اِشتهرتْ بين النّاس مَقالاتٌ 0رتأى أصحابُها أن يُعلِّلوا موقفَهم من "المسيحيّة" (كما فعل "برتراند راسل" في «لماذا لستُ مسيحيّا» [1927] أو "جون ستُوت" في «لماذا أنا مسيحيّ» [2003]) أو موقفَهم من "الإسلام" (كما عند المُسمّى "ابن ورّاق" في «لماذا لستُ مُسلمًا» [1995]) أو حتّى موقفهم من "الإلحاد" (كما عند "بهجت سِنْغ" في «لماذا أنا ملحد» [1930]). ويبدو أنّه قد صار من المُناسب جدّا أن يَأتي المرءُ مَقالةً يُعلِّل فيها موقفَه من "الإلحاد" خصوصا على مستوى العالم العربيّ-الإسلاميّ حيث أخذ بعض أبناءِ وبناتِ المُسلمين يَتعاطون، بهذا القدر أو ذاك، خطابًا إلحاديّا يُراد له أن يَظهر بمظهر الخطاب "العقلانيّ" و"الحَداثيّ" فيُؤخَذ كأنّه يُمثِّل 0متيازَ نُخبةٍ من العُقلاء على غرار بعض الفلاسفة المُعاصرين (فكتور ستنغر، مِشّيل أُونفري، أندري كُونت-سپونڤيل، ريتشارد داوكنز) الذين 0متدحوا مذهب "الإلحاد" إلى حدٍّ جعلوه أحدَ لوازم «المَعقوليّة العلميّة». تُرى، هل يَقبَل "الإلحاد" أن يُعلَّلَ عقليّا بما لا قِبَل ل"الإيمان" (الدينيّ) به؟ "الإلحاد" (atheism/atheisme) أن يقول المرءُ بأنّه «لا إلاه» أو «لا أُلوهيّة»، فهو موقفٌ يقوم على دعوًى أساسيّةٍ تُفيد نفيَ أو إنكارَ "الأُلوهيّة" بإطلاق (و، من ثَمّ، نفي كل ما يَتعلّق بها من "الوحي" و"النُّبوّة" و"الدّين"). ذلك بأنّ تصوُّر «كائن له كل صفات الكمال» (كائن أعلى من العالَم و/أو أدنى منه) يُعَدّ لدى المُلحد إمّا مُتناقضا (كائن كامل في أو مع عالَم ناقص! وكائن كامل يَتصوّرُه كائنٌ ناقص!) وإمّا مُحالا ("الكامل" لا يَحتاج إلى "النّاقص" ولا يَقبَلُه: فلو كان ثمّة إلاهٌ، لما جاز أن يكون معه سواه من الكائنات النّاقصة التي تملأ العالَم والتي منها "الإنسان"). وبالتالي، فتصوُّر الإنسان لِ"الإلاه" ليس - في ظنِّ المُلحد- سوى تعبير مُتعالٍ عن الوعي بالنّقص البشريّ الذي لا يُحتمَل إلا بإسقاطه مَقلُوبًا على كائنٍ مُطلَقِ الكمال يُتصوَّر تخيُّلًا أو يُختلَق توهُّمًا! يستطيع المرءُ، 0بتداءً، أن يُجيب عن سُؤالِ «لماذا لستُ مُلْحِدًا؟» بأن يقول «لأنّني وُلدتُ ونُشِّئتُ في أسرةٍ ومُجتمعٍ مُسلِمَيْن حيث يُؤمِنُ أكثر النّاس بالله الذي لا إلاه إلا هو». وهذا الجواب يُبيِّن السبب المُباشر في إيمان المُسلم بالله بإرجاعه إلى تأثيرِ «التنشئة الاجتماعيّة» كسيرورةٍ تُشكِّل النّاس وَفْق مُقتضيَات «نظام الثقافة» السائد في مجتمعهم وعصرهم. وبالمِثْل، فهو جوابٌ يُشير إلى أنّ "الإلحادَ" نفسَه له أسبابه الموضوعيّة القائمة في نوع من «التنشئة الاجتماعيّة» التي تجعل بعض النّاس مُهيَّئين نفسيّا وعقليّا لنفي وُجود الله. لكنّ ذلك الجواب لا يُعطي علّةً كافيَةً في بيان حقيقة الإيمان بالله، إذْ أنّه يَؤُول في فَحْواه إلى أنّ وُجود الله ليس شيئا