مديرية الضرائب تفتح شبابيكها نهاية الأسبوع لتمكين الأشخاص الذاتيين المعنيين من التسوية الطوعية لوضعيتهم الجبائية    تساقطات ثلجية مرتقبة بعدد من مناطق المغرب    رأس السنة الجديدة.. أبناك المغرب تفتح أبوابها استثنائيًا في عطلة نهاية الأسبوع    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    بيت الشعر ينعى الشاعر محمد عنيبة الحمري    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    الفقيه أحمد الريسوني... الهندوسي: عوض التفكير المقاصدي، الرئيس السابق للإصلاح والتوحيد يخترع الخيال العلمي في الفقه!    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    البطولة الوطنية.. 5 مدربين غادروا فرقهم بعد 15 دورة    مقتل 14 شرطيا في كمين بسوريا نصبته قوات موالية للنظام السابق    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    "الاتحاد المغربي للشغل": الخفض من عدد الإضرابات يتطلب معالجة أسباب اندلاعها وليس سن قانون تكبيلي    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    حملات متواصلة لمحاربة الاتجار غير المشروع في طائر الحسون أو "المقنين"    تدابير للإقلاع عن التدخين .. فهم السلوك وبدائل النيكوتين    الحبس موقوف التنفيذ لمحتجين في سلا    وكالة بيت مال القدس واصلت عملها الميداني وأنجزت البرامج والمشاريع الملتزم بها رغم الصعوبات الأمنية    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    كيوسك الخميس | مشاهير العالم يتدفقون على مراكش للاحتفال بالسنة الميلادية الجديدة    الإعلام الروسي: المغرب شريك استراتيجي ومرشح قوي للانضمام لمجموعة بريكس    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    "البام" يدعو إلى اجتماع الأغلبية لتباحث الإسراع في تنزيل خلاصات جلسة العمل حول مراجعة مدونة الأسرة    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    الصين: أعلى هيئة تشريعية بالبلاد تعقد دورتها السنوية في 5 مارس المقبل    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قُلْتُم بابل المغربية؟
نشر في هسبريس يوم 07 - 07 - 2010

ثَمة صورة سَلْبية رَسَّخَها ٱلأدب ٱلكتابِي ٱليهودي-النصراني حول أسطورة "برج بابل": فقد ورد في "سِفْر التكوين" (11: 1-9) أن الناس كانوا أمة واحدة. ولَمَّا عزموا على بناء "برج بابل" للدلالة على قوتهم البشرية - وهو الأمر الذي يُشير إلى نوع من ٱلتحدّي لِلْمُلْك ٱلإلهي- ٱستاء ٱلله، عز وجل، من ٱلأمر فأراد عقابهم بتشتيت شَمْلهم وتمزيق وحدتهم، فجعل أصواتَهم تتعالى وتَشْتَدُّ وهُمْ في غمرة عملهم لبناء بُرجهم ذاك ؛ مما أدى، في النهاية، إلى شيوع "ٱلبلبلة" في لسانهم ٱلآدمي ٱلموحّد، فصاروا لا يتفاهمون وسَرَتِ ٱلفُرقة بينهم وأخذت كل جماعة وِجهتها ٱلخاصة في لغتها وبقية معاشها.
