يعمل دُعاة "الأمازيغية" على تقديمها كحركة تدعو و/أو تسعى إلى النهوض بأوضاع "الإنسان الأمازيغي"، أوضاعه اللغوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وإذا كانت "الأمازيغية" كدعوة و/أو مسعى تبدو مشروعة ومقبولة، فإن ما يجعلها كذلك ليس، في الواقع، سوى رفعها لشعار "النهوض بأوضاع الناس" بما هم أُناس ككل الناس ؛ وإلا فإن ما لا يَتَّضح ولا يُوضَّح، في معظم الأحيان، إنما هو صفة "أمازيغي" التي تُسند إلى هذا "الإنسان المغربي" دون ذاك، كما لو كان طبيعيا وبديهيا أن يتحدد هذا الإنسان بتلك الصفة من دون غيرها. تُرى من هو هذا "الأمازيغي" (الذي يَحتاج إلى أن يُنهض له بأوضاعه)؟ هل هو كل من يتكلم "اللغة الأمازيغية" أم أنه كل من يتصل عِرقيا بِنَسبه إلى "جد أمازيغي" حقيقي أو مفترض؟ وهل "الأمازيغية" هي قَدَر الإنسان في شمال أفريقيا أم أنها لا تعدو أن تكون (مثلها مثل غيرها) بناءً اعتباطيا لا يَصلُح إلا بقدر ما يُمكِّن من تَبيُّن فعل "المجتمع" و"التاريخ" في إنسان تلك المنطقة بما أن الإنسان عموما كائن لا تفعل فيه "الطبيعة" إلا في المدى الذي تَبنِيه "الثقافة" كفاعلية ضمن مجموع الشروط الاجتماعية والتاريخية المُحدِّدة لوجوده بالضرورة؟ لعل بداية الالتباس في "الأمازيغية" يُمثلها ذلك الإشكال. و"الأمازيغية" في هذا مُشابِهة لغيرها من الدعوات والحركات التي تَكُون ذات نزعة قومية (مثلا، القومية العربية) أو دينية (مثلا، الحركة الإسلامية). ذلك بأن الفكر والخطاب بالنسبة إليها ليسا نِتاجًا لحركة الواقع في تغيرها وتعددها، وإنما هما مُتولدان من رغبات "التَّوَهُّم" وتابعان لها، كما لو أن الفعل البشري مُنفَكٌّ تماما عن كل الشروط والإكراهات التي تَحكُم وجود الإنسان في هذا العالم على نحو يجعله ذا قدرة مطلقة على تسوية الواقع وَفْق ما يشتهي ويرغب. والحال أن الفكر والخطاب لا فَعَالية حقيقية لهما إلا بقيامهما على تَبيُّن مُمكنات الواقع الموضوعي من حيث تَحكُمه ضرورة طبيعية واجتماعية يجب تحديد وتفهم شروطها علميا. من أجل ذلك، نجد أن "الأمازيغية" تتحدث في الغالب عن "الإنسان الأمازيغي" من دون تحديد، اللهم إلا بتحديده من خلال ما لا يَقبل أي تحديد واقعي إلا بصفته "غير مُحَدَّد"، أي مُلتبس ومُشتَبِه. ومن هنا، فإن الحديث عن "الأمازيغي" بكونه من يملك "الهُوية الأمازيغية" كما تتجلى في "اللغة الأمازيغية" و"الثقافة الأمازيغية" لا يقود إلى تحديدٍ يُعيِّن في الواقع شيئا ما، وإنما إلى طرح إشكال شديدِ التعقُّد يتعلق ب"الهُوية" التي يُراد بواسطتها تمييز الواقع البشري المتعدد في طبيعته والمتغير في سيرورته على نحو يؤدي إلى تعيين "أنواع" أو "أجناس" منفصل بعضها عن بعض، وكل منها قائم بذاته ك"جوهر". وهكذا، فحينما يُقال عن "الأمازيغي" بأنه