لقد مثل القرن الحادي عشر الميلادي انهيار حكم الخلافة الأموية بقرطبة، وظهر على إثر هذا التفكك عدد لا يحصى من الإمارات التي أطلق عليها »دول الطوائف«، كما برز على المستوى السياسي والعسكري أشخاص مجهولون أسسوا عدة ممالك، وكانت العلاقة بينها ? تتأرجح بين علاقة تبعية متبادلة وتنافر وخصومة مفتوحة ? وبين الممالك المسيحية بشمال إسبانيا قد جعلت من الأندلس في القرن الحادي عشر الميلادي عبارة عن فسيفساء تاريخية فاتنة. مع ذلك لم ينتج عن هذه التجزئة السياسية تدهور وانحطاط اقتصادي وثقافي، بل استمر النمو الاقتصادي والتجاري البارز الذي كان قد بدأ أيام الأمويين في قرطبة، وقد نجا هذا الاقتصاد من الخسائر التي سببتها الحرب الأهلية التي وقعت ما بين 1010 ? 1013م بين العرب والبربر، لم يتكيف الاقتصاد القروي والحضري مع الوضعية السياسية الجديدة وحسب، بل حقق حيوية عجيبة. واستعمل الغنى المتنامي لتموين الحروب الدائمة، والقوات الإفريقية، وأداء الجزية ل »ألفونسو السادس«، والبلاط الأدبي. وبالفعل فإن الأندلس بلغت عندئذ أعلى مستوى فكري في تاريخها، كما أن النشاط الفني والأدبي بلغ ذروته : إنها حقبة ازدهار ثقافي لا مثيل لها، حيث تحولت كل مدينة إلى قرطبة صغيرة، وأصبح كل حاكم نصيرا وحاميا للآداب والفنون الجميلة، أو شاعراً كبيراً مثل المعتمد بن عباد، ملك إ شبيلية، أو المعتصم بألميرية.ومن جهة أخرى، إن القرن الحادي عشر، كما وصفه »رامون مينينديث بيدال« يعتبر أغنى قرن في تاريخ إسبانيا في الحركة الشديدة والحاسمة، أي »إسبانيا سيد«، وإذا أردنا الدقة أكثر: »إسبانيا الفونسو السادس«، حيث تم توطيد نفوذ وسيطرة قشتالة. إن هذا القرن كان فريدا من حيث البروز والتعقيد التاريخي فيما يرجع إلى إسبانيا المسلمة، وفي غياب المصادر التاريخية يمكن القول، لعله القرن الذي يعرف أسوأ معرفة، لدرجة أننا لا نعثر على دراسة تاريخية تركيبية وتحليلية عن عهد دول الطوائف. إن »تاريخ إسبانيا المسلمة« الذي ألفه »ليفي بروفانسال«، هذا العمل المترجم إلى الإسبانية يضم مجلدين مخصصين لتاريخ الأندلس ضمن »تاريخ إسبانيا« الذي أشرف عليه »مينينديث بيدال« يتوقف عند سقوط حكم الخلافة في الأندلس. وضمن هذا الفقر العام للمراجع التاريخية تبرز حالة غرناطة، التي تخرج اليوم لأول مرة من الظلام التاريخي بفضل عائلة بربرية، وهي عائلة الزيري والفضل هنا يرجع إلى مصدرين تاريخيين من أهم المصادر.المصدر الأول هو ديوان شعر لليهودي الغرناطي »صمويل بن نغرلة« الذي عمل وزيراً مع أميرين زيرين بالتتالي، وتمدنا قصائده بأخبار تاريخية (نشر الديوان د.س. ساسون بلندن سنة 1934م، وقدم دراسة عن مضمونه التاريخي 5 شيرمان). أما المصدر الثاني، وهو أكثر أهمية من وجهة النظر التاريخية فهو كتاب مذكرات عبد الله الزيري آخر ملك من العائلية الملكية الزيرية، الذي حكم من سنة 467ه إلى سنة 483ه (1075 ? 