الحكومة ترفع الحد الأدنى للأجر في النشاطات الفلاحية وغير الفلاحية    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وموجة برد مرتقبة من السبت إلى الثلاثاء بعدد من مناطق المملكة    تراجع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء المضيق    طنجة: توقيف 55 مرشحا للهجرة غير النظامية وحجز أربعة زوارق مطاطية    استعدادا لرحيل أمانديس.. مجلس مجموعة الجماعات الترابية طنجة-تطوان-الحسيمة للتوزيع يعقد دورة استثنائية    سيارات اجرة تطارد سيارة "تطبيقات" بطريقة هوليودية بالرباط (فيديو)    "جبهة دعم فلسطين": احتجاجات مناهضي التطبيع تتعرض لتجريم عملي وإدانة 13 ناشطا بسلا "سياسية"    الجولة 16 من الدوري الاحترافي الأول .. الرجاء يرحل إلى بركان بحثا عن مسكن لآلامه والجيش الملكي ينتظر الهدية    نهضة بركان يطرح تذاكر مباراته ضد الرجاء    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    وفاة الرئيس التاريخي لمجموعة "سوزوكي" أوسامو سوزوكي    الخطوط الأذربيجانية تعل ق رحلاتها إلى سبع مدن روسية بعد حادث تحطم الطائرة    منظة تكشف عدد وفيات المهاجرين بين طنجة وإسبانيا خلال 2024    "الاتحاديات" يطالبن بقانون أسرة واضح يحمي القاصرات ويؤكد الخبرة الجينية    بقنبلة زُرعت في وسادته.. إسرائيل تكشف تفصيل عملية اغتيال إسماعيل هنية    الرئيس الألماني يعلن حل البرلمان ويحدد موعدا لإجراء انتخابات مبكرة    رفض دفوع الناصري وبعيوي يثير غضب المحامين والهيئة تستمع للمتهمين    صديقة خديجة الصديقي تعلن العثور على والد هشام    هل يُجدد لقاء لمجرد بهاني شاكر التعاون بينهما؟    بلغ 4082 طنا.. جمعية تشيد بزيادة إنتاج القنب الهندي المقنن    فوج جديد من المجندين يؤدي القسم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    ألمانيا: حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة    الحكمة المغربية بشرى كربوبي تحتل الرتبة الخامسة عالميا والأولى إفريقيا    حضور وازن في المهرجان الدولي للسينما و التراث بميدلت    فنانات مغربيات تتفاعلن مع جديد مدونة الأسرة    ما حقيقة اعتزال عامر خان الفن؟    اختتام ناجح للدورة الخامسة لصالون الإلهام الدولي للفن التشكيلي بتارودانت    الوداد البيضاوي يعلن تعيين طلال ناطقا رسميا للفريق    دوري أبطال افريقيا: تحكيم بوروندي لمباراة الجيش الملكي ومانييما أنيون الكونغولي    معارض جزائري ل "رسالة 24 ": الاحتقان الرقمي مقدمة لإمكانية وقوع انفجار اجتماعي في المستقبل وعودة الحراك السياسي إلى الشارع الجزائري    الصين تجهز روبوت لاستكشاف القمر    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    تقرير أمريكي: المغاربة أكثر الشعوب تعايشا وتسامحا في العالم    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    المصادقة على مقترحات تعيين في مناصب عليا    بايتاس: إعداد مدونة الأسرة الجديدة مبني على التوجيهات الملكية والنقاش مستمر في مشروع قانون الإضراب    الجولة 16.. قمة بين نهضة بركان والرجاء والجيش يطمح لتقليص الفارق مع المتصدر    غوارديولا يتحدث عن إمكانية عقد صفقات جديدة في يناير    تراجع أسعار الذهب وسط ترقب المستثمرين للاقتصاد الأمريكي    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    ارتفاع ليالي المبيت بمؤسسات الإيواء السياحي المصنفة بالرباط ب 4 في المائة عند متم أكتوبر    التحكيم المغربي يحقق إنجازًا عالميًا.. بشرى