على الرغم من كل ما تُعانيه "العربية الفُصحى" في الواقع العربي الرديء على كل المستويات، فإنها تبقى لُغةً تُزعِج كثيرين عبر العالَم إلى الحدّ الذي يجعل بعض الخُبثاء والمُتنطِّعين لا يترددون في ٱنتهاز كل السوانح للتهجُّم عليها وتنقُّصها، بل التمادي في تهويل كل ما يُحيط بها من صعوبات عملا منهم على تعزيز وتسريع ٱنتقاضها بين أيدي مُستعملِيها وعلى ألسنتهم، وظنا منهم أنهم سيتمكنون بذلك من إماتتها. وإذا كان الحديث عن إزعاج "العربية" لمثل هؤلاء قد يبدو غريبا، فإن ما يُثير الِاستغراب أكثر أن يستسلم لهذا الواقع كثيرٌ من المهتمين باللسان العربي كأنّ الأمر قد صار حتما مَقضيّا على النحو الذي ما عاد يُجدي معه أيّ تَصدٍّ لردّ أباطيل الخُصوم والنهوض بمقتضيات التمكين لهذه اللغة الشريفة بين لُغات العالم. حقا، تبدو "العربيةُ الفُصحى" لُغةً مُزعجةً لأنها بالغةُ التقعيد ومُتشدِّدة في التعليل، مِمّا يجعل أعداءها يَصِمُونها ب"التعقُّد" ويُصوِّرنها لُغةً مُتمنِّعةً ومُمتنِعةً. فكونُ "العربية الفُصحى" ٱستطاعت -منذ أكثر من أربعة عشر قرنا- أن تَقُوم ك"لسان معياري" في مُحيط كل اللغات أو اللهجات العربيّات مَكَّنها من أن تصير "الفُصحى" بينها، خصوصا بعد ظهور الإسلام وقيام "القرآن" نصًّا مرجعيا لتنميط "اللسان المُبين". ولذا، ٱستقر بين فُحول البيان أنه لا كلام يُقبَل في "العربية" إلا أن يكون مُوافِقا للقواعد الناظمة لنسقها وقابلا، من ثم، للتعليل وَفْق الوجوه المقررة في "النحو العربي". ولا شك في أن هذا أمر مزعج أيَّما إزعاج لكل من يبتغي التسيُّب مذهبا ويَدَّعي التحرُّر مسلكا. ومن كان هذا حالَه، فهو إما جاهل بوضع الألسن عموما (إذ لا لسان بدون تقعيد)، وإما مُتكاسل فاته أن يُجيد النظام النحوي ل"العربية" حينما كان مُتعلِّما (وأي عذر للكسالى بين المتعلمين؟!). وهذا الصنف من الناس هو الذي نجده يُكثِر من التبرُّم والتشكِّي، خصوصا بين من يتعاطون الكتابة بالعربية من دون أن تكون لهم مَلَكة قوية فيها. أما الذين سبقت إلى ألسنتهم لُغةٌ أخرى غير "العربية" فتَشربُّوها مع الرضاعة إلى أن مَلَكت عليهم أنفسهم وأفكارهم، فهم أشد الناس ٱنزعاجا من "العربية" التي تُقلِق سباحتهم في مياهِ عوائدهم لظنهم أن الغرابة مقصورةٌ فقط على كل ما خالف مألوفَهم، ولجهلهم بما يشتمل عليه هذا المألوف نفسه من ضروب الِاختلاف والتبايُن التي لا إمكان للظهور عليها إلا بالخروج إلى فضاء الغريب المُخالِف! وإن إزعاج "العربية" ليزداد ويشتد بفعل ما تَعرِفُه من ٱطِّراد في بِنياتها يُغطِّي نوادر الشذوذ ويَكفُل لها الِاستمرار عبر الزمن من دون أي ٱنقطاع يَفصِل اللاحق عن السابق. فالعربية تبدو، بخلاف كثير من اللغات، لُغةً متصلةً بنيويا وتاريخيا، إنها اللغة التي لا يَصِحّ أن يُميَّز فيها بين "لُغة قديمة" و"لُغة وسيطة" كلتيهما مختلفين فيما بينهما وبعيدتين عما صار "لغةً حديثةً" على النحو الذي يجعل مُستعمِل هذه اللغة الحديثة غيرَ قادر على تلقِّي وفهم اللغتين الأخريين. أليس مُستعمِلو "العربية" الآن بقادرين على تلقّي وفهم دواوين الشعر الجاهلي ونص "القرآن" ومُتون الحديث النبوي وآلاف النصوص على ٱمتداد أربعة عشر قرنا؟! ولأن ٱكتساب وتعلُّم "العربية" يُتيح هذا الاتصال والتواصل، فهو مصدر إزعاج لأصحاب كل اللغات التي تتباين بنياتها باستمرار، ولكل الذين لا يُطيقون أن تكون "العربية" بمثل هذا التجذُّر والِاطِّراد. ومن ثم، فإن كون "العربية" تبقى وثيقة الصلة ب"الإسلام" (الذي