1090) وهي السنة نفسها التي تم فيها خلعه من طرف المرابطين ونفيه جنوب المغرب، وبأغمات، إلى جانب أشهر ملوك الطوائف المعتمد بن عباد. يظهر أنه تمتع في هذا المنفى بحياة مرضية سارة، عكس المعتمد، وكتب عن أسلافه وعن نفسه وعن مدة حكمه. إن هذا الكتاب هو سيرة ذاتية، واحد من ثلاثة كتب صدرت من هذا الجنس إلى جانب كتاب »التعريف« لابن خلدون الذي ترجم إلى أول لغة أوروبية وهي الإسبانية. وفوق ما سبق ذكره يبقى واضحاً أن أهمية مذكرات عبد الله الزيري هي من الأهمية بمكان. لقد اكتشف المخطوط في العصر الحديث »ليفي بروفانسال« الذي نشر بعض أجزائه في مجلة »الأندلس« سنة 1935م. وفي سنة 1953م كان الكتاب كله قد نشر جزءاً في المجلة المذكورة (صدرت المذكرات في كتاب مستقل في القاهرة سنة 1955م)، وأعلن المؤرخ الفرنسي عن نشر الترجمة الإسبانية التي أنجزها بالتعاون مع المستعرب الإسباني »إميليو غرثيا غوميث«، وهذه هي الترجمة الإسبانية التي ظهرت اليوم ولأول مرة، ومهما طال انتظارها فإن القارئ والدارس لن يشعرا بالغبن. إن مذكرات عبد الله الزيري ليست مصدراً تاريخياً من الدرجة الأولى وحسب بل هي بالإضافة إلى هذا وثيقة إنسانية وقراءتها شائقة، وما يضفي عليها جمالا هي الترجمة الرائعة إلى الإسبانية التي أنجزها المستعرب »غرسيا غوميث«.وكما أعلن »غرسيا غوميث« في المدخل الدراسي الذي وضعه للكتاب أنه قسم هذه المذكرات إلى فصول متتابعة للنص، ولم يكن الأصل العربي يحتوي على أي عنوان ولا على تقسيم داخلي.وحسب هذا التقسيم فإن الفصل الأول والأخير من مذكرات عبد الله الزيري يشكلان بالتتالي المدخل وخلاصة الكتاب. يحتوي المدخل على مجموعة من الاعتبارات التمهيدية، حيث يحاول المؤلف من خلالها -سلفاً- تحديد المؤرخ الموضوعي والإشارة إلى صعوبة اتخاذ موقف الحياد، بينما تحتوي الخلاصة على مجموعة من الاستطرادات في الكلام حول القدر وجبرية الإنسان، وهو ليس استنتاج شخصي للمؤلف بل إشارة إلى الأخلاق العامة السائدة. الصفحات الأولى والأخيرة سليخة ومحملة بما فيه الكفاية، يظهر من خلالها الملك عبد الله الزيري رجلاً ذا ثقافة متوسطة وتعليلات نظرية ضعيفة، ومع ذلك تحتوي هذه الصفحات على بعض الأشياء يكشفها المؤلف عن شخصيته وحياته الخاصة التي قدمها بنغمة استحضارية حميمية.أما القسم الذي هو حقيقة تاريخية من المذكرات فيبدأ في الفصل الثاني، حيث يحكي فيه عن بداية العائلة الملكية الزيرية (ابتداء من سنة 1002م) حتى وفاة بن حبوس، وهي صفحات مقتضبة وغامضة، غير ممنهجة، وليس لها هيكل أو إطار تاريخي، يقدم فيها القليل من المعلومات، ومن دون شك فهي مخيبة بالنسبة للمؤرخ المحترف. ابتداء من الفصل الثالث يكتسب الكتاب حيوية وأهمية حقيقية عندما يحكي أولا عن حكم أكبر ملك من عائلة الزيري باديس المظفر، وهو جد المؤلف وسلفه القريب والمباشر في وراثة العرش.ومن دون شك، فإن عبد الله سمع منه مباشرة عدة ذكريات عائلية وأحداث وقعت في مدة حكمه، وخاصة في الصفحات التي يصف فيها مدة حكمه، ويبدو من خلال صفحات الكتاب أن الجد باديس مثل أم عبدالله كان لهما دور أساسي في حياته، كما أنهما حيث يشكلان مصدر هذه المذكرات. إن شخصية أم عبدالله تبدو جلية ظاهرة في الفصول التي يشير فيها إلى ظروف خلعه من طرف المرابطين ونفيه الذي كان نتيجة لذلك، وتجدر الإشارة هنا إلى ملك غرناطي آخر وهو أبو عبد الله الذي نفى أم عبد الله التي لم تظهر ضعفاً ولم تبخل عليه باللوم والعتاب.