بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"    ميغيل أنخيل رودريغيز ماكاي، وزير الخارجية السابق لبيرو: الجمهورية الصحراوية المزعومة لا وجود لها في القانون الدولي    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    بريطانيا بين مطرقة الأزمات الاقتصادية وسندان الإصلاحات الطموحة    الجزائر والصراعات الداخلية.. ستة عقود من الأزمات والاستبداد العسكري    الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة    بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية    اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش    منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان    ‬النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"    الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار    نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين    عمليات تتيح فصل توائم في المغرب    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية    أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز    الوزير بنسعيد يترأس بتطوان لقاء تواصليا مع منتخبي الأصالة والمعاصرة    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء        التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران    وسط حضور بارز..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تخلد الذكرى الستين لتشييد المسجد الكبير بالعاصمة السنغالية داكار    انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية    الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب    الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني    هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور    قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي    كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    "مرتفع جوي بكتل هواء جافة نحو المغرب" يرفع درجات الحرارة الموسمية    نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية    المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء    بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)    محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة    مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته    فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب    ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة        "السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة    بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد    ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية    "كوب29" يمدد جلسات المفاوضات    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مستقبل العربية في سوق لغات العالم
نشر في العلم يوم 02 - 04 - 2009


ما جدوى هذه المؤتمرات والندوات؟
لم أستقلّ الطائرة يوماًً للمشاركة في مؤتمر حول الثقافة العربية عموماً أو اللغة العربية خصوصاً، إلا وشعرتُ بالذنب وتأنيب الضمير، لأن ما يتمخَّض عن هذه المؤتمرات والندوات من نتائج هزيلة لا يرقى إلى ما يُنفَق علينا نحن المشاركين من أموال الأمّة التي يعيش أكثر من نصفها تحت خط الفقر. نجتمع في فندق أربعة أو خمسة أيام، نلقي في الصباح والمساء بأقوالنا المكرّرة التي يعرفها معظمنا مسبقاً، وفي نهاية المؤتمر ندبّج توصياتٍ غالباً ما نستعيرها من توصياتِ مؤتمراتٍ سابقة، ونغادر عائدين دون أن يعلم بنا أحد أو تتجاوز أصواتنا أسوار الفندق. فوسائل الإعلام لا تعبأ بمثل هذه اللقاءات الفكرية، لأنّ السياسات الإعلامية في الدول العربية لا تشجع من الثقافة إلا كرة القدم والأغاني الخفيفة والرقص الرخيص، وتغفل الفكر. ولهذا فإن في وسعك أن تجد عشرات الرياضيين والمغنيات والراقصات ممن يملكون ملايين الدولارات، ولا تعثر في طول الوطن العربي وعرضه على مفكِّرٍ أو كاتب عربي واحد يستطيع أن يعيش من إنتاجه الفكري، ولهذا كذلك نستطيع أن نهزم أستراليا، مثلاً، في مباراةٍ لكرة القدم أو الغناء أو الشطح، ولكن نستورد منها حتى الحبوب
والجبن واللحوم. فالإذاعات والفضائيات الوطنية لا تبثّ أغنية ما لم تدفع حقوق المطربة سلفاً، ولكنها، وكذلك الصحف، لا تدفع فلساً واحداً للمثقف العربي لقاء محاضرة له أو مكافأة على مقال كَتبه. الفكر سلعة بائرة في بلادنا العربية.
في الدول التي تحترم حقوق الإنسان، تُعقَد المؤتمرات، عادةً، للنظر في مشكلة من المشكلات، فيتدارسها أهل الاختصاص في المؤتمر ثم يتفقون على حلول يصوغونها في شكل توصيات، فتقوم الجهات المختصّة بالإفادة منها وتطبيقها. أمّا في بلادنا العربية فإن أصحاب القرار لا يحفلون بآراء أهل الاختصاص، ولهذا فإن توصيات المؤتمرات هي مجرَّد حبر على ورق ولا جدوى منها.
