المعتمد بن عبّاد.. من المُلك إلى المنفى (في ذكرى سقوط دولته: 22 من رجب 484ه) لما انهارت الخلافة الأموية بالأندلس في أوائل القرن الخامس الهجري، انقسمت الأندلس إلى دويلات صغيرة، وإمارات مستقلة، وأعلن كل أمير نفسه ملكا، ودخلت الأندلس في عصر جديد، عُرف باسم ملوك الطوائف، وهو اسم صادق في مسماه، دالّ على ما كانت تعانيه البلاد من تمزق وانحلال، ولم يكن يربط بين ملوك دول الطوائف رباط المودة، أو عرى الصداقة، أو وشائج المصلحة، وإنما نفخ الشيطان في روعهم؛ فهم في شقاق مستمر، يقاتل بعضهم بعضا، ينتزع القوي منهم ما في يد الضعيف، يستنصرون بالنصارى، ويحالفونهم ضد بعضهم دون وازع من دين أو ضمير. وفي الوقت الذي تجري فيه أحوال ملوك الطوائف على هذا النحو من التفكك والضياع، كانت النصرانية في شمال الأندلس يتّحد ملوكها، وتزداد الروابط بينهم قوة ومتانة، ويجمعون أمرهم على هدف واحد، وتحقق لهم النصر في بعض المواطن، لا عن قوة منهم وحسن إعداد، وإنما عن ضعف ألَمَّ بالمسلمين، وفرّق كلمتهم، وكان يحكم أسبانيا في هذه الفترة ملك طموح عالي الهمة هو ألفونسو السادس الذي نجح في توحيد مملكتي قشتالة وليون، وسيطر على الممالك المسيحية الشمالية، وهدد ملوك الطوائف، وألقى الفزع في قلوبهم؛ فراحوا يتوددون إليه، ويدفعون له الجزية عن يد وهم صاغرون. بنو عباد في إشبيلية قامت دولة بني عباد في إشبيلية على يد القاضي أبي القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد، وكان رجلا طموحا؛ فتطلعت أنظاره إلى جيرانه المسلمين، وانتزع ما في أيديهم، فاشتبك أبو القاسم خومن بعده ولده أبو عمرو عباد، الملقب بالمعتمد بالله (461 433ه = 1041 خ 1068م)- في سلسلة من الحروب الطاحنة مع أمراء غرناطة ومالقة وقرطبة وإمارات ولاية الغرب، انتهت باستيلاء بني عباد على قرطبة وقرمونة وإستجة ورندة وما حولها من الأراضي، وعلى لبلة وشلب وباجة في غرب الأندلس، واتسعت بذلك مملكة إشبيلية، وغدت أعظم قوة في جنوب الأندلس. المعتمد بن عباد كان المعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية سنة (461 ه = 1068م)، في الثلاثين من عمره، شابا فتيا، فارسا، شجاعا، شاعرا مجيدا، وأميرا جوادا، ذا خِلال باهرة، يحب الأدب ومسامرة أهله؛ فاجتمع في بلاطه نجوم ساطعة من أرباب ونوابغ القصيد من أمثال أبي بكر بن عمار، وابن زيدون، وابن اللبانة، وابن حمديس الصقلي، وكما كان المعتمد شاعرا مجيدا، كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك، تجمع إلى جمالها الفاتن البراعة في الشعر والأدب، وكانت إشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء، تزدان بقصور بني عباد وقواده وكبار رجال دولته. غير أن المعتمد بن عباد سلك في سبيل تحقيق أطماعه وطموحاته مسلك أبيه وجده من ممالأة ألفونسو السادس ملك قشتالة على حساب إخوانه المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة، وهو يقوم بدفع الجزية للملك القشتالي. وكان من ثمار هذه السياسة المتخاذلة التي اتبعها المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الطوائف أن سقطت طليطلة بعد حصار قصيرة في غرة صفر سنة (478 ه = 25 من مايو 1085م) في أيدي القشتاليين، وكان لسقوطها دويٌّ هائل، وحزن عميق في العالم الإسلامي، ولم يكن سقوطها لعجز في المقاومة، أو ضعف في الدفاع، أو قلة في العتاد؛ بل سقطت لضياع خُلق النجدة والإغاثة، وضياع شِيم المروءة والأخوة، تركها جيرانها من الممالك الإسلامية وهي تسقط دون أن يمد لها أحد يدا، أو تهب قوة لنجدتها. صحوة ملوك الطوائف شجعت مواقف ملوك الطوائف المخزية، وعدواتهم لبعضهم البعض، وأثرتهم، وغلبة مصالحهم الذاتية على مصالح أمتهم أن يقوم ألفونسو -وقد ملأ الزهو والإعجاب نفسه، واستهان بملوك المسلمين- بالتهام حواضر الأندلس الأخرى؛ فراح يهدد سرقسطة وإشبيلية وبطليوس وغيرها، وأخذت قواته تجتاح أراضي المسلمين، وتخرب مدنهم ومروجهم، واستيقظ ملوك الطوائف على حقيقة مروعة ونهاية محتومة ما لم يتداركوا أمرهم، وتتحد كلمتهم على سواء؛ فسقوط طليطلة ليس عنهم ببعيد، وأدرك المعتمد بن عباد أنه أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث؛ فكان بمقدوره نجدة طليطلة، ومد يد العون إليها، ولكنه لم يفعل؛ فقد غلَّتْ يدَه معاهدةٌ مخزية عقدها مع ألفونسو، بمقتضاها يتعهد ملك قشتالة بمعاونة المعتمد ضد جيرانه المسلمين، وفي مقابل ذلك يتعهد المعتمد بأن يؤدي الجزية لملك قشتالة، وأن يطلق يده في أعماله العسكرية ضد طليطلة، دون أن يتدخل لمساعدتها، ولما سقطت طليطلة بدأ ألفونسو السادس -وكان لا خلاق له- يشتد في مطالبه المالية، ويشتد في معاملة المعتمد، ويتعمد إهانته؛ بل كاتبه بأن يسلم إليه بلاده وينذره بسوء المصير، وقرن تهديده بالعمل؛ فاجتاحت قواته بلاد المعتمد بن عباد، وخربت مدنها وقُراها. الاستعانة بالمرابطين لم تكن قوى ملوك الطوائف تكفي لدفع خطر ألفونسو، وحماية أنفسهم من هجماته؛ فتطلعت أبصارهم إلى الضفة الغربية من البحر المتوسط؛ حيث دولة المرابطين، وكانت دولة قوية، بسطت نفوذها بالمغرب، واشتهر سلطانها يوسف بن تاشفين بحبه للجهاد وإقامة حكومة على العدل والقسطاس، وكان للمعتمد بن عباد يد طولى في الاستعانة بالمرابطين في جهادهم ضد القشتاليين، بعد أن أبدى بعض ملوك الطوائف تخوّفهم من أن يطمع المرابطون في بلادهم، وأظهروا ترددا في فكرة الاستنصار بهم، وكادت الفتنة تستطير لولا أن أخمدها المعتمد بكلمته المأثورة التي سادت في التاريخ: رعي الإبل خير من رعي الخنازير. استجاب يوسف بن تاشفين لنداء أمراء الأندلس، فعبر إليهم بقوات ضخمة، وسارت قوى الإسلام المتحدة إلى قتال ألفونسو الذي كان مشغولا بمحاربة ابن هود أمير سرقسطة؛ فلما علم بنبأ هذه الحشود ترك محاربة ابن هود، وجمع جندا من سائر الممالك النصرانية للقاء الجيوش الإسلامية، والتقى الفريقان في سهل الزلاقة بالقرب من بطليموس في معركة هائلة في (12 من رجب 479ه = 23 من أكتوبر 1086م) ثبت فيها المسلمون، وأبلوا بلاء حسنا، وانتهت المعركة بانتصار عظيم، عُد من أيام الإسلام