الكربوبي بين أفضل 5 حكمات في العالم    طعن مسؤول أمني تونسي خلال عملية إيقاف مطلوب للعدالة بتهم الإرهاب    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الحكومة تحدد شروط منح تعويض لمؤطري التكوين المستمر بوزارة التعليم    مجلس الحكومة يصادق على قائمة الرخص الاستثنائية التي يستفيد منها القضاة    علماء: تغير المناخ يزيد الحرارة الخطيرة ب 41 يومًا في 2024    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دَسترة 'الأمازيغيّة' والتضليل الشَّعْبانيّ
نشر في هسبريس يوم 18 - 04 - 2011

قد يَكفي في نظر سِرَاع الفِكْر وأهل الأهواء أنْ تأتي، في عنوان هذا المقال، عبارةُ "دسترة الأمازيغيّة" مقرونةً إلى "التضليل الشَّعْبانيّ" (بما هو أمر سَلْبِيّ) لجعل مضمون المقال بِرُمَّته مجردَ تهجُّمٍ ليس فقط على "الأمازيغيّة" (قضيةً ولُغةً)، بل أيضًا على "الأمازيغ" (شعبًا وثقافةً وتاريخًا). إذْ لم يَعُدْ خافيًا أنَّ الحديثَ عن "الأمازيغيّة" يُوشِكُ أنْ يَصير، بين ظَهْرانَيْنا، مثلَ الحديث عن "مِشْواة اليهود" من جرّاء النازيّة ؛ بحيث لا يُقبَل كلامٌ فيها أو عليها إلا مِمَّنْ أُذِن لهم من أصحاب القضية الأُصلاء. ذلك بأنّ "الأمازيغيّة" أصبحت قضيةً شديدةَ الحساسيّة بفعل مَيْل بعض "المُتمزِّغين/المُتمازِغين" إلى عَرْض كل ما يتصل بها على نحو مُلتبسٍ ب"الِاستثارة"، خصوصا حينما يَحرصون على تقديمها كمثال على "المظلوميّة" و"العنصريّة" اللَّتَيْن يقع "الأمازيغُ" (وهم وحدهم) ضحايا لهما (طبعا، على أيدي المُستوطِنين "العرب"!)، بل لا يتردَّدُ بعضُهم في وصم وثَلْب كل رأيٍ مُخالِفٍ -بهذا القدر أو ذاك- بأنّه يُعبِّر عن "الكراهية العنصريّة"!
ولمنع أيّ ٱلتباس أو تلبيس بهذا الصدد، يَجدُر تأكيدُ أنَّ "دسترةَ الأمازيغيّة" ليست على الإطلاق مُشكلةً من الناحية المبدئيّة. إذْ لو كان الأمرُ يتعلق بالأمازيغيّة كشأنٍ يَهُمّ "الشعبَ المغربيّ" وحده في تدبيره لشؤونه وقضاياه، لَمَا جاز الِاعتراض عليها إلا بقدر ما يكون الِاعتراض على أيّ أمرٍ يَحُوم حوله خلافٌ بهذا القدر أو ذاك. وبالتالي، فإنّه يبقى من حق المغاربة -وَهُمْ وحدهم بما هُم شعبٌ حُرّ بِوُسعه أنْ يُمارِس كُلّ سيادته- أنْ يُدَسْتِروا ما يَرونه ضمانًا لحقوق المُواطنين، حتى في الحالة التي قد لا يَعني ذلك إلا أقليّةً منهم.
لكنّ مسألةَ "دسترة الأمازيغيّة" تُمثِّل، في الواقع، جِماعَ قضايا تُتَّخذ ذرائعَ -من قِبَل جهاتٍ في الداخل والخارج- للتضليل بخصوص تاريخ "المغرب" وهُويَّته وعلاقته ب"المشرق" (العربيّ) ومصيره المُستقبليّ والسعي، من ثم، إلى تحقيق جُملةٍ من المآرب التي من شأنها أَنْ تُضِرّ بوحدة "المغرب" وٱستقلاله وتطلُّعه إلى الِازدهار. وبالتأكيد، لنْ يرى بعض "المُتمزِّغين/المُتمازغين" في هذا القول نفسه سوى كونه تضليلا يُريد الِالتفاف على "دسترة الأمازيغيّة" بتوسُّل ذريعةِ التدخُّل الأجنبي و/أو إثارة الفِتَن (سواء أكانت عرقيّةً أم لغويّةً أم عقديّةً) ضمن "مُغالَطة المُؤامرة" الممجوجة والمُتهافِتة. غير أنَّ نفيَ إمكان ذَيْنِك الخَطرَيْن أو وجودهما ليس مسألةً خِطابيّةً أو بلاغيّةً، وإنّما هو ضربٌ من الِاستخفاف الذي لا يُجْدِي في مقامٍ كُلّ الأدلة والقرائن تُثبِتُ أنَّ "المغرب" (وليس وحده) كان ولا يزال مُستهدَفًا من قِبَل قُوًى عالميّة وإقليميّة تعمل، بالأساس، على دعم "ٱلْبَلْبَلة" تمهيدًا لإضعافه وتقسيمه وطلبًا للسيطرة عليه وٱستتباعه.
