«يا أيّها الإنسان! ما غَرّك بربِّكَ الكريم، الذي خَلقكَ فسَوّاكَ فعَدَلكَ، في أيِّ صُورةٍ ما شاء ركّبكَ؟!» (الانفطار: 6-8) «لم يَقُل الجسدُ بَعدُ كلمتَه الأخيرة.» (إسپينوزا) «مَنْ يقول: "لديّ جسمٌ"، يُمكن أن يُسأَل: "فمَن يَتكلّمُ هُنا بهذا الفم؟"» (فتغنشتاين، في اليقين، فقرة 244) من أشدّ الأوْهام ٱلتصاقًا بالإنسان ٱعتقادُه أنّه «كائن حُرٌّ تمامًا»، لمجرد أنّه يَشعُر بصُدور أفعاله عن كيانه المُتعيِّن ك«جسد» يبدو أنّ زمامَه لا يَرجع إلا إلى صاحبه الذي يَظُنّ أنّه يَمْلِكه وفقط لِقُدرته على التّصرُّف به وفيه بحسب ما يَشتهي ويختار. لكنْ، هل يَصحّ حقّا أن تُبنَى حُريّةُ الإنسان ٱنطلاقا من كونه ذا جسد يُمكِّنه من الحركة والفعل قصدًا وإنجازًا أمْ أنّ كون الإنسان إنّما «يُعْطَى هذا ٱلجسد» يَقتضي تَجاوُز ظاهر الأمر نحو باطنه بحثًا عن مُقوِّمات الفاعليّة فيما وراء الجسد؟ يبدو أنّ «ٱلحُريّانيِّين»، بصفتهم أولئك الذين يَدْعُون إلى "ٱلحُريّة" كحق إنسانيّ كُليّ ومُطلَق، يُسيئون تقدير أحد الشروط الأساسيّة في "الوضع البشري": ذاك الذي يجعل الإنسان بالضرورة كائنا مُتجسِّدا، بل كائنا مُضطرا إلى أن يُوجد ويفعل بما هو جسد. وفي سوء التقدير هذا يَكمُن النِّسيان الأكبر: يَنسى الإنسان أنّه لا يُعطي إطلاقا جسدَه لنفسه وإنّما «يُعْطى له»، من حيث إنّه لا أحد من النّاس يَلِد نفسَه، بل يُولَد من أبوين فلا يجد نفسه إلا بصفته «قد جِيءَ به إلى العالَم» فأصبح هذا البَشر المُتقوِّم كجسد. فهل «ٱلحُريّانيّة» مُمكنةٌ ما دام كل إنسان يُعطَى جسدَه الذي يجعله بالضرورة جُزءا من هذا العالَم بكل ما يَحكُمه من شُروط وأسباب؟ وكيف يُعقَل أن تُصوِّر «ٱلحُريّانيّة» للنّاس أنّ أحدهم يَملك نفسَه وجسدَه وهو في الواقع لا يَملك إلا أن يكون فاعلا بجسدٍ يُبنَى طبيعيّا وتاريخيّا وٱجتماعيّا خارج إرادته ووعيه؟ نعم، الإنسان ذُو جسد: هذه بَداهة لا يُنكرها عاقل. و«ٱلجسد» - بما هو بِنية عُضويّة ووظيفيّة مُكوّنة مِمّا لا يُحصى من الخلايا والأنسجة، وممّا هو معلوم من الأعضاء والمَفاصل والمَلامح- يبدو للمُنكِر الجاحد أو الغافل مجرد «آلة حيوانيّة». لكنّ الجسد «آية ربانيّة» لدى المُؤمن الشّاهد بالحق كما يَلْمسه بين جَنْبيه والمُذعن لليقين المُتجلِّي في كونه يُخلَق ويُسوَّى ويُنَشّأ ويُتوفّى من دون إرادته وبلا حول أو قوة منه! ومن ثَمّ، إذَا كان «أهل ٱلغِرّة باللّه» يَأبَوْن إلا أن يجعلوا أنفسَهم نِتاج ٱتِّفاق أو مُصادَفة فيُثبتوا أنّ الإنسان كان ظلوما جهولا، فإنّ «أهل ٱلعِزّة باللّه» لا يرون مَحيدًا عن الإقرار ٱبتداءً وٱستمرارًا بأنّهم مخلوقون لبارئٍ قدير ومُنعم شاء أن يُوجِد الإنسان فيَبتليه حتّى يختبر منه سعيه في أن يكون عبدا شكورا أو أن يُصرَف كادِحا كفورا. ومَيْلُ «أهل