بعد أن وقعت هزيمة المسلمين في يوم نافاس دوطولوسا التي كانت ضربة قاسية على امتلاك المسلمين لإسبانيا سنة 1212، بدأ المسيحيون يتطلعون لاحتلال المغرب والتسرب إليه، فقد استغل فرديناند الثالث ملك قشتالة وليون طلب ادريس أبو العلا المأمون منه سنة 1229 1242 مساعدته على احتلال المغرب فأمده بجيش قوامه 12.000 مقاتل، وذلك مقابل شروط التزم بها المأمون وهي: 1 أن يعطي المأمون لفرديناند قواعد يختارها ملك قشتالة. 2 إن فتح المأمون مدينة مراكش وجب عليه أن يبني كنيسة للمسيحيين. 3 يمكن للجنود الإسبانيين أن يتجاهروا بشعائر دينهم ويستعملوا النواقيس لمناداة المصلين معهم. 4 إذا أراد بعض المسيحيين أن يسلم للنصارى ليطبقوا عليه أحكامهم. 5 وإذا أراد بعض المسلمين أن يتمسح، لا يتعرض له أحد في ذلك. هذه الحادثة التاريخية تبين كيف أن تهافت بعض الرؤساء على السلطة جعلهم يقبلون مثل هذه الشروط، ومع أن هؤلاء الجنود المرتزقة قد بذلوا جهدا كبيرا لحساب المأمون، فإن قيام الدولة المرينية والقضاء على بقايا الموحدين في موقعة أم الربيع سنة 1259 هذه المحاولة ولو يعد يرى في المغرب جنود مسيحيون. وليست هذه الحادثة إلا مثالا لبعض الوسائل الاستعمارية القديمة التي كانت تجد في الخونة أداة للوصول إلى التغلغل في بلدان المسلمين بدعوى المساعدة، والغرض هو القضاء على الإسلام وسائر الديانات في البلدان الأخرى ليتمكنوا من تملكها والهيمنة على اقتصادياتها. وإذا كانت الحروب الصليبية ووسائل التغلغل عن طريق المساعدات العسكرية لخونة المسلمين لم تجد شيئا في تغيير التمسك الأهلي بالإسلام، ليس في المغرب العربي فقط، بل في سائر العالم الإسلامي فقد اتجه المسيحيون إلى تنظيم الارساليات التبشيرية التي تطورت في أشكال مختلفة، ويقال إن "ريمون لول" الإسباني أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها. فتعلم اللغة العربية وأخذ يتجول في بلاد الإسلام ويناقش العلماء ورجال الشريعة الإسلامية.. وقد ألف «ادين بولس» كتابا عن تاريخ التبشير لخصته مجلة العالم الإسلامي وعربه محب الدين الخطيب في أول كتابه (الغارة على العالم الإسلامي). ونحن لا نريد أن نتعرض لما قامت به الإرساليات المسيحية في العالم الإسلامي من تاريخ ما بعد الحروب الصليبية، فإن المرحلة الحالية ابتدأت في المغرب بشارل دوفوكو سنة 1905، وفي المشرق ب «زويمر» الذي كان أول من ابتكر عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانتية منذ سنة 1906. «الدوفوكو» أو اليهودي المتجول منذ سنة 1905 استقر الأب دوفوكو في الهجار بتمانرست (الجزائر)على بعد 700 كيلو من عين صالح، وسط الطوارق الذين هم من رجال الصحراء المقاومين لكل تسرب أجنبي داخل أراضيهم، ولكنه استطاع بوسائل الإغواء لرؤسائهم والمجاملة لهم أن يجعلهم يقبلون جواره ويشاوروه في بعض شؤونه، حتى أصبح يعرف، فيما يزعم المؤرخون (بالمرابط).. وقد قال عنه حكام تلك الناحية وضباط الأمور الأهلية بها (أنه يساوي أكثر من طابور احتلال كامل). ولكن اندلاع الحرب وتقهقر الإيطاليين إلى الداخل في طرابلس الغرب، أعطى للسنوسيين فرصة مضاعفة نضالهم الوطني ضد المحتلين، الذين من بينهم الفرنسيون المستقرون في الطوارق المجاورة