وإذا كان لا يَصِحّ أنْ يُتَّخذَ ذلك سببًا كافيًا لمنع أيّ مطلب دِمُقراطي، فإنه لا يَصِحّ كذلك أنْ يُطرَح داخليًّا أيُّ مَطلبٍ على نحو من شأنه تعزيز فُرَص الأعداء والخُصوم في النَّيْل من المُقوِّمات المُحدِّدة لوجود وٱستمرار "الأُمّة المغربيّة". ولهذا، فإنَّ الدعوةَ إلى "دسترة الأمازيغيّة" لا يُمكن أنْ تَكتسب كاملَ معناها إلا إذا أُثْبِتت جدارتُها عموميًّا في إطار العمل على تقوية وتنمية غايات "الاستقلال" و"الوحدة" و"التقدُّم". ولأنّ الأمر بهذه الخطورة، فإنه لا بُدَّ أنْ يكون موضوعًا لنقاشٍ عُموميّ مسؤول وعميق، بحيث إنّ كل مُحاولةٍ تُغيِّب المُساءلةَ النقديّةَ أو تَختزلُها في مجرد "التسفيه" و"التسخيف" تَصيرُ داخلةً ضمن "التَّسايُس الشَّعْبانِيّ" الذي قد يتوسَّل ب"الترهيب" و"التخوين" فيقترب من "التضليل الظَّلامي" حتى إِنْ حَرَص أصحابُه على رفع شعار "التنوير الحداثي"!
إنّه لا يخفى أنَّ ٱزديادَ ٱنحسار المُمكِنات بمجالِ المُمارَسة السياسيّة صار يُضيِّق فُرص الِابتكار والتجديد على مستوى الرُّؤى والوسائل بنحوٍ يجعل طُلَّاب السياسة والعاملين عليها لا يتردَّدُون في تعاطي كل ما من شأنه أنْ يَكْفُل لهم التقرُّب من مُختلِف فئات الشعب وٱستغلال حاجاتها وٱنتظاراتها، بل التلاعُب بتناقُضاتها. ومن هنا، فإِنَّ الدعوةَ إلى "دسترة الأمازيغيّة" باعتبارها "اللغةَ الأصليّةَ" و"لُغةَ الهويّة" و"لُغةَ الأُمِّ" و"لُغةَ الأكثريّة" ليس سوى تَسايُسٍ شَعبانِيٍّ (أو "تَشاعُب") يَأْبى الإفصاح عن نفسه فلا يَلبث أنْ يتحوَّل إلى "تضليل ظَلاميٍّ" يُلبِّس على الناس برفع الشعارات الكبرى ("التنوير"، "الحداثة"، "الدمقراطيّة"، "العَلْمانِيّة") ويَخْلط بين المُطالَبة الدمقراطيّة والمُزايَدة الغَوغائيّة.
