بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط        خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الإرتباط بالشرط الإنساني والخطاب المنفلت
قراءة في المجموعة القصصية القصيرة جدا " أبراج" للقاص المغربي حسن برطال
نشر في طنجة الأدبية يوم 18 - 07 - 2009

لقد فتحت مجموعة "أبراج " للقاص المغربي حسن برطال الباب على مصراعيه للوقوف على هنات وكبوات المجتمع وتطلعات شخوص قصصه الحالمة حينا، والرافضة أحيانا أخرى للظلم ، والقهر، والتهميش، ساخرة من الأوضاع، مادام قاسمها المشترك هو الإرتواء من معين المرارة المستدامة . إنها سفر في أعماق محيط القص القصير جدا، وعوالمه المدهشة، الحية ، المليئة بالأصوات، والآهات، وردود الأفعال، والألوان، والروائح . إنها مملكة أبراج شاهقة، وكأنها على خريطة قروسطية عاجة بالصراعات، والحروب ، والدسائس ، متأهبة شخوصها على الدوام لمواجهة عدو خارجي ، لن يكون في النهاية سوى القارئ، أو الناقد . لذا، فدخول ممالك "الأبراج" هو سفر مثير في عالم من الضحك ، والسخرية، والبكاء، والتأمل، والحكمة . عالم يعج بكثير من المتناقضات، والفواجع، والأسرار ، لكنه محفز بشكل كبير، .يقول الدكتور جميل حمداوي " أن الكاتب يحمل رؤية ‘إنسانية قوامها الثورة على الكائن والسائد واستشراف المستقبل الفاضل الذي تحقق فيه إنسانية الإنسان ، ويسمو فيه الخير ، وينحط فيه الشر ويعلو فيه النبل والشهامة وتسفل فيه الأنانية والقيم المبتذلة" (-1) .
فالبرج إحالة على السمو والتعالي ، والناظر من الأعلى إلى الأسفل يتحكم في مجال واسع وممتد ، وزوايا الإلتقاط كما هو الأمر في السينما ، تجسده الكاميرا وحركاتها للدلالة الخاصة على اللقطة التي هي مجرد جزئية لتحليل ظاهرة تبرز عمق المجال ، وتموقع الأشياء، في عمق الصورة لبناء دلالة معينة، اعتمادا على تأطير ينبه إلى ماهو تشكيلي ، أو موقف يبرز الإختلاف بين الأشخاص، لكن الإلتقاط من أعلى كما هو الأمر في حالة الأبراج ، يصور الإنسحاق المطلق، ويبرز الصخب، والقلق، والعنف بوعي فني نادر جدا .
وإذا كانت الأبراج في دلالاتها السياسية تعبير عن الطبقية ، والسيطرة ، وبعد الحكام عن هموم المحكومين ، فإنها في المجال الثقافي تعبير عن فكر غير مرتبط بالواقع، وبعيد عنه بالمرة ، في حين اتخذت الدلالة الفلكية وجها معقدا ،" فتناول الإنسان كظاهرة اجتماعية اوسياسية أي كنتاج ثقافي (انتروبولوجي) يصير من الصعوبة بما كان تتبعه في حركيته الداخلية واقتفاء أثاره" (2-) لإرتكازها على ثوابت ومتغيرات بين الأبراج " وتتعلق هذه النقطة بالثابت والمتحول ، فالإنسان شكل دائما موضوعا للفكر وفي نفس الوقت شكل الذات الدارسة وصاحب فكر وكذا جزء من محددات الثقافة إلى جانب الدين والعادات والتقاليد... أما المتحول فيتجلى في الجانب الممارساتي والذي شكل زخما هائلا من السلوكيات اليومية والإهتمامات المتزايدة لفهم الإنسان لعالمه وطبيعة الأبراج (3-) ( النفسية والبيولوجية والسيكولوجية والمزاجية ) وكذا علاقات الإستقطاب ، والتنافر، والتماهي، والتفاعل .. مما يضعنا أمام حركية بثوابت محددة ، سواء دلاليا، أو فنيا ، أو معرفيا . بحيث " تنقسم الأبراج الإثني عشر إلى اربعة أقسام : أبراج نارية / مائية / هوائية / ترابية ، ..ولكل من هذه الأنواع طابع تميز بعضها البعض وتختلف من حيث طبيعة الشخصية والسلوك وطريقة التعامل مع المحيط"(-4) .وهو ما يفتح شهية التساؤل الجاد حول دلالات أبراج القاص حسن برطال، وإطاراتها المرجعية، وأبعادها الفنية ، ورسائلها المجتمعية ، وبالتالي حول قيمتها الفكرية والجمالية . فكيف اسنتطقت أبراج قصصه اليومي ، والنفسي، والخاص، بأبعاد فنية تتجاوز المالوف، لتحقيق رؤية جمالية واضحة للعالم، والحياة، والإنسان ؟
يشير الدكتور جميل حمداوي أن حسن برطال "يرتب قصصه القصيرة جدا ترتيبا فلكيا ويفهرسها دلاليا ويستقرئ دلالات القصص على ضوء الأبراج ومواصفاتها النفسية وطبائعها الأخلاقية" (-2) وهذا ما جعل المجموعة بتبويبها الواعي والقصدي للنصوص المنتقاة تدرج تحت محور خاص بكل برج اعتمادا على عناوين فرعية أساسية شكلت أعمدة فقرية ونقط ارتكاز للأفكار العامة، المشتركة بين كل القصص ، ولعل هذه القصدية بقدر ما أحالت على دلالة المعنى والمغزى الفكري، والجمالي ، بقدر ما طرحت تصورا جديدا، ومنظورا خاصا مضافا إلى جنس القصة القصيرة جد، ا ندرك معه أن حسن برطال كتب من خلال خلفية معينة، وقصدية محددة، وسياقات خاصة، وهو يؤسس لمشروع جديد ، بتوجه ورؤى واعيين .فإذا كانت الجمالية شرطا أساسيا لفنية التعبير حسب ماذهبت إليه الناقدة د سعاد مسكين (-3) وهي ترصد ملامح القصة القصيرة جدا " الوجه القزحي / الوجه الزئبقي/ الوجه اللعوب / الوجه البشوش / الوجه العبوس / الوجه الغريب / الوجه العجائبي / الوجه المتعدد / فإن أبراج حسن برطال تضمنت إلى جانب هذه الأوجه أوجها أخرى كالوجه المستبد والوجه الميتافزيقي .. إلى درجة أن أبراجها الإثنتا عشرة هي إحالة على أدرع القصة القصيرة جدا وهو أمر يجب تعميق البحث فيه لتدقيقه . وننطلق في هذالا الطرح على اعتبار أن " فعل القص ..عمل فني ذا خصوصيات فردية (و) يبقى واقعا مبدعا باللغة وفي اللغة له فرادته وفتنته وهويته مما يجوز لنا معه القول إن كل أقصوصة هي واقع ورقي يتماهى أحيانا مع مشهذية من واقع الناس ..ولكنه في ذات الوقت ينأى عنها بعيدا في اقاصي التخييل والحبك السردي فينفلت الكلام من زمنه ومن أفضيته ولايبقى بينه وبين القارئ غير المعنى المفتوح على التأويل" (-4) وقصص حسن برطال تفتح المجال على مصراعيه للتاويل أمام امتداد مساحات من البياض ونقط الحدف وهذا الإلتقاط الذكي أشار إليه الدكتور جميل حمداوي في كون الكاتب يكثر من " نقط الحدف ليخلق بلاغة الإضمار والصمت بدلا من بلاغة الإعتراف والبوح .. ويلزم الفراغ النقطي قارئا ذكيا لما يكتبه حسن برطال لأن قصصه قنابل موقوتة" (-5)