بطرابلس، حينئذ خرج «دوفوكو» من جلده الروحاني الذي كان يظهر به ليصبح الجاسوس الذي يسجل الأخبار ويبلغها لرجال الاستعلامات العسكرية.. وإزاء ذلك هجم المجاهدون عليه واعتقلوه. وبعدما انتهت معركة كانت قائمة بين المغاربة وبين الضباط الفرنسيين، أطلق مواطن طوارقي رصاصة في زإس دوفوكو حيث قضى نحبه. وقد بذل «دوفوكو» جهده لاقناع حكومته بأن تنصير المسلمين هو الوسيلة الوحيدة لتعيدهم لفرنسا بصفة دائمة، يدل على ذلك ما كتبه في مذكرته بتاريخ 16 يوليوز 1916، الذي ننقل ترجمته للعربية من مقال للأخ الدكتور عز الدين العراقي كتبه لمجلة «البيئة» التي أصدرها، يقول «ذوفوكو»: «أعتقد أنه إذا لم يتم تنصير السكان المسلمين في مستعمراتنا بشمال إفريقيا، فإن حركة وطنية ستقوم بها على غرار ما حدث بتركيا، وأن نخبة من المثقفين ستتكون بالمدن الكبرى متأثرة بالفكر الفرنسي دون أن يكون لها إحساس الفرنسيين ولا طيبوبتهم، وأن هذه النخبة ستحتفظ بمظاهر الإسلام، رغم ضياع روحه، لتؤثر بها على الجماهير، ومن جهة أخرى فإن جمهور الشعب من البدو والرحل سيبقى جاهلا عديم الصلة بنا متمسكا بإسلامه حاقدا على الفرنسيين، محتقرا لهم بدافع من وازعه الديني وأشياخه ومعاملة الفرنسيين من رجال السلطة ومعمرين وتجار، ممن لا يلمس فيهم دافعا على محبتنا، ولهذا فإن الروح الوطنية ستشب في نفس النخبة المثقفة التي عندما تتاح لها الفرصة (بسبب صعوبات داخلية أو خارجية تحدث لفرنسا) فإنها ستسخر الإسلام لتحريض الشعب الجاهل على الثورة». وتحاول خلق امبراطورية افريقية مستقلة إسلامية. «إن ثلاثين مليونا من البشر يسكنون في مستعمراتنا بشمال غرب افريقيا بما فيها الجزائر والمغرب وتونس وإفريقيا الغربية، وإن هذا العدد سيتضاعف بعد خمسين سنة وتصبح هذه البلدان غنية مزدهرة، وقد تعود سكانها على استعمال أسلحتنا وتكونت منهم نخبة بمدارسنا، وإننا إذا لم نجعل منهم رعايا بمدارسناو إنا إذا لم نجعل منهم رعايا فرنسيين فأنهم سيطرودننا، وإن الوسيلة الوحيدة ليصبحوا فرنسيين هي أن يصيروا نصارى». ومن هذه السطور نستنتج صدق ما استنتجه الباحثون قبلنا من أن الأب «دوفوكو» هو صاحب الدعوة إلى فرنسة المغاربة عن طريق تنصيرهم وأبعاد اللغة العربية عنهم، تلك السياسة التي ظهرت في أشكال مختلفة في كل من تونسوالجزائر المغرب، فسياسة التجنيس وأخضاع المتجنسين من التونسيين للتبعية الفرنسية والقضاء الفرنسي حتى فيما يرجع للأحوال الشخصية، مظهر من مظاهر هذه السياسة التي خطط لها «دوفوكو». إذ هو يعلم أن المسلم يسهل عليه أن يتتبع متى حكم عليه بالردة للديانة التي تنتمي إليها الجنسية التي أصبح منها... وفي الجزائر بذل كل مستطاعه للحيلولة دون فتح المحاكم الشرعية في الطوارق وتدكالت وتوات، وقد نقل الأخ العراقي بعض ما كتبه «دوفوكو» في هذا الموضوع كقوله: «إن سكان إمبراطوريتنا الإفريقية على أنواع مختلفة، فمنهم البربر وهم أقرب الناس إلينا، ومنهم العرب وهم أقل استعدادا للتقدم».. وقال معلا على تأسيس مدرسة: «لاشك أن هذه المدرسة لن يدخلها إلا عدد قليل من الأطفال العرب، لكن الأطفال البرابرة الذين ينحدرون من سلالة طيبة هي على كامل الاستعداد للتأثر بالفكر اللاتينية التي عرفتها من قبل، سيدخلونها