ذلك بأنَّه لا "لغةَ أصليّةَ" إلا تلك التي تَكلَّمها "الإنسان الأوَّل" (جَدّ البشر أو آدم)، حيث إنّه كُلَّما ٱمتدّ التَّراجعُ عميقًا في الماضي البشري، صَعُب معه تحديدُ ملامح الإنسان بدقَّةٍ فاستحال، من ثم، الإمساكُ بذلك "الأصل" المزعوم، سواء أكان عرقيًّا أمْ لُغويًّا أمْ ثقافيًّا. وإذا كان لا بُدّ من الحديث عن "أصلٍ لُغويٍّ"، فإنّه لن يكون سوى هذه "القُدرة الطبيعيّة" المُعطاة إلى كل الناس والمُتجسِّدة في الِاستعداد الفطري لاكتساب وٱستعمال "اللغة". فليست ثمة، إذًا، لُغةٌ تختص بالهويّة فتتعيَّن لسانيًّا كلُغةٍ مُحدَّدة، وإنّما ترتبط "الهُويَّةُ" باللغة عُمومًا كآلياتٍ بِنائيّةٍ تَدْعَم فكرة "الوحدة/المُماثَلة/التناغُم" في خِضمِّ واقعِ "التغيُّر" و"التعدُّد" المُحيطَيْن ضرورةً بكل كِيانِ الإنسان الذي لا يَملك واقعيًّا أنْ يَشعُر ب"الِانتماء" و"الِاستمرار" إلَّا ٱجتماعيًّا وتاريخيًّا بفعل "اللُّغة" كوسيطٍ رمزيّ وناقِل ثقافيّ. وكل الألسن واللغات تُؤدِّي تلك الوظيفة التي تَتحدَّد بأنها -كما يُؤكِّد "بورديو"- جزءٌ من "السحر الِاجتماعي" الذي يجعل "الِاعتباطيّ" طبيعيًّا وبديهيًّا. وأما "لُغةُ الأُمِّ"، فليست ٱمتيازًا إلا مِن حيث أهميتُها في تيسير التنشئة الأُولى والتمهيد للتنشئة النِّظاميّة التي صارت، في إطار المجتمعات المعاصرة، مُتعلِّقةً ب"المدرسة" حيث يُعادُ إنتاجُها تهذيبًا وتنقيحًا في صُورةِ "لسانٍ معياريٍّ" و"لُغةٍ مشروعةٍ" يُعبِّران عن ٱشتغالِ آلياتِ "السيطرة" ٱجتماعيًّا وثقافيًّا في ٱرتباطها ب"العنف الرمزيّ"، أكثر مما يُعبِّران عن "لُغة الأُمِّ" في أوليَّتها وعفويَّتها، بحيث ليس هناك لِسانٌ يُعلَّم في "المدرسة" يَستحِقّ أنْ يُسمّى "لسانَ الأُمِّ" تمييزًا وتفضيلًا. ولهذا، فإنَّ "لُغةَ الأكثريّة" لا تكون أبدًا واحدةً ومُحْتَتِنةً إلا في المدى الذي تشتغل مُؤسَّساتُ "الدولة" (وعلى رأسها "المدرسة" و"وسائل الإعلام") بتنميطِ وترسيخِ "اللِّسان المعياريِّ" كلُغةٍ مشروعةٍ يُفترَض فيها أنْ تضمن لأكثريّةِ المُواطنين "كفاءةَ الكلام" المُناسِب واللائق الذي تَتحدَّد بالنسبة إليه، ودُونَه، رَطانةُ العوامّ الذين قد يكونون هم الأكثريّة في بلدٍ لم يُنْجِزْ بعدُ ٱلِانقلابَ المتعلق بتعميم "التعليم المدرسيّ". فلُغة الأكثريَّة مُتكاثِرةٌ ومُتبايِنةٌ في واقع التداول اللغوي على النحو الذي يجعلُ الحديث عن لسانٍ بعينه كما لو كان واحدًا ومُحتتِنًا حديثًا يُغْفِلُ أنَّ "اللغةَ" لانهائيّةٌ من الفُرُوق والتغايُرات الِاستعماليَّة بفعل التفاوُت الحاصل في شروط الوُجود والفعل البشريَّيْن، و"التعليم المدرسيّ" هو وحده الذي يُحاوِل تقليلَ وتلطيفَ تلك الفُرُوق والتغايُرات من خلال تثبيت وترسيخ "اللِّسان المعياريّ".
