تقرير: كيف يحافظ المغرب على "صفر إرهاب" وسط إقليم مضطرب؟    المغرب يستهدف خلق 150 ألف فرصة عمل بقطاع السياحة بحلول عام 2030    الذهب يواصل مكاسبه مع إقبال عليه بفضل الرسوم الجمركية الأمريكية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    وزارة الثقافة تطلق برنامج دعم المشاريع الثقافية والفنية لسنة 2025    دراسة: البدانة ستطال ستة من كل عشرة بالغين بحلول العام 2050    بلاغ حول انعقاد الدورة العادية لمجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة    مصرع شخصين في اصطدام عنيف بين شاحنتين بطريق الخميس أنجرة بضواحي تطوان    15 قتيلا و2897 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية خلال الأسبوع المنصرم    النيابة العامة تكشف مستجدات المتابعات القانونية في حق المشتبه فيهم المتورطين في قضية شبكة جيراندو    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    أحوال الطقس ليوم الأربعاء: برد وزخات مطرية في مناطق واسعة من البلاد    الحزب الثوري المؤسساتي المكسيكي يدعو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الانضمام للمؤتمر الدائم للأحزاب السياسية في أمريكا اللاتينية والكاريبي    تراجع الصادرات ب 886 مليون درهم.. وتفاقم العجز التجاري ب 24.5 مليار درهم    كأس العرش 2023-2024 (قرعة).. مواجهات قوية وأخرى متكافئة في دور سدس العشر    ترامب يعلق جميع المساعدات العسكرية لأوكرانيا بعد أيام من مشادته مع زيلينسكي    القاهرة.. انطلاق أعمال القمة العربية غير العادية بمشاركة المغرب    التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف بالجزائر أمام مجلس حقوق الإنسان بجنيف    أسعار اللحوم في المغرب.. انخفاض بنحو 30 درهما والناظور خارج التغطية    وكالة بيت مال القدس تشرع في توزيع المساعدات الغذائية على مؤسسات الرعاية الاجتماعية بالقدس    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على أداء سلبي    أمن فاس يوقف 6 أشخاص متورطون في الخطف والإحتجاز    استئنافية مراكش ترفع عقوبة رئيس تنسيقية زلزال الحوز    الضفة «الجائزة الكبرى» لنتنياهو    التفوق الأمريكي وفرضية التخلي على الأوروبيين .. هل المغرب محقا في تفضيله الحليف الأمريكي؟    بنك المغرب يحذر من أخبار مضللة ويعلن عن اتخاذ إجراءات قانونية    انتخاب المغرب نائبا لرئيس مجلس الوزارء الأفارقة المكلفين بالماء بشمال إفريقيا    "مرحبا يا رمضان" أنشودة دينية لحفيظ الدوزي    مسلسل معاوية التاريخي يترنح بين المنع والانتقاد خلال العرض الرمضاني    ألباريس: العلاقات الجيدة بين المغرب وترامب لن تؤثر على وضعية سبتة ومليلية    الركراكي يوجه دعوة إلى لاعب دينامو زغرب سامي مايي للانضمام إلى منتخب المغرب قبيل مباراتي النيجر وتنزانيا    القناة الثانية (2M) تتصدر نسب المشاهدة في أول أيام رمضان    الصين تكشف عن إجراءات مضادة ردا على الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة على منتجاتها    فنربخشه يقرر تفعيل خيار شراء سفيان أمرابط    جمع عام استثنائي لنادي مولودية وجدة في 20 مارس    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    الزلزولي يعود إلى تدريبات ريال بيتيس    تصعيد نقابي في قطاع الصحة بجهة الداخلة وادي الذهب.. وقفة احتجاجية واعتصام إنذاري ومطالب بصرف التعويضات    الصين: افتتاح الدورتين، الحدث السياسي