كلهم».. تخطيط السياسة البربرية وتقوم السياسة البربرية كما خططها «دوفوكو» ومريدو مدرسته من المستعمرين على الأساس الذي ذكرناه، وهو الفرنسة عن طريق التنصير، ولهذا الغرض فلابد من تحقيق ثلاث شعب تعمل متواصلة فيما بينها لغرض واحد. الأولى: مقاومة المحاكم الشرعية وإحياء ما يدعونه من أعراف قبلية كيفما كان أمرها، لأن ذلك في نظر هؤلاء المبشرين المستعمرين هو الوسيلة للوصول إلى جعل الناس يقبلون قانونا مدنيا متطورا نحو القانون الفرنسي لأن الأعراف الجاهلية لا يمكن أن تعيش، ولابد أن تحاول البحث عما هو أحسن، فإذا لم تجد بجانبها الشريعة الإسلامية فستأخذ القانون الفرنسي بدلا لها ولو على جهة التطور التدريجي ، وبذلك يصب القانون المغربي يستمد تاريخيا من الأعراف غير المدونة وعمليا من قانون فرنسا والعالم اللاتيني. الثانية: القضاء على اللغة العربية يخلق المدرسة البربرية التي يقع التعليم فيها بالفرنسية وحدها، ومنع تلامذتها من الكلام بالعربية، وجعل اللهجات البربرية تكتب بالحروف اللاتينية. الثالثة: الحيلولة دون اتصال سكان الجبال والمواقع البعيدة عن المدن بالفقهاء وحفاظ القرآن والقضاء على الكتاتيب القرآنية، والإكثار من مراكز التبشير ومن الكنائس حتى يحل الراهب محل المرابط بشرط ألا يتاح لشيوخ الطرق الصوفية ولو كانوا من أصدقاء فرنسا ولا يتاح للأشراف كذلك التجول في هذه المناطق المحروسة والتي ستصبح حمى لفرنسا والنصرانية وعلى هذه السياسة مضت فرنسا في المغرب وفي الجزائروتونس مع بعض الفوارق التي يقتضيها المكان تجرد بلادنا من الاتصال بالشرع الإسلامي وتغرس بشتى وسائلها القانون الفرنسي في محاكمنا ومعاهد تكويننا قانونا، ولقد قال لوسيان سان: ((إن غرس قانون في البلاد المحمية والمستعمرة هو إحدى وسائل سيطرتنا الدائمة). وكذلك عملت على إضعاف العربية أو أبعادها من مدارسنا حتى أصبحت غريبة في بلادنا، فهي إما معدوم تماما في مدارس السياسة البربرية ومدارس البعثات الفرنسية والاتحاد الإسرائيلي، وإما ذات حصص لا تكاد تذكر في المدارس التي تدعي فيها الازدواجية في المدن الكبيرة. وأما التعليم الإسلامي فقد أضعفت وسائله في المدن والقرى على السواء ومهدت السبيل لبناء الكنائس ومراكز التبشير وعقد مؤتمرات في كل المناسبات، والاستعانة بالاستعمار الاستيطاني على إجلاء العديد من الفلاحين من قبائلهم والفصل فيما بينهم، مع تكليف المعمرين بأداء المهمة التبشيرية والمسيحية داخل البلد. ومن هنا نرى أن غاية التبشير الصليبي ليست كما يمكن أن يريده الدين الخالص، ولكنها عمل تخريبي يراد منه هدم المجتمع غير المسيحي وخصوصا الإسلامي، بمحو لغته وثقافته وشريعته ومعتقداته وإحلال المصالح الغربية، أوروبية وأمريكية، الدينية والدنيوية محلها. وقبل أن نبين كيف استمر هذا العمل بعد الاستقلال، نلخص توجيهات التبشير المسيحي في الشرق العربي والإسلامي مثلما فعلنا فيما يرجع للمغرب العربي. العمل التبشيري في الشرق إن تاريخ الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية في المشرق العربي طويل الذيل، يرجع إلى عهد الحروب الصليبية وما قبلها وما بعدها ولكن المرحلة التاريخية التي ابتدأت في القرن العشرين تحولت إلى تخطيط حكومي