هذه ٱلصورة ٱلأسطورية، التي طالما ٱستعادها وقَلَّبها ٱلكُتّاب وٱلأدباء وحتى السنمائيون، تؤكد ٱلجانب ٱلمزعج في ٱللغة ٱلإنسانية (كلانهائيةٍ من إمكانات التأليف بالفُروق وبين الفُروق). لكنها، بذلك، لا تُساعد على تفسير واقعي ل"ٱلبلبلة ٱللغوية" ٱلمُميِّزة أصلا للوجود ٱلبشري في هذا ٱلعالَم. وفي مقابل ذلك، نجد في "ٱلقرآن الكريم" صورة إيجابية تماما: «ومن آياته خلقُ ٱلسموات وٱلأرض وٱختلاف ألوانكم وألسنتكم» (الروم: 22)، «يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لِتَعارفوا» (الحجرات: 13). وعليه، فالاختلاف ٱللغوي طبيعي كالاختلاف في لون ٱلبَشَرة، بل إنه آية من الآيات التي تُظهِر عظمة ٱلخالق ورحمته. وهذا ٱلاختلاف بين ٱلبشر -ٱلذي يُوجد إلى حد بعيد في أصل ٱلِانقسام إلى شعوب وقبائل- إنَّما غايته ٱلسعي نحو ٱلتعارُف/ٱلتفاهُم/ٱلتواصُل. ولكن، متى يصير هذا ٱلِاختلاف ٱللغوي ٱلطبيعي "بلبلةً" مُفَرِّقةً وٱختلاطا مُشَوِّشًا، على غرار ٱلِاختلاف ٱلعرقي بَيْن ٱلأقوام عندما يَتِمُّ جعله أساسًا مُبَرِّرًا للتفاوت ٱلِاقتصادي وٱلِاجتماعي وٱلثقافِي بَيْن الناس؟
لا ريب في أن هذا السؤال يزداد إلحاحا في كثير من جهات العالَم، وخصوصا في المناطق التي تعرف تَعَدُّدًا لغويا عميقا أو تتعرض لضغوط قوية من قِبَل ألسن مهيمنة. وفي حالتنا الخاصة، التي هي المغرب، يبدو أن المسألة اللغوية يشتد استعصاؤها، من جراء غياب التدبير العقلاني للشأن اللغوي. إذ يَنْدُر الِاعتماد على البحث العلمي لِمُقاربة أي تدخل سياسي ولا يُقام أي اعتبار عملي للمُكوِّنات اللغوية المختلفة في السياسة العامة للدولة. ويزداد الأمر سُوءًا حينما تشتد المُزايدات، في جَميع الِاتِّجاهات (شَعْبانية أو ثقافانية أو إرادانية) بِخُصوص هذا الْمُكوِّن اللغوي أو ذاك، كما حدث منذ الاستقلال بشأن "التعريب"، وكما يَحدث منذ بضعة عقود بصدد "ٱلأمازيغية"، وكما صار أخيرا بخصوص ما يُسمّى "الدارجة".
ولعله يَحسن، هنا، القيام بتحديد أولِيٍّ لكثير من الأمور التي يَجهلها بعمقٍ أو يتجاهلها بِلُؤْمٍ كثير من ٱلمهتمين وٱلمتدخلِّين في هذا ٱلمجال:
- أولا، من ٱلسُّخْفِ أن يُتناوَل ٱلجانب اللغوي معزولًا عن ٱلجوانب ٱلِاقتصادية وٱلِاجتماعية وٱلثقافية ٱلتي تَشْرُطُ سَيْرورة ٱلمجتمع. إذ من ٱلمُؤكد أن ثَمة شروطا موضوعية تُحدِّد الِاستعمال اللغوي المشروع، وهي شروط لَا تُمثل فيها إمكانات التمدرس بكل مستوياته إلَّا الجزء غير العملي وغير الناجع. فالفئات الفقيرة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا هي وحدها التي تَجد، في معظم الأحيان، صعوبة واقعية في ٱكتساب وٱستعمال ٱللغة ٱلمشروعة بفعل أسباب موضوعية تجعل الحرمان اللغوي تعبيرا عن حرمان اجتماعي أعمق وأكبر ؛
- ثانيا، لا يَصِحُّ أن يُختَزل التدبير اللغوي في الِاعتراف الدستوري أو الإدماج المدرسي أو حتى الِاستعمال الإداري. ذلك بأن الواقع اللغوي تداولِيّ بعمق، بحيث لا يُجدي معه لا الإسقاط الإديولوجي ولا الغوغائية المُتَسَايِِسة، بل ينبغي أن يُعمَل على ضمان متكافئ لشروط التداول اللغوي من حيث هو حِسٌّ عملي متجذر فِي الفاعلية الِاجتماعية للناس ؛