آخر سوى ما يُنتجه "المجتمع" و"الثقافة" داخل وعي النّاس. ومن ثَمّ، فلو كان ذلك علّةً كافيَةً، لصحّ أن يَتساوى "الإيمان" و"الإلحاد" من جهةِ تعليلهما بحيث لا يعود "الإلحادُ" نفسُه أفضل من "الإيمان" لأنّه هو أيضا يَصير معلولا لأسبابٍ موضوعيّة تَتحدّد في نوع «التنشئة الاجتماعيّة» التي تجعل الإنسان مُلْحِدًا! حقًّا، إنّنا نجد المَلاحدة يَميلون في مَواقفهم إلى 0دِّعاء الاعتماد حصرا على "العقل" و"العلم" بخلاف النّاس المُؤمنين الذين يستندون، في ظنّهم، إلى "الوحي" (الذي من الشّائع أن يُعدّ نقيضًا ل"العقل") أو إلى "الإيمان" (الذي لا مَجال معه للشكّ فيما 0ستقرّ بصفته "الحقّ" الذي لا يَأتيه "الباطل" من بين يديه ولا من خلفه). ولعلّ ما يجب، هُنا، الوُقوف عنده أنّ من يَدّعي 0عتماد "العقل" مِعيارًا أساسيًّا وحَكَمًا فَيْصَلًا إنّما يَغيب عنه أنّ 0دِّعاءَه هذا لا يَمُرّ إطلاقا إلا بنوع من "الإيمان" الذي يَجعلُه يُصدِّق بقيمة "العقل" وأفضليّته على كل ما سواه. لكنْ، يَنبغي الانتباه - فضلا عن كون الأصل في "العقل" إنّما هو "الإيمان" تماما بخلاف ما يَظنّه أدعياء "العقلانيّة"- إلى أنّ هذا "الإيمان" يَمتنع أن يَكُون "العقلُ" مصدرَه (مُغالَطة الدَّوْر: "العقل" أساسُ إيمانه بنفسه!). فلا يَبقى، إذًا، إلّا أن يُؤسَّس "العقل" على ما سواه، أيْ على شيء من خارجه: إمّا على ما هو دُونه من "اللَّاعقل" (كما يَتجلّى، بالخصوص، في "الهوى") وإمّا على ما هو فوقه (وهو ما قد يكون عقلا أعلى منه وأرشد). ولو أنّ المُلْحد تبيَّن حقًّا هذا الأمر، لٱنتهى إلى مُواجَهةِ أوّلِ إحراج أساسيّ، إحراج لا مَخرج له منه إلّا بمُراجَعةِ تصوُّره الضيّق للعقل، بل لتَوَقّف بشأن الخوض في "الأُلوهيّة" فقَنِع تواضُعًا بالقول «لا أدري» كما هو دَأْب بعض كبار العُقلاء! لكنّ المُلحدَ يَأبى إلا أن يَتعدّى ظاهر "العقل" فتَراه يَجرُؤ على الحُكم بشريّا بنفي أو إنكار «وُجود اللّه». ولا يَخفى على ذي مُسْكةٍ أنّ مثل هذا الحُكم فيه دليلٌ صريحٌ على تألُّه المُلحد أكثر ممّا فيه الدّليل على قُدرة "العقل" (البشريّ) على إثبات أو نفي ما يَتجاوزه بالتّحديد. فالنّظر في "الإلحاد"، بما هو نفيٌ ل«وُجود اللّه» من موقع من يَتحدّد أصلا بأنّه ليس إلاهًا، يَقُود إلى تبيُّن أنّ الأمر فيه يَتعلّق بمُجاوَزةِ "العقل" في المدى الذي يُعَدّ ذلك الحُكْم صادرًا عمّن هو في وُجوده وعِلْمه دون المُراد إثبات أو نفي وُجوده! وبالتالي، فكل نفيٍ أو إنكارٍ يأتي مِمّن كان ذاك شأنه ليس سوى حُكم نفسيّ أو ذهنيّ مَدارُه "الفِكْر" في علاقته الداخليّة بذاته، وليس أبدًا حُكمًا خارجيّا وموضوعيّا يَكفُل تناوُل "الوُجود" تحقيقًا وتعيينًا. وأكثر من ذلك، يرى المُلحد أنّه حتّى لو كان الله موجودا، فإنّ الإنسان لا يُمكنه أن يَعرفه لكونه لا يستطيع - بوُجوده وعقله المَحدُودين يقينًا- أن يُحيط بوُجودِ كائنٍ يَتحدّد في ذاته بصفته "مُطلقًا" و"لانهائيًّا" (إذْ أنّى للمحدود أن يُدرِك، وبَلْه أن يُحيط، بوُجود غير المحدود!). غير أنّ هذا ليس مُفارَقةً عقليّةً، وإنّما هُو مُغالَطةٌ يُتبيَّن فسادُها من حيث إنّ العلّةَ في وُجود الإنسان وإدراكه - بما هو كائنٌ "محدودٌ"- لا تَرجع إليه بالذات: أليس بإمكان "المُطلَق" أن يُثْبِت ذاتَه ويُعرِّف بها في الوقت عينه الذي نجد "المحدود" يفعل ذلك بالنِّسبة إلى أمثاله؟! بل هل بوُسع غير الإنسان من الكائنات - التي يُقال عنها إنّها أدنى منه وُجودا وأقلّ إدراكًا- أن تَنْفيَ (أو تُنْكِرَ) وُجودَه فقط لأنّها عاجزةٌ بذاتها عن إدراكه كما هُو؟! إنّ كثيرين لا مُستنَد لهم في 0دِّعائهم "الإلحاد" سوى مُناقشةِ "عمّانُوئيل كنط" لِما يُعرَف بالأدلّة على وُجود الله («نقد العقل الخالص»، القسم الثاني، الفصل الثالث من الكتاب الثاني). لكنّ هؤلاء لا يَغفلُون فقط عن أنّ 0متناع التدّليل العقليّ على «وُجود الله» يُثْبِت حُدود "العقل" نفسه (طبيعته "المشروطة" تفرض عليه - رغم تطلُّعه المُستمرّ- ألّا يَطمع إطلاقا في الإحاطة بكُنْهِ "اللامشروط" لا إثباتا ولا، بالأحرى، نفيًا)، بل يَغفُلون أيضا عمّا هو أهمّ: من جهةٍ، ليس "الوُجود" صفةً محمولةً لكي يصحّ البتّ فيها ذهنيّا بإثباتها أو نفيها، وإنّما "الوُجود" موصوفٌ موضوعيٌّ له من الصفات ما قد لا يَستطيع "الذِّهن" أو "الفكر" 0ستكناهَه! ومن جهةٍ أخرى، الدّليل العقليّ الذي يُطلَب فيه فقط الاتِّساق الصُّوريّ غير مُناسبٍ لإثبات وُجود الأعيان أو معرفته (قد يَثْبُت في "الذِّهن" ما لا أثر له في "العَيْن"، والعكس صحيح)، بل إنّ الدّليلَ العقليّ نفسَه لا يقف عند ذلك الوجه وإنّما يَعْدُوه إلى أوجُهٍ كثيرة هي أوثق صلةً بتجربة "الوُجود" في تحقُّقه العَيْنيّ والموضوعيّ بعيدا عن مُمكنات التجريد النظريّ. والأدهى من ذلك كُلّه أنّ من يَطلُب الاستدلال عقليّا على «وُجود الله» لا يكاد يَنتبه إلى أنّه يقع تحت خداع اللُّغة حتّى حينما يظُنّ أنّه يُفكِّر خارجها، إذْ تراه يَضع 0سم "الإلاه" أوّلا (وهو اسمٌ يَدُلّ على «ذاتِ واجبِ الوُجود»)، ثُمّ يُسْنِد إليه صفةً مَنْفيّةً «غير موجود» (في قولهم «الله غير موجود») أو فعل "مات" (في قولهم «الإلاه مات»): فكيف يُعقَل نفيُ «موضوعٍ/عَيْنٍ» وُجودُه ضروريّ بذاته؟! أيكون ذلك فقط لأنّ اللُّغة تُعطي إمكانَ نفيه لفظيّا؟! ونجد، بعدُ، أنّ من المُفكّرين من يَتعجّب كيف أنّ الله - عزّ وجل- لم يَكترث بإعطاء «البُرهان» على وُجوده، حتّى إنّ منهم من يَبتهج لهذا ويجعل غياب «البُرهان» مُساويًا لعدم وُجود «المُبرهَن عليه» (الذي يُفترَض فيه، هُنا، أن يكون هو «المُبرهِن على نفسه»)! وينبغي ألّا يَخفى، بهذا الصدد، أنّ سَوْقَ الأمر على