لقد شكل البياض سحرا وتمنعا سواء أمام القارئ و الناقد ويتطلب قدرات هائلة وجرأة للتاويل المناسب والدقيق ، يشير القاص والناقد السينمائي محمد شويكة في هذا الصدد أن " البياض لغة، الفراغ لغة ..المشكل يكمن في حسن توظيفه ، (ف)بعض البياضات تزلزلنا ، وتهزمنا من الداخل، لأنها تقف فعلا عند عجز اللغة ، وكذا عند مأساة الإنشطار بين هاتين الحقيقتين النابعتين من صلب أسئلة الكتابة "(6-)فقصص حسن برطال لها ارتباط بالشرط الإنساني ، والخطاب المنفلت على الدوام ، لأنه من الصعب جدا الكتابة بكثافة مطلقة، وتركيز كبير، وتضمين قيم إنسانية، فنية، وجمالية، وصور آسرة ، وبليغة بعمق مطلق، إن لم يكن كاتبها من طينة خاصة وناذرة.فالكتابة القصصية القصيرة جدا تسعى إلى المطلق، ونحن ندرك حسب ما أشار إليه الدكتورمصطفى يعلى في تقديمه لهذا الجنس " أن الإقتراب من محراب هذه الحورية الهلامية الساحرة ليس بالمهمة الهينة ، حتى وإن استسهله بعض عشاق روائها من ممتطي الخيول المتحمسة للقفز والتجاوز إذ أن لظى حضنها قد يدفئ لكنه يحرق أيضا فلما لهذا السرد القصصي من شروط أسلوبية وبنيوية ودلالية مما يتطلب رهافة خيال وحاسة جديدة وخبرة عميقة بفن القص" (-7).
ومما يجعل منة نصوص أبراج نموذجا جليا من جنس أدبي كبير هو أسئلتها المقلقة وومضها السريع وتحقيقها لكثافة لغوية وبلاغة رمزية عالية مادامت القصة القصيرة جدا حسب د عبد العاطي الزياني " جنسا أدبيا فهي غصن في شجرة الأدب ومن تم لابد أن تتسع مكتسباتها وتجاربها مغتنية أفقيا وعموديا في اتجاه مزيد من انتهاك السائد ونبد الإستطراد وإلغاء الحشو لصالح الإقتصاد والتكثيف والرمزية والشحن ورفع سؤال الكتابة فوق كل الإلتزامات لتصبح ومضة تشع ..محققة درجة فصوى من الشعرية في اللغة إلى حدود الإلتباس في تجنيسها" (8)
ونشير منذ البداية أننا إزاء نصوص لاتهادن ، اعتمدت التوظيف الدقيق للمصطلح ، بحنكة هدفت إلى تكسير أفق المتلقي وإرباك انتظاراته ، تلعب على ثنائية التضاد سواء من خلال اللعب على المصطلح أو المضمون وهي تحفر بعمق داخل النفس البشرية والعادات والتقاليد والثوابت والمطلق تفجر وتنسف وتعيد البناء فاسحة مساحات كبيرة للبياض ونقط الحدف ،وهذا " ما أحدث طفرة نوعية مستحدثة في تطور السرد القصير نحو مزيد من القصر والتركيز والشاعرية والعمق إلى درجة أن القصة القصيرة أصبحت تكتب أحيانا في سطر "(9-) وهو ما فتح المجال لقراءت تأويلية متعددة نظرا للإكتناز المفاهيم وتعدد دلالاتها واحالاتها وزوايا التقاط الوقائع وصورها ، بحيث تتحول العلاقات الإنسانية مثلا بدلالاتها من سياق مفاهيمي إلى آخر وفق المنظومة اللغوية الواحدة ، إضافة إلى تعدد ضمائر السراد ومستويات خطاباتهم ، وقدرات تلقيهم وأوضاعهم الإجتماعية ، وتكوينهم الثقافي وتمثلهم للظواهر وتفسيرهم لتداعياتها وامتداداتها في الزمن وانحصارها، فجاءت النصوص حارقة، سواء بشخوصها المرضى، أو المستبدين ، أو المثقفين، أو الشعبيين ، منهم المقنع والسافر والجاحد والبليد والغامض والمريض نفسيا ..
في حين يحيلنا مفهوم البرج على أبعاد ولآلآت أخرى : الفلكية / السياسية / الثقافية / الإجتماعية ، لتفرز نظرة انتقادية تعطي مفهوما مخالفا ومغايرا للعالم والظواهر والأشياء من خلال اللعب على المعنى والبناء المركبين والصور التقابلية اللعوبة المتقاربة حينا والمتباعدة أحيانا اخرى أو المختلة بشكل مطلق . فاللفظ (أوالكلمة) عند القاص حسن برطال غالبا ما يجب البحث عنه وعن دلالاته خارج السياق المؤطر له بدخول حقول معرفية أخرى للإكتشاف طابعه الحربائي لأن نصوصه متمنعة لامطلق فيها ، نظرا لإنتقال المفهوم في كتاباته من المحسوس إلى المجرد وهو ما افرز بلاغة تتعدى المفهوم الضيق والأحادي النظرة وهي مسألة ارتبطت حتى بدلالة العناوين الرئيسية للأبراج التي بقدر ما عكست رؤية عامة لظاهرة معينة داخل البرج الواحد ومختلف تمظهراته بقدر ما جنحت إلى أبعد من ذلك لأستكناه خصوصية ما . كما أن نهاية نصوص القاص حسن برطال تبقى مفتوحة ومحيلة على استمرارية زمنية ومكانية وكانها بداية لتشكل نص آخر . فجاء الرصد عميقا وساخرا ومنتقدا للعديد من الظواهر كاختلالات المجتمع وتجاوزات أفراده ومعاناتهم داخل نسيج معقد للعلاقات الإنسانية انتقد من خلاله الجاهز من الأحكام والنظرة الأحادية والبسيطة لتفسير أعقد الظواهر ، ليستمر الحفر داخل الوجدان والتاريخ الإنساني كاشفا عن المتواري منها والمقنع، لأبراز الحقيقة . وهو أمر حيرنا كلما انتقلنا من برج لآخر وكأننا إزاء قراءة في متن التاريخ الإنساني المليئ بالفواجع وقد رصده مؤرخ مجهول عصف مخطوطه بكتابات مؤرخي البلاط مما منح القصص قدرة كبيرة على استيعاب فضاعات العالم بل محاكاتها بشكل مطلق دون التخلي على وظائفها الأساسية المتمثلة في زئبقية المعنى المنفلت والحكاية المبنية باتقان داخل امتداد نصوص لايتعدى الواحد منها بضع كلمات ..
