الابتعاد عن اللغة الأم والاعتماد على اللغات الأجنبية هو مظهر من مظاهر التخلف لا التقدم عام 1866، أسس جمع من المبشرين البروتستانت في بيروت الكلية الإنجيلية السورية لتكون بذلك أولى جامعات الوطن العربي في العصر الحديث. وتميزت الكلية بأنها كانت تدرس باللغة العربية وهو أمر كان نادرا في حينه حتى على مستوى المدارس الثانوية والتكميلية. فقد كانت اللغة التركية هي المهيمنة على المدارس الرسمية واللغات الأوروبية على المدارس الخاصة. وبين مطرقة التتريك العثماني وسندان التغريب الأوروبي كانت اللغة العربية حينها عاجزة عن أن تجاري العصر ومقتصرة على دورها كلغة فقه وعلوم دينية. ومن المفارقات وسخرية الأقدار أن تساهم رغبة المبشرين البروتستانت الأمريكيين في إيصال الكتاب المقدس وتعاليمه إلى العرب في إحياء هذه اللغة وحل مشكلة الطباعة بها من خلال ابتكار ما عرف بالحروف المطبعية العربية الأمريكية. وعمل هؤلاء المبشرون أمثال ايلاي سميث وفان دايك مع خيرة الأساتذة اللغويين في حينه من أمثال ناصيف اليازجي وبطرس البستاني على تعريب الكتاب المقدس وروائع الأدب العالمي بلغة عربية فصيحة ولكن عصرية هي التي نستعملها اليوم في كتاباتنا. عام 2009 بعد أكثر من قرن ونصف، لم تعد الكلية الإنجيلية السورية، التي أصبح اسمها الجامعة الأمريكية في بيروت، مركزا منيرا للعروبة والعربية ولم يعد يتردد عليها أساطين لغة الضاد ولا روادها، وأصبحت الدروس فيها حصريا بالانجليزية وباتت كما قريناتها في باقي الأقطار العربية منبعا لجيل من المتغربين لغويا، جيل ينظر بازدراء إلى لغته ومن خلالها إلى ثقافته وهويته القومية. و لا يقف الأمر عند حدود الطلاب بل يتعداه إلى الأساتذة الذين لا يستسيغون الحديث بالعربية حتى خارج حصص الدراسة ويفضلون إما الإنجليزية الصرفة أو لغة هجينة ممسوخة تمتزج فيها العربية الركيكة بالإنجليزية الفصيحة. وأذكر يوما مررت فيه على أحد الأساتذة رؤساء الأقسام، لغرض، فإذا به يسألني بعد أن بادرته الحديث بالعربية عما إذا كنت لا أتقن الإنجليزية، فأجبته بأنني أتقنها تماما وتابعت حديثي بالعربية وسط استغرابه وكأن العربية لغة لا بد لك من أن تنبذها وتحرمها على لسانك إذا ما امتلكت لغة العصر الإنجليزية. واللائمة هنا ليست على اللغات الأجنبية ولا على التلفزيون ولا على الانترنت. اللائمة تقع علينا نحن كمثقفين عرب لأننا نتكاسل في الدفاع عن لغتنا وإذا ما فعلنا نتمسك بطرح محافظ جدا ظنا منا بأنه يحمي اللغة ويقويها ونطلق نظريات مؤامرة بينما نفشل فشلا كليا في إطلاق بديل جدي لما تنتجه الثقافة الشبابية عفويا. أولا وقبل كل شيء علينا أن ندرك أن الحفاظ على العربية لا يمكن أن يكون من خلال إجراءات حماية وانغلاق وتعتيم على الثقافة العالمية ولا من خلال سياسة رقابة لغوية صارمة. الحفاظ الناجح على اللغة العربية يكون من خلال تسويقها بشكل جذاب وعصري ومرن لتكون بديلا فعليا في يد الشباب العربي اليوم. الإشكالية الأولى والعدو الأول للغة العربية كلغة حية هو طرح اللغة العربية الكلاسيكية لتكون هذا البديل. إن اللغة الكلاسيكية ونعني بذلك لغة القرون الغابرة الأدبية ليست صالحة لعصرنا وزماننا. وهي وإن كانت ضرورة لفهمنا لتراثنا الحضاري وإرثنا الديني والفكري، ولذلك لا بد من المحافظة على تدريسها فإنها عقبة في وجه تحول اللغة العربية الفصحى إلى لغة محكية. عندما يفكر الشباب العربي بالفصحى القديمة فإنه يستحضرها إما للتمتع بجماليتها إذا ما تلا شعرا من الشعر الجاهلي مثلا أو لأخذ العبر الدينية إذا ما تلا قرآنا مثلا، ولكنه لن يتخاطب بكلمات مثل «يا قوم» و«يا معشر قريش» ولا بمصطلحات