ٱلغِرّة» إلى تمليك الإنسان نفسَه وجسدَه لا يجعلهم يفعلون شيئا ذا بال أكثر من تأكيد غفلتهم البالِغة عن أُمِّ نقائصهم: يَمتنع على الإنسان أن يكون حُرّا ٱبتداءً وإطلاقًا بالكيفيّة نفسها التي يَمتنع عليه أن يَخلُق نفسَه وأفعالَه وهو الذي لا يكون شيئا وإنّما يُكوَّن وَفْق مَشيئة غيره (غيره الذي هو ربّ العالَمين شُهودا أو أرباب من دونه جُحودا). وهذا الشرط الذي يَرى فيه «ٱلْمُبطِلون» إثباتا للّه ونفيا للإنسان إنّما هُو عين إمكانه الوحيد في هذا العالَم الذي يَسبق الإنسان أصلا ويَتجاوزُه فعلا. وإلا، فمَن هو هذا الشخص الذي «يَنْوجِدُ» طوعَ أمره ولا يُوجد رغم أنفه أو يَملك أن يبقى فلا يُتوفّى إماتةً وٱنتزاعًا؟! من هو ذاك الذي يَتأتّى له أن يَنفكّ عن الضرورة المُلازِمة لوُجوده البشريّ بأن كان جسدا يُثقَّف تنشئةً وتربيةً ويُطبَّع إيلافًا وتَعوُّدًا؟ ومن لم يُوفَّقْ إلى إدراك أنّه «قد ٱستُؤمن على جسده» خَلْقًا وإنعامًا من لدن ربّه، فلا أقل من أن يَتفكَّر في وُجوده الاجتماعيّ فيَستشعر أنّه «قد فُوِّض له أمرُ التّصرُّف في جسده» بحكم أنّه يُعَدّ نِتاجَ 0ستثمار جماعيّ ومَآلَ 0سْتِيداع تاريخيّ يتجاوزان كلاهما شخصه المفرد وفعله المحدود. وبالتالي، فلو ثَبت أنّ الجسد مِلْكٌ لصاحبه، لجاز له قانونيّا وأخلاقيّا أن يَتصرف فيه بكل الوُجوه المُتعارَفة إنسانيّا وٱجتماعيّا التي تَعُود عليه بفائدة أو تكون له فيها مصلحة (بيع، كراء، إعارة، هبة، إلخ.). وفيما وراء ذلك، فالمُؤكَّد أنّ «ٱلجسد» شرطٌ طبيعيّ وٱجتماعيّ للعمل 0عترافا وتعاوُنا، وليس سَندا طارئا للفعل نُكْرانًا وتوحُّدًا. ليست «0لحُريّة»، إذًا، ماهيّةً للإنسان بما هو «جَسديّةٌ أنانيّةٌ»، بل ماهيته على الحقيقة قائمةٌ في هذه «0لعَبْديّة» التي بقدر ما يَتحقّق بها الإنسان ك«أخلاقية غَيْريّة» تَتعيّن حُريّتُه بما هو مخلوق عَمَّالٌ على الانفكاك عن كل ما ٱبْتُلي به تسييرا وأُعطيه تدبيرا، بحيث لا يَتحرّر إلا بقدر ما يَطلُب الخلاص من تملُّك نفسه تمتُّعا ومن التّسيُّد على غيره تَسلُّطا. لذلك، فإنّ من يُعلن أنّه «حُرّ في جسده» صارخا في وجه من يُؤنِّبه باسم الأخلاق أو الأعراف لا يَقول بِدْعًا من الأمر، وإنّما يَفضح سرًّا يَتساوى في جهله مع مُنذِره. إذْ كلاهما عَبْدٌ ل«ضرورة حُرّة» تُحرِّكه قُواها الطبيعيّة وتُنْطقه شهواتُها النفسيّة المُبْتناة ٱجتماعيّا. إنّه في الواقع شخص يَتبجّح علنًا بما لا يَملك، ويدّعي وُجودَ ما لا يعرف. وحالُ شخص كهذا لا يَتميّز عن الحَجَر إذا ٱفْتُرض أنّه صار واعيا، وهو ما أحسن تشخيصَه "إسبينوزا" (1632-1677) حيث يقول: «[...] وٱلآن، تَصوَّرْ، إنْ شئتَ، أنّ ٱلحَجَر، بينما يَستمر في ٱلحركة، يُدْرِك ويَعرف أنّه يَبذُل جُهدا بقدر ما يستطيع لكي يَتحرَّك. فهذا ٱلحجر بالتأكيد، من حيث