ولكي أتفادى الشعور بالذنب بعد أن أشارك في مؤتمر من هذه المؤتمرات، أحاول أن ألخّص في مقال، مثل هذا، القضايا والمسائل التي تمَّت مناقشتها فيه، لاطلاع القراء الذين لم يحضروا المؤتمر، ولأشعر بأنني قمت بواجبي في التبليغ.
لماذا المجلس الأعلى للغة العربية؟
شاركتُ مؤخراً في ندوة دولية أقامها المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر حول « تحديث العربية ومستقبلها في سوق لغات العالم: الراهن والمطلوب» في المدة من 2526/2/2009، لأنني شعرتُ بأن من الضروري دعم هذه المؤسسة التي تنافح بضراوة عن اللغة العربية في فضاء تعالت فيه الأصوات لإحلال اللغة الفرنسية أو الإنكليزية محلها في الإدارة والتعليم واستخدام اللهجات العامية في الإذاعة والتلفزة. لقد تم تأسيس هذا المجلس سنة 1996، لغرض تحديد الآجال المناسبة لتعريب المؤسسات، ولتنمية اللغة العربية، طبقاً لقانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي أصدره المجلس الشعبي الوطني (البرلمان الجزائري) سنة 1990. ولعدم وجود إرادة سياسة في تعريب المؤسسات، فإن المجلس يشتغل بجد في تنمية اللغة العربية، فأصدر خلال السنوات العشر الماضية 68 كتاباً ودفتراً، وعشرين عدداً من مجلته «اللغة العربية»، وخصص عشرات الجوائز السنوية في علم اللغة العربية، وفي الترجمة إليها في العلوم، والآداب؛ وفي الاقتصاد، والتاريخ الوطني الموجه لمنظومة التربية والتكوين. ومن مطبوعاته: دليل الإدارة، المبرق: قاموس موسوعي في الإعلام والاتصال، دليل وظيفي في
التسيير المال والمحاسبي، دليل وظيفي في تسيير الموارد البشرية، دليل المحادثة الطبية، دليل المكتب. وتشتمل هذه المطبوعات المعجمية على جميع المفاهيم والمصطلحات المستعملة في الإدارة، لتيسير تعريب الإدارة الجزائرية. ولكن الإدارة الجزائرية سادرةٌ في اعتماد الفرنسية لغةً لها.
منطلقات المؤتمر
في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها وزير الدولة الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية عبد العزيز بلخادم (الوزير الأول السابق)، اعتبر اللغة مظهراً من مظاهر السيادة، وشدّد على ضرورة التحصُّن باللغة الوطنية للحفاظ على الشخصية والهُوية، وألحّ على ضرورة الإسراع في إصدار قوانين وتدابير تنظيمية وإجرائية لتعميم استعمال العربية.
ولكن الملفت للنظر أن مثل هذا القانون الذي يطالب به الوزير، أي قانون تعميم استعمال اللغة العربية، كان قد صدر عن المجلس الشعبي الوطني (البرلمان الجزائري) يوم 27/12/1990، وطبقاً للدكتور عثمان سعدي، أحد المشاركين في الندوة، وقعت ضغوط هائلة على الرئيس الشاذلي بن جديد لكي لا يوقِّعه ، بيد أنه وقَّعه، فعُزِل في 11/1/1992، أي بعد عام واحد تقريباً، من قبل العسكريين الفرانكوفونيين وعلى رأسهم الضابط السابق في الجيش الفرنسي اللواء خالد نزار. وجاؤوا بالرئيس بوضياف رئيساً للمجلس الأعلى، وشُكِّل المجلس الاستشاري بالتعيين لا الانتخاب، فأصدرَ مرسوماً تشريعياً سنة 1992 جمّد قانون تعميم استعمال اللغة العربية. ثمَّ ألغى الرئيس زروال التجميد بمرسوم أصدره سنة 1996 وأَسَس المجلس الأعلى للغة العربية لتطبيق القانون، فدُفِع هذا الرئيس إلى الاستقالة (1).