- ثالثا، ليس من الموضوعي في شيء النظر إلى المقتضيات اللغوية في المغرب ضمن الحدود المُكرَّسة من قِبَل "ميثاق التربية والتعليم". فالأهم الذي لا يُتَطَرَّقُ له، في معظم الأحيان، هو أن "لغة ٱلأم" إنَّما هي إحدى اللهجات العاميّات، واللغة ٱلمهيمنة مُؤسسيا واجتماعيا هي اللغة الفرنسية. وبالتالي، فإن اللغة ٱلمطلوبة إقليميا، التي هي العربية الفصحى، واللغة ٱلمهيمنة عالميا، التي هي ٱلإنجليزية-ٱلأمريكية، لَيْسَتَا الوسيلة التداولية الفعلية، وإنَّما تبقى كل منهما مجرد إمكان لغويّ مُحدَّد في تَحَقُّقِهِ، ليس فقط بشروط اقتصادية-اجتماعية-ثقافية هي التِي تتحكم عادة فِي مسار التمدرس، بل أيضا وابتداء بالأسبقية الطَّبْعِيَّة للهجات العاميّة وبالهيمنة المؤسسية والِاجتماعية لِلُّغة الفرنسية وبالتعقيد التقليدي للعربية ؛
- رابعا، يبدو الواقع اللغوي في ٱلمغرب أعقد مِمّا يَتَوهَّمُه كثير من الدُّعاة ٱلمتحمسين للتعريب أو لِدَسْتَرة ٱلأمازيغية أو لِحفظ ٱلِازدواجية العربية-الفرنسية. فالمغرب (البلد الأفريقي-الأمازيغي-المتوسطي-العربِي-الإسلامي) ليس كتلة منسجمة متناسقة من الناحيتَيْن العرقية واللغوية، بحيث يُمكن التمييز فيها بين ثلاثة مُكونات عرقية-لغوية متمايزة و/أو متداخلة هي "الأمازيغية" و"العربية" و"الفرنسية". ذلك بأن المغرب قد سكنته أو مرّت به منذ عشرات القرون أقوام متعددة ومُختلفة: "الأفارقة"، الأمازيغ، الكنعانيون، المصريون، الرومان، العرب، الأندلسيون، البُرتغاليون، الإسبان، الفرنسيون. وفي ظل هذه التعددية المتجذرة تاريخيا وجغرافيا وثقافيا في المغرب يُعَدُّ من غَيْر المُسلَّم على الإطلاق أن يُقال إن السكان الأصليين هم هؤلاء دون أولئك. ولذا، فإن أي تدبير لغوي مُطالب بأن يجتهد في التعامل المتكافئ على أساس إنصاف كل أعضاء المجتمع بصفتهم مواطنين أحرارا ومتساوين في الحقوق والواجبات ؛
- خامسا، يصعب الآن -مع انعدام أو ندرة البحوث العلمية في لَهجات المغرب- ٱلميل إلى ٱلإيمان بأن "العربية" الرسمية و"ٱلأمازيغية" المفترضة و"ٱلفرنسية" المفروضة تتفوّق لُغويا على اللهجات ٱلمحلية. كيف يَصِحّ هذا والناس في معظم جهات المغرب يتداولون مَعِيشَهم اليومي مُذْ كانوا بلهجاتهم المحلية؟ وعليه، فإن أي تدبير لغوي لا يأخذ في اعتباره أن الواقع اللغوي بالمغرب يعرف تعدُّدا حقيقيا يشمل -أولا- مجموع اللهجات المحليّة ("العربية" و"الأمازيغية" على سواء)، و-ثانيا- العربية الفصحى والفرنسية والإسبانية كألسن معيارية، يفتقد بالأحرى كل الصفات ما عدا صفات الِاختزالية واللَّاموضوعية واللَّاواقعية ؛
- سادسا، لا يستطيع أحد أن يُجادِل -إلَّا مُكابرة أو مُعاندة- في أن "العربية الفصحى" تُعدّ مشتركا لغويا، ليس في المغرب أو في العالَم العربي فحسب، بل في العالَم الإسلامي وفي العالَم كله! فالعربية الفصحى هي الوريث ٱلأصيل للألسن ٱلأكادية وٱلكنعانية وٱلمصرية (ٱلتي أثَّرت جميعُها في ٱللاتينية واليونانية تأثيرا لا يكاد يُعترف به!)، وهي لغة "القرآن الكريم" كتاب أكثر من مليار ونصف من المسلمين في العالَم، وهي اللغة التي اخترقت معظم ألسن العالَم (فارسية، هندية، أوردية، تركية، أفريقية، فرنسية، إسبانية، إيطالية، ألمانية، إنجليزية، روسية، بُوسنية، إلخ.)، وهي اللغة التِي تستطيع -إن خضعت في كتابتها ونَحْوِها للإصلاحات الضرورية المستعجلة- أن تكون لغة التداول المشترك بين الشعوب والأقوام في العالَم العربي كله رغم أُنوف كثير من المُتنطِّعين ؛
- سابعا وأخيرا، كل اللهجات المحلية تتكافأ -لغويا- في قيمتها التداولية، بِحيث لا يصح أن يُعْتَرَفَ فقط بلهجة دون أخرى أو تُعتمَد هذه دون تلك. فمثلا في سوس، لا توجد فقط لَهجة "تشلحيت"، بل توجد أيضا اللهجة العربية "الهُوَّارِيّة"، وفي الأقاليم الصحراوية لا توجد فقط اللهجة "الحَسَّانية"، بل توجد لَهجات أمازيغية، وهكذا يستمر التعدُّد والتغايُر اللغوي عَبْر جهات المغرب المختلفة.