لقد انتصرت نصوص أبراج لإنسانية الإنسان وحقه في الحياة واتخاد القرار واحتفت بالسعادة وتقديس الفكر الحر ، وغنت للحرية ضدا عن الوهم والإستغلال والخنوع وسيادة التسلط ..لتؤسس بأفكارها ومواقف شخوصها الجريئة لكتابة قصصية قصيرة جدا لكنها مغايرة هدفت إلى تحقيق عدالة اجتماعية ورؤية جمالية واضحة المعالم للحياة والإنسان على السواء .
I لا هزيمة بدون أستسلام
إن المثير في قصص حسن برطال هو ذلك التبويب الواعي والقصدي للنصوص المنتقاة والمدرجة تحت محور خاص بكل برج ، اعتمادا على عنوان فرعي أساسي شكل عمودا فقريا ونقطة ارتكاز لفكرة عامة مشتركة بين كل النصوص المدرجة تحته .ولعل هذه القصدية بقدر ما أحالت على دلالة المعنى والمغزى والقيم الفكرية والجمالية التي تتشح بها النصوص، بقدر ما طرحت إشكالا كبيرا للقارئ ، في ضرورة رصد معالمها الحقيقية ، واستكناه خصوصية الخطاب، وأبعاده ، انطلاقا من النصوص المعتمدة على الكثافة، وانفلات المعنى ، وتعدد الدلالات، مما حولها إلى نصوص مشفرة يمتلك صاحبها قدرات هائلة وتقنيات عالية ، ودقيقة، وفي نفس الوقت ودراية، مكنته من تحقيق إضافة جديدة لهذا الجنس الأدبي، إلى درجة ينتابنا معها إحساس بكون أبراج ، ربما هي نموذجا تطبيقيا واضح المعالم، شبه مكتمل التشكل، يؤسس لمشروع جديد، بتوجه ورؤى جديدين، يرتكزان على اللعب على التعدد ، والتركيب من خلال سياقات، تشكل كل منها إحالة على تعدد المعنى، مما يفسح المجال اللامحدود للكشف عن كتابة مغايرة ، حفرت في كل الإتجاهات ، من خلال استنطاقها لليومي ، والنفسي، والخاص، والمجالي ، والكوني .
فالمفهوم عند حسن برطال، يتلون حسب الظاهرة ، لكنه لايكتمل إلا بولوج الكشف عنه داخل مساحات بيضاء، وبين نقط الحدف والأسترسال، ومن خلال اشتقاقات كل كلمة بين قوسين، تحذيرا للقارئ وتنبيها على ضرورة الإستنتاج الرصين لمضامين النصوص ، من خلال عمليات القراءة .
لم يكن حديث سراده عن واقع الإستسلام وتقبل الهزيمة بشكل اعتباطي، بقدر ما كان نابعا من واقع المأساة، وقتامة اليومي .ففي برج الحمل تثار العديد من القضايا ذات الصلة المشتركة بمجال جغرافي تكون أبعاده لحظية مرة وأخرى تشكل امتداداتها الزمنية ، والتاريخية لتكون فكرة بليغة، يقول السارد في ص (7) *النص 1 ، " بفضل المظلات والواقيات الشمسية ..لم تعد هناك رواية "رجال في الشمس " كل الرجال يعيشون في الظل روايات" فالإحالة على رواية المرحوم غسان كنفاني وما أثارته من نقاش حول الوضع الفلسطيني بين البقاء ، والهجرة ، والمقاومة من الداخل / الخارج ، من خلال رحلة الرجال داخل صهريج شاحنة لعبور الحدود، أفضى بهم إلى الموت في النهاية . ليحلق بنا حسن برطال من واقع ملموس مليئ بالمآسي، إلى الصورة الثانية المتمثلة في كون كل الرجال الذين يعيشون في الظل ، روايات، في إطار من التقابلية التي تقدم معنى مغاير لايمكن الكشف عن ماهيته إلا بفتح أبواب التأويل، والإستقراء، لإبراز دلالة المعنى، وطريقة البناء، وتشكيل الصور، كإطار مرجعي للإطلالة على واقع الهزيمة ، والإرتقاء بوضع المأساة نحو الذروة، فالموت كان قدر رجال في الشمس لكن الرجال الذين يعيشون في الظل هم شخوص روايات الواقع الآخر / صانعي الموت المكرور على الدوام .
إن القبول بفكرة الإستسلام والموت داخل حاوية شاحنة في عتمة حرارة مطلقة تجعل من درامية الحدث وشخوص الرواية أبطالا ركنوا إلى الأستسلام قهرا .ولم يقف الأمر عند هذا الحد فرصد الكاتب لواقع الإستسلام تجسد في نص آخر ارتكز على الدلالة المتعددة لمعنى اللفظ الواحد (رأس) فجاء التشكيل بالكلمات محيلا على اللحظة والشيئ في نفس الوقت " حضرت أكلة "رأس السنة/"بتوابل " رأس الحانوت"/ ففقدت " رأسها " إلى الأبد"ص 10.
فلدلالة الرأس جاءت متباينة من خلال التوظيف داخل سياقات جد رامزة تشكل كل منها إحالة على معنى معين معلنة في النهاية عن هزيمة من نوع آخر – إفراط مؤد إلى الهذيان- وفقدان التوازن ، وإحالة على سخرية وتضارب هجين في تقليد الغرب والتشبع بأفكاره دون القدرة على مسايرته في كل شيئ ونحن نرزح في أغلال تقاليد وعادات وأنماط عيش من نوع خاص جدا .
كما نجد في النص رقم "22" صورة أخرى لنوع من الإستسلام المتشكل بفعل الصدمة " علمته كيف يهمس في أذنها حينما زعقت في وجهه" ص 11 مما شكل ارتدادا وخضوعا مطلقا من خلال بناء تقابلي يبرز بوحشية نوعا من السلوك الإنساني في بعض حالاته الشاذة ومظاهره العنيفة وهو امر لامحالة يكرس استسلاما ودونية وقهرا وقبولا بالهزيمة وبالتالي تلذذا بالتعديب وكشفا لتقلبات نفسية شخوص متوارية بشكل ضمني في الواقع المعاش.