لولاه لما صارت إلى حالها كلغة مُطَّردة وعالَمية) لأمرٌ مُثيرٌ ومُزعجٌ لكل من لا يَقبل هذا الدين أو يرى فيه سببا عائقا للتطور والتحديث أو مصدرا دائما للتهديد والخطر. وإذا كان بعض المُنْبتِّين حتى بين المسلمين لا يستسيغون الربط بين "العربيّة" و"الإسلام"، فإن كون المصادر الدينية والثقافية الأساسية في "الإسلام" مَصُوغةً ب"العربيّة" ليقتضي أن تظل حاجةُ الرجوع إليها داعيةً إلى حفظ ٱستعمالها بالنسبة إلى كل مسلم يجد أن كمال دينه يُلزمه بتعلُّم شيء من "العربية" يَسمح له بإقامة صلواته وإحسان دعواته. ومن هنا، فإن وثاقة الصلة بين "العربية" و"الإسلام" تتجاوز ظاهر "القرآن" الذي أُنزل بلسان عربي مُبين لتُلابِس أسرار ٱختيار "العربية" لتكون لسان الوحي الخاتم لكل الرسالات التي لم تُنقَل، في معظمها، إلا بألسن شقيقة للسان العربي (التوراة باللسان العبري، والإنجيل باللسان الآرامي!)، وهو اللسان الذي قام مُصدِّقا لها وصار مُهيمنا عليها فضلا من رب العالمين الذي يعلم حيث يضع رسالاته! أما إذا كانت "العربية" قد أعطت أدبا وفكرا صارا عالميَّيْن من خلال بُروز كثير من الأعلام العرب والمتعربين الذين يُشهد لهم بالنبوغ في أكثر من مجال، فإن صلتها بالحضارة العربية-الإسلامية تصير أوثق وأقوى بشكل لا ينفع في كسره أو قطعه حسد الخصوم وكيد الأعداء الذين لن يعود بإمكانهم شيء آخر غير التعايُش مع هذا الواقع المزعج الذي تظهر فيه "العربية" بارزةً ومتألقةً رغم أنوفهم! إن ٱرتباط "العربية" ب"الإسلام/الدين" وب"الإسلام/الحضارة" هو الذي يجعلُها لُغةً مُتغلِّبة على كل لُغات المسلمين (ما أكثر المسلمين الذين كانوا ولا يزالون يتعرَّبُون إلى الحد الذي يَبُزُّون فيه العربَ أنفسهم!)، ولُغةً مُتوسعةً بفعل ٱنتشار "الإسلام" (ما إن يُسلِم المرء حتى يَهُبّ لاستبدال ٱسم عربي باسمه الأعجمي ولتعلُّم العربية!)، ولُغةً مُتجدِّدةً بفعل كونها مَوصولةً بنور "القرآن" المُبين حقًّا وبروح "الإسلام" المتجدِّد دومًا. ومن حيث إن "العربية" في تغلُّبها وتوسُّعها وتجدُّدها لا تنفكّ عن "الإسلام" دينًا وحضارةً، فإنها مُزعِجةٌ لكل من لا يستطيع أن يضمن لِلُغته الخاصة مثل ما تَوفَّر للعربية. ولذلك، ترى بعض أدعياء "العَلْمانية" يُحاوِلون إثبات أن "الإسلام" لا يَملِك أن يكون دينًا عالميا (إلى كل العالمين) إلا بانفكاكه عن "العربية" (وعن "العرب" أيضا، لقلَّتهم بين المسلمين). لكن هؤلاء ما إن يُدركوا ٱمتناع فصل "الإسلام" عن "العربيّة" حتى ينقادوا إلى التطرف في ٱدِّعائهم للعلمانية فيَخرُجون بها إلى "اللادينية" (كما لو كان بإمكانهم أن يَنفكُّوا تماما عن جوهر "الدين" إلزامًا وٱلتزاما!)، وهو الخروج الذي يُسقِطهم في شناعات كُبرى ليس أقلَّها تعاطي التهجُّم على "العربية" بصفتها حاملةً -في ظنهم- للإسلام كدين تقليدي وٱستبدادي ومُمثِّلةً لذهنية "العرب" كبدو متوحشين وقوم مُنغلقين في قوميتهم المتطرفة والعنصرية! ولعل ما يُزعِج أيضا بعض الناس في "العربيّة" أن تكون لُغةً تَستميل الناس -بفعل ٱرتباطها بالإسلام وبحضارته العالمية- نحو "التعرُّب"، مِمّا يجعلُها حاملةً ل"التعريب"، بل حاملةً عليه كسياسةٍ تَفرِض -في ظنهم- على الشعوب غير العربية تعلُّمَ "العربيّة" وٱستعمالَها. وليس يخفى أن الذين ترتبط لديهم "العربيّة" ب"تعريب" قهري وقسري (و، من ثم، بتوسُّع وهيمنة "القومية العربية" المُتوسِّلة بالإسلام) إنما هم ضحايا نوع خاص من التضليل يُريد أصحابُه أن يجعلوا ٱنتشار "الإسلام"، خارج شبه الجزيرة العربية، بمثابة الغزو السالِب والهيمنة المُدمِّرة لكل ما ليس عربيا. وإن هذا التضليل الكبير ليَنسى ويُنْسِي أن أكبر عامل في التاريخ على "التعريب" كان ولا يزال الدخول الطوْعي أو الطَّمَعي للناس في "الإسلام" وٱندماجهم في الحضارة العربية-الإسلامية. ولهذا، فليس "التعريب" محوًا لِلُغات المُسلمين من غير العرب، وإنما هو أثر مُصاحِبٌ ومُلازِمٌ لانتشار "الإسلام" في المدى الذي يجعل هذا الانتشار مصالحَ الناس المادية أو المعنوية/الرمزية مرتبطةً ب"العربية" كلُغة أصلية لدين ظاهر ومتوسع، وكلغة أساسية في حضارة عالمية مرتبطة به. فرفض "التعريب" لا يَؤُول فقط إلى رفض "العربية"، وإنما يَؤُول إلى رفض "الإسلام" بفعل كونه أكبر دافع حضاري إلى "التعرُّب/التعريب"! وأخيرا وليس حقيرا، فإن "العربية" -في دلالتها على "العالَم العربي" المرتبط تاريخيا وٱستراتيجا ب"العالَم الإسلامي"، وفي إحالتها إلى وحدةٍ قائمة أو مُحتملة للشعوب العربية والمسلمة- تُمثِّل واقعا مُزعجا للقُوى المَعنيّة ببلاد العرب والمُسلمين التي كانت ولا تزال غرضًا لكل طامع ومَسرحًا لكل مُغامِر. ف"العربية" في ٱرتباطها بالإسلام رمزٌ لوحدةِ العرب والمسلمين في صراعهم الدائم ضد كل القُوى المُعادية والمُنافِسة. وإن "العربية"، بهذا الخصوص، لتبدو مُزعجةً لأنها تُشير إلى "المُقاوَمة" المُناهِضة للاستيطان والهيمنة (سواء أكانت هيمنة لغويةً وثقافيةَ أم ٱقتصاديةً وسياسيةً). ألمْ تُعْطِ "العربيةُ" لِلُغاتِ العالَم المعاصر مُصطلحي "الجهاد" و"الانتفاضة" اللَّذين صارا يَدُّلان على "المقاومة" في خصوصيتها العربية والإسلامية؟! أليست "العربيةُ" هي الوسيلة التي يَنهَل بها من المصادر الإسلامية أولئك الذين يُوصفون تعميما ب"الإسلاميين" و"السلفيين"، وتخصيصا ب"المتطرفين" و"الإرهابيين"؟! ألا تذهب إرادةُ التضليل ببعض المُبْطلِين إلى حدّ مُماثَلة "الجهاد" ب"الحرب المقدسة" وجعل "الإسلام" دينًا قائما على "التعنيف" و"الترهيب"؟! إن "العربيّة"، من هذه الناحية، لمُزعجةٌ لكل القُوى التي تعمل على ٱستئناس الناس وتدجينهم ليَمتثلوا الأمر الواقع فيتحوَّلوا إلى مُستهلِكين طيِّعين بعيدا عن كل "مُغالَبة في الجهد" (أي، بالتحديد، "مُجاهَدة/جِهاد") لمُقاوَمة الباطل ومُناهَضة الظلم. لكل هذه الأسباب، ولأخرى غيرها، تُعدّ "العربية" مُزعجةً لكثير من الناس داخل العالم العربي وخارجه. فهي لُغةٌ تسمو بمُستعملِيها نحو مُواجَهة أطماع المُضلِّلين وأهواء المُبطلِين من كل صنف. وإنها، بذلك، لدليلٌ على "المُقاوَمة" بامتياز على أكثر من مستوى. ولأن ٱستمرار ٱكتساب وٱستعمال "العربيّة" يُمثِّل تهديدا حقيقيا لأكثر من جهة في العالَم، فإن صمودها الدائم ونفاذها المتوسِّع يُسبِّب لخُصومها من الإزعاج ما يَجعلُهم لا يَكُفّون عن التهجُّم عليها بمناسبة وبغيرها، فَتَراهُم يَجْهَدون في التهويل والتهوين لعلَّهم يُثبِّطون عزائم الذين يتشبثون بالعربية ويسعون في خدمتها والتمكين لها. وإن أحسن رد على هؤلاء جميعا لهو المُضيّ الثابت والقاصد لإتقان هذه اللغة وٱستعمالها على نحو قويم طلبا للنُّبوغ في كل ميادين الفكر والعلم والتقنية. ذلك بأن "العربية" لغةٌ بلغت الغاية في الشرف أنْ ٱصطفاها ربّ العالمين لُغةً لوحيه الخاتم. أفلا يكفي شرفًا أن يقوم المرءُ بخدمةِ لُغةٍ هذا شأنها حتى إِنْ كانت خدمتُها تُثير ٱنزعاج أُناس حريصين على التضليل والتشنيع بكل ما في وُسعهم من خُبث وصَلَف؟! [email protected]