ومن أجل ذلك، فإنَّ كونَ "العربيّة" مُستعملَةً في "المغرب" (وفي شمال أفريقيا كُلِّه) على أكثر من مُستوى لا يجعلُها مُطلقًا أقلّ أصالةً من "الأمازيغيّة" كما يَتوهَّمُ (ويُوهِمُ) بعضُ الناس، وليست بالتالي أبعدَ عن هُويّةِ المغاربة ولا هي بأضعفَ تَغَلْغُلًا من غيرها في أوساط الشعب. فكيف يُقبَل، إذًا، أَنْ يُقال عنها بأنّها لُغةٌ أجنبيّةٌ وغريبةٌ وهي اللغة التي يَرجِع وجودُها الأكيد، بهذه المنطقة، إلى ٱثني عشر قرنا (وإلا فإنَّ وُجودَها البعيد يرتبط، على الأقل، باستيطان "بني كنعان" أشقاء "العرب" الذين شاعت تسميتُهم تحريفًا ب"الفنيقيِّين" خُضوعًا لتأثير اللغتين اليونانيّة والرُّومانيّة)؟! أليست "العربيّةُ"، من ثمّ، أقدمَ وأرسخَ في "شمال أفريقيّا" كُلِّها من "الإنجليزيّة" و"الإسبانيّة" و"البرتغاليّة" و"الفرنسيّة" في "القارة الأمريكيّة" (منذ خمسة قرون فقط)؟! هل يَصِحّ رفضُ هذه اللغات في تلك البلدان بدعوى أنّها أجنبيّة وٱستيطانيّة حتى يَصِحّ رفض "العربيّة" بصفتها هي أيضا كذلك في "شمال أفريقيا"؟! وكيف يُرادُ قطعُ "المغرب" (و"شمال أفريقيا" بكامله) في لُغته وهُويّته وثقافته عن "العربيّة" و"المشرق" (وأيضا، بل أَساسًا، عن "الإسلام")، إذا كان "الشرقُ" يَحضُر بقوةٍ حتى في أعماق "الغرب" كما ما فَتِئت الدراساتُ تُثبِتُه على أكثر من مُستوى (يُراجَع، مثلا، «الشرق في الغرب» ل"جاك غُودي")؟!
إِنَّ ما يَغْفُل عنه كثيرون هو أنّ الدعوةَ إلى ترسيم "الأمازيغيّة" دستوريًّا تَحمِل، رغم مشروعيّتها، حقيقةً نقيضيَّةً يَأبى بعضُهم تقبُّلَها والتعامُل معها، وهي حقيقةٌ تنطبق على "الأمازيغيّة" و"العربيّة" كلتيهما في حاجتهما إلى الترسيم الدستوري: إِذْ بما أنّ هذه اللغة أو تلك لا تستطيع، في الواقع الفعليّ، أَنْ تفرض نفسها بمجرد قوّة التَّداوُل (من خلال الِاستجابة لأهمّ الحاجات العمليّة والمُباشرة في الحياة اليوميّة)، فإنّها تستنجد بالسلطة العُموميّة (التي تُمثِّلُها "الدولةُ" بكل أجهزتها ومؤسساتها)، ٱبتداءً بالدستور وٱنتهاءً بالقوانين وتَبِعاتها المُلْزِمة قَسْرًا و/أو زَجْرًا. ولعلَّه لا شيءَ يَكشِفُ حُدود التمكين لِلُغةٍ بواسطة الدستور أكثر من تجربة "العربيّة" نفسها في واقع الِاستعمال بكل الدُّول التي تَعُدُّها لُغةً رسميّةً، حيث إنّ ضعف أو ٱنعدام أسانيد التفعيل التداوليّ لم يَشفعْ لهذه اللغة (ولا يُمكِنه، بالتالي، أنْ يَشفعَ لغيرها) على مستوى حيوِيّة وحركيّة الِاستعمال. ذلك بأنَّ إنتاجَ "اللغة" وٱستهلاكَها مَشروطان باقتصادٍ ماديٍّ ورمزيٍّ يتجاوزُ ما هو "لُغويّ" و"رسميّ" ويُلابِسُ ما هو "طبيعيّ" و"ٱعتباطيّ" على مُستوى الِاستعمال التداوليّ بكل سياقاته وأسواقه. وهذا ما يجعل تبريرَ أزمة "العربيّة" في واقع التداوُل فقط بانعدام الحماية القانونيّة مُماثِلًا للتعليل الذي يرى أصحابُه أنّها إنّما تَعيش الأزمةَ لأنّها ليست "لُغةَ الأُمِّ" و/أو لضعفها وقُصورها الذاتيَّيْن. ومن البيِّن أنَّ ما يجمع بين أصحاب هذين المَسلكَيْن في وصف وتفسير واقع ٱستعمال "العربيّة" إنمّا هو تغييب الشروط الواقعيّة (غير اللغويّة وغير الرسميّة) التي تجعل "اللغةَ" تُكتسَب وتُستعمَل بمُلازَمةِ أَنْفاس الناس وحركاتِهم المُختلفة وهم يعيشون وُجودَهم اليوميّ بكل مُغْرِياته وإكراهاته.