إننا إزاء نصوص تؤسس لنفس الفعل تسخر بقوة من القتامة والقسوة والسداجة والغباوة ، وأمام شخوص يميطون أقنعتهم مبرزين الوجه الآخر للحقيقة المتوارية إزاء أفعال غير مدروسة أو محسوبة الخطوات." مما جعلها تشبه بطلقات سردية تسير بسرعة السهم وتنفجر بقوة الرصاصة .فهي غالبا ما تنتقي بداية مدهشة ونهاية مفارقة مستثمرة الإشتغال على التضاد والإفادة من السخرية والجرأة في مواجهة الكبت والقمع والفساد."(10-)
II تحليق خارج المتعارف عليه "السداجة والغباوة" / ملامح ق ق ج
بدخولنا لبرج الثور تضيق القصص الضامرة بسخريتها وانتقاداتها للسلوك الإنساني يقول السارد" استغل بطاقات التعبئة في تعبئة الجماهير فخسر الإنتخابات أمام هاتف نقال" ص 45 . إن عملية الومض جاءت بمثابة رصاصات بندقية قناص محترف لا تترك هامشا للخطأ في إرداء الطريدة قتيلة على الفور مادام استعمال التكنولوجيا المعاصرة أو الإفراط فيها تتحول من عامل لتحقيق النصر إلى عامل للهزيمة دون تحقق الهدف المنشود في غياب تواصل حقيقي للمرشح مع السكان واستماعه لهم عن قرب مما يبرزسداجة وغباء وسخرية تنتقد بشدة كل المتلاعبين.
إن كارثية الوضع أضحت تشكل في النماذج المصغرة نماذج لعالم تضحك فيه الغباوة حتى البكاء من خلال مواجهة مواقف حياتية وفق شروط وكيفيات نمطية دون القدرة على إجهاد النفس على الإجتهاد مما أفرز نقدا لاذعا للنمطية في التفكير والتعامل إزاء وضعيات مختلة بتصرفات عقيمة تكشف أن ما يتعلمه المرء يبقى محدودا في غياب منطق التكييف والإجتهاد.
هل نحن إزاء شخوص مرضى أم عباقرة تجاوزوا أزماتهم ومواقفهم الحياتية الرتيبة بالبحث عن أفق للتحليق خارج المتعارف عليه ؟
من هنا نلج من كوة صغيرة نحو عوالم الرشوة التي تنخر كيان المجتمع والتي شخصها طبيب ( القضاء) بحيث بعد كل مرحلة من مراحل المحاكمة تبرز معطيات أخرى ليحال المتهم على لجنة للحسابات للكشف عن مخالفات أخرى واختلاسات جديدة ، يقول الساردفي النص 11ص 17 " اقتلعوا معدته ..لكن الطبيب يصر على إرساله إلى المرحاض ليفرغ ما في بطنه مع كل عملية أو حصة كشف جديدة "
إن نصوص القاص حسن برطال تفرض قراءة من خارج الإطار نظرا لإحالاتها المستفزة والغير مهادنة للقارئ لندرك عمق منطق السخرية المرصودة داخل مستنقع الحياة .إن تظاهر الطبيب والمريض معا واستمرارهما في اللعبة يبرز الحقائق المتوارية وراء الصور والجمل القصيرة الغير مكتملة والمفتوحة على التأويل المطلق مما يدل في العمق على وضع غير مألوف حسب ما تفيد به صوره الظاهرة والعادية ( الغباوة) لكن في العمق ندرك الإنفلات الواقع حد الجنون للسيطرة على النفس والأعصاب من خلال تشكيل كاريكاتوري يبرز استنكارا ضمنيا ضد العقل الباطن وتنديدا بالظلم والإستبداد والغبن.
III اللعب على التوازي كشف عن الوجه الاخر للقصة القصيرة جدا
ثنائية الحياة والموت / الخير والشر
ان الإزدواجية والثنائية هي ما يميز مضامين تسعة وعشرون نصا قصصيا قصيرا جدا تم توظيفها من خلال اعتماد تقابلات ضدية وتحميل الكلمة الواحدة اكثر من معنى ارتكازا على محورين: الخير والشر / الحياة والموت وتظهر تجلياتها من خلال رودود أفعال الشخوص او سلوكاتها ونظرتها اتجاه الموقف الواحد فلم يقتصر الأمر على القيم الإنسانية او العلاقات الشخصية بل تعداها الى فوضى الحواس وتشوه الوجه الحضاري وابراز تاريخ الإنسان المشبع بالعنف من خلال نزعات شادة جدا .
ففي القصة رقم 4 ص23 تبرز ثنائية الخير والشر وضرب لمفهوم الفطرة الانسانية بظهور عامل التطبيع وغرس قيم العدوانية بعفوية في وجدان الاطفال لاشعوريا يقول السارد" حلت عاشوراء ..حملت الام اثناء عودتها من السوق ..قنابل ..بنادق ..مفرقعات ..وقالت لصغيرها : هذه لعب الاولاد ..اما الدمى فتخص البنات فقط"
إن سياق الخطاب بقدر ما ينحو بنا نحو العنف المبرر ، يفتح قوسا كبيرا للتساؤل عن التربية التي نمنحها لأبنائنا ، وكيف نساهم في تعليمهم العنف منذ الصغر من خلال إجبارهم على اللعب بلعب تحمل في طياتها وأبعادها دلالات التدمير والتخريب لتبرير موفقف الرجولة أو الذكورة والخشونة مما يبرز ثنائية قاسية وازدواجية في التربية تحيل على خطورة كبيرة تتجلى في غرس قيم العنف والشر الذي نستنكره ونستهجنه كلما صدر عن الأطفال الذين سيكونون هم رجال الغد ، وقد رسخ السلوك فيهم و في لاوعيهم أفكارا هدامة وقاتمة وشريرة.
إن تداعيات هذه الأفعال تتخذ وجوهها وتبرز بجلاء من خلال العلاقات الإنسانية سواء منها الحميمية بين الزوج وزوجته أ والعاطفية بين الأب وإبنه أو حتى مع الذات كسلوك غير حضاري يعري الوجه الأخر للتربية على العنف ، إذ يبرز أن الشر نزعة عدوانية متأصلة في وجدان المرء وثقافته ، وقد ترجمت كسلوك عادي عبر المداومة على ممارستها ويمكن رصد معالم هذا الطرح من خلال النص رقم 7 ص 24 حيث يقول السارد"تزوج من امرأة تمتهن الحلاقة ..فأدخلته الصالون الذهبي ...أقعدته على الكرسي المتحرك..مكنته من رؤية وجهه في المرآة ..ثم حسنت له بلا ماء "
إن تحول الحب إلى إذلال والزواج إلى مصلحة تفرغ العلاقة الحميمية من محتواها وتبرز سلوكا عدوانيا معقدا يتخطى كل القيم الفاضلة ويؤسس لبدائل لها غرست جذورها العميقة منذ الأزل . نفس الثانئية القاتلة تطيح بكل العلاقات الإنسانية الأكثر متانة كعلاقة الرجل بابنته مثلا حيث يتم قبل الإبن "رمزيا" بتحويله إلى أخ من خلال الحمل السفاح لفتاة من مجهول فتعمدت حرمان ابنها من حقوق الأمومة لتدرجه في خانة الإخوة واضعة والدها في قفص الإتهام" كان الحمل بطريقة غير شرعية ..فتعدر عليها أن تتخذه إبنا ..فاتهمت أباها واتخذته أخا "النص 17 ص26
إن القتل بقدر ما استهدف تدمير القيم الإنسانية خلف وضعا شاذا بتحويل وتشويه صورة الأب من طرف ابنته واتهامها له بزنى المحارم الضمني لتبرير حملها السفاح . أنه نزوح نحو تغليب الفوضى وتجريد الإنسان من طابعه الإجتماعي لسيادة منطق الغريزة الأولى القتل لتتحول الدلالة على الخير والحياة وفق منظومة بديلة دالة على الشر المطلق والموت المعلن مما يبرز حالة من تشظي القيم وموت الأخلاق.
