لكي نتحمل مسؤولية المفكر فيه (Le pensé) و اللامفكر فيه (L'impensé)، اللذين تراكما طيلة القرون الأربعة عشر الماضية، فإننا سنبتدئ ببلورة مفهومي الإسلام و التراث (بالمعنى الصغير للكلمة). سوف ندرس بعدئذ وضع التراث في المجال الإسلامي. و سوف نحاول أخيرا بلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي (أو السنة الإسلامية الكلية) استنادا على المعطيات الناتجة و المتجمعة لدينا"[10]. إن واقع هذا التراكم المزمن ل"المستحيل التفكير فيه"، لا يفترض فقط استراتيجية للزحزحة تتوسل بالآلية التفكيكية وسيلة لتفكيك طبقات التراث، لنقف على هذا التشظي التراثي مفصولا عن بعضه البعض. بل إن التفكيك هنا لا يحمل المدلول العمائي الذي تبناه دعاة التيه و التفكيك اللامسؤول، بل إن التفكيك هنا، حتى مع ناحته الأول : جاك ديردا، لا يعني أكثر من كونه إجراءا تحليليا لاكتشاف وفهم البنية تماما كما في التحليل النفسي للمركبات النفسية. إن أركون يهدف إلى مهمة عملية لا تلتقي مع المذاهب العمائية للتفكيك. بل إنه يحمل عالم الإسلاميات مسؤولية إيجاد تفسير لكل ما كان خارج محاولته و دعوته لتحديد تيولوجيا جديدة للتراث. إن التفكيك هنا يتحول إلى مشروع حفر بالمعنى الأركيولوجي كما في "أركيولوجيا المعرفة" عند ميشيل فوكو... و لكن الحفر الأركوني كالحفر الفوكوني، ليس انتشاء في أعماق التراث المعرفي المترسب أو تاريخ الأفكار، بل هو ممارسة فكرية تهدف إلى كيفية تشكل و انبناء الأفكار و ظهورها و غيابها. فيكون التفكيك طريقا للبناء. والبناء هنا في حقل الإسلاميات التطبيقية يرمي إلى محاولة إيجاد تيولوجيا جديدة للتراث. و هذا أمر في غاية الصعوبة نظرا لوجود معوقات كثيرة، عدا العائق الرئيسي الذي يمثله العقل الأوثوذكسي على حد تعبير أركون ، حيث نجد شيوع النمط المعرفي "القروسطوي" Medievale . إن الفكر الإسلامي ما يزال يتأطر بهذا النمط المعرفي. إننا إذا أردنا "تأويل التراث إيجابيا، أقصد جعله قادرا عن طريق النقد البناء على ملأ وظائف جديدة و القيام بها داخل سياق اجتماعي و تاريخي كان قد تبدل جذريا منذ ثلاثين عاما ليس هناك أي داع بالطبع للقلق على مصير التراث، فهو يستمر في البقاء مهما يكن النقد [...[ و سوف يستمر في الوجود بعد حصول الثورات الأكثر عنفا[...[ للقيام بذلك، لا يمكننا الانطلاق من تحديد تيولوجي أو الإستناد عليه، لأن الفكر الإسلامي كما رأينا قد غلب سريعا جدا أطر المماحكة الجدالية على مسألة المحافظة على الفكر الجاد و التأمل المهتم كليا بتعميق الإيمان. من الضروري أن نخلق هنا شروط إمكانية وجود تيولوجيا جديدة للتراث".[11]. إن مهمة كهذه لا تقطع مع التراث، بل تقطع مع عقله الأورثوذكسي المتسلط و مع تقنيات العلوم الكلاسيكية التي قدم من خلالها التراث، و هي علوم تنتمي إلى النمط المعرفي "القروسطوي"، هي بالأحرى و مادام التراث هو في النهائية متصل بالنص ما يدعو الناقد إلى إفراد أهمية خاصة للمقاربة السيميائية أو التحليل السيميائي. لقد "أصبح مؤكدا اليوم أن التحليل السيميائي يجبر الدارس على ممارسة تمرين من التقشف و النقاء العقلي و الفكري لابد منه. يمثل ذلك فضيلة ثمينة جدا و خصوصا أن الأمر يتعلق هنا بقراءة نصوص محددة كانت قد ولدت و شكلت طيلة أجيال عديدة الحساسية و المخيال الجماعيين و الفرديين. و عندئذ نتعلم كيف نقيم مسافة منهجية تجاه النصوص أو بيننا و بين النصوص "المقدسة" دون إطلاق أي حكم من هذه الأحكام التيولوجية أو التاريخية التي تغلق باب التواصل مع المؤمنين فورا...".