كثيرًا ما يُؤسَّس تَفرُّد "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" على كونه لسانَ "ٱلوحي" (ٱلإلاهيِّ) كما هو في "ٱلقرآن ٱلكريم". ولا يَخفى أنَّ ربطَ "ٱلعربيّة" ب"ٱلوحي" يَكفِي لدى كثيرٍ من "أهل ٱلغِرَّة" -مِمَّن ٱستقرّ في نُفوسهم أنَّ "ٱلوحيَ" يُساوِي "ٱللَّاعقل"- لِردِّ أيِّ قولٍ يبتغي ٱلِاستدلال على تميُّزها كلُغةٍ من هذه ٱلناحية. ذلك بأنَّ قَبُولَ ٱلِاعتقاد بأنَّ "ٱلعقلَ" مُستقلٌّ بذاته، على النحو الذي يَستبعد كل تدخُّل غير بشري، يَقُود إلى ٱعتبار ذلك الربط طريقةً ساذجةً وسخيفةً لإثبات مشروعيّة "ٱلعربيّة"، من حيث إنّه ليس -فيما يَظُنّه أصحابُ هذا ٱلِاعتقاد- سوى ٱستنجادٍ بإحدى أبرز حُجَج السلطان ("ٱلله" ككائنٍ خارق للطبيعة) و، من ثم، يبدو لهم أنَّ النَّظر إلى "العربيّة" في صلتها ب"ٱلوحي" عملٌ يبتغي فقط جَلْب "ٱلتقديس" لِما يتحدَّد، بالضرورة، كنِتاجٍ بَشريٍّ لا يَنْفكُّ بالمرة عن "ٱلتدنيس". ومن أجل ذلك، فإنّ "أهل ٱلغِرّة" ما يَكادون يَتلقَّون القول بصلة "ٱللِّسان العربيِّ" بلُغة "ٱلوحي" -كما هي بالخصوص في "ٱلقرآن ٱلكريم"- حتى يُهْرعوا إلى ٱستنزال صاحبه (أو أصحابه) موضع من تَمكَّن منه الجهل وٱستولت عليه الخُرافة، فصار أبعدَ الناس عن مقتضيات "ٱلعقل" المشتركة. ولذا، فإنَّ أدعياء التنوير تعاقُلًا لا يَتوانون عن وَصْمِ كُلِّ حِرْصٍ على ربط "ٱلعربيّةِ" بالوحي بأنّه لا يعدو أنْ يكون مُجرَّدَ تضليلٍ من قِبَل أُناس أَعْيَتْهُم ٱلحِيَلُ في سعيهم إلى تسويغ ما يعتقدون من دَجْلٍ! تُرى، هل ربط "ٱلعربيّة" ب"ٱلوحي" لا يَقبل أيَّ تعليلٍ عقليٍّ كما يُردِّد ٱلمُبطِلُون؟ إنّه من الشائع أنْ يُنظَر إلى "ٱلوحي" في تعارُضه الجذري مع "العقل"، حيث إنّ "ٱلوحيَ" في ٱلِاعتقاد السائد قائمٌ حصرًا على "ٱلإيمان" كتصديقٍ وتسليمٍ يَحصُلان خارج كل ٱرتيابٍ أو تردُّدٍ أو مُراجَعةٍ ؛ مِمّا يَجعلُ "أهلَ ٱلغِرَّة" -في المُقابل- يرون أنَّ "ٱلعقل" يتحدَّد ك"تفعيلٍ" مُطلَقٍ لأدواتِ "ٱلتشكيك" وآلياتِ "ٱلتكذيب" ("ٱلشك ٱلجِذْريّ")، تمامًا كما لو أنَّ "ٱلعقلَ" -بصفته فِعلًا بَشريًّا- قائمٌ بنفسه ومُكتفٍ بذاته فلا يحتاج مُطلقًا ليتأسَّس على أيِّ شيءٍ من "ٱلإيمان"، حتّى لو كان "ٱلإيمانَ" بقيمته نفسها! وإِنْ تعجبْ، فعَجبٌ من أنَّ "أهل ٱلغِرَّة" هؤلاء -في هُروبهم من "ٱلوحي" المُفارِق والمُتعالِي الذي يقول به "أهل ٱلدين"- لا يَجِدون، رغم ذلك، أيَّ حرجٍ في قَبُول ذلك النوع الآخَر من "ٱلوحي" المُلازِم وٱلمُتنزِّل لكل تجليّات "ٱلعقل" -في "ٱلمجتمع" و"ٱلتاريخ" و"ٱلثقافة" و"ٱلعلم"-، تجليّاته ٱلمُلْهِمة وٱلمُلْزِمة! لكنَّ "ٱلعقلَ" لا يَملِكُ، في ٱلواقع، أنْ يُؤسِّس نفسَه بنفسه في ٱستقلالٍ تامٍّ عمّا دُونه (من "ٱللَّاعقل") أو فوقه (من "ٱللَّامعقول"). ف"ٱلعقلُ ٱلخالِص" أُسطورةٌ تُعَدُّ، هي نفسها، غيرَ خالصةٍ من "ٱللاعقل" ولا مُخْلِصة ل"ٱلعقل" كعملٍ بَشريٍّ مُحدَّدٍ ومَحدودٍ! ومن هنا، فلا عقلَ إلا مُؤسَّس من الناحية التداوليّة، أيْ بالنسبة إلى مجموع الشروط ٱلِاجتماعيّة والتاريخيّة والثقافيّة بكل ما يَطبعها من تعدُّدٍ وتغيُّرٍ وتفاوُتٍ. إِذْ حتّى الجانب الطبيعيّ في "ٱلعقل" (كقُدرة ذهنيّة) لا يَتحدَّد شكلُه ولا يُفعَّل نشاطُه إلا بالنسبة إلى مجموع الشروط التي تُحدِّد، تاريخيًّا وٱجتماعيًّا، الوجودَ والفعلَ البشريَّيْن. أفلا يكون "ٱلوحيُ"، سواء أَعُدَّ ربانيًّا أم شيطانيًّا أم إنسانيًّا، داخلًا ضمن مجموع تلك الشروط المُؤسِّسة ٱجتماعيًّا وتاريخيًّا للعقل؟ إنَّ "ٱلوحيَ" يَتحدَّد، بالأساس، ك"إلهامٍ" يُلْقَى سريعًا و/أو ثَقِيلا في رُوعِ أو قلب ٱلمُوحى إليه («نَزَل به الرُّوحُ الأمينُ على قلبك لِتَكُون من المُنذِرين»، [الشعراء: 193] ؛ «إنا سنُلْقِي عليك قولا ثقيلا»، [المُزَّمِّل: 5]). لكنَّه، أيضا، "كتابةٌ" نُورانيّةٌ على فُؤاد المُصطفى، كتابةٌ تُقرأ فلا تُنسى (الأعلى: 6). ومن حيث إنَّ "ٱلوحيَ" يَتمثَّل في إِلهامٍ خفيٍّ وكتابةٍ جَلِيّةٍ، فإنّه حينما يُلابِس لِسانَ البشر يَصِيرُ رُوحًا تُحيي النفوسَ وقُوّةً تُنهِض ٱلْهِمَمَ. وإِنَّ إرادةَ الإمساك ب"ٱلتَّعالِي" المُلازِم للوحي بحصره فقط في "ٱلتنزُّل" -كما يَتجلَّى في مجموع الشروطِ المُحدَّدةِ تاريخيًّا وٱجتماعيًّا وثقافيًّا والمُلازِمةِ للوجودِ والفعلِ البشريَّيْن- هو الذي يَجعلُ "أهلَ ٱلغِرَّة" لا يَستطيعون أنْ يُفسِّروا "ٱلوحيَ" إلا بِردِّه ٱختزالًا إلى أسبابٍ مَشهودةٍ على مستوى ٱلتَّجرِبَة البشرية في تعيُّنها الضروريّ وٱلنِّسْبِيّ. ولهذا، تَراهُم يَميلون إلى ٱستبعاد أيِّ تدخُّلٍ فوق-بشريّ في صيرورة التاريخ وسيرورةِ المجتمع، فلا يَقْبَلُون -من ثَمّ- إلا ذلك "ٱلتّعالِي ٱلمُتنزِّل" في السببيّة التاريخيّة وٱلِاجتماعية وٱلمُعلَّل في حدود "ٱلمعقوليّة" ٱلمُدرَكة بشريًّا وٱلمنفتحة تجربيًّا وعمليًّا. لكِنَّ نَفْيَ "ٱلوحي"، بما هو تَعالٍ محض