IV موت الضمير / موت الأخلاق / هتك لإنسانية الإنسان
إن موت الأخلاق والقيم الفاضلة تم التعبير عنهما بالهشاشة والتسوس بدء من بيع المرئ لضميره ، وإشاعة التفرقة الأسرية وسيادة منطق الخنوع والتسلط والتمييز الطبقي وأنتاج الوهم ونبد الفكر الحر وزرع التفرقة والنزوع نحو القتل الرمزي حسب ما تم استخلاصه من النصوص المدرجة تحت عنوان عريض "برج السرطان" حيث سيادة الهشاشة والتسوس من خلال معادلات قصصية رياضية تبرز تجدر الهلاك. يقول السارد في القصة 4 ص 31 " استقال من وظيفته..وانتقل إلى مجال البيع والشراء وبدأ بضميره"
فالنص يبرز هشاشة القيم الإجتماعية غير المتاصلة في الوجدان ، معلنة عن نهايتها وتحولها المطلق فعملية البيع والشراء تتعدى المفهوم الإقتصادي المتداول لتنتقل إلى مفهموم رمزي له أبعاده وإحالاته "بيع الضمير" وانتقال من ممارسة الوظيفة الشريفة والكسب الحلال إلى مجال (بيع وشراء) من نوع آخر شكل فيه بيع الضمير بإحالاته الأخلاقية والرمزية كأول معاملة تجارية للبطل ولم يقتصر الأمر على الفرد بل تعداه إلى العائلة كمفهوم وتشكيل اجتماعي حيث نجد في النص رقم 5 ص 32 إحالة على تفسخ الأخلاق وانحلالها من خلال عينة صغيرة يمكن اسقاطها على مجتمع بأكمله يقول السارد" اجتمع افراد العائلة لدراسة كيفية تشتيت شملهم" لندرك عمق النظرة إلى الواقع وإلى استكناه الطرح القائل " الناس كلما اقتربوا من بعضهم ابتعدوأكثر فأكثر " في إحالةعلى استحالة التواصل وبالتالي التعايش داخل المجتمع الواحد بتشييد صروح شاهقة من العزلة والإنغلاق وبتوسيع دوائر الخلاف والتنافر داخل مجتمع استهلاكي مادي بشع يفقد فيه الإنسان شروط إنسانيته بتحوله لمجرد تابع في مجرة الأقوياء والأسياد وهو أمر يحيلنا عليه نص آخر رقم8 ص32 يقول السارد " اقتلعوا ضرسه وعلموه كيف يأكل بعينيه / اقتلعوا لسانه وعلموه كيف يكلم الناس رمزا/لكنهم أبقوا على شفتيه ليقبل يد الرئيس"
إن الإحالة على موت الحرية تدخل ضمنيا المجتمع ضمن خانة الإستبداد والعبودية وتقتل عمق وجوهر العدالة الإنسانية بسلب الفرد كل حقوقه في القرار والإختيار وبالتالي العيش الكريم ، إنه هتك لإنسانية الإنسان وإجهاز صادم على ذاته في مجتمع الهشاشة النابذ للفكر الحر ، والمقدس للوهم والهباء ، يحتقر العلم والمعرفة وير كن إلى تفسير الوقائع اعتمادا على منطق القوة والعنف والتسلط.
إن استمرار الحياة وتدفق نسغها الساحر والدافئ لتحقيق سعادة الإنسان تبدأ انطلاقا من تقديس حرية الفكر وعدم تقييده ، بفسح المجال للإنتقاد والجدل والتشاور لتحقيق مواكبة أو تطور منشود ومرغوب غير ان القصة 16 ص34 كان لساردها رأيا آخر يقول:
" شرب من "ماءجرة" ارتوى، تابع عمله بنشاط لكن مرارة المداد من "جرة قلم " أوقفت عمله وقلبه"
لعل البناء التقابلي في هذا المشهد بين جرة الماء ،/ جرة القلم تبرز تعارضا حول مفهوم "الجرة" فإذا كان الأول محيل على الحياة فإن الثاني إعلان عن الموت وفتح لأسرار المجهول ، والتقابل بين الماء نسغ الحياة / والمداد نسخ الحرية الفكرية يمنحان الفرد قوة الإستمرارية لكن بتعارضهما يتحول المداد على غير طبيعته إلى عامل للحتف والقتل وايدانا بموت الحرية والإنسان على السواء.
V العنف وأسئلة القصة القصيرة جدا
برج السرطان / التسلط والإستبداد
تفضح النصوص بحرقتها شخوصا مستبدين ومتسلطين مشكلين وجها آخر من وجوه القصة القصيرة جدا ، وتعرية لجسدها النحيف جدا الذي يحاكي عالما كبيرا مبرزة عمقه وجوهره الإنسانيين المتشبعين بالزيف مميطة أقنعة شخوصها الواحد تلو الآخر ، واضعة إياهم أمام الأمر الواقع الذي لم يكن في الحقيقة سوى واقع القصة الحربائية المعاصرة التي تتغير معالمها ومحدداتها مع كل قراءة لتنفلت خلال لحظات لن تتكرر في سياق من السياقات.
إن إرتكاز الأبراج كمفهوم ومجال رغم فرضها لخصوصية ولحمولات معينة يفتح شهية التساؤل ، ويفرز أسئلة جديدة لواقع القصة وماهيتها من خلال جدلها الكبير الذي بات يفرض على الدارسين والمهتمين ضرورة الإنكباب على دراسة تراكمها للبحث عن الإضافات الجديدة التي بقدر ما هدفت إلى تكييف النصوص وجعلها ضامرة ، بقدر ما هدفت إلى الإرتقاء بها شكلا ومضمونا مما أفرز خصوصيات جديدة وتصورات بليغة وجماليات وتوظيفات آسرة بل مدهشة أحيانا .