[12]. و ليست المقاربة السيميائية وحدها على أهميتها تكفي للقيام بمهمة تأويل التراث تأويلا إيجابيا. فهناك تفرض الضرورة العلمية فتح المجال أمام المقاربة الاجتماعية بشتى فروعها واختصاصاتها، حيث "عندئذ سوف نجد أنفسنا مضطرين لسلوك الطرق و المناهج الراهنة للمعرفة التي افتتحها علوم الإنسان و المجتمع".[13]. ليس التراث الإسلامي عند أركون تراثنا واحدا، بل هو تراثات. و مهمة الإسلاميات التطبيقية تكمن إذن، بالدرجة الأولى، في تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة التراث الواحد؛ ذلك التراث الذي يعيد إنتاج نفسه. ثمة مطلب ناجز لبلورة فهم جديد للتراث أكثر حيوية و خصوبة، تراثا كليا و شاملا : سنة إسلامية شاملة (Exhaustive).[14] ليست تلك هي المشكلة الوحيدة في معالجة التراث، فهناك إضافة إلى المقاربات التجزيئية و التقطيعية التي تتواطأ مع النظرة الواحدية للتراث التكراري كما كرستها الهيمنة الأرثوذكسية على التراث، و التي تجلت بشكل واضح في الكتابات الإسلامية المعاصرة، تلك التي يكتبها عرب و مسلمون، أو تلك التي تكرست في الإستشراق الكلاسيكي؛ هناك أيضا مشكلة التجزيئ في التراث نفسه. أي النظر إليه بوصفه مجالا قابلا لإجراء مقاربات مجتزئة تخص فعالية من فعالياته فقط، و إهمال الجوانب الأخرى منه. إن أركون يرفض التعاطي مع التراث كما لو كان مجرد أفكار. و هذه النظرة الشمولية للتراث، هي في الحقيقة رؤية مقتبسة من " إيف كونغار" –Yves Congar- لا ينكر أركون ذلك التأثر الكبير بايف كونغار، حيث يؤكد قائلا : "إني أستشهد بهذا النص لسببين : الأول، هو أنني أشاطر إيف كونغار تحليلاته بخصوص دقة مصطلحاته و صحة مقاربته للتراث في مواجهة الانتقادات الوضعية ضمن سياق الأزمة الحداثوية...[15]. تلك الرؤية التي ترى في التراث تراثات، و أيضا ترى فيه تجسيدا لحياة كاملة تشمل الفكر و العواطف و العقائد و الممارسات...[16]. و هكذا تستطيع الإسلاميات التطبيقية الخروج من مأزق القطيعة التاريخية Rupture Historique التي تكرست في الإسلاميات الكلاسيكية؛ أي انقطاع الفكر الإسلامي المعاصر عن مرحلة امتدت من القرن الثاني حتى القرن الخامس الهجري؛ المرحلة الموسومة بالإبداع. و من هنا يبدو أركون بصدد وصل الفكر الإسلامي بلحظة القلق المعرفي الذي شهدته هذه المرحلة، في محاولة لتجاوز ما بعدها، أي اللحظة "السكولاستيكية" الموسومة بالجمود و التكرار. فمهمة أركون هنا هي الفصل و الوصل؛ تقويض قطيعة من أجل التأسيس لقطيعة أخرى. فصل عن المرحلة السكولاستيكية و إعادة الوصل بلحظة الإبداع. لكنه هنا وصل و فصل أو لنقل قطيعة بين تراثين كما رأينا مع الجابري. غير أنها تختلف هنا، لأنها لا تجعل اللحظة الرشدية الحزمية المغربية المتأخرة، تقطع مع الماضي، بل هي خلافا لذلك تجعل اللحظة التي تمتد ما بين القرن الثاني و الخامس الهجري تقطع مع ما بعدها. التراثات ومسلمات العقل الأرثوذوكسي على الرغم من أن أركون يرفض النظر إلى التراث بوصفه تراثا واحدا. فاضحا بذلك سلطة الأرثوذوكسية الرسمية الغالبة و المكرسة للتراث التكراري، إلا أن هذا لا يعني أن صفة الأرثوذوكسية تقتصر فقط على الأرثوذوكسية "السنية" مقابل التراثات الأخرى المحلية و التي استمرت في الوجود بشكل من الأشكال على هامش التراث الرسمي؛ بل إن الأرثوذوكسية في نظر أركون تشمل الشيعة أنفسهم وأيضا الخوارج. نحن إذن، أمام ثلاث أرثوذكسيات، و إن كانت الأرثوذكسيتان الكبرتان "السنية" و "الشيعية" استطاعتا نفي غيرهما. إن الجامع و المشترك بين الأرثوذكسيات الثلاث، انطواؤها على المنطق نفسه من حيث هو منطق نافي لما دونه أو ناكر على غيره إمكانية مشاركته في التراث الحقيقي الصحيح.[17] و أيضا في كونها ترفض النقد الذاتي. "و لهذا السبب نجد أن كل أرثوذوكسية تحذف ما عداها من ساحة الإسلام الصحيح و تعتبر نفسها الممثل الوحيد للإسلام الصحيح و تتحارب بنفس أسلحة و محاجات القرون الوسطى".[18]. يحدد أركون المسلمات المؤسسة للعقل الأرثوذوكسي في جملة نقاط، يتعين على الإسلاميات التطبيقية استيعابها في عملية تفكيك هذا العقل، و هي : 1- الانقسام بين البشر ضرورة. فهناك فريق واحد فقط، يستطيع تلقي الرسالة و الإخلاص لها. 2- الحقيقة المطلقة واحدة. و بالتالي لا وجود إلا إلى دين حقيقي واحد، و تراث واحد. 3- تعاصر الأجيال في ضوء فكرة الخلاص الأخروي. 4- ضمن هذه الشروط، يتحدد معنى التعاصر في الآتي : أ وحدة "العقل المعنوي السيمانتي" و ثبوته عبر الأجيال و تحيينه عبر التاريخ بواسطة كل المؤمنين. ب الآحادية المعنوية كما تنقلها الشروح و التفاسير. ج عملية التحيين Actualisation الدائم للتراث ، المتولد عن النصوص، تتم داخل سياقات تاريخية و اجتماعية مختلفة، لكنها لا تترك آثارا و تصميما على هذه النصوص. ح ارتباط كل " الوحدات النصية" Enoncé، من هذا التراث بسلوك عملي نموذجي و مثالي. د صحة المنقول و قطيعته و عصمة الصحابة.[19]. من هنا تتضح المهمة المطلوب إنجازها من الإسلاميات التطبيقية. أي تحرير الفكر الإسلامي المعاصر من هذه الأسيجة الدوغمائية بحسب وصف أركون، و ذلك برج الأسس و البداهات المؤسسة للعقل الأرثوذوكسي. إن أركون يحاول أن يبرر فعل الإنتهاك المناهجي للتراث، ليس بقصد رفع صفة الوحي عن النصوص أو إلغاء شحنتها التقديسية أو إزالة آثار معناها الروحي[20] بل على العكس تماما من ذلك، فهو يدعي مرارا و تكرارا أنه أكثر حرصا على إدماج هذه السمات في اهتمام الإسلاميات التطبيقية و إدخالها ضمن لائحة التراث الكلي. غير أنه يؤكد على مسألة لعلها مثار إشكال و نظر مزمنين التمييز بين المعرفة و الإيمان و إذا كانت اللحظة الرشدية في المقاربة الجابرية السابقة، ترى في النظام البرهاني ذي الأصل الأرسطي لحظة مائزة و فارقة في مجال غاص بسمات العقل المستقيل، فإن المعالجة الأركونية، تعزي هذه الأرثوذوكسية إلى هذا النظام التيولوجي الناهض على الأسس المنطقية للفلسفة الأرسطية. إن الحقيقة المطلقة و المعنى الواحد يتجليان بصورة مختلفة في النص الأصلي (=القرآن) و النظام التيولوجي القائم على المنطق الفلسفي الأرسطي. ففي الأول هو مغذي للحنين المطلق إلى التوحيد و العدالة و الخلود. أما في النظام الثاني، فهو يغذي النزعة الصارمة و الثنائية إيمان/لا إيمان.. عقيدة/لا عقيدة.. نزعة ثنائية و ساكنة. و عليه، فالتراث "عندما يتوجه إلى أكبر عدد ممكن من الناس، فإنه يميل إلى ممارسة فعله و أثره طبقا للنموذج الثاني رافضا باسم الأرثوذكسية تعددية المعاني و الدلالات المتجلية في التفاسير و المدارس المختلفة و رافضا أيضا إمكانيات المعنى الاحتمالية...".