يتجاوز ما هو بشريّ، يُعَدُّ مُمتنِعًا من الناحيتين الوجوديّة والمعرفيّة، لأنّه نفيٌ يَخْرِق محدوديّة الوجود البشريّ ٱستكبارًا ولا يَخْرِم عُقدةَ ٱلتَّناهِي في علوم الإنسان إلا تعالُمًا. وبفعل ٱمتناع ٱلبتّ وجوديًّا ومعرفيًّا في حقيقة تعالِي "ٱلوحي" من دون ردّه إلى نوعِ "ٱلتعالِي" المُعلَّل ٱختزالا في حُدود الشروط التاريخيّة وٱلِاجتماعيّة، فإنَّ ٱلإيمان ب"ٱلوحي" في تعالِيه الإلاهيّ وتنزُّله البشريّ ليس أقلَّ مَعقوليّةً من ذلك الجُحود الذي يتعاطاه "أهلُ ٱلغِرّة" بتعدٍّ مفضوحٍ للحُدود المُلازِمة وجوديًّا ومعرفيًّا للفعل البشريّ في هذا العالَم. ومن هنا، ف"ٱلعقل"، في نهاية المطاف، ليس سوى تعبيرٍ عن "وحيٍ" يُدرَكُ -جُحودًا وٱختزالًا- بصفته مُلازِمًا ومُتنزِّلا أو يُعْرَف -شُهودًا وتنزيهًا- باعتباره مُفارِقًا ومُتعالِيًا. ولذلك، فإنَّ تناوُل "ٱلعربيّة" في صلتها بالوحي الإلاهي، كما هو في "ٱلقرآن ٱلكريم" و"ٱلسنة النبويّة"، ليس ضربًا ساذجًا من التخريج الفكريّ أو شكلا مَنقوصًا من الخطاب اللاعقليّ كما يَظُنّ "أهلُ ٱلغِرّة" مِمَّن يُسارِعون إلى رفع شعار "ٱلتنوير ٱلعقلانيّ" في وجه كل حديث يَتَّصل من قريب أو بعيد بالوحي، بل إنّه ليُعدُّ عملا أرسخ في الأخذ بأسانيد "ٱلعقل" وأوثق في ٱلِاستناد إلى أسباب "ٱلواقع" مِمَّا يَزعُمه عادةً أولئك المُبْطلِون في حرصهم ٱلْمُقيم على "ٱلعقلانيّة" تطاوُلا أو ٱدِّعاهم ٱلْمُريب ل"ٱلتنوير" تعالُمًا. وبما أنَّه من ٱلمُسلَّمِ -على الأقل بين المسلمين- أنَّ "ٱلقرآنَ" قد أُنْزِل «بلسانٍ عربيّ مُبينٍ» ([الشعراء: 195] ؛ [النحل: 103] ؛ [يوسف: 2] ؛ [طه: 113] ؛ [الزُّمَر: 28] ؛ [فُصِّلَت: 3] ؛ [الشورى: 7] ؛ [الزُّخْرف: 3] ؛ [الأحقاف: 12])، فإنَّ كونَ "ٱللِّسان العربيِّ" لسانَ هذا الوحي الخاتم يَقتضي أنَّ له خُصوصيّةً أهَّلَته، من دون كل الألسن، ليكون كذلك. حقًّا، إنَّ ٱللهَ ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه ليُبيِّن لهم (إبراهيم: 4). وكذلك كان الأمرُ بالنسبة إلى "محمد بن عبد الله" (صلى الله عليه وسلم). غير أنَّ محمدًا كان خاتم النبيِّين وسيِّد المُرسَلين (الأحزاب: 40)، أرسله ٱللهُ بشيرًا ونذيرًا بلسانٍ عربيٍّ مُبِين للناس كافّةً، فكان رحمةً للعالمين. أفلا يكون لسانُ هذا النبيّ لسانًا عالميًّا أنْ جعله اللهُ لسانَ وحيه الخاتم الذي بُعِث به سيِّدُ ولد آدم أجمعين؟! إنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ"، الذي