لقد شارك في هذه الندوة أكثر من ثلاث مائة مشارك وقُدِّمت فيها حوالي خمسين دراسة أعدّها باحثون متخصِّصون من جميع الأقطار العربية، تناولت: راهن العربية ومستقبلها في أوطانها، ووضع اللغة العربية خارج أوطانها، والترجمة والمصطلحية والمعجمية، ودور المؤسسات ذات الاختصاص في النهوض بالعربية، وسبل توطين التقانات باللغة العربية ومستقبل اللغة العربية ورهانات العصر. كما عقد المؤتمر ورشتين، ناقشت الأولى قضية تحديث العربية وإسهامها في المجالين العلمي والتكنولوجي، وتناولت الثانية مستقبل العربية في سوق لغات العالَم. وقد أصدر المجلس هذه الدراسات في مجلد كبير تقرب صفحاته من الألف صفحة، قبل انعقاد الندوة.
ويمكن تلخيص أهم منطلقات العلماء واللغويين المشاركين في هذه الندوة بما يلي:
1) لا توجد لغة متقدِّمة وأخرى متخلِّفة بذاتها، فالتقدُّم والتخلُّف من صفات الناطقين بها.
2) إن اللغة العربية هي لغة التواصل المشتركة بين بلداننا العربية وأداةَ حفظ تراثنا المشترك وثقافتنا، إضافة إلى كونها لغة الثقافة الإسلامية التي تصل العرب بأكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين حول العالم. واللغة العربية مكوِّن أساسي في إستراتيجية الأمن القومي.
3) الدول العربية محظوظة لأنّ لها لغة واحدة، فالاتحاد الأوربي الذي يضم 27 دولة يستعمل 26 لغةً، ويضطر إلى إنفاق الأموال الطائلة على جيش من المترجمين في مقر الاتحاد في بروكسل ومؤسساته المختلفة.
4) لا يمكن للدول العربية أن تحقّق التنمية الشاملة إلا بإيجاد مجتمع المعرفة الذي يمتلك جميع أفراده لغة مشتركة قوية موحَّدة تكون وسيلةَ النفاذ إلى مصادر المعلومات وإنتاجها وتبادلها وإشاعتها بسرعة وسهولة (عِلماً بان إيجاد مجتمع المعرفة يتطلب التزام الحكومات بالديمقراطية منهجاً وسلوكاً، وتعميمها تعليم إلزامي جيد على نفقة الدولة، وأخذها بآخر معطيات العلم والتكنولوجيا في الإنتاج والخدمات)،
ولا يمكن أن تكون لغة مجتمعِ المعرفة أجنبيةً، فمحو الأمية لا يجري باللغة الأجنبية، وتوطين العلوم والتكنولوجيا لا يتم إلا باللغة الوطنية. وفي هذا الصدد أشار بعض المشاركين في المؤتمر إلى أن جميع الدول الآسيوية التي حققت التنمية البشرية، مثل اليابان وكوريا وماليزيا، والصين، وتركيا، وإيران تستعمل لغاتها الوطنية في تعليم العلوم والتكنولوجيا. ففي إيران، مثلاً، يدرسون الطب باللغة الفارسية، ومعظم المصطلحات الطبيّة الفارسية هي عربية تراثية، فالألفاظ العربية تشكِّل حوالي 65% من المفردات الفارسية، طبقاً للمشارك الإيراني في الندوة الذي ضرب مثلاً على ذلك بمنصب الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني بالفارسية « رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام»، فجميع هذه الكلمات الفارسية الخمس مستعارة من العربية. وغني عن القول إن توطين العلوم باللغة الفارسية أهَّلَ إيران لإقامة المفاعلات النووية وإطلاق الأقمار الصناعية.
5) استعمال اللغة العربية لغةً للإدارة والاقتصاد والتعليم في مختلف مراحله ومتباين تخصصاته، لا يستلزم مطلقاً استبعاد اللغات الأجنبية وعدم تعليمها، فهي نافذتنا على العالم. ولكن تعلُّمها لا يعني التعليم بها وإقصاء لغتنا الوطنية.
6) اللغة العربية ليست في منافسةٍ مع اللغات الوطنية المتواجدة في البلدان العربية كالآشورية والسريانية والأمازيغية، فهذه لغات العرب العاربة وتنمية ثقافاتها إغناء لثقافتنا المشتركة، وهي لا تزاحم اللغة العربية مطلقاً، وإنما لكلٍّ منها دورها التواصلي في مجالها حيث تُستعمَل لغة أُمّ، أمّا العربية فهي اللغة الاًمّ الموحِّدة في كل قطر عربي وفي الوطن العربي كلّه.