إنّه يَعِي جُهده وليس غافلًا بأيِّ شكل، سيظنّ أنه حُرّ تماما وأنه لا يستمر في ٱلحركة إلَّا بإرادته. هكذا هي تلك ٱلحرية ٱلإنسانيّة ٱلتي يَتبجّح بها ٱلجميع وٱلتي تتمثّل في أمرٍ واحد هو أن ٱلناس يَعُون شهواتهم ويجهلون ٱلأسباب ٱلتي تَحكمُهم. فالطفل يظنّ أنه يَشتهي ٱلحليب، وٱلصبيّ ٱلغاضب يظنّ أنه يُريد ٱلِانتقام وأنه، إذَا كان جبانا، يُريد ٱلفرار. و[كذلك] فالسكِّير يظنّ أنه يقول بأمرٍ حُرٍّ من نفسه ما كان، وقد عاد إلى رُشده، يُريد أن يَكتُمه. وبالمثل، فإنَّ ٱلهَذَّاء، وٱلثرثار، وآخرين من طينتهما نفسها، يظنّون أنّهم يتصرفون بأمرٍ حُرٍّ من أنفسهم وأنهم لا يَقبَلُون ٱلإكراه. وكونُ هذا ٱلرأي طبيعيّا، أيْ راسخا في فِطْرة كل ٱلناس، يجعل من ٱلصعب عليهم أن يتحرّروا منه بسهولة. وذلك على ٱلرغم من أنّ ٱلتّجربة تُعلِّمنا بأكثر ممّا يكفي أنه إذَا كان ثمّة شيء لا يقدر عليه ٱلناس كثيرا، فهو أن يَتحكّموا في شهواتهم، وأنّهم - على ٱلرغم من أنّهم يُشاهدون أنفسهم مُشتَّتِين بين عاطفتين مُتعارضتين ويرون في معظم ٱلأحيان ٱلأحسنَ ويَفعلون ٱلأسوء- لا يَفتأون يظنّون أنّهم أحرار، وليس هذا إلَّا لأنّ هناك أشياء لا تُثير فيهم سوى شهوة ضعيفةٍ، من ٱلسهل ٱلتحكُّم فيها بفعل ما يُنبِّهُهم إليه باستمرار تَذَكُّرُ شيء آخر.» (إسبينوزا، الرسالة 58). إنّ كون المُتديِّن تَسلُّفًا يُؤمن بأنّ ٱللّه يُحيط، من خلال مُطلَقِ علمه وإرادته وقُدرته، بالعالَم يجعله لا يَتصوّر حُريّة الإنسان إلا بما هي تَجلٍّ مُتنزِّل ومُباشر لأمر ٱللّه قضاءً وقدرًا ؛ في حين أن مُدَّعِي "ٱلعَلْمانيّة" تطرُّفًا لا يرى في ذلك الأمر إلا إبطالا فعليّا لحُريّة الإنسان إلى الحدّ الذي قد لا يتردد معه في تعطيل الدِّين شريعةً أو إنكار الألوهيّة أصلا. لكنْ لا أحد من الاثنين بقادر على إنكار أنّ الإنسان - بما هو أحد الكائنات الطبيعيّة- واقعٌ ضمن «نظام الطبيعة» في خُضوعه للضرورة. فالإنسان، هو أيضا، له طبيعته الخاصة سواء بما هو بدنٌ أو بما هو نفسٌ، مِمّا يقتضي أنّه لا مَفَرَّ له من 0متثال ما تُمْلِيه عليه طبيعتُه على نحو ضروريّ. وإذا كان النّاس لا يفتأون يَدَّعُون أنّهم أحرار في أفعالهم كما لو كانوا يَتمتّعون بإرادةٍ حُرّة تُمَكِّنُهم من الاختيار والإنجاز، فليس هذا في الواقع سوى نوع من الحُكْم المُسبق والمُرسَل الذي يدل في الحقيقة على جهلهم بالأسباب الخفيّة التي يخضعون لها بشكل ضروريّ، ذلك الجهل الذي يُقَوِّيه في نُفوسهم وعيُهم بأفعالهم ورغباتهم من جهة صُدورها عن ذواتهم. لا وُجود، إذًا، للحُريّة بمعنى «الانفكاك عن كل القُيود والأسباب»، وإنّما هناك «ضرورة حُرّة» تجعل النّاس يُوجَدون ويَتصرفون بصورة مُحَدَّدة، أيْ ضروريّة على النحو الذي يَستلزم ألا يكون ثمّة تحرر إلا على أساس «التّعامُل مع