وأنا أتأمل لغة نصوص أبراج الخالية من العناوين باستثناء العناوين الفرعية أجدها قد شكلت وجها مغايرا بتأسيسها لجماليات لامحالة ستعمل على ابراز بعضا من ملامح هذا الجنس من منطلقات موضوعية . فتحميل أكثر من خمسة وعشرين نصا لنفس العنوان الفرعي مع توظيف جماليات متعددة جعلت من الفكرة المحورية تمارس سيادتها بكل تسلط واستبداد مطلقين وافرزت تناولا مغايرا لما هو مألوف من حمل كل نص لعنوانه الخاص .يقول السارد في ص39 النص (1) عاد الشاعر من المهجر ...فأجبرته شرطة الحدود على جمركة حمولاته من الكلمات" في حين يطالعنا النص4 من نفس الصفحة بوجه آخر للإستبداد والتسلط والتهور يقول السارد " استبدل عجلات حافلته بعجلات الزمن ..ثم تابع الرحلة ولما ضعط على الفرامل توقفت حياة الركاب"
إنه استبداد مطلق أكثر عنفا يصيب فب مقتل الفاعل والمفعول به ، فتحصين بلد أمي من الثقافة وتشديد الضغط على مثقفيه لا محالة سيكرس مفهوما أقوى للرقابة على الفكر الحر لسيادة الجهل المطلق وسيدخل البلد ضمن خانة التخلف والإنغلاق الثقافي مما سيوفر تربة خصبة لإستفحال الفساد واستنبات الإرهاب بكل أنواعه وسيقوي المعتقد الشعبي والفكر الظلامي والغيبي لندرك أن الهاجس الأمني والحصار المضروب على الفكر التنويري لن يخدم البلد في شيئ بقدر ما سيساهم في تنوير الإرهاب وانتعاش القتل والعنف والرعب والخرافة مما سيؤدي في النهاية إلى بروز حالات شاذة ونماذج بشرية متهورة غير محصنة ضد نفسها تستبيح المحضور وتستهين بالأهوال والأخطار ، كما هو الأمر بالنسبة لسائق الحافلة حيث لغة القتل تدخل ضمن باب تحصيل الحاصل .
من هنا نجد القصة القصيرة جدا بلدلالاتها وعمقها وأثروخزها السريع الخاطف لاتنأى عن التحدير والتنبيه ودق ناقوس الخطر بحيث تختزل الخطاب السياسي والديني والقانوني وتقدمه مفهوما وجليا لكن بسخرية لادعة جدا من خلال اللعب بالكلمة والدلالة والرمز.
VI اللعب المتعدد وجه من أوجه القصة القصيرة جدا
وهو أمر ينجلي بوضوح تام كأحد أركان القصة القصيرة جدا ومن بين مقوماتها الأساسية بحيث يتم اللعب على المعنى إنطلاقا من بناء مركب بدقة وبكلمات محملة بمعاني متعددة قاسمها المشترك الإحالة على الصور المتقابلة التي تبرزاحتمالات متعددة يفهمها كل حسب قدراته واجتهاداته وتأويلاته ،وهو نوع من اللعب الذي يبرز القدرة والحركية سواء في الكتابة أو اللعب بالدلات لإبراز ذلك الوجه اللعوب للقصة القصيرة جدا .يقول السارد في النص (2) ص47
" قضت المحكمة بعدم الإختصاص في قضية تغيير اسم( نائبة) الدهر( بممثلة )بالبرلمان ."
إن الكلمة تحمل أكثر من دلالة وتعري واقعا قاتما في المشهد السياسي وبتحول التمثيل البرلماني المحدود زمنيا بفترة معينة إلى خلود في نفس المنصب مما يقصي ضمنيا فكرة التناوب البرلماني وتحويله إلى تمثيل من نوع آخر لوجوه يتكرر تواجدها مع كل دورة. في حين يم فتح قوس عريض لمناقشة حياد القضاء السلبي في القضايا المهمة أو المصيرية الخاصة بالشعب ..
إنه نقد لادع لفكرة الخلود في المناصب يبرز تنصل القضاء من مهامه الرئيسية بدعوى عدم الإختصاص ويكشف عدم استقلاليته المطلقة كاشفا عن حبال اللعبة القذرة في تكريس النظام لبيادقه رغما عن أنف الشعب .وفي نفس الوقت قدرة القصة القصيرة على احتواء اللعب الذي يعري التلاعب الضمني لأبطالها .كما نلمس نفس الصورة في نص آخر ص48 يقول السارد " أجرت إحدى المؤسسات التجارية مباراة لتوظيف "إمرأة كاتبة " ففازت "آلة "كاتبة بهذا المنصب من بين عشرين ألف مرشحة"
لقد تم البناء من خلال اعتماد سياق عادي تقابلي إمرأة /آلة – كاتبة تشتركان معا في نفس الصفة والفعل "الكتابة " تتقاطعان في " آلة" التي تحمل دلالات متعددة داخل سياق النص " مباراة مهنية "لندرك أن الفوز كان "للآلة " من بين عشرين ألف مرشحة..
فالنص يطرح سؤالا محوريا ويحيلنا على جواب ضمني كون المؤسسة كانت تبحث عن "المرأة الآلة" وليس عن" المرأة الكاتبة "بمواصفات إنسانية .
نصوص هذا البرج "العذراء" لاتحيد عن فكرتها المحورية المتمثلة في رصد نوع من التلاعب القاتم بالقيم وإنسانية الإنسان التي تفرغ من محتوياتها سواء الروحية أو الدينية ، أو الأخلاقية أو الإنسانية
ويمكن التوغل أكثر في عرض المسألة بوضوح داخل منظومة الأخلاق والدين والهوية من خلال التعرض لمفهوم الإحتفال بالعيد " الأضحى / رأس السنة "
فإذا كانت الإحتفالات الدينية تحمل في طياتها امتثالا لروح التضامن والشكر لله سبحانه وتعالى وسيرا على نهج السلف الصالح فإن الإحتفال برأس السنة يفرغ مفهوم الإختفال من كل قيمه الأخلاقية والدينية بدخوله زمن التأريخ للرذيلة والإحتفال بالمحضورات (جنس/ خمر /"عادات ديانة أخرى") ضمن واقع مختلف.
VII لا حقائق مطلقة في مجتمع مختل
هل هناك حقائق مطلقة داخل عوالم القصة القصيرة جدا ؟
سؤال تفرض الإجابة عنه التحلي بالصبر والحدر الشديد وبالتالي استقراء ماهية الحقائق التي يتم الوقوف عليها ورصدها من خلال البوح الشفيف لسراد برج الميزان الذي يرمز إلى العدل والحق و.. وهي مفاهيم لها دلالاتها الرمزية في حياة الشعوب والأفراد على السواء . وبدخولنا عوالم القص والقصص المندرجة تحت أحد أدرع هذا البرج ندرك أننا أمام حتمية المنطق الرياضي المبني على توابت تنفي الإحتمال والشك والتوقع في النتائج بنزوعها نحو استخلاص( النتائج )المأمولة والمنتظرة والنهائية .