من كل ما سبق يُستنتَج أنّ أي تَمييز يَنْصبّ على لَهجة أو لَهجات لفرضها وطنيا أو مَحليّا يُعَدُّ مَدْعاةً لبلبلةٍ لغوية لا حصر لَها. وأكثر من هذا، فهو -في الواقع- إما مُزايدة فِكْرويّة تَستغِلّ تغايُرا طبيعيا من أجل مكاسب سياسية معينة، وإما تَمييز عُنصري-عرقي يتستَّر فِي لباس لغوي من أجل إرضاء تَوَهُّمَات نُزُوعية ما. ولكي لا يتكرر ٱلمسعى ٱلمغلوط نفسه كما حدث -منذ عقود- مع ٱلتعريب ٱلْمُكَرِّس للبلبلة، فإنه لا بد من اعتبار ٱلأمور الثلاثة التالية:
أ- مَجموع اللهجات القومية/الوطنية روافد للمشترك اللغوي بين كل المغاربة، وهي متساوية ومتكافئة، ليس فقط في قدرتها التواصلية، وإنَّما في إمكان الِاهتمام الدراسي/البحثي في إطار مُؤَسَّسِيّ مُوَحَّد يُعنَى باللغة في المغرب، من غَيْر تَحديد ولا تَمييز، ويسعى إلى إيجاد صيغة عملية وناجعة للقيام بتدبير لغوي هادف ومُثمِر ؛
ب- ضرورة القيام بالإصلاحات اللازمة لتيسير اكتساب واستعمال "العربية الفصحى" كلغة تُمثِّل "المشترك اللغوي" محليا وإقليميا وتتمتع بتراكُم معرفي واستراتيجي لا يمكن التفريط فيه، وهو ما يجعلها تقتدر على الإبداع الثقافي والحضاري وتُواكِب التطور المعاصر في التقنيات والعلوم ؛
ت- انتهاج سياسة تعليمية تقوم على تفتُّح اختياري تُجاه كل اللغات المؤثرة في العالَم المعاصر، والكَفّ عن ضمان هيمنةِ لسان أجنبي واحد لا يَملِكُ، في الواقع، أي امتياز سوى ذاك الذي يُؤهِّلُه لأن يكون أحد أهم الألسن التي يَميل نَحوها ٱلِاختيار التعلُّمي لِمَنْ شاء من المواطنين.
إن هناك كثيرين -حتى بين ٱلمتخصصين- يظنون أن المشكلة اللغوية في المغرب ستجد حلها الأمثل لو أمكن توسيع "التعريب" وتقوية تعليم اللغات الأجنبية وإعداد برنامج وطني لتدريس "الأمازيغية". وبِوُسع هؤلاء أن يَجتهدوا ما استطاعوا في مثل هذه المشاريع من دون أن يَطمعوا يوما في تَجاوُز "البلبلة" المغربية. وما من سبب يتهدَّد بالفشل كل الأعمال -التي لن يَنقُصها في الغالب الإخلاص أو الجدِّية- المُقدَّمة في هذا المجال سوى الغفلة عن هذه الحقيقة الصعبة والمُقلقة: يُولَد ٱلمغاربة ويَشِبُّون، ويَحْيَون ويَمُوتون، على لُغات أمهاتِهم اللواتِي لا يعرفن في سَوادِهِنَّ ٱلأعظم سوى لَهجات عاميّات. وإن تكن من نتيجة تترتَّب على هذا، فهي أن التفكير ينبغي أن ينصبَّ، قبل أي شيء آخر، على كيفية جعل "لغة الأم" هي لغة التعلُّم والتداول اليومي، قبل أي مُحاولة لتعليم الأطفال لُغات غريبة عن مُتَخَيَّلِهم ومَعِيشهم. لكن، إلى أي حدّ يمكن أن تذهب المُجازفة بالذين يتحمّسون لهذا؟ هل تستطيع، في الواقع الفعلي، "لغة الأم" تلك (ونعني بها "العربيات العامية" و"الأمازيغيات العامية") أن تُؤدي الوظائف المطلوبة من دون تكاليف باهظة على مستوى الموارد البشرية والتقنية والغلاف الزمني؟ ألَا يتعيّن الدخول في سيرورة للتدبير اللغوي على أساس ما هو قائم ومتحقق وبمراعاة التكامل الوظيفي بين كل المكونات اللغوية، بعيدا عن كل التوهُّمات والتوجُّسات؟