الضرورة» بمعرفتها تعقُّلا ومُواجَهتها حكمةً. ولهذا، يَعُود "إسپينوزا" ليُؤكِّد أنّ «الإنسان، الذي يَقُوده العقل، يكون حرّا في المدينة حيث يَعيش وَفْق الأمر المُشترَك، بخِلاف الذي يكون مُنْعزلًا فلا يُطيع سوى نفسه.» (الأخلاق، القضية 73). ذلك بأنّ الإنسان الذي يَقُوده العقل كأمر مُشترَك لا يكون الخوف هو الذي يجعله يقبل الخضوع، وإنّما لأنّه يرغب – بفعل ٱجتهاده في حفظ وُجوده ٱمتثالا لأمر العقل ولكي يحيى حُرّا- في ٱتِّباع قاعدةِ الحياة والمنفعة المُشتركتين والعيش، من ثَمّ، وَفْق الأمر المُشترَك لنِظام المدينة/المُجتمع. فالإنسان، بما هو رغبة، لا يكون حُرًّا في ٱنقياده لطبيعته الخاصة كما يتوهم "ٱلحُريّانيّون"، بل يكون خاضعا حتما للضرورة الطبيعيّة التي تَتعزّز بضرورة ٱجتماعيّة تُضاعفها وتَستديمُها. وبالتالي، فإن حريّة الإنسان الحقيقيّة لا تتم إلَّا على أساس ٱمتثاله لِأمر العقل كما تُجسِّده القوانين المُشترَكة في "المجتمع المدنيّ" حيث يَعيش بحُريّةٍ فلا يخضع لرغباته الطبيعيّة ولَا لرغبات غيره (وكلتاهما تُهدِّد حياته ومنفعته في النهاية)، وإنّما يُوجد ويَتصرف بحسب ما يُمْلِيه عليه «أمر العقل» 0لتزاما خُلقيّا وإلزاما قانونيّا في إطار «دولة راشدة» يَحكُمها العدلُ مُساواةً بين المُواطنين وإنصافًا للمَحرُومين والمحظوظين. وإذَا كان لا مَناص من جعل حريّة الإنسان غير مُمكنة إلَّا نتيجةَ سعيه لتعقُّل وتعقيل «الضرورة الحرة» التي تَحْكُمه ككائن طبيعيّ وٱجتماعيّ، فإنّ الميل إلى ٱعتبار الحريّة ماهيّةً أصليّةً للإنسان يَقُود إلى توهُّم أنّ وُجودَه في هذا العالَم لا يقوم إلَّا بصفته الكائن الذي تَتحدّد رغبتُه الأساسيّة في أن يكون إلَاهًا، من حيث إنّه لَا يَملك أن يكون فاعلًا إلَّا إذا كان هو نفسه أساس وأصل وُجوده الذي يُلَازِمُه ٱختيارُه الخالقُ لنفسه، وذلك لكونه - كما يَظنّ "ٱلحُريّانيُّون"- ليس شيئا آخر سوى ما يَصنع بنفسه وبأمره الحُرّ والتلقائيّ. ولا يخفى أن تصوُّر الإنسان كفاعليّة حُرة في خضم واقع مَليء بالإكرهات والحتميّات يُروِاح بين نُزوع إلى «تأليه الطبيعة» تَدْهيرًا وبين نُزوع إلى «تأليه الإنسان» تَسْييدا. ولا يُنظر إلى هذا النزوع الثاني كانقلاب جذريّ في التاريخ البشري إلا لأنّه ٱنتقال يُؤسِّس "المركزيّة الإنسانيّة" بالجمع بين "ٱلتّدْهير" و"ٱلتّسْييد" كرُكنين أساسيين في مشروع الحداثة منذ عصر الأنوار. لكنّ هذا المشروع، الذي ما فتئ يُعزِّز الإيمان بالحُريانيّة عقلانيةً وعَلْمانيّةً، لم يُفْلِح في أن يضمن لسيرورة "ٱلتّنْوير" و"ٱلتحرير" قياما واقعيّا وموضوعيّا يُجَنِّب «الإنسان-الإِله» الارتكاس إلى وضع «الإنسان-العبد» من جرّاء خضوعه ل"الضرورة الحرة" المُرتبطة بِشُروط "وضعه البشريّ" في هذا العالَم الذي كان يَتجاوزُه طبيعيّا وصار