من يتكلم "اللغة الأمازيغية" و/أو من يتصل عرقيا بنَسبِه إلى جد أمازيغي، لا يُستحضر ذلك الواقع البشري في تعدده وتغيره، من حيث إن الناس في المغرب (وفي شمال أفريقيا كلها) لا يتكلمون بلسان أمازيغي واحد وإنما بألسن جهوية متباينة إلى هذا الحد أو ذاك ومتغيرة باستمرار، وأن الواحد منهم لا يستطيع أن يذهب بِنَسبِه بعيدا دون أن يكتشف انقطاعا أو اختلاطا. ولو نظرنا إلى "الإنسان المغربي" كما يتحدد في واقعه الفعلي، لوجدناه بالضرورة متعددا من الناحية العرقية واللغوية والثقافية، ليس لأنه يُمثِّل استثناء معينا بين كل الناس في العالم، بل لأن طبيعة الوجود الإنساني في هذا العالم تجعله رهينا بالشروط المتعددة والمتغيرة التي تَحكُمه فتجعله قائما بالأساس على الاختلاف والتنوع. ولهذا، فإن "الأمازيغية" -حتى باعتبارها "هُوية"- لا تستطيع إلا أن تكون تعدديةً بحكم الواقع البشري نفسه الذي تَدَّعي الاستناد إليه، وهو الواقع الذي لا يعرف سوى اللَّاتَناهي في التعدد والتغير. فبأي وجه، إذن، يملك دُعاة "الأمازيغية" (ودُعاة غيرها أيضا) الحق في انتزاع شيء ما من ذلك الواقع وتقديمه كما لو كان واحدا، ثابتا وخالصا؟ وبأي حق يَزعُمون توحيد المتعدد وتثبيت المتغير وتَسكِين المتحرك قوميا ولغويا وثقافيا؟ وكيف يُسوِّغُون قتل ألسن طبيعية بكاملها باسم لغة تتحدد بكونها مُصطنَعةً ومُختلقةً على أساس التَّشهِّي والتحكم من قِبَل نُخبة من المُتَفرِّغِين؟ ألا يعلمون أن ما هم آخِذُون في اصطناعه من "لغة أمازيغية" على هذا النحو ليس طبيعيا ولا بديهيا، وإنما هو شيء يُعمَل على فَرْضه قَسرًا على عامة الناس رغم كونه شيئا خاصا بفئةٍ معينة (علماء اللغة)؟ وإلى أي حَدٍّ يَملكون الجرأة على استعادة التجربة النموذجية للعرب في تدوين لُغاتهم (نعم، "لُغاتهم" بالجمع) من دون التمييز بينها بشكل أدى تاريخيا ونحويا إلى جعلها روافد لِلِّسان المعياري كما صار يتجلى في اللسان العربي؟ أفلا يكتشفون، إذن، أن الحق في اللغة يُعطي لكل إنسان إمكاناتٍ لغوية متعددة لا يَصِحُّ التمييز بينها إلا على أساس تدبيرٍ معقول للنجاعة التداولية يَكفُل قانونيا ومُؤَسَّسِيا سُبُل المشروعية اللغوية التي تبقى مُحدَّدةً مكانيا وزمانيا؟ ومن ثم، فإن إصرار بعض الناس على ترديد أن "الأمازيغية" تُعدُّ شأنا يَهُمُّ كل المغاربة ليس أمرا بديهيا إلا من حيث إن "العربية" تُعدُّ (هي أيضا، وليس هي وحدها) شأنًا يَهُمّ كل المغاربة، ليس فقط من حيث إنهما متساويتان في الأهمية من الناحية اللغوية، بل لأن "ما هو أمازيغي" بهذا الخصوص لا يكاد يتمحض من "ما هو عربي" فيتحدد بصفته واحدا، ثابتا وخالصا. فالواقع اللغوي في المغرب، كما في غيره من بلدان العالم، واقعٌ يَتَّسم بتجذُّر التعددية فيه إلى الحد الذي جعل مستعملي