ٱصُطفِي لسانًا مُبينًا لتبليغ الوحي الخاتم، ليس مجردَ لسانٍ قوميٍّ كما يَظُنُّ كثيرون، وإنّما هو صَفْوةُ لُغاتٍ أُريد لها أنْ تُيِّسر نقلَ "الذكر الحكيم" إلى كُلِّ الناس (صلة "العربيّة" بجملة من أقدم الألسن، مثل "الأكاديّ" و"السنسكريتي" و"اليوناني" و"اللاتيني"، أمرٌ ثابتٌ لا يحتاج إلى مزيدِ بيانٍ). وعلى هذا النحو تَظهر حقيقةُ "العربيّة" في ٱلقرآن، ليس فقط بصفته وحيًا أُنْزِل «بلسانٍ عربيٍّ مُبين»، بل أيضًا لأنَّه «[...] كتابٌ مُصدِّقٌ لسانًا عربيًّا، [...]» (الأحقاف: 12). ومن ثَمّ، فإنَّ "ٱلقرآنَ ٱلكريمَ" -بما هو رُوحٌ باعِثٌ دومًا للحياة في قلوب المؤمنين بنُور الهُدى («وكذلك أوحينا إليك رُوحًا من أمرنا، ما كُنتَ تدري ما الكتاب ولا الإيمان. ولكنْ جعلناه نورًا نَهدي به من نشاء من عبادنا. وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم.»، [الشورى: 52])- يُعدّ، بالأساس، عامِلا على تفصيح اللغة وتحسين الألسن وتعليم البيان. وكونُ ٱلله تعالى قد تكفّل -وهو العزيز الجبّار- بحفظ "ٱلقرآن" ذِكْرًا موصولا («إنّا نحن نزّلنا ٱلذِّكر، وإنّا له لحافظون»، [الحِجْر: 9])، فإنّه أمرٌ يَلْزَمُ منه أنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" قد شَمِله الحِفْظُ الإلاهِيُّ في صلته بالقرآن الكريم، ذلك الروح المحفوظ ذِكْرًا للعالَمين وٱلمُتجدِّد ترتيلا بألسنةِ وفي قلوب المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين. ولذلك، فإنَّ كونَ "ٱللِّسان ٱلعربيّ" قد صار، مع خاتم الأنبياء والرسل، مآلَ الوحي الإلاهي يَجعلُه لسانًا يُغْنِي -بهذا الخصوص- عن غيره من الألسن التي تصير كُلُّها متوقفةً عليه لبُلوغ المُراد الإلاهي في الوحي الخاتم، بحيث لا واحدَ منها يُمكنه -بالتالي- أنْ يُغْنِي عن "ٱللِّسان ٱلعربيّ". ذلك بأنَّ المرءَ إذا أحْكَم "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" فإنّه لا يخشى أنْ يَفُوتَه، من الناحية اللغويّة، شيءٌ من المُراد الإلاهيّ، حتّى لو قُدِّر له ألَّا يَعرف أيَّ لسانٍ غيره لكان كافيًا له لاشتماله على جِماع رسالة الإسلام التي بإدراك حقيقتها يرتبط تمامُ عمله إخلاصًا وصلاحًا. ولأنّ بُلوغَ هذه الحقيقة يتوقف -ٱبتداءً وأساسًا- على إجادة "ٱللِّسان ٱلعربيّ"، فقد صارت العنايةُ بالعربيّةِ وعُلومها واجبًا على كُلِّ مُسلمٍ يَحرص على إقامة دينه. ومن هنا، كان ذلك