ذلك النّحو سخيفٌ من ناحيتين: أُولاهما أنّ الله لو أعطى «البُرهان» المطلوب على ذاته، لكان بُرهانُه بمثابة «السُّلطان» الذي يَنتزع "الإيمان" من النفوس كَرْهًا وليس طَوْعًا كما هو مُقتضى الحكمة! وثانيهما أنّ غياب «البُرهان» على شيء ما لا يَستلزم دائما غياب الشيء ذاته من الوُجود! وإذَا ظهر أنّ كل تلك السُّبل مُوصدةٌ تماما أمام تعقيل "الإلحاد"، فإنّه لا تبقى إلا مُعضلة الشرّ كما تتجسّد في كل المَساوئ والمَصائب التي يَعِجّ بها العالَم. إذْ يَتساءل المُلحد: كيف يُعقَل أن يسمح الله بذلك، وهو القدير الفعّال والخيِّر الكريم؟! ولن يَقبل المُتسائل جوابًا مثل «لأنّه ربّ العالَمين يفعل ما يشاء في مُلكه ولا يُسأل عمّا يفعل»، ذلك بأنّه يُريد من الله ألّا يَكون وألّا يَفعل إلا في حُدود ما يُدرِكه خَلْقُه كأنّ مَشيئتَه، سُبحانه، يجب أن تكون وَفْق مشيئتهم لكي تستحقّ الدخول في مقتضى "العدل" و"الرحمة"! أليس العاجز عن إدراك «وُجود الله» أحرى به أن يُقرّ بعجزه عن إدراك الحكمة في «فعل الله ومشيئته»؟! وكيف يجب أن يكون وُجودُ الشر في العالَم فقط سببًا للشكّ في وُجود ربّ العالمين وليس مَدْعاةً للتفكُّر في قُدرة المَلِك العزيز ربّ السماوات والأرض؟! إنّه حتّى لو صحّ تعليلُ "الإلحاد" عقليّا، فسيَترتّب عليه 0متناعُ تأسيس "الأخلاق" وُجوديّا لكونه يقوم على نفي «وُجود الله» (مثال «الخير الأسمى»). فلا يعود، من ثَمّ، مُمكنا تأسيس "الأخلاق" إلا بشكل عمليّ على النحو الذي يَجعلها نفعيّةً ونسبيّةً تمامًا، ليس فقط بمُقتضى حُدود «العقل المُجرَّد» (إرادة الخير لذاته تتطلّب معرفته موضوعيّا بما هو «خير أسمى»)، بل أيضا لأنّ شُروط المُمارَسة العمليّة تجعل القيام بالواجب غير مُمْكن ك«فعل خالص» إلا بما هو «تخلُّص مُتدرِّج» من إكراهات الضرورة بشتّى تجليّاتها. ولهذا، فَلَوْ ثَبَت عدم «وُجود الله»، لصار مُبرَّرًا 0عتبار "الفضيلة" - في 0قتضائها ل"الحُريّة" و"الحقيقة" كلتيهما- تابعةً لأغراض النّفس ومُستجيبةً حصرًا للمَصالح العاجلة. فما الذي يُوجب، إذًا، 0لتزامَ "الفضيلة" بما هي فقط "فضيلةٌ" مُقتضاها 0متثال «الخير الأسمى» (فضيلة بلا قيد أو شرط)؟! إذْ لا "الطبيعة" ولا "المُجتمع" ولا "التاريخ" تَصلُح مُفرَدةً أو مُجتمعةً لتأسيس "الأخلاق" بما هي كذلك لأنّ هذه المُحدِّدات لا تكفي، حتّى في تَعالِيها على الأفراد، لمَحْوِ صبغةِ "العَدَميّة" المُلازِمة حينئذٍ للوُجود والفعل البشريِّين من حيث 0فتقادُهما الجوهريّ لكل مَقْصِد أو غاية فيما هو أبعد من هذا العالَم الدُّنيويّ! بإيجاز، ما الذي سيُلْزِم المُلْحد أخلاقيّا إذَا أمكنه أن يَأتي أفعالَه بشكل يَجعلُه يَتفادى أن يُساءَل أو يُحاسَب هُنا والآن؟! إنّ كونَ "الإلحاد" لا يَنفكّ عن إدراك مَحْدُوديّة الوُجود الإنسانيّ يَجعل مُواصَلةَ الاستدلال