الأبرز في السنة    فينيسيوس: "مستقبلي رهن إشارة ريال مدريد.. وأحلم بالكرة الذهبية"    الإفراط في تناول السكر والملح يزيد من مخاطر الإصابة بالسرطان    دوري أبطال أوروبا .. برنامج ذهاب ثمن النهاية والقنوات الناقلة    فرنسا تفرض إجراءات غير مسبوقة لتعقب وترحيل المئات من الجزائريين    مباحثات بين ولد الرشيد ووزير خارجية ألبانيا للارتقاء بالتعاون الاقتصادي والسياسي    بطولة إسبانيا.. تأجيل مباراة فياريال وإسبانيول بسبب الأحوال الجوية    الفيدرالية المغربية لتسويق التمور تنفي استيراد منتجات من إسرائيل    سينما.. فيلم "أنا ما زلت هنا" يمنح البرازيل أول جائزة أوسكار    القنوات الوطنية تهيمن على وقت الذروة خلال اليوم الأول من رمضان    3 مغاربة في جائزة الشيخ زايد للكتاب    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    المغرب يستمر في حملة التلقيح ضد الحصبة لرفع نسبة التغطية إلى 90%‬    كرنفال حكومي مستفز    وزارة الصحة تكشف حصيلة وفيات وإصابات بوحمرون بجهة طنجة    حوار مع صديقي الغاضب.. 2/1    فيروس كورونا جديد في الخفافيش يثير القلق العالمي..    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    الفريق الاشتراكي بمجلس المستشارين يستغرب فرض ثلاث وكالات للأسفار بأداء مناسك الحج    المياه الراكدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حينما يكون استعمالُ "العربيّة" اختيارًا وتحرُّرًا
نشر في هسبريس يوم 27 - 04 - 2011

لَعَلَّ ما يَغْفُل عنه كثيرون أنّ "ٱللُّغة"، كما تتجسَّد في الألسن المُتكاثِرة والمُتبايِنة، تتحدَّد في أساسها بأنّها "ٱعتباطيَّةٌ" (أيْ أنّها، بما هي ألسن، ليست لازمةً من الناحية الطبيعيّة، وإنّما هي مشروطة في ٱكتسابها وٱستعمالها بظروفٍ ٱجتماعيّة وثقافيّة وتاريخيّة هي التي تَفرِضُها على المُتعلِّمِين والمُستعملِين). لكنّ صفةَ "ٱعتباطيّة" هذه تتنافى مع ما تتَّسم به "ٱللُّغةُ" في واقع الأفراد والمجتمعات، من حيث إنّها لا تَنْفكُّ تبدو "طبيعيّةً" و"بديهيّةً" إلى الحدّ الذي تَغيب معه "ٱلضرورةُ" التي تقف وراء ٱكتسابها وٱستعمالها! ولذا، قد يبدو غريبًا أنْ يأتيَ في عُنوان المقال ٱستعمالُ "العربيّة" مقرونًا إلى "الِاختيار" و"التحرُّر". تُرى، إلى أيّ حدٍّ يُمكِن أنْ يُعبِّر ٱستعمالُ "العربيّة" في مجتمعاتنا عن نوعٍ من "ٱلِاختيار" الذي قد يكون السبيلَ إلى التحرُّر من الضرورة المُلازِمة لِاكتساب وٱستعمال "ٱللُّغة" عمومًا؟
ما أكثر ما يُقَال بأنَّ "ٱللُّغاتِ العاميّةَ" تُمثِّل "ٱللِّسانَ ٱلأصليَّ" أو "لِسانَ الأُمِّ"، على النحو الذي يُعطيها -في ظن بعض الناس- الأسبقيّة والأولويّة بالمقارَنة مع "العربيّة الفُصحى" التي غالبًا ما تُقدَّم بصفتها "لُغةً وافدةً" و"لسانًا خاصِّيًّا" بشكلٍ يَمنعها من أنْ تُجارِيَ "العاميّات" في سَرَيانها الطبيعيّ والتلقائيّ. لكنّ ما يَغِيب عن الذين يرون ذلك إنّما هو كونُ "ٱلعاميّات" (في تعدُّدها ومن دون تمييز) تُعبِّر عن النُّزول الإكراهي للضرورة الِاجتماعيّة والتاريخيّة التي تجعل عامَّة الناس لا يَمْلِكون أيَّ خيارٍ أمام ما نُشِّئُوا عليه منذ نُعومة أظفارهم. ذلك بأنَّ ٱكتسابَ وٱستعمالَ "ٱللُّغة العامّيَّة" يَقع خارج وعي الناس ومن دون إرادتهم، حيث إنَّ ٱلمرءَ في الغالب لا يستطيع -حتى حينما يَبلُغ رُشدَه- إلا أنْ "يُعيد إنتاج" ما تَلقَّاه في طُفولته.