وكنسي كما هو بالنسبة للمغرب، ولا شك أن شيخ اجتماعيات الإسلام في فرنسا هو المسيو «ادشاتولييه» الذي كون لجنة البحوث المغربية وتجول في أنحاء الدولة العثمانية وكتب عن العالم الإسلامي فصولا تنبأ فيها بما يكون عليه أمر هذا الخط الإسلامي الطويل بالنسبة للاستعمار وما عقبه من تحرر، وهو الذي أسس مجة العالم الإسلامي التي تعتبر مجموعتها موردا هائلا لإخبار السياسة العربية والإسلامية الاستعمارية لفرنسا وللعالم الغربي كله. وقد قال في إحدى مقالاته في هذه المجلة حسب ترجمة (الغارة على العالم الإسلامي): «ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبنيا قبل كل شيء على قواعد التربية العظيمة ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت من فائدته، ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل ألا نقتصر على المشروعات الخاصة التي قام الرهبان المبشرون وغيرهم بها لأن لهذه المشروعات أغراض اختصاصية، ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في حياتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد ،فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة للغرض العام الذي نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية، نظرا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل الفعلية والعلمية المنية على قوة الإرادة. «وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية». ثم يقول في مقال آخر مؤيدا هذه الفكرة: «وحسبنا أن يستدل بإرسالية التبشير الكاثوليكية في بيروت لتكون موضوع التفكير والتأمل في فرنسا إذ بالرغم من كون (كلية القديس يوسف اليسوعية) التي تدير أعمالها هذه الارسالية لا تأثير لها على النشوء الفكري في المحيط الإسلامي، فإن التعاليم التي تنشرها وتبثها كان لها الحظ الأوفر في انتشار الأفكار «الفرنساوية في سورية والفكر المصري»، إلى أن قال: «إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما تبين من الجملة الآتية التي استخرجها من رسالة أرسلها إلى من جزيرة البحرين (قرب عمان) في غشت سنة 1911 حضرة القسيس المحترم صامويل زويمر منشئ مجلة العالم الإسلامي الانجليزية، وهي يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال المبشرين البروتستانت قال: «إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين، مزية تشييد، ومزية هدم، أو بالأحرى تحليل وتركيب «والأمر الذي نلاحظه فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية في البلاد العثمانية والقطر المصري وجهات أخرى، هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه ولا ينبغي أن تعتمد على إحصائيات التعميد في معرفة عدد الذي تنصروا من المسلمين لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور، ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم، واعتنقوا النصرانية من طرف خفي»، وعلى الرغم من الانتقاد والمناقشات التي لا طائل تحتها والتي قالها السيد «شاتولييه» في حق ادعاءات القس «زويمر» فأنا أرى شخصيا أنهما متفقان في الهدف والتخطيط، إذ كلاهما يعلم أن (تعميد) المسلمين وارتدادهم أمر صعب المنال بالنسبة للأغلبية الساحقة منم، وكلاهما