من الفصل الرابع إلى الفصل العاشر يصف أيضا ظروف حكمه محاولا الدفاع عن نفسه بأنه غير حازم ومتردد ومقصر ولم يكن مؤهلا للحكم، ويبرر أفعاله وإهماله لبعض الأمور. وهناك حوادث مهمة يسكت عنها، ويبرز أخرى، محاولا إعطاء شخصيته والدور الذي كان له في هذه المأساة أهمية لم تكن لديه، وهذا يبدو واضحاً وظاهراً حتى في المذكرات. إن شخصية »ألفونسو السادس« ويوسف بن تاشفين تسيطران على السرد كله، كشخصيتين كانا لهما دور بارز في هذه الحقبة، بينما نجد أن المعتمد بن عباد هو الشخصية البارزة بين ملوك دول الطوائف. إننا نجد أن عبد الله الزيري مثل باقي ملوك دول الطوائف كان عبارة عن مرافق محض للأحداث التي تجاوزته، وهي أحداث لم يعطها دائما الاهتمام والعناية التي تستحقها : مثل معركة الزلاقة الشهيرة، التي يخصها فقط ببعض السطور، كما أنه لا يعتني بضبط التواريخ وتحديد الأمكنة التي وقعت فيها الحوادث، إنه لا يقوم بدور المؤرخ، غير أنه يبدو جد معبر عندما يصف الحياة في غرناطة، وفسيفساء من اليهود والمستعربين والبربر والعرب الذين عاشوا في هذه المدينة، والشك والريبة المتبادلة بين المرابطين والأندلسيين والنزاعات بين دول الطوائف، كل ذلك شخصه وصوره من خلال الأحداث في المدينة، التي كان يسيطر عليها العنصر اليهودي بواسطة وزراء بنو نغرلة، والعربي الأندلسي ابن عمار شاعر ووزير عمل مع المعتمد بن عباد في أشبيلية، القشتالي »ألباروفانييت« والكونت المستعرب »سيسناندو دابيديس« والمرابطي غرور. لا نعثر على أي كتاب في التاريخ يؤرخ لهذه الحقبة (مثل الرسالة الحديثة التي تقدم بها في هذا الموضوع« أ.هاندلير THE ZIRIDSOF GRANADA ، جامعة ميامي بولاية فلوريدا سنة 1974م) يمكن أن يحقق إطارا ندرك ونفهم الحسرة والشدة التي تعبر عنها هذه الصفحات والعمل المقلق الذي نتج عن الطلبات المتنامية لألفونسو السادس وما أحدثته في دول الطوائف، والوعي المطلق بأن الغاية (هناك فقرة من مذكرات عبدالله الزيري جد معبرة في هذا الشأن) من وراء مضايقات دفع الجزية ليست غير إضعافهم والسيطرة بسهولة على دول الطوائف مثل ما وقع ل»طليطلة«، ويقدم المؤلف وصفا مؤثرا لإحدى مقابلاته مع »ألفونسو السادس« : العجرفة والاحتقار المطلق الذي يظهر الإهانة والعجز، وأخيرا الخوف الذي يحدثه لدى ملوك الطوائف والمكر والحيلة، ومحاولته أن يجعل من أعدائه سياجا ضد الآخرين.ومن جهة أخرى نلمس كذلك الفاجعة في الصفحات التي يتحدث فيها عن ظروف خلعه، ولأنه كان موجوداً في المغرب ولم يرد إثارة غضب الحكام المرابطين، وفي هذه الصفحات المأساوية يتحدث عن الفظاعة وخشونة قساوة المرابطين في معاملته ومعاملة أفراد عائلته. إن عبد الله الزيري لا يستطيع إخفاء نيته السيئة وابتهاجه في الفصل الحادي عشر، الذي يتحدث فيه عن الحظ الذي لقي نظراؤه ملوك دول الطوائف بألميرية وإشبيلية وبطليموس على يد المرابطين الذين لا يرحمون.إنه القرن الحادي عشر الميلادي (الخامس الهجري) بضمير المتكلم.مقدمة الكتاب كتبها »إميليو غرسيا غوميث« يتعرض من خلالها إلى مضمون هذه المذكرات، يضعها في سياقها التاريخي، بالإضافة إلى ملخص عن تاريخ الزيريين وعن حقبة حكم عبدالله (...) كما يتضمن الكتاب تلخيصا لآراء وتقييمات »رامون مينينديث بيدال« التي كانت قد نشرت في مجلة الأندلس (1936م). كما يتضمن النص تعليقات وتفسيرات كثيرة وبيبليوغرافيا تحيلنا على أهم المصادر المعاصرة. وتضم خاتمة الكتاب ملاحق تحليلية تسهل استعمال النص. ومن جهة أخرى فإن الكتاب صدر في طبعة جيدة متقنة. (...) مقدمة الكتاب مقتضبة ومضبوطة، وجهازه النقدي لا يتجاوز الحد. إن »غرثيا غوميث« يحدد إطار النص الذي ينطق وحده، ويسخر استغلاله عمدا للاختصاصيين فهؤلاء وجمهور القراء على العموم بوسعهم الآن الترحيب بظهور هذا الكتاب الذي طال انتظاره.