ومِن ثَمَّ، فإنَّ الحصولَ على فُرصةٍ لكشف أسرار "ٱللَّعِبِ ٱللُّغويِّ" الذي يَسَّر ٱستدماجَ "ٱللُّغة ٱلعاميّةِ" فصارت عند مُستعملِيها كما لو كانت أشبه بتنفُّس الهواء لا يكون إلا في المدى الذي يُتيح "ٱلتعليمُ ٱلمدرسيُّ" (وبالخصوص الجامعيّ) القيامَ بتأمُّلٍ ٱنعكاسيٍّ يَكْفُل كشفَ (وفضحَ) "ٱلِاعتباطيّةِ" المَنْسيّة التي تجعل ما ليس طبيعيّا يَصير بديهيًّا، بل مُمتنِعًا على كل مُساءَلةٍ نَقديّةٍ. وأكثر من هذا، فإنَّ مثل هذه الفرصة تَقِلّ بقدر ما تَصِير (أو تُصيَّر) "ٱللُّغةُ ٱلعاميَّةُ" نفسُها لُغةَ المدرسة، حيث بدلا من ٱلِانتقال إلى لُغةٍ "بَعْدِيَّةٍ" و"فَوْقِيَّةٍ" تُمكِّن من التوصيف ٱلِانعكاسيِّ والنقديِّ فإنه يُضاعَف ويُرسَّخ ٱلِانغماس في "ٱللغةِ ٱلتَّحْتيّةِ" المُلابِسةِ ذهنيًّا ونفسيًّا لِلْكِيان وٱلمُسوِّغة للاعتباطيِّ المُعبِّر عن أنماط السيطرة السارية ٱجتماعيًّا وٱقتصاديًّا وثقافيًّا وسياسيًّا.
وحينما نَأتِي إلى وضع "ٱللُّغة" في العالم العربي، نجد أنَّ الناسَ لا تسبق إلى ألسنتهم إلَّا "ٱلعاميّات" على كثرتها وتبايُنها. وإذا كان من المألوف أَنْ يُنظَر إلى هذا الأمر باعتباره سَلْبِيًّا في علاقته باكتساب وٱستعمال "ٱلعربيّة ٱلفُصحى" (خصوصا حينما يُفترَض أنَّ "العاميّاتِ" بعيدةٌ، بكل مستوياتها، عن "الفُصحى")، فإنّ بعض المُبْطِلين ما فَتِئوا يَتَّكِئُون عليه لتنقُّص "ٱلعربيّة ٱلفُصحى" بدعوى أنَّها ليست "لُغةَ ٱلأُمِّ" وأنّها ليست سوى "لسانٍ معياريٍّ"، خاصيٍّ ونُخبويٍّ مُنقطعٍ كُليًّا عن لُغاتِ عامّة الناس. فَلْيَكُنْ! إنَّ تَعيُّنَ "ٱلعربيّة ٱلفُصحى" كلغةٍ "معياريّةٍ" و"خاصيَّةٍ" و"عالِمةٍ" أمرٌ مُسلَّمٌ إلى أبعد حدّ. وبِغَضّ النظر عن الصلة الوُثْقى التي تَشُدّ "ٱلعربيّةَ ٱلفُصحى" إلى "العاميّات" (بالخصوص العربيّة منها)، فما الدلالةُ الحقيقيّةُ لها كلُغةٍ معياريّةٍ تُعلَّمُ وتُستعمَلُ "بَعْدَ" و"فَوْقَ" كل "العاميّات" الشائعة في مجال التداوُل بصفتها "لُغاتِ ٱلأُمِّ"؟
يَجْدُر، في هذا السياق، التنبيهُ على أنَّ "لُغةَ ٱلأُمِّ" هي تلك اللغة التي يكتسبها المرءُ في أثناء رضاعه من أُمِّه وٱلتي يَتشرَّبُها من دون إرادةٍ منه وفي غياب كاملٍ لوعيه. فهي تجسيدٌ حيٌّ للتنشئة ٱلِاجتماعيّة بما هي "تثقيفٌ" يَتناول ما هو "طبيعيّ" (ٱلِاستعداد الفطريّ للكلام المُحدَّد ذِهنيًّا وعصبيًّا والمُعطى حَيوِيًّا إلى كل الناس) فيُعطيه صبغةَ ما هو مُحدَّد تاريخيًّا وٱجتماعيًّا في إطار الشروط الخاصّة بمجتمع وثقافة مُعيَّنَيْن. وفي المدى الذي يكون ذلك "التثقيفُ" بمثابة صَوْغٍ ٱجتماعيٍّ وتاريخيٍّ يَتَّسم (أو يَلْتبِس) بالضرورة، فهو أيضا "تَطبِيعٌ" من حيث إنّه يُشير إلى عمل "التنشئة" الذي يُحوِّلُ ما هو ٱجتماعيّ وثقافيّ إلى شيءٍ طبيعيٍّ فيجعله يبدو -في نفس المرء الذي خضع لتنشئةٍ مُناسِبَةٍ- بِكُلِّ السِّمات التي تُميِّز ما هو "بديهيّ".