إلى نهايته تقتضي من المُلحد الجادّ مُواجهةَ حافةِ الانتحار. فإدراكُ أنّ "الوُجود" البشريّ مفتوحٌ على "العدم" في مصدره ومآله يُوجب الإسراع إلى إنهائه لإيقاف الاستمرار في مُعاناته الضروريّة بلا جدوى. لكنّ المُلْحد يَغفُل عن هذا كما يَغفُل عن أنّ إقرارَه بأنْ ليس بعد "الحياة" إلا "العدم" يُعَدّ إيمانًا بغيبٍ لا دليل له عليه، وهو إيمانٌ له نظيرٌ في الإيمان بالله! فكيف يصحّ له قَبُول الأوّل وردّ الآخر؟! بل كيف يَبقى معنًى للحياة إذَا كان ما بعدها ليس إلا "العدم"؟! أليس المنطقيّ أن يُهرع المُلحد إلى وضع حدٍّ لهذا "الوُجود" الزائف الذي لا أصل له ولا مآل إلا "العدم"؟! فلماذا يَتشبّث المُلْحد بحياةٍ لم يُعْطِها 0بتداءً لنفسه وتُؤخَذ منه أخيرًا رغم أنفه؟! أليس جُبْنًا صريحًا منه أن يقف مُبتهجًا عند شُبهات "الإلحاد" في الوقت الذي تُوجب الشجاعة الفكريّة عليه أن يُقْدِم من فوره على "الانتحار" حلًّا لمُعضلةِ هذا "الوُجود" الذي لا يَقبل من منظوره أبدًا أن يُعلَّل عقليّا؟! وماذا يَتبقّى في "الإلحاد" من 0متياز غير كونه جُرأةً على "التّعاقُل" جُحودًا ونُكرانًا؟! هكذا يُمكن تأكيد أنّ النظر في "الإلحاد" يَقُود إلى تبيُّن أنّه لا يَقبل أن يُعلَّل عقليّا على نحو أفضل من "الإيمان"، وأنّه يبقى - إذَا تجاوزنا مسألةَ تَساويهما أو تكافُئها من الناحية العقليّة- مُعلَّلا فقط بالنِّسبة إلى "دوافع" أو "مُبِّررات" تجد أصلَها بالأساس في مجموع الشروط التاريخيّة والاجتماعيّة المُحدِّدة واقعيّا وموضوعيّا لاعتقادات النّاس. إنّه 0عتقادٌ يَتظاهر أصحابُه بالاستناد إلى مجرد "العقل" في الوقت الذي لا يَستطيعون أن يُوفُوا بكل مُقتضيات «البُرهان العقليّ» حتّى في تأسيسهم لما يَزعُمونه من أفضليّةِ "العقل" على ما سواه. أخيرًا وليس حقيرًا، يبدو "الإلحادُ" نفسُه غير مُمكنٍ كفعل إنسانيّ إلا في علاقته بالأُلوهيّة، إذْ أنّه ليس في حقيقته سوى تجلٍّ لقُدرةِ "المُطلَق" في تَعالِيه اللامشروط: فأنّى للمُلحد، بما هو كائنٌ نِسبيٌّ ومشروطٌ، أن يَأتيَ نفيَ وُجودِ "المُطلَق" لولا كونُه قد أُوتي القُدرةَ على التعبير المُتنكِّر عمّا يَتجاوزه، أيْ أنّ "الإلحاد" ليس في العمق سوى أثَرٍ معلولٍ لمن كان شأنُه أن «يُضِلَّ مَنْ يشاء» تماما كما يرجع إليه وحده أن «يَهدي من يشاء». ولهذا، فليس للمُلحد فقط حقّ شَرْعيّ وإلاهيّ في 0دِّعاء "الإلحاد" والتّعبير عنه، بل له أيضا حقّ 0جتماعيّ ومَدنيّ في أن يُسمَع منه ويُرَدّ عليه نُهوضا بواجب الاعتراض العقليّ الذي تفرضه مُطالَبتُه نفسُها بالاستناد إلى "العقل" في تأسيس 0لِاعتقادات وتعليلها. ومن هُنا، فالأقرب إلى الصواب ألا يُواجَه أمثالُه إلا بقول الله تعالى: «[...]، تلك أمانيُّهم، قُلْ: هاتُوا بُرهانَكم إنْ كُنتم صادقين!» (البقرة: 111). [email protected]