يريد أن «ينصر» الإسلام نفسه بإدخال الأفكار المسيحية على المعتقدات والتعاليم كما ظهر من كلامهما، ويزيد المسيو «شاتوليه» تنبيهه إلى أن العمل الإرسالي وحده لا يكفي بل لابد من أن تقوم الحكومة المعنية بالدور الفعال في المنطقة التي تعمل إرسالياتها فيها لتسهل على القائمين بها مأموريتهم، وتمهد لهم التسرب لأفكار المسلم عن طريق اللغة والمدرسة والقانون والتقاليد كما يتحدث بذلك هو وأمثاله في عدة موضوعات من كلامه. قال زويمر: وقد أدرك أهمية هذه الفكرة القسيس يانغ صاحب التقرير عن التبشير في جزيرة العرب فجعلها نصب عينيه في كل الأعمال، ولكننا نتساءل عما إذا كان قد حان الوقت للعمل بها وعما تكون نتيجة التبشير إذن. وقد استمرت المؤتمرات المسيحية تنعقد لهذا الغرض بين الكاثوليكيين من جهة وبين البروتستانت من جهاةأخرى .. وقد اكتشفت أنه لابد للنجاح عن تحقيق وحدة العمل التبشيري وتنسيقه مع أعمال الحكومات، وقد بحث ذلك مؤتمر إدنبرج وقرر ضرورة تعاون الإرساليات ليتسنى لها تأسيس كنيسة واحدة وسط كل أمة غير مسيحية. المؤتمر الاستعماري وفي المؤتمر الاستعماري الذي انعقد بعد ذلك اتضحت الأهداف الملخصة في نقطتين: الأولى ترجع للشؤون الصناعية والاقتصادية. والثانية ترجع إلى وجوب ضم المقاصد السياسية والاقتصادية إلى الأعمال الأخلاقية والدينية، وقد أكد باكر «أن الحكومة لابد لها من القيام بتربية الوطنيين المسلمين في المدارس العلمانية، ما دام هؤلاء المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية». وأضاف: «ونحن نعترف بهذه الحقيقة بالرغم من اعتقادنا بأن المدارس العلمانية تزيد الإسلام نموا وارتقاء، وإذا نحن طالبنا الحكومة بتقدير مصالحنا ومقاصدنا فيجب علينا بداهة أن ندرك أهمية هه المعضلة من حيث واجبات الحكومة ومصالحها أيضا». وانتهى المؤتمر إلى اتخاذ القرار الذي جاء فيه: «إن ارتقاء الإسلام يهدد نمو مستعمراتنا بخطر عظيم، لذلك فإن المؤتمر الاستعماري ينصح الحكومة بزيادة الإشراف والمراقبة على أدوار هذه الحركة، والمؤتمر الاستعماري مع اعترافه بضرورة المحافظة على خطة الحياد تماما في الشؤون الدينية يشير على الذين في أيديهم مام المستعمرات أن يقاوموا كل عمل من شأنه توسيع نطاق الإسلام، وأن يزيلوا العراقيل من طريق انتشار النصرانية، وأن ينتفعوا من أعمال إرساليات التبشير التي تبث مبادئ المدنية خاصة خدماتهم التهذيبية والطبية، ومن رأي المؤتمر أن الخطر الإسلامي يدعو إلى ضرورة انتباه المسيحية الألمانية لاتخاذ التدابير من غير تسويف في كل الأرجاء التي لم يصل إليها الإسلام بعد». ومن هذا وذاك يتضح أن الكنيسة كانت دائما في جانب الاستعمار، وإذا أردنا مزيدا من الحجة على ذلك فيكفي أن نتذكر ما قام به الكاردينال لافيجري في تشجيع وتعضيد الاستعمار في الجزائر الشقيقة حتى كتب يقول: «إنه يقوم بأكثر مما يقوم به جيش تام العدة». وهكذا نجد التوافق التام بين الساسة الاستعماريين والمبشرين الصليبيين من أي مذهب كانوا، التوافق في ألمانيا،والتوافق في الأساليب: في المبادئ: «التنصير قبل الحضارة وقبل الإدماج في الدولة المستعمرة.. وفي الأساليب: تسخير كل الأعمال لفائدة الاستعمار والنصرانية... وذلك بالقضاء على اللغة