اللغة يتكلمون بألسن هجينة تتداخل وتتراكب فيها رواسب لُغات كثيرة تُهيمن عليها فعليا كل من "الأمازيغية" و"العربية" و"الفرنسية" حسب أقدارٍ ورُتَب وقطاعات مُحدَّدة اجتماعيا وتداوليا. وكونُ الواقع اللغوي يتحدد بهذا الشكل هو ما يجعله يتطلب تدبيرا معقولًا يُوزِّع الموارد اللغوية بنحو يضمن لكل المواطنين الوصول المتكافئ إلى "اللغة المشروعة" (اللسان المعياري، سواء أكان عربيا أم فرنسيا أم أمازيغيا)، وليس بتفضيل هذه اللغة على تلك بالاستثمار فيها بشكل يُقوِّي حُظوظ اكتسابها واستعمالها لدى هذه الفئة أو تلك، كما تم منذ الاستقلال بخصوص "الفرنسية" وإلى حد ما "العربية" كذلك. فالتدبير المعقول للتعدد اللغوي بناءٌ واقعي لشروط اكتساب واستعمال اللغة بعيدا عن المُزايدات الإيديولوجية أو التسييسية التي لا تعمل في الواقع إلا على تكريس حِرمان عامّةِ الناس من الطُّرق الوجيهة للتكلم كنوع من الرأسمال اللغوي المُجازى اجتماعيا وتداوليا. وبهذا المعنى فقط تُعدُّ "اللغة" شأنا يَهُمّ كل المغاربة، اللغة فيما وراء تَعيُّنها الظرفي في هذا اللسان أو ذاك، وذلك في المدى الذي لا توجد اللغة البشرية إلا متعددةً بشكل لا يُمكِن قَطعُ أو اقتطاع جزء منها واعتباره هو وحده "اللسان" الذي يجب على الجميع استعماله حتى مع عدم توفُّر الشروط المناسبة في واقع التداول. إن "الأمازيغية" و"العربية" في المغرب (وليس فيه وحده) تُشيران إلى واقع تداولي متداخل ومتشابك جدا إلى الحد الذي يجعل الاهتمام بإحداهما يُؤدي بالضرورة إلى الاهتمام بالأخرى. ذلك بأنهما عَرَفَتا قُرونا من التعايش والتفاعل جعلتهما تتبادلان التأثير والتفعيل. وإذا كان بعض الغُلاة من الأمازيغيين لا يَمَلُّون من تكرار أن "التعريب" قضى على "اللغة الأمازيغية" كما أن "الإسلام" طَمس "الهوية الثقافية" للأمازيغ، فإنهم في الحقيقة يَنْسون أو يتناسون أن "التعريب" و"الإسلام" اشتغلا ولا يزالان كقوة اجتماعية وثقافية دافعة، بهذا القدر أو ذاك، لحركة "الإحياء" و"التحرير" (حتى بالنسبة للأمازيغية التي تبدو هكذا عاجزة عن بناء نفسها إلا بشكل سَلْبي تُجاه "العربية" و"الإسلام"). إذ حتى لو صَدَّقنا أسطورة دُعاة "الأمازيغية" عن أن "العرب" غَزَوْا شمال أفريقيا ففرضوا "لغتهم" و"دينهم" الخاصَّيْن، فإن انتشار "العربية" و"الإسلام" بين الأمازيغ أنفسهم لم يُؤَدِّ مطلقا إلى اجتثاث اللغة والثقافة الأمازيغيتين، وإلا لكان من المفترض أن يصير الأمازيغ إما أشبه بالهنود الحمر في أمريكا الجنوبية بفعل الاستيطان الأوروبي وإما مُتعربين ومسلمين بالإكراه والقهر على نحو يُلغي كل إرادة لهم في ذلك. ومن البَيِّن أن هذين الأمرين معا يُكذبُهما الواقع اللغوي والثقافي للأمازيغ، بل لكل الشعوب التي خضعت لِما يُحب بعضُ الأمازيغيين أن