واقع اللغة العربية اليوم
أظهرت الدراسات التي قُدِّمت في المؤتمر أن اللغة العربية اليوم في وضع سيء حقاً وعاجزة عن القيام بدورها في التنمية البشرية، بسبب السياسات التعليمية والإعلامية والسياسية التي تنتهجها الحكومات العربية، وإليك شيءٌ من التفصيل:
1) إن الحكومات العربية لا تلتزم بالتعليم الإلزامي الذي تنصّ عليه دساتيرها وقوانينها. فطبقاً لإحصائيات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فإن نسبة الأميّة في البلاد العربية تبلغ أكثر من 30%، وأن 25% من الأطفال في سنِّ التمدرس، لا تُتاح لهم فرصة الالتحاق بالمدارس. وهكذا فإن نسبة كبيرة من المواطنين لا يتمكّنون من تنمية لغتهم العربية، ويشكّلون عقبة في طريق التنمية البشرية.
2) إن النظم التربوية في البلاد العربية متخلِّفة وبعيدة عن الديمقراطية تماماً ولا تحقِّق للمواطنين المساواة في الفرص. فهناك تعليم خاص، أجنبي في معظمه، لأبناء النخبة، وتعليم حكومي سيء لأبناء عامة الشعب. وجلّ المدارس الخاصة لا تعلّم باللغة العربية وإنما بلغات الدول الأجنبية التابعة لها. وهكذا فإن أبناء النخبة يتلقّون ثقافة أجنبية بلغة أجنبية، وهم إمّا أن يشعروا بالاغتراب في مجتمعاتهم ويهاجروا إلى الغرب، أو يتولون الحكم في بلدانهم ولا رابطة تربطهم بمجتمعاتهم، ويغلب عليهم لاشعورياً احتقار الثقافة العربية ولغتها واحتقار الذات. ولهذا تستعمل كثيرٌ من عوائلِ النخبِ العربيةِ الإنكليزيةَ أو الفرنسيةَ لغةً للتواصل المنزلي مع الأطفال.
3) وحتى التعليم الحكومي، لا يستعمل اللغة العربية في جميع مراحله ومختلف تخصصاته. فالتعليم العالي، وأحياناً الثانوي، يستخدم اللغة الإنجليزية (في بلدان المشرق «العربي») أو الفرنسية (في بلدان المغرب «العربي») لتلقين العلوم والتكنولوجيا. وهذا التحوُّل في لغة التعليم يؤدّي إلى انحطاط المستوى، لأن المعلومات لا تتشكَّل في جزر منفصلة وإنما في منظومات مفهومية مترابطة متراكمة. ولكل لغة نظامها المفهومي. وهكذا فإن الطبيب الذي تلقى تعليمه بلغة أجنبية، مثلاً، لا يستطيع استيعاب المعرفة العلمية بعمق أو تمثّلها، أو الإبداع فيها، كما أنه لا يمكنه نقل معلوماته بسهولة ويسر إلى الممرضات والمساعدين الطبيّين والمرضى والمجتمع عامة. ويشكل هذا عائقاً للتنمية البشرية.
كان الفرانكوفونيون في المغرب العربي والداعون إلى استعمال الإنكليزية في التعليم العالي والاقتصاد في المشرق العربي، في الستينيات والسبعينيات يتذرعون بعدم توفر العربية على المصطلحات الكافية، أما اليوم فإنهم يعلنون بجرأة أن العربية لغة لا تصلح للحداثة. وفي الجزائر يعدّ الفرانكوفونيون اللغة الفرنسية « غنيمة حرب» ينبغي المحافظة عليها (2).
4) إن المعلمين في التعليم الحكومي نفسه لا يستعملون اللغة العربية الفصيحة في دروسهم، وإنما يستعملون اللهجة العامية القُطرية، لأنهم لم يتلقّوا التدريب الكافي، ولأن الأنظمة التربوية والإعلامية لا تساعد على تعزيز ملكتهم العربية الفصيحة.