مثل «ويحك» ولا «لعمري» ولا «ثكلتك أمك». إن المعرفة بهذا التراث أمر وتصوير اللغة العربية على أنها متطابقة معه أمر آخر. لا بد من اعتماد اللغة الفصحى المبسطة والحديثة لأنها الحل الوسطي القادر على تشكيل البديل وهي لغة المقابلات التلفزيونية السياسية ولغة الصحف والمجلات وبالتالي لا بد من ضرب الصورة النمطية للعربية على أنها لغة «انتيكا» عليها غبار القرون. أما الذين يمعنون في استخدام اللغة العربية الكلاسيكية خارج الإطار الأدبي البحت فإنهم يمعنون في إبعاد الناس، والشباب خاصة، عن العربية. النقطة الثانية هي إشكالية العامية، وهنا ندعو إلى تصالح العامية والفصحى خدمة للعروبة. فالعامية ننظر إليها دوما وكأنها عدو العربية بينما هي في الحقيقة تمثل الشق المحكي من العربية وبالتالي أكثر جوانب اللغة حياة وحيوية. فبدلا من محاربة العامية تحت راية العربية الفصحى فلنحاول دمج الفصحى بالمحكية رويدا رويدا، وبالتالي تقريب العاميات حتى نصل إلى نوع من العامية المحكية المركزية على مستوى الوطن العربي ككل، تكون قريبة جدا من الفصحى العصرية المبسطة المكتوبة. فبدلا من أن نصور العامية على أنها لغة حمقاء ومنحطة وندعها مهملة وفريسة للتغريب: فيقول اللبناني «بدي اخود «برايك» من الشغل لأني «سترسد» اليوم» لماذا لا نشجع إدماج العامية مع الفصحى ونجعله يقول: «بدي اخود استراحة من الشغل لأني متوتر اليوم» وبدل أن يقول المغاربي «نبغي نسوني للامبيلاس بيش يوديني للسبيتار» لماذا لا نشجعه على قول «نبغي نتصل بالإسعاف بيش يوديني المستشفى». أما أن نحارب العامية ونطلب من الناس أن تتحول إلى الفصحى مباشرة فهي معركة خاسرة وأدت إلى إعراض الناس عن العربية ككل، ناهيك عما للعاميات من إرث وجداني وثقافي لا يمكن التنكر له لأنه جزء من ثقافتنا العربية. إن العامية والفصحى مكملتان الواحدة للأخرى، فمن دون العامية تكون العربية لغة جامدة مملة ميتة ومن دون الفصحى تكون العربية لغة محدودة ضيقة الأفق وعاجزة. اللغة العربية تكون لغة مكتملة بمحكيتها ومكتوبتها والهدف هو العمل باتجاه تلاقي هذين الشكلين للغتنا في منتصف الطريق لكي نكتب ما نقول ونقول ما نكتب يوما ما، وذلك في فصحى محكية شبه موحدة من المحيط إلى الخليج وإن تعددت لكناتها. الجبهة الثالثة التي تدور رحى المعركة عليها هي جبهة المعلوماتية وتكنولوجيا العصر والإنترنت وكل ما يتعلق بها. فمع بداية عصر التلفون المحمول وبدء ظاهرة الرسائل النصية بالانتشار، وفي مواجهة غياب الأحرف العربية عن هذه الهواتف بدأت ظاهرة كتابة ما يسمى بالفرانكو-أراب أي كتابة العربية بالأحرف اللاتينية واستعمال بعض الأرقام للتعبير عن الأحرف العربية الخاصة فال 7 أصبحت حاء وال 3 أصبحت عين وال 6 أصبحت وال 2 أصبحت همزة إلى آخر اللائحة. ولا شك أن هذه الطريقة حلت المشكلة في حينه وفتحت باب تكنولوجيا ال«س م س» أمام الشباب العربي. إلا أن المشكلة تكمن في أنه عندما توفرت إمكانية الكتابة بالعربية على الحواسيب والمحمولات استمر الشباب بكتابة العربية بالأحرف اللاتينية لأن الأمر أصبح عادة. وقد أطلق بعض الشبان العرب مؤخرا حملة عبر «الفايسبوك» ضد هذه الظاهرة وللدعوة إلى كتابة العربية بالأحرف العربية وقد لاقت الحملة تجاوبا كبيرا وانضم إليها آلاف الشباب العرب في أيام قليلة تعهدوا جميعا بعدم استعمال الفرانكو-أراب إذا ما توفرت إمكانية الكتابة بالعربية. إن حملات توعية كهذه ضرورية وكذلك تحويل المسألة إلى قضية التزام، خاصة وأن تعريب الوسائل المعلوماتية أصبح اليوم أمرا واقعا حيث تتماشى معظم البرامج المستعملة على الإنترنت وفي الحواسيب بشكل عام حاليا مع