يُسميه "الغزو العربي" (كل الشعوب التي صارت مسلمة احتفظت بلغاتها وثقافاتها). وأبعد من ذلك، فإن القول بتلك الأسطورة يقتضي، من بين ما يقتضي، أن تكون ضُروب "الخِدمة" (بالمعنى الإيجابي) التي قام بها الأمازيغ عبر قُرون للعربية والإسلام مجرد أعمال انتهازية واستغلالية، وليس تعبيرا عن مدى اقتناعهم الفعلي الذي يُثبت لا فقط أن "التعريب" و"الإسلام" كانا عن إرادة وطواعية من معظم الأمازيغ، بل أنهما وَافَقا أهم مُقومات الروح الاجتماعية والثقافية لدى الأمازيغ، فصارا يَعملان من داخلها وليس على الرغم منها، تماما بخلاف ما اختلقه بعض مؤرخي الاستيطان الأوروبي فصدَّقهم بخِفَّةٍ كثير من الأمازيغيين. ولهذا، فإن الذين يُريدون قَطع "الأمازيغية" عن "العروبة" و"الإسلام" يقترفون خطأين شنيعين سرعان ما يَؤولَان بهم إلى خطيئتين فاحشتين في حق "الأمازيغية" نفسها: فهم، أولا، يَقعُون (باسم الدفاع عن "الشعب الأمازيغي" ضد الاضطهاد والاستغلال العربي) في التمييز العرقي بتفضيل عرق على آخر والانتهاء، من ثم، إلى نوع من الانطوائية القومية واللغوية التي تهدف، إن عاجلا أو آجلا، إلى عزل "الأمازيغ" عن "العرب" وفصل "الأمازيغية" عن "العربية" ؛ وهم، ثانيا، يذهبون بمبدإ فصل "الكنيسة" عن "الدولة" (كما بُني في أوروبا وبما هو المبدأ المُؤسِّس، في الظن الشائع، للعَلْمانية) إلى حدِّ القول بفصل مطلق ل"الدين" عن "الدولة"، من دون انتباه إلى أن الفصل الأول واجب أخلاقيا وسياسيا، وأن الفصل الآخر غير ممكن إلا بمعنى التمكين لدين آخر لا يُصرَّح باسمه عادة (قداسة "العَلْمانية"). فكونُ "الكنيسة" لم تُمثِّل، في معظم الأحيان، سوى مواقف ومصالح رجال الدين كفئة من الناس يُعدُّ سلطانُها على الدولة بمثابة حُكم للأقلية باسم الدين (أو باسم الله)، مما يُؤدي إلى إلغاء إرادة الأكثرية (الشعب)، وهو الأمر الذي يُوجب أن يُمنَع رجال الدين (الكنيسة) من الاستئثار بالسلطة من دون بقية الناس، ولكن من دون أن يَعني هذا في الوقت نفسه أنه بالإمكان تعطيل تأثير "الدين" كله في الحياة الثقافية والسياسية لمجتمع معين، إذ يستمر "الدين" قائما بصفته جزءا لا يتجزأ من الحياة الخاصة للناس كمَعيش فردي يجب أن تضمنه عُموميا لكل المواطنين القوانين والتنظيمات الحاكمة للدولة بحيث يكون "الدين" كله لله وتُترك الحرية للناس في اختياره وممارسته من دون أي إكراه (أليست هذه هي روح الإسلام؟). وبهذا، فإن الذين يطلبون فصل "الأمازيغية" عن "العروبة" و"الإسلام" إنما يُريدون منع أي اتصال بين "العرب" (كلغة وثقافة) وبين "الأمازيغ" (بما هم أيضا لغة وثقافة) على نحو يُؤسس لقيام سلطة دينية مُتنكِّرة تُكْرِهُ الناس دُنيويا على اعتناق لغة وثقافة معينتين (من دون كل اللغات والثقافات)، كما لو أن الناس بصفتهم "أمازيغ" يُمثلون أكثرية قُصوى في المجتمع ولا يريدون كقوم سوى اللغة والثقافة اللتين تصطنعهما أقلية منهم. ومن ثم، فإن بعض دُعاة "الأمازيغية" لا يفتأون يُردِّدُون أن أكثرية المغاربة تُعدُّ أمازيغية (70٪ أو 80٪ في ظن بعضهم) غافلين عن أن المَثَل الأعلى للديموقراطية (المتعلق بتحكيم أكثرية الشعب) لا يتحقق في الواقع إلا بتحكيم أقلية معينة (هي التي تَكون غالبةً ومسيطرة بفعل قوانين اجتماعية شديدة التعقد)، وذلك إلى حَدِّ أنه يُمكن القول بأن "الديموقراطية" لم تُوجد في الأصل إلا للدفاع عن الأقليات. وبالتالي، فإن افتراض أن أكثرية المغاربة أمازيغ لا ينفي أن تُسيطر أقليتُهم الآن أو غدا، كما أنه لا يُعطي الحق للأكثرية (كائنة ما كانت) لكي تَسحَق الأقليات الأخرى أو أقلية ما. وهكذا، فإن دعوى أن "الأمازيغ" (بما هم أكثر عددا من "العرب" في شمال أفريقيا كما يزعم دعاة "الأمازيغية") يجب أن تكون لهم لغة وثقافة متميزتان تماما عن "العربية" و"الإسلام" (باعتبارهما خاصَّيْن بالعرب في ظن دُعاة "الأمازيغية") إنما هي دعوى غير ديموقراطية في العمق، من حيث إنها تَقُوم على تَوَهُّمٍ يُفيد أن المشروعية مقصورةٌ دائما على الأكثرية أو أنها يمكن أن تكون ضد حقوق الأقلية، وهي الأقلية نفسها التي يُعدُّ ضمان حقوقها خير دليل لا فقط على تعددية المجتمع وتسامحه، وإنما أيضا على رسوخ التقليد الديموقراطي في أبعد مقاصده. إن "الأمازيغية" كحركة نضالية لا تملك، إذن، أن تكون طليعية وتقدمية إلا إذا تحولت بالفعل إلى حركة إِنْسيَّة وديموقراطية تتبنى القِيَم الكونية والكلية المُقَوِّمة للإنسان (المساواة في الكرامة الإنسانية والحق في الاختلاف كأساس لحقوق الإنسان والمواطنة الكاملة). ومن هنا يأتي سُخف "المتمزغين" أو "المتمازغين" الذين يتواطأون مع الانتهازية الرَّجعية ولا يترددون عن تبني أساليب التمييز العنصري (التهجم على العرب، تحقير العربية، مغازلة الصهاينة). ف"الإنسان" في المغرب، كما هو "الإنسان" في أي بقعة فوق الأرض، يستحق من أمثاله أن يُناضلوا في سبيل حفظ كرامته الآدمية غير منقوصة ومن أجل حصوله على حقوقه كاملة (حقوقه الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية) بغض النظر عن عرقه أو جنسه أو لونه أو دينه أو لغته أو رُتبته. ومن هنا، فليس من يُعدُّ "أمازيغيا" (على أساس اللغة و/أو الثقافة و/أو الانتماء القومي) هو وحده الذي يُعاني بالمغرب من أنواع الظلم والنقص والتمييز، بل كل الناس من المحرومين والمهمشين من ضحايا السيطرة الاجتماعية المتجذرة ثقافيا وتاريخيا واقتصاديا، وكلهم يُعانون بغض النظر عن كونهم أمازيغ أو عربا أو يهودًا. وفي هذا السياق، يستطيع كل مناضل أن يَستلهم ما بِوُسعه من موارد وقيم ثقافية أو لغوية أو اجتماعية متعلقة بوسطه