العربية الفصيحة، وإحلال أية لهجة محلها قبل أن تصبح لغة المستعمر اللغة السائدة في البلاد المستعمرة. وبالتعليم في البرنامج التمسيحي الصريح أو برنامج الهدم للعقيدة والأخلاق الإسلامية وبث التقديس للأمة الفاتحة وحضارتها وثقافتها: وبالتشريع المدني القاضي على الشريعة الإسلامية وإحلال المحاكم الأجنبية أو المختلطة أو حتى المحاكم التي تحمل النسبة للمستعمرة صوريا محل القانون الإسلامي والمحاكم الإسلامية! وبالتقاليد والعادات الأجنبية حسنة كانت أو قبيحة! وباستعمال وسائل اللهو والمغنيين والمغنيات وكل ذوي الأخلاق الساقطة من أجانب ومواطنين لإفساد الخلق القومي والقضاء على روح الأمة وكيانها! وبإحداث الحروب المختلفة، اسم الطائفية والسلالية والقومية الضيقة! وباسم الفكر الحر والاقتداء بكل ثورة هدامة ولو كان الدعاة إليها من غير المؤمنين بها... وبالتحالف مع الصهيونية بعد خلقها وتشجيعها على فكرة المطالبة بالوطن القومي في فلسطين والهجرة الدائبة إليه! وبالعمل باسم الدستور والحرية والديمقراطية على الانقلابات المحلية وإلغاء الخلافة العثمانية وبث المبادئ الماسونية الخربة في أرجائها الفسيحة لجعل الجمهور يتقبل ذلك الهدم باسم التحرر والإنقاذ! وبأحداث العداوة والبغضاء بين العرب والعثمانيين وبين المسلمي ومواطنيهم في الهند! وأخيرا تأجيج نيران الحروب الدولية وإلقاء الأهالي فيها باسم العمل على الوصول إلى الحرية الغربية التي تحتوي في نظر المستعمر على كل ذلك البرنامج اللعين! بعد الاستقلال والآن وقد اعترف الكثير من البلدان التي خرجت عن الخلافة العثمانية بالاستقلال كما اعترف لبلدان الشمال الافريقي بذلك، فهل توقف التبشير والاستعمار عن نشاطه؟ أو أصبحنا أمام استعمار جديد وأسلوب جديد في الاستعمار وفي التبشير؟ بل أصبحنا، وا أسفاه، نطبق تلك الأساليب التي كان يعمل لها المستعمر في جو من البغض الشعبي ورد الفعل الوطني في جو من الرضى والانعطاف؟ لقد ورثنا سياسة التعليم الاستعمارية كشيء مقدس، فاللغة الفرنسية عندنا وفي لبنان لا تزال لغة أساس في التعليم في مختلف المدارس الوطنية والأجنبية باستثناء بعض المؤسسات الأمريكية التي تعطى للإنجليزية تلك الأولوية.. لا تزال الإنجليزية كذلك لغة التعليم في كثير من المدارس العليا.. هذا في الشرق العربي، أما إفريقيا ،وآسيا فاللغة الأجنبية تحل المقام الأول في الإدارة والتعليم والحياة العامة، وذلك هو الشأن في الغرب والجزائروتونس وموريطانيا، على الرغم مما نبذله من جهد وما تدعيه الحكومات من عناية بالعربية ولقد أصبح جزء من شبابنا كافرا بلغتنا مقتنعا بأن لغات المستعمرين أصلح لنا للتفتح على العالم والتوسع في معرفة ما استجد من الأشياء. أما العلوم الإسلامية فقد ضعفت مراكزها أو أقفلت في كل مكان، والمصيبة أن ذلك يقع باسم التجديد والتنمية الثقافية أو باسم الجمع بين الأصالة وبين العصرية، والكتاتيب والمدارس القرآنية التي كان يعمل «شارل دوكوفو» وإضرابه على القضاء عليها» كادت تنتهي؟ وعلى العموم يمكن القول إن الفشل الذي أصاب المبشرين والمستعمرين في إبان الاحتلال» قد أصبح اليوم ينقلب إلى بعض النجاح الذي ينبغي أن يبالغ في تقديمه» ولكن يجب الحذر منه قبل فوات الأوان، لقد تكلمت عن السياسة التعليمية التي لم تتغير كثيرا في مدارسنا ومعاهدنا وفي ضياع التعليم الإسلامي ولا سيما في روافد المعاهد الدينية. وتكلمت عن بقاء الفرنسية لغة الادارة والتعليم والحياة العامة على الرغم من رغبة شعبنا ومن نصوص الدستور والقانون الأساسي للدولة اللذين تما برضا الملك واللذين لا يعارض أحد في أن مبادئها الأساسية متفقة مع إرادة الشعب كله. وبقي أن أقول إن السياسة البربرية التي رمت إلى إحلال القانون الفرنسي أو المستمد منه محل الشريعة الإسلامية قد تحقق بإرادتنا وبأعمالنا، فالدراسة القانونية سائرة على النهج الفرنسي، والمحاكم في معظم فروع القضاء تمضي على القوانين المدنية والجنائية والتجارية والبحرية المستمدة من القانون اللاتيني في الغالب، ولم يبق للشريعة إلا بعض الفروع كالأحوال الشخصية والعقار غير المحفظ والعقود الأهلية، فهل بعد هذا يمكننا أن ندعي التحرر من الخطة التي وضعها الاستعمار والتبشير، وتحالف عليه عملاء الصهيونية والشيوعية الملحدة. وكدليل على ذلك نذكر مثالا واضحا من بلاد اندونيسيا الشقيقة، تلك البلاد التي يقطنها أزيد من مائة وعشرين مليونا أغلبيتهم الساحقة من المسلمين، فلقد تعرض أبناؤها لحملة تنصيرية يعود تاريخها إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، وكانت تقوم فيها هولندا بعزل السكان عزلا تاما عن الاتصال ببعضهم البعض وبالعالم الإسلامي وبالكتب الإسلامية. ولقد استقلت اندونيسيا بفضل جهاد أبنائها، واختارت أغلبية الشعب أغلبية نواب من حزب «مشومي» الذي يقوم على أسس إسلامية وطنية ويرأسه صديقنا محمد ناصر حفظه الله، ولكن دسائس الهند وهولندا زودت سوكارنو وأنصاره بأموال ضخمة في الانتخابات الثانية فأصبحت الأغلبية للحزب الوطني الذي يرأسه حسني، ومع أن هذا الرئيس مسلم وطيب القلب فإن سلوك سوكارنو حمل المسلمين المخلصين والاشتراكيين على الثورة والانضمام إلى المسلمين الذين اعتصموا بالجبال مطالبين بحكم إسلامي سليم. وللتغلب على حزب «مشومي» فقد قام سوكارنو بعقد اتفاق مع حكومة الصين الشعبية على تجنيس ملايين الصينيين المقيمين في أندونيسيا. وبما أن الحزب الشيوعي الأندونيسي قد تقوى بذلك فقد أصبح الحزب الثالث في البلاد، وهكذا تحالف سوكارنو مع الشيوعيين وأسس جمعية إسلامية سماها جمعية العلماء، وأصبح يحكم البلاد بممثلين لهذه الفئات الثلاث بينما منع الحزب الاشتراكي وبقية الأحزاب وضيق على الجمعيات والأندية الإسلامية باسم المحافظة على النظام. وانتهى الأمر بأن ثار الطلبة المسلمون على الحكم وعلى سوكارنو وحلفائه الشيوعيين وكان الواجب أن يرد الأمر إلى الشعب ليختار حكومته ونوابه، ولكن تأييد الجنرالات لثورة الطلاب واستياء السيد سوهارتو الذي رضى عنه الجميع في أول الأمر على رئاسة الدولة وقيادة الشعب، أعطى للبلاد حكما ليس باليميني ولا باليساري، وخوفا من أمريكا وتدخل الغرب أتاح الحكم الحالي اليوم باسم حرية العقيدة للتبشير المسيحي أن يأخذ طريقه، ويقول تقرير وصل لرابطة العالم الإسلامي أن حملة التنصير اليوم، أشد وأقوى في أندونيسيا مما كانت عليه أيام الحكم الهولندي. ويفسر هذا التقرير ذلك بما ننقله عنه فيما يلي: ذلك أن الفاتيكان قد عين كاردينالا