اللغة العربية. وهنا مرة جديدة تعتبر المحكية حليفة للفصحى في هذه المعركة وذلك لأن ميل الشباب للكتابة بالمحكية يتفوق على نزعتهم للكتابة بالإنجليزية، وبمجرد أن توصل هذه الرغبة إلى الكتابة بالحرف العربي فإن ذلك سيقود حتما إلى مزيد من استعمال الفصحى تماما كما أن استعمال الشباب للحرف اللاتيني يقود تدريجيا إلى استبدال العربية بالإنجليزية. أما الجبهة الرابعة فهي جبهة التسويق للعربية ونحن نقسمه إلى قسمين، التسويق العفوي والتسويق المخطط. أما التسويق العفوي فهو المرتبط ببعض المجالات التي لا تزال تخضع لهيمنة العربية بشقيها المحكي والمكتوب بشكل كامل مثل سوق الفن الغنائي والأفلام والمسلسلات، وهي كلها أدوات جبارة لإنتاج الوعي وللمحافظة على اللغة. وهنا لا بد من تشجيع الأغاني الشبابية وعدم محاربتها تحت عنوان الحفاظ على التراث الغنائي، إن التجدد في الموسيقى وغيرها من الفنون والتماشي مع سمات العصر ولكن بلغتنا العربية هو الذي يضمن أن شبابنا العربي سيتابع الاستماع إلى الأغاني العربية أكثر من الأجنبية. أما إعادة إنتاج التراث وفق الموقف المحافظ الجامد فهو طريقة لتهجير الشباب نحو الغرب والغربي. المطلوب ليس الجمود ولكن إلباس العصر لباس ثقافتنا ولغتنا وهو ما تنجح في فعله صناعة الأغنية العربية رغم احتجاجنا على بعض الاستثناءات السفيفة والمنحطة التي لم يخل منها بلد ولا عصر. وطبعا للتراث مكانته ولكن لا نستطيع أن نقف عند معايير زمان ليس زماننا وعقلية لم تعد عقليتنا. كما أن النوعية بالإمكان تجديدها دون النزول بمستواها وبالإمكان إنتاج أعمال فنية نوعية بألوان جديدة. كما تندرج تحت دائرة التسويق العفوي للعربية دبلجة برامج الأطفال والرسوم المتحركة بالفصحى أو المحكية. وهو ما يقرب اللغة من مخيلة الطفل بصورة لا مثيل لها ويجعلها، هي وليس الأجنبية، لغة اللعب والتسلية لديه. أما التسويق المخطط فيكون من خلال الحملات التي تحاول التوفيق دوما بين العربية والعصرية والحداثة، وذلك في كل الميادين ومن دون عقد. من الشعر إلى الأدب ومن الغناء إلى الخطابة. ومن الضروري تشجيع الشباب العربي على إنتاج رمزية عصره وحقبته بالعربية من خلال موسيقى الراب العربي مثلا ورسومات الجداريات العربية «الغرافيتي» والتركيز على قابلية لغتنا لفظا وخطا لأداء الدورين. و من ضرورات التسويق إصدار قاموس عربي سنوي تتم زيادة مصطلحات عربية جديدة إليه ولا ضير من تعريب المصطلحات إذا ما توفر بديل عملي وسهل مثل «هاتف» أو من أخذها كما هي وإدخال الكلمة الأجنبية بالقاموس العربي مثل «سندويش» بدل «الشاطر والمشطور والكامن بينهما». إن هذا القاموس إذا ما وجد سيشكل مرجعية لغوية تتيح للكتاب وللتلاميذ العرب ضبط إيقاع النمو الكمي والنوعي للعربية وسيثبت حيويتها وحركيتها. إن تجديد اللغة والنهوض بها أمر ضروري من أجل مسيرة التعريب التي هي بدورها ضرورية من أجل نهضة هذه الأمة. فما من أمة على هذا الكوكب إلا وبنت نهضتها من خلال لغتها القومية ولو كانت هذه اللغة بصعوبة اللغة الصينية واليابانية. فما بالك ونحن نمتلك لغة مرنة كانت يوما ما أساسا للدراسة في كل أنحاء العالم ولعبت الدور الذي تلعبه الانجليزية اليوم. إن من يقول إن العربية ليست لغة علم جاهل لأن العربية كانت اللغة التي كتبت بها المفاهيم الأساسية للكيمياء وعلم الأحياء وعلم الفلك والرياضيات وعلم الجبر علم عربي كما نعلم فما بال البعض يظن بأننا لا نستطيع إلا أن ندرسه بالإنجليزية؟ وفي النهاية نقول إن الابتعاد عن اللغة الأم والاعتماد على اللغات الأجنبية هو مظهر من مظاهر التخلف لا التقدم ومن يتباهى بتخلفه هو أبعد الناس عن الرقي.