ومن ثم، فإنَّ "الدولةَ" لا تستطيع أنْ تفرضَ على الناس من "اللغة" إلا بقدر ما يُفرَض عليها، هي نفسُها، أنْ تُدبِّر أنواعَ ودرجات الِاختلاف والتفاوُت بالشأن العام، حيث ينبغي أنْ يبقى التداولُ اللغويُّ في حدود التفاعُل والتبادُل المدنيّ وبعيدًا عن ضمان الِاحتكار بشكلٍ مُتسلِّطٍ لوسيطٍ لُغويٍّ بعينه. فاللغةُ لا تَفرِض نفسَها -وبَلْهَ أنْ تُفرَض بسلطةٍ خارجيَّة- إلا على أساسِ قُوّةِ النَّوابِض التداوليّة التي تجعل للناس مصلحةً في ٱكتسابها وٱستعمالها. وإنّه لمن الدَّالِّ جِدًّا، بهذا الصدد، أنْ تكون "العربيّةُ" -رغم كُلِّ ما تَحظى به كلُغةٍ "معياريّةٍ" و"عالِمةٍ" و"دينيّةٍ" مُكرَّسةٍ مدرسيًّا وإعلاميًّا ودُوَليًّا- غير قادرة حتى الآن على فرض نفسها بشكل ناجِعٍ في سُوق التداوُل التي لا تزال تجعل الغَلَبةَ للُّغات الأوروبيّة باعتبارها، أساسًا، لُغاتِ "العلم" و"التقنية" و"الشُّغل" على النحو الذي يَكْفُل لها حاليًّا "نجاعةً تدوليّةً" لا تُضاهى.
ونجدُ، على مستوى آخر، أنَّ المَطلبَ الأساسيَّ للشعب المغربي قاطبةً كان ولا يزال بناءَ "الدولة الراشدة" قانونيًّا ومُؤسَّسِيًّا كقاعدةٍ موضوعيّةٍ للِاشتغال مَدنيًّا وعُموميًّا بقصد تدبير الشأن العام على نحوٍ يُحقِّق التوزيع العادِل والمُنصِف للموارد والخيرات والِامتيازات. ولهذا، فإنَّ مسألةَ تدبير التعدُّد والتفاوُت لغويًّا وثقافيًّا بالمغرب (وليس فيه وحده) لا معنى لها إلا في إطار دولةٍ "مدنيَّةٍ/راشدةٍ" صارت أكثريَّةُ مُواطنيها مُؤهلةً تعليميًّا لمُمارَسةِ حقّها في الِاختيار سياسيًّا وٱجتماعيًّا وثقافيًّا. ولَنْ يَتأتَّى ذلك في ظل مجتمع ما زال نحو نصف سُكّانه لا يعرفون القراءة والكتابة (وهم لا يعرفونها ليس بسبب أنَّهم "أمازيغ" أو "عرب" أو بفعل "التعريب" كما يُروِّج المُبْطلِون تضليلًا، بل لأنَّهم حُرِموا ٱجتماعيًّا وسياسيًّا حقَّهم الأساسيّ في "التعليم/التعلُّم" كما حُرِم معظمُهم من حقوقه الأخرى!). ومن الثابت أنَّ حسمَ ذلك الأمر لا يكون إلا بتمكين مجموع المُواطنِين من حقِّهم في "التأهيل الألفبائيّ" (المُسمَّى نشازًا "محو الأميّة"!) في إطار التراكُم المُشترَك وطنيًّا الذي ليس سوى "الألفباء العربيّ" (الذي يُسمِّيه المُبْطِلون تَنقُّصًا "الخط الآراميّ"، فيُثْبِتون بذلك مدى جهلهم ب"الخط النَّسَبِيّ" المُؤكِّد لقَرابة كل الخطوط التي تجد أصلها في "الألفباء الفينيقيّ"، بما فيها "الخط اليونانيّ" و"الخط اللاتينيّ"، وبَلْهَ "الخط الآراميّ" و"الخط السُّرْيانيّ" شقيقي "الخط النَّبَطيّ" الذي هو الأصل المباشر للخط العربيّ!) ؛ فهو الذي من شأنه أنْ يُعطيَ، على الأقل، الحدَّ الأدنى في تعليم/تعلُّم القراءة والكتابة (سواء بالعربيّة أو بالأمازيغيّة). ومن هنا، يأتي الخطأُ الشنيعُ الذي ٱقترفه الذين ٱصطنعوا ألفباء "تِفيناغ"، من حيث إنهم -بدعوى ٱسترجاع الخط الأصيل وضمان الكتابة المُكتمِلة- ٱنْتَهَوْا إلى تكريس القطيعة بين لُغتَيْنِ يَستحيلُ الفصلُ بينهما تاريخيًّا ولُغويًّا وثقافيًّا ومَجاليًّا بفعل تجذُّر وعُمق التداخُل والتكامُل بينهما تكوينيًّا وبنيويًّا ووظيفيًّا، وهي القطيعة التي من شأنها أنْ تُعزِّز التنافُرَ اللغوي، بل مآلُها أنْ تُعمِّق الحِرْمانَ من الحق في "التأهيل الألفبائيّ" نفسه!