وينبغي أنْ يكون بَيِّنًا أنّ ذلك "ٱلتَّطبيع" ليس فقط ترسيخًا يَطْبَع في أعماق الإنسان آثارَ "ٱلعالَم"، بل هو بالأساس "تَسوِيغٌ" و"تَبريرٌ" يَنْصَبُّ على "ٱلِاعتباطيِّ" بكل تجلِّياته الماديّة والرمزيّة. ولهذا، فإنّ "لُغةَ ٱلأُمِّ" ليس لها من ٱمتيازٍ سوى كونِها تُمثِّلُ "ٱلتنشئةَ ٱلأُولى" في ضرورتها كعملٍ يجعل من الكائن البشري (المولود ك"حيوان أعجم") ذلك "الإنسان الناطق" الذي له القُدرة على التعامُل والتفاهُم بصدد أشياءِ وكائنات "ٱلعالَم" بواسطة "ٱللُّغة" كنسقٍ يُبْتنَى ٱجتماعيًّا وثقافيًّا في داخل المرء فيُحوِّلُه إلى "نسقٍ مُبْتَنٍ" مُتجسِّدٍ في ذاته، من حيث إنّه يَصِيرُ (أو يُصيَّر) مُتكلِّمًا يَبْتنِي داخليًّا وخارجيًّا نَصيبَه من "العالَم" وَفْق ما تَقمَّصه جَمْعيًّا فصار مُمكنًا تفعيلُه وتلوينُه فرديًّا.
إِنَّ "لُغةَ ٱلأُمِّ"، إذًا، هي التي تَتَّخِذ صُورةَ "ٱللُّغة ٱلعاميّة" في سَرَيانِها التلقائيّ على ألسنة عامّة الناس بمقتضى ٱشتراكهم في شُروط التنشئة ضمن مجتمع وثقافة مُعيَّنيْنِ خلال فترة تاريخيّة ما. وتُعَدُّ هذه "ٱللُّغةُ العاميّةُ" موضوعًا للتغيُّر الدائم والتفاوُت البالِغ على النحو الذي يَجعلُها "لَانِهائيّةً" من الفُرُوق الدقيقة والتغايُرات المُعقَّدة، بحيث لا تَفْرِض نفسَها كنسقٍ ٱستعماليٍّ -مُشترَكٍ بهذا القدر أو ذاك- إلا بفعل ٱشتغال آليات "ٱلسيطرة/ٱلغَلَبة" التي تُبَوِّء نمطًا لغويًّا مُعيَّنًا منزلةَ "اللُّغة المشروعة"، وهي تلك "اللُّغة" التي تُمثِّل معيارا للكلام المُناسِب واللائق في مجتمع ما خلال فترة مُعيَّنة. ومن المعروف، في إطار المجتمعات المعاصرة، أنَّ "لُغةَ ٱلأُمِّ" -بما هي "لُغةٌ عاميّةٌ"- لا تستوي ك"لسانٍ معياريٍّ" يَفرض نفسَه عُموميًّا ك"لغة مشروعة" إلا بفضل "التعليم المدرسيّ" في تواطُئه مع "الإعلام الجماهيريّ"، حيث تخضع "لُغةُ الأُمِّ" لجملةٍ من الإجراءات التي تُسَوِّيها وتُخْرِجها للناس لُغةً مُهذَّبةً ومُنقَّحةً تَصلُح للتداوُل السليم والآمن.
