بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفِكْرَى والطُّوبَى بعيدا عن تضليلات اللَّغْوَى
نشر في هسبريس يوم 18 - 08 - 2010

عُرِّب ٱلمصطلح الأجنبي«ideology/idéologie» بأشكال صوتية-صرفية عدة ("إيديولوجيا"، "إديولوجيا"، "أيديولوجيا"، "إيديولوجية"، "إديولوجية"، "أُدلوجة")، من دون أن يَحصُل ٱتفاقُ مُستعملِي "ٱلعربية" على أي واحد منها. ويرجع ٱلمصطلح في أصله إِلَى لفظي«idée/idea» (فكرة) و«logy/logie/logos» (خطاب، علم، بحث)، بحيث تكون دلالته ٱلحرفية هي "عِلْم ٱلْفِكَر" ("فِكَر" جمع "فكرة") أو "خطابٌ فِكْري".
وهذا ٱلمصطلح أطلقه في ٱلبداية، بين نهاية ق. 18 وبداية ق. 19، مجموعة من ٱلفلاسفة ("دُتْراسي"، "كَبَنِيس"، "ڤُولْنِي"، "كُنُسْتَنْت") على «الدراسة العلمية التي تبحث في تَكَوُّن ٱلفِكَر -بِما فيها ٱلفِكَر ٱلسياسية- في علاقتها بالإحساسات (المادية)»، وكانوا يُتابعون "كُنْدِياك" (1714-1780) صاحب "ٱلنزعة ٱلحسية" ("ٱلحِسِّيَانية") ٱلتي ترى أن ٱلمعرفة تقوم على أساس حسي أو مادي.
وكان أولَ ٱستعمال قَدْحي للمصطلح من قِبَل "ناپليون بونبرت" ٱلذي سَمَّى أولئك ٱلفلاسفة -بعد أن خالَفَهُم- ب"الإديولوجيين" (« idéologues »، في حين هم كانوا يُسمُّون أنفسهم « idéologistes » تأكيدا منهم لتوجُّههم "العلمي") قاصدا أنهم أُناس «يعيشون في عالَمٍ من ٱلفِكَر ويجهلون ٱلواقع تماما» (يَصِحُّ، إذن، أن يُسَمَّوا في الِاصطلاح العربي ب"ٱلفِكْرانِيِّين" في مقابل "الواقعانيين").
وهكذا، حصل ٱلِانزلاق من معنى «دراسة ٱلفِكَر في تكوُّنها ٱلحسي» إِلَى معنى «ٱلِاشتغال ٱلفكري ٱلبعيد عن ٱلواقع»، ثم إِلَى ٱلمعنى ٱلماركسي ٱلدالّ على «الفكر الذي تُنتِجه طبقة ٱجتماعية مُسيطِرَة لتدعيم أو تبرير سيطرتها على بقية ٱلطبقات»، وهو ٱلمعنى ٱلتابع للمعنى ٱلماركسي ٱلآخر ٱلذي يُطابق بين "ٱلإديولوجيا" و"ٱلوعي ٱلزائف" (غير المُطابق للواقع). وأخيرا، هناك ٱلمعنى ٱلسائد حاليا ٱلذي يُفيد أن "ٱلإديولوجيا" ليست سوى «مجموعة من ٱلفِكَر وٱلمعتقدات ٱلخاصة بفترة أو مجتمع أو طبقة» (أي نسق من ٱلفِكَر وٱلقِيَم يُكوِّنُ، بهذا ٱلقدر أو ذاك، "عقيدةً" أو "مذهبا").