[21]. التراث أمام صدمة الحداثة يدعو أركون إلى تطبيق العلوم الاجتماعية على التراث. فهذا أمر أساسي في مقاربته القائمة على تعددية المناهج. و بقدر ما كان واضحا في نقد الهيمنة الأرثوذوكسية على التراث، انتقد من الناحية الأخرى الموقف الحداثي النافي و المهمل لكل ما هو روحي و ديني. و قد كانت لأركون مواقف نقدية من العلمانية لا سيما العلمانية الفرنسية المتطرفة. و يعبرعن وجهة نظره تلك:"و أما ما يخص مراجعة موقف الحداثة من الدين، فأني أقول ما يلي: ينبغي أن نعلم بأن الأديان الكبرى كالإسلام و المسيحية و اليهودية و البوذية...إلخ، تغنينا كثيرا من الناحية الروحية و الثقافية إذا ما عرفنا كيف نستمع إليها أو كيف نصغي إلى عمق تجربتها التاريخية. و لا ينبغي رفض كل ما هو ديني بحجة أنه قديم، بال ، عفا عليه الزمان. لا، هذا لا يجوز. لأننا عندئذ نبتر أنفسنا و نبتر التاريخ الروحي و الثقافي للبشرية".[22]. و يوضح ذلك أكثر و بشكل عام في سياق نقده للنزعة العلموية و التاريخانية المتطرفة : "فليس بالعقل وحده يحيى الإنسان، و إنما برطوبة الخيال أيضا و جموحه و اتساعه الخلاق. و لكننا نلاحظ أن العلوم الاجتماعية و السياسية لا تقبله عموما. فهي ليست مستعدة لاعتبار العقل و الخيال كشيئين مترابطين أو يمكن أن يتواجدا معا، و إنما كشيئين متضادين أو متنافيين[...[ إنها ليست مستعدة لاعتبارهما كمادتين تتداخلان بشكل مترابط و متساوق في كل مجالات المعرفة"[23]. لقد نعى أركون على أولئك الذين اصطنعوا فكرة الغرب و الشرق، و حملوا على كل واحد من الإثنين صورا مفارقة عن الآخر، في حين كلاهما ينتميان إلى المرجعية الثقافية العميقة المتمثلة بالفكر الإغريقي و الديانات التوحيدية. إن العالم العربي هو غرب و ليس شرقا. الشرق هو الشرق الأقصى الذي يتمثل بالصين و اليابان و الهند. و لذا يصف التضاد المزعوم و المضخم بين الشرق و الغرب، بالكارثي[24]. إن للحداثة أزمتها تماما كما للتراث أزمته. و الإسلاميات التطبيقية، جاءت أساسا كي ترفع عن الفكر الإسلامي هيمنة الاستشراق الكلاسيكية، من خلال توسيع مهمة المناهج الاجتماعية الحديثة في مقاربتها للتراث العربي و الإسلامي، من مجرد مقاربة تصنيفية ووصفية فيلولوجية إلى الإنخراط في إشكاليات هذا التراث نفسه. كما أنها ستعمل على إغناء الفكر الإنساني بشكل عام. إنها دعوة إلى ضرب من النقد المزدوج قام به أركون بقوة و جرأة نادرين؛ لكن إلى أي حد وفق في كل ما دعا إليه و طبقه ؟ ملاحظات أولية على المقاربة الأركونية: يفرض المتن الأركوني على قارئه إلماما واسعا بقارة كاملة من المناهج و المفاهيم الفكرية و الفلسفية، ربما قد لا نبالغ إذا ما قلنا، أنه يشترط على قارئه إلماما و استيعابا لكل المعطيات المنهاجية و المفاهيمية للحداثة. بل إن الباحث سيجد نفسه هنا أمام تقاطعات منهاجية لا تتوقف، إذ كل المفاهيم تلتقي هنا مع بعضها، و كل المناهج تتخاطب و تتبادل الأدوار فيما بينها، إلى حد يجعل القارئ لهذا المتن المتوتر و المكثف باستشكالاته، يعجب كيف تصبح هذه المناهج الفلسفية و العلمية الحديثة على ما هي عليه من تضاد و تنافر، تتداخل فيما بينها، منتجة ضربا هجينا من المناهج المتاخمة أو الأنظمة المعرفية المتلاقحة، ما يثير حقا إشكالية الأسس الإبستيمولوجية لهذه المناهج ذاتها. إنما يظل السؤال المطروح : كيف أمكن لأركون أن يوفق بين هذا الحطام المناهجي الضخم في وقت قلما يحدث فيه هذا في حقول أخرى تنتمي إلى المجال التداولي الغربي، حيث نشأت و تكاملت هذه المناهج. فهل معنى هذا أن مجال الإسلاميات الذي هو مجال أجنبي عن هذه المناهج استطاع أن يحقق معجزة توافق المناهج الغربية الحديثة أكثر مما استطاعته المجالات الأم. لا شك أن المغامرة الأركونية استطاعت أن تقدم أفكارا لافتة أو بالأحرى مقايسات مثيرة. لكن يظل السؤال مطروحا : هل هي أفكار لافتة من حيث كونها صادمة للمألوف و متجرئة على ما هو في عداد اللامفكر فيه، أم من حيث هي نتيجة لتطبيق المناهج الاجتماعية في قراءة التراث ؟ إن الدعوة إلى تحرير التراث العربي والإسلامي من سيطرة النموذج الواحد، و هيمنة التراث الواحد، هي دعوة غاية في الأهمية بل لعلها مطلبا تاريخيا تراثيا و ليس حداثيا. إن أركون بهذا المعنى لم يأت بجديد لم يلتفت إليه القدامى أو حتى أولئك المحسوبون على الاستشراق أو الإسلاميات الكلاسيكية، ممن لم يستثنهم أركون من أحكامه المطلقة الموجهة للاستشراق الكلاسيكي، على الرغم من إفادته من نتائجهم و خبرتهم. أعني أمثال ماسينيون و هنري كوربان و إيفانوف... أي أولئك المستشرقون الذين خرقوا القاعدة قبل قيام الإسلاميات التطبيقية واجترحوا أسلوبا فريدا على صعيد البحث و التحقيق قائما على أساس المعايشة و مقاربة التراث الآخر المهمش. لا شك في أن ملاحظات كثيرة قد أثارها و تثيرها الإسلاميات التطبيقية : إلى أي حد استطاع أركون تحقيق حلمه الكبير الذي طالما وعد به قراءه لمدة تزيد على ثلاثة عقود، و لازالوا ينتظرون؛ أعني مشروع الإسلاميات التطبيقية التي لا تزال في حيز الدعوة المجردة؟ أي آفاق تسمح بها الإسلاميات التطبيقية لتحقيق حد أدنى من الإبداع في مجال المناهج و المفاهيم، حيث اقتصرت الدعوة الأركونية على فعل الإستعارة ليس إلا ! ما مدى جدية المطلب الأركوني في دعوته إلى تعددية المناهج في مقاربة التراث العربي و الإسلامي، و هل ذلك من المتاح لعالم الإسلاميات التطبيقية؟ كيف يفترض في جمهور المسلمين أن يكونوا على اطلاع على كل هذه التراثات و أيضا على كل هذه المناهج الحديثة. هل وفق إلى تطبيق تلك المناهج في حقل الإسلاميات؟ هذا، بالإضافة إلى عدد من التساؤلات، يمكننا أن نتساءل : هل يفترض في جمهور المؤمنين أن يكونوا على اطلاع واسع و إتقان كبير لكل هذا الحطام المناهجي الحديث حتى يوفقوا إلى بناء رؤية جديدة عن إيمانهم؟ والسؤال الذي سيبقى مفتوحا : إلى أي حد يمكن للمناهج المذكورة مهما قيل حول كفاءتها، أن تقدم تفسيرا للإيمان و الإعتقاد أو تخضعه للدرس السيكولوجي.. و أخيرا و ليس آخرا، إلى أي حد يمكننا الحديث عن سوسيولوجيا التلقي بالمعنى الذي قدمه هانس رجوس، و تبناه أركون، دون أن نسقط في انزلاقات قد تؤدي إلى عكس ما دعا إليه أركون، من احترام استمرارية الدين و المقدس؟ [email protected] ------- [1] د. محمد أركون : تاريخية الفكر العربي و الإسلامي، ص 54، ت : هاشم صالح ط 3 – 1998 – مركز الإنماء القومي و المركز الثقافي العربي. بيروت [2] المصدر نفسه ص 57 [3] المصدر نفسه ص 57 [4] المصدر نفسه ص 101 [5] المصدر نفسه ص 52-53 [6] المصدر نفسه ص 52-53 [7] د. محمد أركون : الفكر الإسلامي، قراءة علمية، ص 31، ت : هاشم صالح ط 2 – 1996، مركز الإنماء القومي و المركز الثقافي العربي. بيروت. [8] أنظر مقدمة هشام صالح على المصدر نفسه، ص 17 [9] المصدر نفسه ص 18 [10]. أنظر : الفكر الإسلامي؛ قراءة علمية ص 18 [11] المصدر نفسه ص 31 [12] المصدر نفسه ص 32 [13] المصدر نفسه ص 31 [14] المصدر نفسه ص 31 [15] " أنظر المصدر نفيه ص 49