وبِما أنَّ المُستعمِلَ العاديَّ لِلُّغةِ العاميّةِ (وٱلعُموميّة) يَخضع للتطبيع بشكلٍ مُضاعَفٍ (في "التنشئة الأولى" وفي "التنشئة المدرسيّة")، فإنَّ سبيلَه إلى ٱكتشاف عمق ذلك "ٱلتطبيع" كعملٍ مُحدَّدٍ ٱجتماعيًّا وتاريخيًّا لا يَكونُ مُمكنًا إلا في المدى الذي يَنتقل به "التعليمُ اللُّغويُّ" من مستوى ٱكتساب وإتقان "ٱللُّغة ٱلمشروعة" (بتبيُّن "ٱلعِلَل ٱلمُلازِمة" لِاشتغالها الطبيعيّ والبديهيّ) إلى مستوى ٱمتلاك القدرة على "ٱلرُّجوع ٱلِانعكاسيّ" (المُمكِّن من إظهار "ٱلعِلَل ٱلمُفارِقة" التي ترتبط بعمل "ٱلتطبيع" الِاجتماعيّ والثقافيّ كعملٍ قائمٍ على "ٱلتَّسويغ" و"ٱلتَّشريع"). وقد لا يتأتّى الكشف عن أسرار "ٱلتطبيع" كاملةً إلا في حدود ما تَقْبَلُ "ٱللغةُ ٱلمَوصوفةُ" نفسُها أنْ تَشتغِل ك"لُغةٍ واصفةٍ" (أي كلُغةٍ "بَعْديّةٍ" و"فَوقيَّةٍ") قادرة على أنْ تُظهِرُ ما خَفِيَ من عَوْرة تلك "ٱللغة العاديَّة"، وهو ما يُرادُ له تاريخيًّا وٱجتماعيًّا أنْ يبقى مستورا في إطار عمل "إعادة الإنتاج" الراسخ تكوينيًّا وبنيويًّا.
ومن ثَمَّ، يتبيَّن أنَّ كونَ "ٱلعربيّة الفُصحى" تُكتسَبُ وتُستعمَلُ كلسانٍ معياريٍّ "بَعْدَ" و"فَوْقَ" لُغةِ ٱلأُمِّ -التي يُدَّعى أنّها تَفضُل "ٱللسانَ المعياريَّ" (بما هو "فُصحى") وٱلتي يُرادُ، رغم ذلك، تكريسُها ك"لسان معياريٍّ"!- يَجعلُها لُغةً ذات خُصوصيّةٍ من أكثر من وجهٍ. ف"ٱلعربيّةُ الفُصحى" تُمثِّل (أو ينبغي أَنْ تُمثِّل) "ٱختيارًا" من شأنه أنْ يَتجاوز بالمُتعلِّم ذلك "ٱلإكراهَ" المُميِّز لِلُغة ٱلأُمِّ، وهو "ٱلِاختيار" الذي قد يُيسِّر "ٱلتحرُّرَ" من ٱلِانشداد الطبيعيِّ إلى "ٱللُّغة العاميّة" بما هي لُغةٌ تُرسَّخُ وتُسوَّغُ خارج وعي الناس ومن دون إرادتهم.
وإذا عَلِمنا أنَّ ٱكتسابَ وٱستعمالَ "ٱلعربيّة الفُصحى" لا يَكُون إلَّا من خلال تبيُّنِ "عِلَل ٱلنَّحو"، فإنّه يَظهرُ أنَّ تعلُّمَها وتعليمَها -وَفْق ذلك المُقتضى التَّعليليّ- يُفترَض فيهما أنْ يُقَوِّيَا "ٱلرُّجوعَ ٱلِانعكاسيَّ" المطلوب من أجل تبيُّن حقيقة "ٱلتَّعليل" المُلازِم لِاستعمالات ٱللُّغة، خصوصا أنَّ ذلك "ٱلرُّجوع ٱلِانعكاسيّ" واجبٌ تَعليميًّا لجعل ٱكتساب اللُّغة يَتِمّ كبناءٍ تَعرُّفِيٍّ فِعْليٍّ. فمُتعلِّمُ ٱلعربيّة ٱلفُصحى "يَتَعرَّفُها" (أيْ "يَطْلُبُ معرفتَها") ذهنيًّا بما هي نسقٌ لُغويٌّ بالِغُ الإحكام وقائمٌ على ٱلتعليل، مِمّا يَجعلُه يَطْلُب معرفةَ "ٱلنحو" الذي يُقوِّم إنتاج المعنى لُغويًّا ومنطقيًّا، بحيث يَلزمُه أنْ يَعمل على تجاوُز "ٱلبنية ٱلسطحيّة" لِما هو ظاهرُ ٱلِاعتباطيّة نحو بنيةٍ عميقةٍ هي الأصل في "ٱلنَّظْم" المُعلَّل ذهنيًّا ولفظيًّا.