الِاهتمامُ الكبير باللسان العربي من قِبَل كثيرٍ من المُتعرِّبين إلى الحدّ الذي صاروا يَبُزّون العربَ أنفسَهم في العلم بلسانهم! كذلك تتجلّى حقيقةُ "ٱلقرآن ٱلكريم" بصفته الوحيَ الإلهيَّ الخاتم الذي ٱصْطُفِيَ له "ٱللسانُ ٱلعربيُّ" وسيطًا لُغويًّا ناقلا ومُتناقَلا بين الناس إلى يوم يُبعَثُون. وتَجلِّي هذه الحقيقة هو الذي جعل المُتعرِّبين من أمثال "سيبويه" (ت 180 ه) و"الأخفش الأكبر" (ت 177 ه) و"الكسائي" (ت 189 ه) و"الفرّاء" (ت 207 ه) و"الأخفش الأوسط" (ت 211 ه) و"الزَّجّاجي" (ت 340 ه) و"أبي علي الفارسي" (ت 377 ه) و"ابن جِنّي" (ت 392 ه) و"عبد القاهر الجُرجاني" (ت 471 ه) و"الزمخشري" (ت 538 ه) و"عيسى الجزولي" (ت 607 ه) و"ابن أجرُّوم الصنهاجي" (ت 723ه/1323م) و"محمد المختار السوسي" (ت 1383ه/1963م) يُعْنَون بحفظ "العربيّة" والتبحُّر في عُلومها والتفنُّن في ٱستعمالها إلى أبعدِ حدٍّ ممكن كما تَشهدُ به أعمالُهم. ولقد فعلوا ذلك لإيمانهم بأنّها لُغةُ "ٱلوحي ٱلخاتم" في هذا "ٱلدين ٱلأتمّ". ولقد فعلوه -بخلاف ما يتراءى لظُنون المُبْطِلين- على غرار ما سبقهم إليه العربُ من أمثال "أبي الأسود الدُّؤلي" (ت 69 ه) و"نَصْرٍ بن عاصم الليثي" (ت 89 ه) و"ٱبن أبي إسحاق الحضرمي" (ت 117 ه) و"يحيى بن يَعْمر العَدْواني" (ت 129 ه) و"أبي عَمْرٍو ٱبن العلاء" (ت 154 ه) و"الخليل بن أحمد الفراهيدي" (ت 175 ه) الذين أَرْسَوا أُصول فقه "ٱلعربيّة" في صلتها الوُثْقَى بالذكر الحكيم. لقد ٱقتضت الإرادةُ الإلاهيّةُ أنْ يكون الوحيُ الخاتمُ «بلسانٍ عربيٍّ مُبِينٍ». وإنّ في هذا لآيةً لقوم يتفكَّرون. فأنْ يُنزَّل الوحيُ خَتْمًا بهذا ٱللِّسان، ليس مجرد تواتُر لسنّة ٱلله في جعل رُسُله يُبلِّغون كلماته بألسن أقوامهم (إبراهيم: 4)، وليس أمرًا عاديًّا ضمن كون ٱختلاف الألسن والألوان آيةً دالّةً على حِكْمة الله في خَلْقه (الروم: 22)، وإنَّما هو ٱصطفاءٌ للِسانٍ مُصدِّق للألسن التي سبق بها الوحي ومُهيمِنٍ عليها («الله أعلمُ حيث يجعل رسالتَه [...]»، [الأنعام: 124])، لسانٌ هو جِماع تُراث النبوّة منذ أول النبيِّين. أليس "ٱللِّسانُ ٱلعربيُّ" لِسانًا تجتمع فيه صَفْوةُ ألسن شتى؟! فكيف يُقبَلُ ختمُ الوحي مع سيِّد المُرسَلين بقرآنٍ مُصدِّق لما بين يديه ومُهيمِنٍ عليه ولا يُقبَل، في الوقت نفسه، أنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" -لكونه لسانَ هذا الوحي الخاتم- كان، من دون