المشهودة، وقتل معظم الجيش القشتالي، ومن نجا منهم وقع أسيرا، وهرب ألفونسو بصعوبة بالغة في نفر قليل من رجاله جريحا ذليلا. سقوط دول الطوائف شاهد أمير المرابطين عند نزوله الأندلس ما عليه أمراؤها من فُرقة وتنابذ وميل إلى اللهو والترف ورغبة في الدعة، وانصرافهم عن الجهاد والعمل الجاد، وإهمال للرعية وتقاعس عن حماية الدين والوطن من خطر النصارى المتصاعد، فعزم على إقالة هؤلاء الأمراء المترفين المنشغلين بأنفسهم عن مصالح أمتهم، وعزز من هذه الرغبة فتاوى كبار الفقهاء من المغرب والأندلس بوجوب خلع ملوك الطوائف؛ حماية للدين ووقوفا ضد أطماع القشتاليين، وكان حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وأبو بكر الطرطوشي على رأس القائلين بهذه الفتوى. عبر يوسف بن تاشفين بجيش ضخم إلى الأندلس للمرة الثالثة لهذا الغرض الذي عزم عليه في سنة (483ه 1090م)، وكان قد عبر إليها قبل ذلك في سنة (481ه = 1088م)، ولكنه لم يقم بغزوات ذات شأن، وازداد سخطا لما بدا من تقصير أمراء الطوائف في نصرته، وفي هذه المرة اتجه يوسف بن تاشفين إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة دون أن يتقدم أحد من ملوك الطوائف لنصرته بعد أن توجسوا منه خيفة، وأدركوا ما عزم عليه، وكان أمير المرابطين يرغب في استعادة طليطلة، ولكنه لم يوفَّق نظرا لمناعتها، وقوة أسوارها، فعاد إلى إشبيلية وفي نيته أن يستخلصها هي وغيرها من مدن الأندلس وحواضرها، وازدادت عزيمته إصرارا على تنفيذ ما وقر في قلبه بسبب ما ترامى إليه من عودة ملوك الطوائف إلى عقد اتفاقيات سرية مع ملك قشتالة، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين، واستهل يوسف بن تاشفين حملته الظافرة بالاستيلاء على غرناطة، ودخلها في (10 من رجب 483ه = سبتمبر 1090م)، وقبض على أميرها، وبعث به سجينا إلى أغمات بالمغرب. المعتمد بن عباد في المنفى أمر قائد المرابطين بحمل المعتمد بن عباد وآل بيته إلى منفاهم بالمغرب، وسارت بهم السفينة من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى المغرب، وخرج الناس لتوديعهم محتشدين على ضفتي النهر، وقد ملأ الدمع أعينهم، وذابت قلوبهم حسرة وألما على ملكهم الذي أدبرت عنه الدنيا؛ فخرج هو وأسرته على هذه الصورة المخزية بعد الجاه والسلطان، وقد سجل الشاعر الأندلسي الكبير ابن اللبانة هذا المشهد الحزين بقصيدة مبكية جاء فيها: حان الوداعُ فضجّت كل صارخة وصارخٍ من مُفداة ومن فادِي سارت سفائنُهم والنوْحُ يتبعها كأنها إبل يحدو بها الحادي كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت تلك القطائعُ من قطعاتِ أكبادِ واشتدت وطأة الأَسْرِ على اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، ولم تقوَ طويلا على مغالبة المحنة؛ فتُوفيت قبل زوجها، ودُفنت بأغمات على مقربة من سجن زوجها. وطال أَسْر المعتمد وسجنه فبلغ نحو أربع سنوات حتى أنقذه الموت من هوان السجن وذل السجان؛ فلقي ربه في (11 من شوال 488 ه = 1095م) ودُفن إلى جانب زوجته. أحمد تمام بتصرف