يقول السارد في ص55 النص رقم (1)
" واجه سيف خصمه بلسان... فكانت طعنة الكلمة هي القاتلة وحسمت النزال"
إن الحكمة البليغة اتي نستسقيها من هذا النص تؤكد حتميتها انطلاقا من توابث مركزية ، تضع طعنة الكلمة في مقابل طعنة الحسام لندرك أن الكلام أشد وقعا من الحديد في الأثر والألم والعنف ، ولم يتوقف الأمر عند المقارنة الصريحة بل تجاوزها إلى الإحالة على أخرى ضمنية من خلال رصد االمشهد الإعلامي الغير معقلن بما يشوبه من تجاوزات وفوضى في نقل الخبر اليقين والصادق يقول السارد ص 55 النص 4
"اعتمدت الجريدة على أذن مراسلها بدل عينيه ../ نشرت أخبارا بدون صور "
إن لإلتقاط بالأذن يعطي صورة مشوهة عن الحادث عكس المشاهذة العينية التي تكون في صلب الحدث مما يبرز تقابلا صارخا بين قدرات العين والأذن فمن رأى ليس كمن سمع . وهو ما يطرح إشكالية الحقيقة المطلقة و النسبية في مقابل" اللاحقيقة "وفقدان المصداقية التي لم تعد مقتصرة على المشهذ الإعلامي بل تجاوزته إلى المشهذ الثقافي وموت المبدع وتشريد الإبداع ، فإطلالة على السوق الثقافية تبرز خلالا كبيرا بين العرض والطلب من خلال ميزان مختل يقول السارد ،
" لست في حاجة لمن ينتقد كلماتك ...أو يوجه لك نقدا ..لكن ديوانك يحتاج إلى مشتر يرسل لك ثمنه" ص 61 .
إننا إزاء أزمة سوق / قراءة / وقراء/ وأزمة اعتراف بالمثقف / وركود مشهد ثقافي بائس .فالمبدع يتكبد عناء كبيرا لإخراج عمله على نفقته دون أن يجد ولو التفاتة واحدة أو كلمة طيبة أو اهتمام يذكر ..لنطرح السؤال مباشرة على المبدع لمن تكتب ؟ ولماذا تكتب أصلا ؟ لكني أريد التأكيك على شيئ واحد هو أن فعل الكتابة أو جنونها بقدر ما يخلق اللذة يخلق الخوف ، المبدع لايكتب أحيانا لغيره بقدر ما يكتب لنفسه ، وأحيانا أخرى يكون العكس ، لآن الهدف هو إفراغ الصدر من أحزان وضجيج عوالم تنهار بداخله يحاول تدعيم أسسها بالبوح الشفيف والحارق فيحترق دون القدرة على تدعيمها في النهاية مادام الآخر يصلبه على سواري الجفاء بعدم الإعتراف به ونبد ه، وكأن صيحته تذهب في واد سحيق لا ترد الصدى فترديه بصمتها في النهاية دون تأبين يذكر ، إنها عدالة برج الميزان المقلوب المختل يعري زيفها ومظاهرها يقدم صورة الإنسحاق من خلال تبئير للكاميرا من الأعلى إلى الأسفل ، يقول السارد ص63 " دشن وزير الثقافة المركز السينمائي الجديد بالطريقة المعهودة ...قطع الشريط الملون بالمقص ..وحدف الصور والمشاهذ " .
إن الرقابة القاسية المضروبة على الإبداع هي الثقافة المعهودة والمألوفة وهي رقابة بقدر ما تعالج الخلل تذكيه بالحفاظ على سيادة نمط واحد لايتغير بقداسة عمياء لاتسمح بالتكسير وإثارة النقاش النزيه من أجل كشف مواطن الخلل وتهييئ تربة خصبة للإبداع الحر حيث تجنح الأفكار وتعانق الشمس مما يجعلنا أمام مفارقة كبيرة جدا.
يقول الدكتور محمد رمصيص " تنهض المفارقة في الغالب على موازنة أو مقاربة بين حالتين ينتجهما القاص من تضاد أو اختلاف يلفتان النظر سواء كانت مفارقة مصرح بها أو ضمنية وهذه التقنية بقدر ماتكون مصحوبة بالإدهاش بقدر ما تجعلنا نعيد اكتشاف المسلمات والبديهيات بكثير من الطراوة والجدة(-11)
VIII الإنتقال من الملموس إلى المجرد كشف لبعض حقائق الطبيعة الإنسانية
لغة الأبراج هي لغة بقدر ما تعكس السمات النفسية والقدرات العقلية للشخوص تمتاز بحفرها في ردود أفعالهم وأمجزتهم المتصلبة لتكشف بجلاء الطبيعة الإنسانية مبرزة حقائقها وبعض غرائزها ( الغدر والخيانة ) معرية النزعة الإنسانية القاتلة والمدمرة .فأبطال النصوص المندرجة تحت هذا البرج(برج العقرب) مهوسون بحب الذات متحصنين بكراهيتهم للآخر وببحثهم المستمر على تحقيق رغبات محمومة وقاتلة أحيانا على حساب الضمير والقيم والعدالة الإجتماعية لإرواء سغب النفس التواقة دوما إلى التميز بأشكال غير مشروعة مهما كلفها الثمن .يقول السارد ص 65
" وردة تخون العطر مع رجل ..رجل يخون المرأة مع وردة والمرأة تخون بلدا بقليل من العطر ووردة" ..
إنها سلسلة غذائية من واقع غابة بشرية ترجح غلبة منظق القوة والغدر ، تعلي من قيمة الرديلة وتقبر القيم الإجتماعية بشكل سافر .لقد تم بناء النص لبنة لبنة داخل دائرة مركزها الخيانة ، خيانة الرجل / المرأة / الوطن . وهي كلمات ذات حمولات جد كبيرة تفضي في النهاية إلى إبراز الوجه التابث للخيانة على على المتغيرات المحيطة بها وكأنها نظرية مركزها الخيانة وأطرافها الأخرى الذات الإنسانية والغريزة البشرية مع كل ما تحيل عليه الوردة وهذه الأخيرة انقلبت رمزيتها بدخولها إطارا دلاليا جديدا باعتبارها طرفا تابعا وسابحا في محيط معتم ومرير تنطلق بالفعل الإنساني وسلوكه المريض إلى حدود بعيدة تبرز ثقوبا عديدة في منظومته الأخلاقية .
نفس الصورة نقتبسها من نص آخر يقول السارد " تضاعفت أشغال البيت ..فاستأجرت السيدة خادمة ومع مرور الأيام "خدمتها" الخادمة في البيت والزوج" ص66
إن منطق الخيانة يتعدد بتعدد الأحداث والأزمنة والشخوص والأمكنة يتم رصدها من عمق الواقع المعاش وقد كشرعن أنيابها الفتاكة ونواياها المغرضة . وتجدر الإشارة إلى أن تعدد مضامين النصوص المندرجة تحت كل برج كبرج العقرب مثلا تحيل على دلالات اللغة المتعددة التي تتجاوز المالوف إلى المجرد ولاتستوي معانيها إلا من خلال سياقات النصوص وأحداثها فالعقرب تأخذ مفهوم الحشرة / عقرب الساعة / وميزان البيت والشعري وإيقاعه / والوجه البشري الغادر ( المرأة) أو كل ما يخالف المألوف والعادة فالقصيدة الرائعة بعد طلاقها من الشاعر وزواجها بالمغني الفاشل يغدر بها لأنه يسبب "خلل في ميزانها " 67 والفهم الخاطئ للدلالة عن الشيئ هو الآخر خيانة عندما لايرتبط السياق بالمعنى الأصلي ليتحول إلى خيانة كحالة النص المترجم . يشير القاص حسن برطال في قصة قصيرة جدا إلى أزمة التوظيف اللغوي للإستدلال على المنطوق خارج سياقه " أوصاه والده بالتمسك بالعقرب .. أصبح العقرب برجه المفضل يتحرك بتعليماته ..لكنه وبعد فوات الآوان أدرك بأن الوصية كانت في شأن عقرب الساعة " ()
إن خيانة الدال للمدلول عن قصد يجعل زوايا النظر إلى الحدث وايحاءاته تأخذ أبعادا عميقة تكشف عن الأسباب بعد تعرية النوايا لتتشكل الصورة الأخيرة بسخرية سوداء تبرز خبث النوايا ونتائج الإلتقاط النهائية الدالة على المأساة داخل برج بشخوصه المرضى ونفسياتهم المهزوزة وطموحاتهم الجارفة كالسيل . يقول السارد " وضعت أحمر الشفاه ..كحلت عينيها بسواد الفحم فتحول " المخزن" إلى جهنم أكل الباطرون" وشرد "العمال" 69 .