يَستعبده صناعيّا وتقنيّا إلى الحدّ الذي يَمْلِكُ معه أن يُزيحه عن رُتبته فيه رغم إرادته وتصميمه فيُلْقِي به، من ثَمّ، دون وُجوده عَدَمًا كَأَنْ لم يكن شيئا! إنّ التّفكير المنهجيّ في الجسد وٱستعمالاته يقود إلى ٱكتشاف أنّ جَسديّة الإنسان لا تُحيل فقط إلى التّعالِي الطبيعيّ لوُجوده، وإنّما أيضا إلى الوعي بنوع آخر من التّعالِي ٱلِاجتماعيّ والتاريخيّ الذي يُلازِم فاعليّة الإنسان في صيرورتها جسدًا. ومن هُنا، فإنّ الحريّة ليست كِيانًا مُتعاليًا على شُروط الوُجود في هذا العالَم، بل هي بالأحرى بِناءٌ مُحدَّد تاريخيّا وٱجتماعيّا. ولأنّ الحُريّة تعامُل معقول مع إكراهات الضرورة وأسبابها، فإنّ طرح إشكالها بالتّركيز على الاستعمال الجنسيّ للجسد وبإغفال الشروط الموضوعيّة لأيِّ تحرُّر مُمكن ليُعَدّ تضليلا يَصُبّ إمّا في ٱتِّجاه "حُريّانيّة" واهمة (التّسيُّب العَلْمانيّ) وإمّا في ٱتِّجاه "حَتْمانيّة" سالِبة (التّطرُّف الإسلامانيّ)، وكلاهما ٱتِّجاهان يَخدُمان بالأساس "ٱلطُّغيانيّة" السائدة ويُبْعدان، من ثَمّ، عن خوض معركة "ٱلتّحرير" الحقيقيّة التي لا سبيل إليها إلا بالانخراط في غِمار "ٱلتّرشيد" تعقيلا وتأسيسا. ولأنّ طرحَ مُشكلة الحُريّة على ذلك النّحو لا يعدو التّضليل، فهذا ما يَستدعي تجاوُز فضحه نحو إقامة الوعي بالشروط الحقيقيّة الكفيلة بجعل "ٱلتّحرير" مُواجَهةً فعليّةً لإكراهات الضرورة، مُواجَهة تُخاض واقعيّا وتُنجَز جماعيّا باعتبارها «مُغالَبةً في ٱلجُهد ٱلعُمْرانيّ» وليس «مُنازَلةً في ٱلنَّقْض ٱلعبثيّ». هكذا نَتبيّن أنّ المرء يُفْلِت منه جسدُه مَرّتين: من حيث إنّه يُولَد به فطرةً وطبْعًا، ومن حيث إنّه يُنَشّأ به على عوائد مُحدَّدة ٱجتماعيّا وتاريخيّا وثقافيّا إلى الحدِّ الذي يَجعل كل شيء في عالمه يعمل على إيهامه بأنّه موجودٌ وفاعلٌ «فوق الطبيعة والمجتمع والتاريخ». وفي المدى الذي يَتوهَّم «أهل ٱلغِرّة» أنّ تحققُّهم بالحريّة يكون بامتلاك الجسد تمتُّعًا إباحيّا وتسيُّبا أخلاقيّا، فإنّهم لا يكتفون فقط بإظهار جهلهم بمدى ٱستلابهم المُضاعَف، بل يُؤكِّدون بالغ عَمايتهم عن المُقتضَى الأساسيّ للوضع البشريّ المُتمثل في أنّ "ٱلحُريّة" تعامُل مع إكراهات الضرورة الطبيعيّة والاجتماعيّة على النحو الذي يجعل الفاعليّة الإنسانيّة لا تَكفُل التّحرّر إلا بما هي معقوليّة مُحدّدة موضوعيّا ونِسبيّا ومسؤوليّة مشروطة أخلاقيّا وقانونيّا. فليست "0لحُريّة" أن تَدّعي الفعل بأمرك الحُرّ كأنّك تَمْلِك جسدك أوْ أن تتظاهر بالعمل تزكِّيًا كأنّك بلا جسد، بل هي أن تُحْسِنَ السعيَ مُكابَدةً ومُجاهَدةً. وأنّى لمن غاب عنه سِرُّ العَطاء في جسده وحكمةُ البلاء في فعله أن يُدرك أنّه لا سبيل إلى البناء في عمله إلا بالتّعبُّد إحسانًا في العمل وبالتخلُّق مُعاملةً بالحُسنى.