لعل تلك هي ٱلأسئلة التي يُلِحّ طرحُها على كل ٱلمعنيين والتي كان يجب، من ثم، السعي بِجِدّ لإيجاد أجوبة حقيقية لها. غير أن فُرقاء الشأن التعليمي بالمغرب أَبَوْا إلا أن ينخرطوا بالناشئة المغربية في دهاليز الارتجال والاستسهال منذ أن "حصل استقلال" المغرب عن الاستيطان الأجنبي، وهو الأمر الذي ازداد منذئذ تعقُّدا بمرور السنين، خصوصا بعد تَبَلْوُر المطالبة السياسية باسم اللغة والثقافة الأمازيغيتين، ومن خلال المُزايدة الحالية حول "العاميّة" المغربية، وهما مُطالبة ومُزايدة تَتَّسمان -في أكبر جزء منهما- بطابع غَوغائي وشَعْباني يُقوِّي التنازع والسجال ويستبعد الانخراط في مقتضيات التدبير الراشد للتعدُّد والتفاوت على كل المستويات.
وهكذا، فحينما ينبري بعض محظوظي التعليم المتفرنس وبعض ضحايا التمدرس الفاشل للدفاع -بدون قيد ولا شرط- عن "العاميّة" (كما لو كانت واحدة ومُحتتِنة) لكي تَصير (أو تُصيَّر) لغةً للتعليم والتواصل الرسميين كما هي بالفعل لغة للتداول اليومي، فإن الأمر يُعدّ مَدعاةً لتعميق البلبلة خارج كل مسؤولية تأخذ بالحسبان واقع التداول اللغوي في كليته وتعقُّده، ومتطلبات العصر في تنوُّعها وإلحاحها، وآفاق المستقبل في تجدُّدها وتوسُّعها. وإذا كان "المتفرنسون" يفتقدون الجديّة (وإلا، لطالبوا -بالأحرى- بفك الارتباط بالفرنسية المَحظيّة، وعَمِلوا على الخروج من هيمنتها المُرْدِيَة)، وكان أدعياء "التَّعْمِيَة" يجهلون واقع التداول (وإلا، لعَرَفوا الصلة الوُثقى بين "العاميّات" و"الفُصحى"، فسعوا -كما هو حال كل أصحاب اللغات في العالم- إلى "التفصيح" المُهذِّب بدلا من "التعمية" المُسيِّبة)، فقد ظهر أننا بصدد أُناس أو فئات يَجمعون بين أطراف الجهل والجهالة فيرتَمُون بعَمايةٍ في حروب تُخاض بالوكالة نتيجتُها الدنيا تعميق البلبلة وعاقبتها القُصوى تبخيس "العربية الفُصحى" من أجل التمكين لهذه اللغة الأجنبية أو تلك، مما يقتضي في العُمق ترسيخ التبعية على كل المستويات و، من ثم، استبعاد قيام مستقل لروح الإبداع والابتكار في إطار أصالة متجذرة تاريخيا واجتماعيا، ومتفتحة لغويا وثقافيا. ومن كان هذا حاله، فلا يُمكنه أن يُسهم في الخروج من واقع البلبلة المُستشرية، لأنه قاصر عن امتلاك الأدوات المناسبة لإقامة سيرورة تَكفُل التصدي الناجع لعوامل التجهيل والتضليل التي من بينها الدعوة أو المحاولة بكل الأشكال من أجل استبدال آليات "التعمية" بآليات "التفصيح" بعيدا عن كل تَبيُّن أو تَبصُّر، وإمعانا من أصحابها في خدمة مطامعِ ومُخططاتِ القُوى المتآمرة والمتربصة في الداخل والخارج، وهي القُوى التي تعمل دوما على قتل روح الاستقلال والإبداع المُلازمة أساسا للألسن الوطنية والقومية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.