كل الألسن، أجدر لسانٍ بتبليغ مُرادِ ربِّ العالمين إلى عباده من كل الناطقين؟! بل كيف يُعقَلُ أنْ يكون ثمة وحيٌ إلاهيٌّ يُعدّ وحيًا خاتمًا للعالَمين من دون أنْ يكون اللسانُ المُصطفى لنقله لسانًا قد بَلَغ غاية الشرف أنْ ٱستحق أنْ يُلابسه الكلامُ الإلاهيُّ في تعالِيه الأقصى ولَاتَناهِيه المُطلق؟! وهكذا، إذا ثَبَت أنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" قد ٱصْطُفي ليكون لسانَ الوحي الخاتم، أفلا يُمْكِن أنْ يكون لسانَ أهل الجنّة من المُنعَم عليهم في المدى الذي حُكِي في "ٱلقرآن" نفسه شيءٌ من كلام أهل الآخِرة؟! أليس، أوَّلًا، لسانَ الوحي الخاتم؟! أليس، ثانيا، لسانَ خاتم الأنبياء وسيِّد المُرسلين صاحب الشفاعة الكُبرى وأكثر الرُّسل أَتْباعًا؟! أليس، ثالثا، لسانَ التعبُّد لأمّة المسلمين التي يُناهز عددُها الآن مليارا ونصف مليار؟! أليس، رابعا، لسان حَفَظة "ٱلقرآن ٱلكريم" مِمَّن سيُقال لأحدهم يوم القيامة «ٱقْرأْ وٱرْتَقِ، ورتِّل كما كُنت تُرتِّل في الدنيا، فإنَّ منزلتك عند آخر آيةٍ تقرؤها!» كما يُبشِّر ويَعِد الحديث المعروف ("أبو داود" و"الترمذي" و"النسائي" و"أحمد")؟! أليس، أخيرًا، لسانَ أهل الجنّة كما ورد في الأثر الذي رواه "الطبراني" و"الحاكم" و"البيهقي" وغيرُهم؟! فكيف، إذًا، يَستكْثِر الجاحدون على ٱلله -وهو ربّ العالمين الذي أنطق كُلَّ شيء وعلَّم الإنسان البيان!- أنْ يجعل هذا اللسان لسانَ أهل الجنّة الذين سيكون عددُهم، لا محالة، أكبر بين أتباع خاتم النبيين، محمد بن عبد الله، النبيّ العربيّ والنبيّ الأميّ الذي أقرأه اللهُ وحيًا وآتاه الكتابَ والحكمةَ قرآنًا عربيًّا لقوم يعقلون؟! ولَنِعْم ٱلخَتْمُ أنْ يكون ختمًا بالإشارة إلى "ٱلقرآن" كما وُصِفَ في الآيتين الكريمتين: ﴿إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًّا، لعلَّكم تعقلون﴾ [يوسف: 2]، و﴿إنّا جعلناه قرآنًا عربيًّا، لعلَّكم تعقلون﴾ [الزخرف: 3]. ففحوى هاتين الآيتين أن تنزيل "ٱلقرآن" باللسان العربي قد جُعِل لحكمةٍ يُرْجى (أو يُتوقَّع) منها أنْ يَعْقِل المُخاطَبُون به من الناس، فربُّهم شاء أنْ يكون ثمة نمط من "ٱلعقل" مُلازِم لهذا "ٱلقرآن" بما هو ذِكْرٌ فُصِّلت آياتُه بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ ؛ بل إنّه ﴿كتابٌ فُصِّلت آياته قرآنًا عربيًّا لقوم يَعلمون﴾ [فُصِّلت: 3]، بل إنّه أمرُ ٱلله قد أُنْزِل "حُكْمًا عربيًّا" ﴿وكذلك