الخاص ليُعطي لعمله كل ما يُمكن من مشروعية ونجاعة في إطار التنافس المدني بمجتمع المواطنين الأحرار والمتساوين. ومن البَيِّن أن الانخراط في الحركة النضالية بهذا المعنى لا يقتضي انغلاقا قوميا أو لغويا بالشكل الذي يُغذِّي توهما قائما على "الهُويات" منظورًا إليها كما لو كانت كيانات ثابتة ومغلقة، ومحكوما عليها بأن تبقى كذلك. وهكذا يتبين أن إرادة "الحركة الأمازيغية" تمثيلَ مطالب "الأمازيغ" (كمجموعة قومية) تبقى، إلى حد بعيد، مُرتهنة للواقع الاجتماعي والتاريخي بشمال أفريقيا في ٱلتباسه الشديد والعميق. ف"الشعب المغربي" (وليس هو وحده) ليس كتلةً واحدة، منسجمة وخالصة، بل هو خليط تاريخي واجتماعي يجمع في ثناياه كل الأمشاج من كل لون وبأقدار متفاوتة ومتغيرة. إنه، بإيجاز، شعبٌ ككل الشعوب في العالم. وإن الحرص على تقديم "الأمازيغية" خارج كل ٱلتباسات الواقع هو الذي يُوقع أصحابها، بوعي أو من دونه، في ٱلتباسات لا حصر لها ويجعلها، من ثم، قائمة (كدعوة وحركة) على كثير من التلبيس والتضليل لأنها، بما هي نزعة قومية، تأبى أن تؤسس نفسها (مثلها في هذا كمثل كل دعوة أو حركة إيديولوجية) على معرفة حقيقية بالضرورة الاجتماعية والتاريخية التي تَنْزل بإكراهاتها على حياة الناس، مما يجعلها بالتالي تَتعالى على ٱلتباسات وتناقضات الواقع العملي فتتخذ صورة فكر وخطاب يتم تخريجهما شكليا على نحو ظاهر الاتساق وقادر على استنفار الأتباع. ذلك بأن الواقع العملي للناس، بما هو موضوع لمعرفة منهجية حقيقية، يتحدد بكونه متعددا ومتغيرا على نحو يستلزم تدبيرا رشيدا له بما يسمح للناس أن يبقوا مختلفين ومتنوعين وبما يجعلهم لا يَكُفُّون عن السعي للتعارف والتعاون فيما بينهم على الرغم من اختلافاتهم ونزاعاتهم المشروطة موضوعيا. وإن يكن ثمة مشروع يستحق العَناء والنضال لتحقيقه اجتماعيا ومؤسسيا فهو ذاك، لأنه هو وحده الذي من شأنه أن يُرسِّخ ويُنمِّي آليات التدبير المعقول لأشكال التعدد والاختلاف المُلازِمة للوجود الاجتماعي للبشر بما هو وجود قائم على توزيعٍ مُتفاوت لكل الخيرات والموارد التي يُلاحِقُها الفاعلون الاجتماعيون في مختلف المجالات الخاضعة لأنماط السيطرة (اجتماعيا ولغويا وثقافيا) التي تشتغل تنازُعيا، مما يُوجب إقامة تدبير اقتصادي وسياسي يُحقِّق موضوعيا إمكانات المعقولية كفاعلية نظرية وعملية في آن واحد، بعيدا عن انحرفات الممارسة العفوية أو المتعالمة التي تستسلم، في معظم الأحيان، لإغراءات الاستسهال والاستعجال فتُعمِّق أصناف التلبيس والتضليل بواسطة الفكر والخطاب وتُعزِّز، من ثم، وطأة الضرورة على الناس المأخوذين أصلا ضمن واقع يَنْزل عليهم بكل مظاهر القَدَر الذي لا يُردُّ قضاؤه والذي لا تُخطئ العين بداهته. [email protected] mailto:[email protected]