وإنّ خُصوصيّةَ "ٱللِّسان ٱلعربيِّ" لتتجلّى أكثر بما هو "لِسانٌ إعرابيٌّ" تنتظم فيه الألفاظ تركيبيًّا وتأليفيًّا بِناءً على حركة أواخرها، وليس فقط من خلال ترتُّبها أو تَضايُفها كما هو الشأن في الألسن المعياريّة المهيمنة عالميًّا (الإنجليزي، الإسباني، الفرنسي، إلخ.) وفي "العاميّات" أيضًا. وبما أنّ "الإعرابَ" عملٌ يَتوخّى "الإبانةَ" بإِعْمالِ الألفاظ بعضها في علاقته ببعض بالشكل الذي يَجعلُ أواخرَ ٱلْكَلِم مَعلولةً لعواملَ لفظيَّةٍ مَذكورةٍ سَلفًا أو مُقدَّرةٍ عقلا، فإنَّ البيانَ بالكلام يَصير -في "العربيّة الفُصحى"- مُرتبطًا بتبيُّن "عِلَل ٱلنَّحو" ومُلاحقتها ٱستنباطًا وتوجيهًا. ف"ٱلإعرابُ" في "العربيّة الفُصحى" عملٌ تعليليٌّ وتأويليٌّ شديد الأهمية في صقل مَلَكة الِاستدلال والفحص النقديّ، بل إنَّ كونَه يَقُوم على تأليف ٱلكَلِم بمُراعاة مَجارِي أواخرها حسب مقتضيات "ٱلنَّظْم" تعلُّقًا وترتُّبًا ليَستلزم تأكيدَ أهميته كعملٍ قَصْدِيٍّ وٱقتصاديٍّ، حيث إِنَّ إبلاغَ المقاصد يكون أقوى بالِاقتصاد في اللفظ بعيدًا عن الحشو والإطناب المُلازِمين للاستعمال العاميّ لِلُّغة.
وهكذا، فإنَّ "ٱللُّغة" -بخلاف ما يَظُنّه بعض الناس- ليست جديرةً بالِاهتمام لأنّها قِوَام "ٱلهُوِيَّة"، وإنَّما لِأنّها وسيطٌ ضروريٌّ ل"هُوِيَّةٍ" تَختفي فيها -بما هي "غِيابٌ" مُعلَّل ٱجتماعيًّا وتاريخيًّا ومعلول وجوديًّا- حقيقةُ "ٱلذات" المُراد لها أنْ تَتشخَّص بشريًّا ك"وعي" و"إرادة" و"حريّة". إِذْ لا يكاد المرءُ يَستعمل "ٱللُّغة" إلا بالقدر الذي تَستعملُه وتَستخدمُه لكونها تتجاوزُه بما هي مُؤسَّسةٌ ٱجتماعيّة وتاريخيّة، مِمّا يقتضي أنَّه لا يكون له أيُّ حَظٍّ في ٱلِانفكاك عنها وتَملُّك نفسه ك"حُضور" فاعل ومسؤول إِلَّا في ٱلمدى الذي يُوفَّق في العمل المُمكِّن من تعطيل آثارها اللاواعية المُلابِسة عادةً لكل أفعاله. وبما أنَّ ٱكتسابَ "ٱللُّغة" وٱستعمالَها يَتِمّانِ في الغالب وَفْق شروط التنشئة ٱلِاجتماعيّة الأولى، فإنّه لا سبيل إلى تقوية ذلك الحظ في التمكُّن من ٱستعمال "ٱللُّغة" على نحو مُتحرِّر إلَّا بامتلاك أدوات "ٱلِانعكاسيّة ٱلنقديّة" التي من شأنها أنْ تُقِيم لا فقط شروط إمكان "ٱلكفاءة ٱللُّغويّة"، بل أنْ تَكفُل أيضا شُروط التمكين من "ٱلأداء اللغويّ" إنجازًا كلاميًّا وتوجيها بيانيًّا. ويبدو، بهذا الخصوص، أنَّ "العربيّة الفُصحى" تُمثِّل في واقعنا التداوليّ إحدى أنجع الوسائل التي تُيسِّر ٱشتغال تلك "ٱلِانعكاسيّة" على نحو يَعِزُّ وِجدانُ نظيرٍ له.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.