5) إضافة إلى ذلك، فإن مناهج التعليم في البلدان العربية تنأى اليوم عن الثقافة العربية المشتركة وتروّج للإيديولوجية المتحوّلة لكل قطر، وتنمي ثقافة قطرية انفصالية ضيّقة، وهذا ما عبّر عنه أحد المشاركين في الندوة بقوله: « إن المرض الرئيسي الذي يعاني منه الوضع الثقافي العربي، فكراً ولغةً وممارسةً سياديةً، هو تعدد مناهج التعليم في الوطن العربي بتأثيرات إقليمية مَرَضيّة تطلق على العملية ألقاب مملكة في غير موضعها، فهي جزأرة وسعودة ولبننة وتونسة وما إلى ذلك.» (3)
6) افتعلت بعض الدوائر الأجنبية صراعاً بين اللغة العربية وأخواتها من اللغات الوطنية الأخرى. وفي حالة الأمازيغية في الجزائر والمغرب، مثلاُ، يقول رئيس المجلس الأعلى للغة العربية، الدكتور محمد العُربي ولد خليفة، وهو نفسه أمازيغيّ أصيل وعالم لغوي مبرز: « تعمل بعض التيارات على اصطناع الصراع بين العربية والأمازيغية أحياناً لأهداف سياسية، ...ونجحت في استقطاب بعض الباحثين الجزائريين وقطاع من الشباب الأبرياء وآخرين من الاحتجاجيين، وإقناعهم بأن ترقية العربية وتعميم استعمالها خطر على الأمازيغية... لقد كانت الغفلة والاستقطاب صفقة مربحة للفرنسية المرشَّحة لأن تكون اللغة الجامعة بين مجموعتين في وطن واحد لا يتفاهمان إلا بالفرنسية...» (4)
7) بعد أن أطلقت الإدارة الأمريكية السابقة التي سيطر عليها المحافظون الجدد، مشروعها ل « الشرق الأوسط الجديد» الذي كانت تبشر به وزيرة الخارجية كوندليسا رايس في جولاتها المكوكية على زعماء الدول العربية، وبمصادفة عجيبة غريبة، سمحت كثير من الحكومات العربية بإنشاء إذاعات وفضائيات إقليمية خاصة تبث باللهجات العامية، وفي الوقت نفسه قلّصت حصة العربية الفصيحة لصالح العاميّة في الإذاعات الوطنية لصالح العاميّات، بحجة تقريب المعرفة إلى فهم عامة الشعب، على الرغم من أن أمهاتنا الأميات يتابعن المسلسلات المكسيكية الناطقة بالعربية الفصيحة بكل شغف واهتمام، وعلى الرغم من أن إذاعات الدول الأجنبية كبريطانيا وألمانيا والصين وروسيا، التي لا يمكن اتهام إداراتها بالغباء، تبث برامجها إلى شعوبنا باللغة العربية الفصيحة.
يدرك اللغويون « أن لجميع اللغات في الدنيا مستويين على الأقل في التعبير» كما ورد في مداخلة رئيس المجمع الجزائري للغة العربية (4)، ولا يغفلون إمكان الاستفادة من اللهجات العامية في إغناء اللغة العربية الفصيحة، ولكن استعال العامية في الإعلام والتعليم لا يعزّز اكتساب اللغة الفصيحة، لغة التواصل المشتركة والأداة الأساسية في التنمية البشرية. ولهذا فإن البلدان المتقدِّمة تعمم استعمال لغتها المشتركة في التعليم والإعلام والحياة العامة، وتحميها بقوة القانون، كما فعلت فرنسا حين سنّت قانون « حماية اللغة الفرنسية « سنة 1994، الذي صدر بمناسبة مرور مائتي عام على قانون حماية اللغة الفرنسية إبان الثورة الفرنسية الذي ورد فيه « يعاقب كل من يوقع وثيقة بغير اللغة الفرنسية بالفصل من وظيفته وبالسجن ستة أشهر.»