و21 أسقفا للإبقاء على حركة هذه الإرساليات التبشيرية ونشاطها، ولقد شنت الكنيسة الكاثوليكية مؤخرا حملة واسعة في المناطق التي يكون المسلمون أكثرية سكانها، وهي حملة مدعومة بقوى هائلة من السند والعون الماديين والماليين من البلدان الغربية، ولقد وضعت طوائف بروتستانتية مختلفة متحدة في «مجلس الكنائس الأندونيسي» مشروعا يمتد من عشر سنوات إلى عشرين سنة» وجمعت من هذه الخطط والمشاريع في كتاب عنوانه (واجبنا في أندونيسيا اليوم) في هذا الكتاب يمكننا أن نجد البرامج والطرق والأساليب» على أساس من البحوث والتحاليل العلمية، التي يمكن أن تستعمل كدليل ومرشد لشن حملة تنصير شاملة في أندونيسيا المسلمة، وهذه الخطوط إنما وضعت بالاستناد إلى خبرة الغرب التقنية والعلمية، وتجارب البعثات التشيرية الأجنبية، ويمكننا على الفور أن نفهم نتيجة هذا التخطيط العلمي، نشاطات تلك الارسالية التبشيرية البروتستانتية ازدادت زيادة ملحوظة يوما بعد يوم» وشيد العديد من المدارس والمستشفيات والكنائس وهذه المؤسسات سريعا ما تصبح مراكز لهذه الإرساليات التبشيرية، وهي أماكن يقصد منها شراء ضمير الشعب واكتساب متنصرين جدد، ومن بين هذه الطوائف تمثل «الجمعية العالمية للمبشرين البروتستانتيين» و»المعدانيون» تحديا أعظم، فهم يعملون بطريقة أكثر عدوانية نحو المسلمين، فيزورون بيوت المسلمين عندما يكون الزوج غائبا ويحاولون اجتذاب الزوجة، بمختلف ضروب الإغراء. إن الخطر الحقيقي من حملة التنصير كائن في أنهم يعتبرون المسلمين أهدافا لإرسالياتهم، وأنهم ينظرون إلى المسلمين نظرتهم إلى الوثنيين والهمجيين. ومن هنا فإن الواجب يقضي بألا يسمح لهم بالعيش بالسلام مع معتقدهم الخاص، قال أحد الكهنة الكاثوليك: «بكل أسف يتعين علي أن أقول إن تقديري هو مختلف فقط عما لديكم، وبصراحة أقول إن موقفي من نشر الدين يجب أن يوجه ضد الكائنات البشرية بوجه عام. خاتمة: يتضح لنا مما ذكرنا سابقا أن حملة تنصير في أندونيسيا ليست حدثا منعزلا مستقلا، بل جزءا من حركة أوسع هدفها النهائي تنصير العالم بأكمله، ولتحقيق هذا المشروع العالمي فقد أعطى بعض المفاهيم البريئة، من مثل فكرة التسامح الديني تنصيرا جديدا يتفق مع مخططات المبشرين، وهذا الضرب من التفسير يستتبع بالضرورة إلحاق الظلم بغير المسيحيين، وبالمسلمين كما هي الحال في أندونيسيا، وهكذا فإننا إذا أردنا أن نضع أصابعنا على أولئك المسؤولين فعلا عن التوتر وعن كل ما يعكر صفو العلاقات الدينية في أندونيسيا، فإن اللوم يجب أن يقع على المسيحيين والعالم المسيحي من ورائهم. تلك هي الخطوط العريضة للاستعمار الغربي بأنواعه وبأجهزته الصليبية والصهيونية والشيوعية. فليس لأوروبا ولا أمريكا اليوم عقيدة مؤمنة صادقة لا في دين ولا في إيديولوجية ولكن الدين الخاص عندهم هو تقسيم العالم واستعباده. فهل ينتبه المسلمون لما يراد بهم؟ وهل يوحدون كلمتهم ويجتمعون على عمل بناء لدرء الخطر، ولإرغام هؤلاء المغرورين من دعاة الاستعمار الجديد على التعاون الحقيقي بين كل الناس على ما فيه سلام البشرية وخيرها وحريتها، حتى يتحقق الغذ الأفضل الذي ما كانت الديانات والعقائد إلا للتبشير به ودفع الجميع للعمل له... مجلة «الهلال «المصرية سنة1973