VIIII خلود الإستعارات وقتامة استعارات الموت
الجريمة/ "و" العقاب "
مقاربة هذا البرج (القوس) ارتبطت قصصه دلاليا بالجريمة في مفهومها الواسع منها الجرائم التي قد تصل حد العنف الجسدي والنفسي ومنها الأكثر بشاعة وعنفا كالتسبب في الموت والإنتحار، من خلال تصريف عنف مستمر تثير ردود أفعال أقل مايقال عنها جرائم في حق الإنسانية(الأفراد / والأفكار/ والمجتمع) من خلال توظيف استعارات دالة هادفت إلى تقريب السياقات المتعددة بحمولتها المتنوعة لتصيب أهدافها بضربة قوس لاتخطئ.
لعل توظيف تقنية الأبراج عربيا لم يسبق إليها القاص حسن برطال للدلالة على الخصائص العامة للشخصية الإنسانية قصصيا والتي هي في نفس الوقت متحركة زمانيا ومكانيا تنتج عنها أحداثا متنوعة ومتعددة تم رصد معالمها الإساسية من مظاهر الحياة العامة بحس انتقادي صرف يمزج السخرية بالإدهاش لحظة لحظة وفي أخرى تدفعنا بقوة إلى التأمل داخل دائرة بقع ضوء مصغرة للمجتمع وكبوات أفراده ومآسي شخوصه في حق بعضهم البعض ففي النص رقم 6 ص74 تفتح نافذة على نوع من الجرائم في حق الشعب وبالتالي في حق مرتكبيها يقول السارد
" تزوج بالوزارة الأولى ..ثم ماطاب له من الوزارات مثنى ..وثلاث ..ورباع..ولما خاف إن يعدل فرصاصة واحدة أراحته واستراح"
إن الإطار العام الذي تم توظيفه يبرز تناصا كبيرا مع النص القرآني واشتراكه معه في إبراز غياب العدل والوقوع في وزر جريمة عدم الإنصاف وتبعاتها ، فتعدد الوزارات كتعدد الزوجات يتسبب في الإرتجال والعشوائية والميل لطرف على حساب طرف آخر دون القدرة على الإنصاف والإيفاء بالحقوق وبالتالي غياب الصدق في التعامل والتدبدب وعدم الإتقان أو الرضى على العمل أو على المحبوب فالمشاعر لاتوزع وكذلك الحب يفرض الوفاء والمهمة تفرض التفرغ والدراية للتحكم في زمامها . أمام هذه الفوضى والعبثية لم يكن بمقدور بطل القصة سوى إراحة نفسه من كل التزاماته باقتراف جريمة في حق نفسه . إنه انتحار مجازي لمفهوم مركزة السلطة والنساء في اليد الواحدة وتحت جناح الشخص الواحد .
إن بلاغة القصص القصيرة جدا في أبراج تتعدى بأبعادها المفاهيم الضيقة والنظرة الأحادية الجانب ، وتفرض زوايا نظر متعددة للكشف عن كل الدلالات المنفلتة وهو أمر يمكن الوقوف عليه مع قصة أخرى ص 75يقول السارد
" قابيل دفن أخاه .. الغراب دفن أخاه ... زالذي قتل بغداد دفن نفسه "
إنه رصد لتاريخ الجرائم عبر التاريخ مؤرخا بدقة من خلال الإحالة على ثلاثة حوادث شكلت الأولى نقطة الإنطلاق والتانية عبرة للمجرم وإكراما من الرب للجثة كي لاتتعفن ، أما الحادثة الثالثة فلا يزال مفعولها ساريا في الزمن ومأساتها مستمرة تنحصر بين ثناياها كل الجرائم الممارسة في حق الشعوب والإنسانية بصفة عامة
بين مصطلح " أخاه" والإسم الموصول "الذي " نستنتج أن آخر المجرمين سيحمل وزر كل جرائم الإنسانية إذا ما اعتمدنا المنظومة الدينة الإسلامية وبالإعتماد على التحليل السياسي المعاصر نقف على هفوات النظام العالمي الجديد وجرائم أبطاله في حق شعوب الأرض لنستنتج أن بلاغة القصة تكمن في ثوابت توظيفاتها الحابلة بالسخرية والمحيلة على عمق التوظيف وبلاغة المعنىوأبعاده .فالجريمة بقدر ما تقترف في حق الآخرين تقترف في حق النفس كدلك .
" ضربته يداه ة..كبلها بالحبل ، ثم حملها على ظهره إلى مركز الشرطة " ص76
فالمفارقة الكبيرة في النص تكمن في عدم تحمل الضمير لعبئ الجريمة ، وانفصام وتضارب بين العقل الظاهر والعقل الباطن ، وجرأة ناذرة أن يصل المرئ إلى مستوى ردع نفسه بنفسه ضدا على حواسه وجوارحه فبقدر ما ما نستشف دلك السيل المتدفق من الصور العبثية واللامعقولة أحيانا نحس بنوع من الزلزال يجتاحنا منبها عقلنا الباطن ومخلخلا القيم المبتذلة بحثا عن الأخرى الحقيقية والصافية المعبرة عن طبيعة الإنسان الخييرة والأصيلة.
نفس الصورة البليغة نسوقها من خلال ومضة أخرى كتبت بكثافة كبيرة جدا تم اللعب فيها اعتمادا على التقابل المثير للدهشة والتساؤل " اليد اليسرى صوتت لصالحه ، ولما طعنت اليمنى في النتائج أصيب في القلب " ص70
إن الإحتمال الكبير في بناء النص يفرض البدء باليد اليمنى ، نظرا لما تحمله من قيم الصدق والخير والإحسان ..بخلاف اليسرى الدالة على الشر والبخل والشح ... لندرك أن القصدية في البناء تم بسبق الإصرار والترصد لتحديد وقع الجريمة ، لنستنتج ان المجرم الحقيقي هو الأقرب الى النفس من حبل الوريد ( المطلع على الأسرار والخبايا ) في حين أن اليد اليسرى كانت إشارة إلى الأشخاص الذين تم شراء ذممهم وتعامل معهم المرشح بنوع من النفعية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.