8) إضافة إلى الإذاعات والفضائيات باللهجات العامية، أجازت الحكومات العربية تأسيس إذاعات وفضائيات بالإنكليزية في بلدان المشرق «العربي» وبالفرنسية في بلدان المغرب «العربي». وهذه الإذاعات والفضائيات ليست موجهة للأجانب في أنحاء العالم لعرض قضايانا أو الترويج لثقافتنا، وإنما موجهة لأبنائنا لتنقل إليهم برامج من أمريكا أو فرنسا مباشرة. وقد وصف مشارك مغربي في الندوة هذا الإجراء بأنه « فتح المجال لإعادة استعمار المغرب من جديد، حيث إن هذه الإذاعات الخاصة ... تفتخر بإعلان تبعيّتها للغة والثقافة الفرنسيتين انطلاقاً من لغة الحديث والحوار والاختيارات الغنائية، ومروراً بنقل عدد من البرامج مباشرة من إذاعات فرنسية، وانتهاء بتغطية الحياة الفنية والثقافية والإعلامية بفرنسا دون ذكر اسم هذا البلد، وكأن المستمع المتابع يقطن بإحدى المدن أو القرى الفرنسية وليس بمدن المغرب وقراه.» (5)
9) في كثير من بلدان الخليج الصغيرة الغنية بالبترول، تتقدم بنجاح أنكلزة التعليم والإعلام والحياة العامة، بفضل العمال المهاجرين الذين يشكّلون أكثر من 90% من السكان، بحيث أصبح من اليسير جداً على أية دولة كبرى ناطقة بالإنكليزية تحويل هذه البلدان بذريعة إحقاق حقوق الإنسان إلى قُطر ناطق بالإنكليزية لا علاقة له بالبلاد العربية ولا لغتها، تماماً كما فعلت بريطانيا في سنغافورة بعد أن رفعت نسبة العمال المستوردين من الصين والهند وتايلند والفلبين وغيرها إلى أكثر من تسعين بالمائة من السكان وأجرت استفتاءً اختارت فيه الأكثريةُ قيامَ دولة مستقلة عن ماليزيا وناطقة باللغة الإنكليزية، وأصبح أهل البلاد الأصليون من المسلمين الماليزيين أقلية لا شأن لها في إدارة البلاد. وقد جعل هذا الوضعُ الخطير في بلدان الخليج قائد شرطة دبي، ضاحي خلفان يصرخ يوم 15/4/2008 قائلاً: « أخشى أننا نبني عمارات ونفقد إمارات»(6). ويظن كثير من الخليجيين الطيبين أن انتماء العمال الوافدين إلى دول مختلفة يمنعهم من تكوين دولة لهم في بلدان الخليج، ولم يدرك هؤلاء الخليجيون أبعاد دلالة المبدأ اللساني « اللغة وطن»، وأنه لم يبق لتحويل
بلادهم إلى بلاد من البلدان الناطقة بالإنكليزية كأستراليا وكندا ونيوزيلندة إلا خطوات شكليّة صغيرة.
إن دول أوربا الغربية التي تعرف معنى التخطيط، تنفق أموالاً طائلة على محاربة الهجرة السريّة إليها، ولا تسمح بزيادة عدد المهاجرين عن نسبة 10 15% من السكان، وتصرّ على إدماجهم عن طريق تعلّمهم اللغة الوطنية واجتيازهم اختباراً بها قبل حصولهم على تأشيرة الهجرة، على الرغم من حاجة هذه الدول الماسة إلى اليد العاملة الرخيصة.
10) ومع العولمة، ازداد تهميش اللغة العربية واستعمال اللغة الأجنبية بدلاً منها «إذ رغم الشعارات البراقة المرفوعة، فدواليب الإدارة والتعليم والاقتصاد والتجارة والسياسة وغيرها تسير وتُسيَّر بغير اللغة العربية في معظم البلدان العربية، ومن المواقف المضحكة المبكية مثلاً والدالة على وجود نفاق إداري واضح أن مذكرةً صدرت [بالعربية] عن دوائر عليا تنصّ على وجوب استعمال اللغة العربية في العمل والمراسلات وغيرها، فلما وصلت إلى المسؤول عن التنفيذ، كتب لمرؤسه في الهامش بالفرنسية عبارة « m?en parler» أي للتحدث معي فيه.» (8). وذكر مشارك آخر من دولة مغاربية أن عمال أحد القطاعات أضربوا عن العمل الشهر الماضي وتضمّنت مطاليبهم مطلب ضرورة كتابة لوائح الرواتب باللغة العربية لكي يفهموا ما يُستقطَع من رواتبهم(7). إن استخدام الإدارة، في مخاطباتها ومراسلاتها، لغةً أجنبية لا يفهمها المواطنون، لا تنمّ عن احتقارها للمواطنين فحسب، بل كذلك عن رغبة كامنة في الإخلال بالسِّلم الاجتماعي.