أنزلناه حُكْمًا عربيًّا﴾ [الرعد: 37] ! وما "ٱلحُكْمُ"، هنا، إلا ذلك النمط من "ٱلعقل" الذي يَكُفُّ "ٱلأهواءَ" والذي صُرِّف بلسانٍ عربيٍّ ليكون ذِكْرًا يُتلَى وعلمًا يُؤتَى لأنّ خاتمَ النبيِّين بُعِث في الأميِّين ليُعلِّمهم "ٱلكتاب" و"ٱلحكمة" (وردا مقترنين في أكثر من آية)! إنَّ صلةَ "ٱلعربيّة" بالوحي حقٌّ مُبينٌ لقومٍ يُؤمنون. وإنَّها لصلةٌ تَعلُو بهذه اللغة فتجعلُها حقًّا "سيِّدة ٱللُّغات" أنْ كانت مآل الوحي الخاتم في كتاب ٱلله الذي أُنْزِل قُرآنا عربيًّا مُهيمِنًا على ما سواه، وفي دين ٱلله الذي أُرِيدَ له أنْ يَظهر على الدِّين كلِّه، ولو كره الكافرون. وإنَّه لحقٌّ ظاهرٌ لا يَجْحَدُ به إلا المُبْطِلُون. ومِنْ هذا الجُحود أنْ يُرادَ فصلُ "ٱلعربيّة" عن "ٱلوحي ٱلخاتم" لِقطعها عن "ٱلإسلام" (بل لقطع ٱلمسلمين عنها) وسعيًا لإبعاد الناس عن المصدر الأصلي والمنبع الحقيقي لهذا الدين الذي كان ولا يزال (وسيبقى بإذن الله) مصدرَ إلهامٍ ومبعثَ إقدامٍ للصادقين في طلب الحق وٱلِانتصار له. وإِنَّ المُبطِلين من "أهل ٱلغِرَّة" ما فَتِئُوا يُوحُون بوحيٍ شيطانِيٍّ أنَّ "ٱلعربيّةَ" لا صلةَ لها بالوحي الإلاهي وأنها لا تختص بالإسلام و، من ثم، لا تَشْرُف ولا تسمو على أيِّ لُغةٍ أخرى، سواء أكانت عاميّةً أم أعجميّةً، كما يَفْتَرون. وعن ذلك الوحي الشيطانيّ تَصدُر الدعوات إلى التمكين للعاميّات وتَقُوم المُحاولات لاستبدال هذه اللغة الأعجميّة أو تلك بالعربيّة. وإنّه لوحيٌ شيطانيٌّ ذاك الذي يُردِّد أنَّ "ٱلإسلامَ" يَقْبَل أنْ يُؤخَذ بإطلاقٍ من دون توسُّط "ٱلعربيّة" ٱلمُبارَك، وإنَّه لوحيٌ خبيثٌ يَعْلَم أصحابُه عِلْمَ اليقين أنَّ "ٱللِّسانَ ٱلعربيَّ" كان ولا يزال الوسيطَ الضروريَّ لبُلُوغ الوحي الخاتم في أحسن صُورةٍ بيانيّةٍ أمكن أنْ يتجلّى بها لسانٌ بشريٌّ كلسانٍ مُبِينٍ غير ذي عِوَج! ولهذا السبب تَراهُم لا يَمَلُّون من ٱلتهجُّم على "ٱلعربيّة" والدعوة إلى ٱطِّراحها وإماتتها، عساهم يُفْلِحون في تعجيم الألسن حتى يَصعُب على أصحابها بُلوغُ الوحي الخاتم في قُوَّته المُنهِضة وتجدُّده المُحيِي. وإنّهم، بذلك، ليَمْكُرونَ مكرًا سيِّئًا بالعربيّة في صلتها الوُثقى بالإسلام. فطُوبَى لِمن وُفِّق إلى إجادة هذه ٱللغة ٱلشريفة وخدمتها لُغةً لكتابٍ هادٍ ولِسانًا لحِكْمةٍ بالغةٍ، «وما يُلَقَّاها إلا الذين صبروا، وما يُلقَّاها إلا ذو حظّ عظيم» (فُصِّلت: 35)! [email protected]