لا يختلف اثنان اليوم على أن قضية استيراد اللحوم والقطيع من الخارج قد تحولت إلى واحدة من أكبر فضائح المال العام في المغرب الحديث. فضيحة مدوّية، ليس فقط بحجم الأموال المهدورة، بل أيضاً بما كشفت عنه من اختلالات بنيوية في طريقة اتخاذ القرار، وتوزيع الدعم، والأخطر من ذلك: غياب تام للمحاسبة. فأن تُمنح 13 مليار درهم من ميزانية الدولة — أي ما يعادل ميزانية وزارة الصحة — لفائدة ما يعرفه عامة الناس ب"الفراقشية"، دون أن يشعر المواطن بأي تغيير في سعر كيلوغرام اللحم، فذلك ليس فقط تبديداً للمال العام، بل هو إهانة صريحة للقدرة الشرائية ولذكاء هذا الشعب. الواقع أن الأرقام التي تناقلها الوزراء والقيادات السياسية بخصوص هذه الفضيحة صادمة: حوالي 180 إلى 200 مستورد استفادوا من إعفاءات ضريبية وجمركية ضخمة، دون أي التزام منهم بخفض الأسعار أو ضمان وفرة المنتوج. في المقابل، بقي المواطن المغربي يدفع ما بين 120 و140 درهماً للكيلوغرام الواحد، في بلد فلاحي من المفترض أن يكون فيه اللحم أرخص من غيره. الوزير رياض مزور لم يتردد في التصريح بأن 18 من كبار المستوردين راكموا أرباحاً تفوق 1300 مليار سنتيم — أي ما معدله 72 مليار سنتيم لكل فرد — وهي أرباح خيالية تحققت تحت غطاء "الدعم الحكومي"، دون وجه حق، ودون محاسبة. وهي أرقام تؤكدها تصريحات كل من نزار بركة وإدريس الأزمي، الذي أشار بصراحة إلى أن هذه الإجراءات تم اتخاذها خارج الإطار القانوني، ولم تُقنن إلا في قانون مالية 2025. السؤال البديهي هنا: أين هي المحاسبة؟ كيف يمكن أن تُوزع هذه المليارات بسخاء على لوبيات الاستيراد، بينما لا يجد الفلاح الصغير ما يعيد به تكوين قطيعه، ولا المواطن ما يضعه على مائدته؟ هل أصبحت الحكومة مجرد وسيط لتوزيع الريع؟ وهل ما زلنا نتحدث عن "دولة الحق والقانون" إذا لم يُفتح تحقيق في واحدة من أوضح صور النهب المنظم للمال العام؟ ما قاله محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام، يعكس لسان حال المغاربة اليوم: "ما حدث ليس مجرد خلل إداري، بل سرقة موصوفة في واضحة النهار". سرقة لم يتحرك أحد لوقفها أو استرجاع ما يمكن استرجاعه، في مشهد يعكس تواطؤاً مؤسساتياً مقلقاً. اليوم، أصبح التحقيق والمحاسبة مطلباً مجتمعياً لا يقبل التأجيل. ليس فقط من باب العدالة، بل من باب الحفاظ على ما تبقى من ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها. فأن تُهدر هذه المليارات دون أن يُساءل أحد، هو بمثابة إعلان إفلاس أخلاقي قبل أن يكون مالياً. في النهاية، ليست اللحوم وحدها من أصبحت غالية. لقد أصبحت الثقة باهظة الثمن أيضاً.