وهكذا، فإنَّ تقديمَ "الأمازيغيّة" (أو أيضا إحدى "العاميّات") كما لو كانت هي "البديل" على المدى المتوسط أو البعيد، أو بأنَّها "النقيض" الواقعي أو المُفترَض للعربيّة يُعَدُّ مُحاولةً غير مُتبصِّرة وغير مُجدِيَة، ليس فقط لأنّها مُحاولةٌ تُصِرُّ على تجاوُز مُعطيات الواقع (بالأساس، توفُّر "العربيّة" على ما يَكفي تداوليًّا للانخراط الفعليّ في واقع الحداثة تجديدًا وٱبتكارًا)، بل لأنَّها لا تَمْلِكُ -من الناحية التداوليّة- أنْ تُعلِّل لُزُوم ٱستبدال لغةٍ بأُخرى خارج "الِاعتباطيّة" الأصليّة المُميِّزة لِلُّغة في العالم البشري وأنّها تبدو، بالتالي، مُضطرَّةً إلى ٱلِاستناد للإكراه السُّلطويّ ولو في ألطف وُجوهه ("الترسيم الدستوري") لتسويغ فَرْض هذا "ٱلِاعتباطيِّ ٱللغوي" من دون غيره!
يتبيَّن، إذًا، أنَّ العمل المُتنكِّر الرامِي إلى تقديم "الأمازيغيّة" بَديلًا أو نقيضًا للعربيّة في "شمال أفريقيا" ليس سوى ٱستدراج ماكر يَدفعُهما معًا نحو حربٍ لُغويّةٍ قد يكون هدفَها بالفعل، على المدى المتوسط، ٱستبدالُ "الأمازيغيّة" مكانَ "العربيّة" ؛ لكنّ هدفَها البعيد لن يَقِلّ، بالتأكيد، عن التَّمكين للعاميّات (على ٱختلافها وكثرتها) تكريسًا ل"ٱلتخلُّف ٱلمُستدام" (من حيث إنَّ "العاميّات" ستحتاج إلى عدّة عقود لكي تستوي كألسن معياريّة، ثم عقود أخرى لتصير كلُّها أو إحداها لغةً مُهيمِنةً كلغة مشروعة تُيِّسر "الإنشاء" الفني والثقافي في أرقى أشكاله!)، تخلُّف مُستدام سيُؤدِّي حَتْمًا إلى ٱستعمال إحدى اللغات الأجنبيّة، وهو الِاستعمال الذي لنْ يكون معناه شيئا آخر سوى التبعيّة الِاستعباديّة التي تَستعيد "الِاستيطان" مُجَدَّدًا ومُمَكَّنًا وتقتل "روح الِاستقلال" ٱبتكارًا ونُبوغًا. ولو تمّ هذا، فستجدُ "العربيّةُ" و"الأمازيغيّةُ" نفسيهما قد صارتا إلى متحف اللغات المُماتة! وحينئذ سيُدرِكُ تُجّار التضليل تَسايُسًا وتَشاعُبًا أنَّ تدبيرَ التعدُّد والتفاوُت لغويًّا وثقافيًّا يَحسُن فيه تعاطي "التَّوافُقات المعقولة" ولا يُجدِي معه إطلاقًا ٱلِانسياق وراء المُزايَدات المُتهاتِرة والمُغالطات المُتكاثِرة!
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.