ما ينبغي عمله لإنقاذ مستقبل العربية؟
بعد أن شخَّص المشاركون في الندوة الدولية الصعوبات التي تواجهها العربية، أشاروا إلى أن مستقبلها مرهون بأيدي أصحاب القرار في البلاد العربية، وأوصوهم بجملة من الإجراءات أهمها بتلخيص:
اتخاذ قرار ملزم باستخدام العربية في كل المجالات بما يجعل منها اللغة الأساسية للتواصل والتعليم بمختلف مراحله وخاصة التعليم العالي.
إنشاء مجلس أعلى للغة العربية لدى جامعة الدول العربية لتنسيق سياسات الدول الأعضاء للنهوض بالعربية.
تنظيم علاقة اللغة العربية مع اللغات الأجنبية وتحديد أدوار كل منها في الأقطار العربية بما يجنّب الثنائية المفقرة للغة العربية، ويحل لغتنا محلها الطبيعي في كل المجالات.
فرض اللغة العربية لغةً للتعليم في المدارس والجامعات الخاصة في البلاد العربية.
تطوير طرائق وأساليب تدريس اللغة العربية في التعليم العام وتنمية قدرات التلاميذ على استخدام اللغة أداةً طيعةً للتعبير الوظيفي والإبداعي، تحدُّثاً وكتابةً.
العناية باللسانيات الحاسوبية بحثاً وتطبيقاً وتدريساً بما يساعد على استخدام اللغة العربية لدخول مجتمع المعرفة وتحقيق التنمية البشرية.
الاهتمام بالقضايا النظرية والمنهجية في وضع المصطلحات وتأليف المعاجم المختصة والعامة.
العناية بالترجمة العلمية والتكنولوجية، تمشياً مع تدريس العلوم والتكنولوجياً باللغة العربية.
التشجيع على إنشاء جمعيات أهلية للعناية باللغة العربية وتحبيبها إلى المواطنين والناشئة.
توجيه العناية إلى نشر اللغة العربية للناطقين بغيرها من اللغات في داخل الوطن العربي وخارجه.
إعلان سنة 2010 سنة للغة العربية في جميع البلاد العربية.
خاتمة:
ولكن مثل هذه التوصيات الموجَّهة إلى الحكومات العربية تصدر باستمرار منذ عشرات السنين، عدة مرات سنوياً، من لدن المجامع اللغوية العربية، ومؤتمرات التعريب، والندوات العلمية المختلفة. بل إن مؤتمرات وزراء التربية والتعليم العرب ومؤتمرات وزراء التعليم العالي العرب واتحاد الجامعات العربية المكون من رؤساء الجامعات، قد رددت هذه التوصيات مرات ومرات خاصة ضرورة تعريب التعليم العالي وضرورة استعمال العربية في الإدارة، ولم يتمكَّن هؤلاء الوزراء من تنفيذ توصياتهم وتعريب الجامعات التابعة لهم. فمَن، يا ترى، هو صاحب الكلمة في هذا الشأن؟!!
************
الهوامش
(1) الدكتور عثمان سعدي في جريدة الشرق الأوسط، العدد 11021 بتاريخ 30/1/2009
(2) الدكتور محي الدين عميمور، « راهن العربية في أوطانها» في كتاب :
المجلس الأعلى للغة العربية، العربية: الراهن والمأمول (الجزائر: المجلس، 2009) ص5364.
(3) المرجع السابق.
(4) الدكتور محمد العربي ولد خليفة، في كتاب: العربية: الراهن والمأمول، ص 17 52.
(5) الدكتور محمد الينبُعي، اللغة العربية في أوطانها بين التحديات والآفاق» في كتاب الندوة: العربية: الواقع والمأمول، ص 8997.
(6) جريدة « الشرق الأوسط» ، العدد 10732 بتاريخ 16/4/2008.
(7) الدكتور محمد خرماش، « اللغة العربية: واقع وآفاق» في كتاب الندوة: العربية: الواقع والمأمول، ص 7584.
(8) عن المشارك التونسي في الندوة الدكتور عبد اللطيف عبيد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.