يمكن ٱلقول، إذن، بأن "ٱلإديولوجيا" مجموعةٌ من ٱلفِكَر وٱلقِيَم ٱلتي قد تُكوِّن مذهبا مُعيَّنا يُحدِّد ٱلسلوك ٱلفردي و/أو ٱلجماعي إلى هذا ٱلحدّ أو ذاك («مجموعة من ٱلتمثيلات/ٱلتمثُّلات تُكوِّن رؤيةً عامّة للعالم» كما عند "كارل مانهايم"[1]). غير أن ثمة معانيَ أخرى ل"ٱلإديولوجيا" مثل معنى «ما يُضادّ ٱلعِلْم» («ما قَبْلَ ٱلعِلْم») بالخصوص عند "ألتوسير"[2]، ومعنى «ٱلخطاب ٱلمرتبط بالسياسة» كما عند "جون بَخْلر"[3]، أو معنى «ٱلفِكَر ٱلشائعة» كما يرى "ريمون بُودُون" [4]، أو معنى «ٱلنسق ٱلثقافي» ٱلمُحدَّد وٱلمُحدِّد ٱجتماعيا كما عند "كليفورد غيرتز"[5].
وعموما، فإن مصطلح "إديولوجيا" يُؤدي وظائف دلالية متعددة ومتداخلة إِلَى حدٍّ يجعل من ٱلسُّخْف ٱلبحث عن ترجمة دقيقة له أو ٱلِاكتفاء بترديد ٱلمصطلح ٱلمعرَّب من دون نقد مفهومي يُحدِّد ٱلحقول ٱلدلالية ٱلتي يشتغل فيها. ومن ٱلمؤسف أن معظم ٱلمترجمين وٱلكُتّاب ٱلعرب تناولوا هذا ٱلمصطلح بتساهُل كبير وتجاهُل أكبر للشروط ٱلتاريخية وٱللغوية والثقافية ٱلتي أنتجته وأكسبته ٱلقوة ٱلدلالية وٱلنجاعة ٱلتداولية ٱلمعروفتين (يكاد يُمثِّل "عبد الله العروي" و"طه عبد الرحمن" ٱستثناء خاصا ومتفردا[6]).
ولعل أهم ما يجب، في هذا ٱلمجال، هو أن نتبيَّن أن مصطلح "إديولوجيا" لا يخرج مضمونه ٱلدلالي عن أربعة معانٍ أساسية: «دراسة ٱلفِكَر من جهة تكوُّنِها ٱلواقعي» (ٱلمعنى ٱلأصلي) ؛ "ٱلعقيدة" أو "ٱلمذهب" كرُؤية عامة وشاملة ؛ «ٱلدعوة إِلَى عقيدة أو مذهب على نحو مُنظَّم» ؛ «ٱلخطاب ٱلفِكْري وٱلمعرفي غير المُؤسَّس من ٱلناحية العلمية وٱلمنهجية ٱلذي يُمثِّل أهواء الناس أو يَصدُر عن تَحيُّز مذهبي أو ٱنتماء حزبي والذي يُؤدِّي وظائف ٱجتماعية وثقافية وسياسية تتركز بالخصوص حول ٱلتعزيز وٱلتبرير وٱلتجميع». ولذا، فإن كل ٱستعمال لمصطلح "إديولوجيا" يَتحدَّد بالنسبة إلى أحد تلك ٱلمعاني ٱلأربعة ٱلأساسية. وهذا ٱلتعدُّد ٱلدلالي هو ٱلذي يَكْفُل له قوةً تداولية فيجعلُه، من جهة، مشحونًا بمعانٍ متداخلة ومتناقضة ويُحدِّده، من جهة أخرى، كمفهوم مُلتبس لا يتعيَّن معناه إلا بالسياق ٱلِاستعمالي حيث يَرِد. ومن هنا، يصعب، في كثير من ٱلأحيان، تعيين دلالته بسبب ٱلتعسُّف ٱلكبير ٱلذي تتَّسم به ٱستعمالاته ٱلشائعة، خصوصا في ٱلمجال ٱلعربي (كما أكد ذلك "العروي"[7]).
لذلك، فإن كل ٱلمصطلحات ٱلعربية ٱلتي ٱقْتُرحت لم تَحْظَ بالقَبول ٱلكافي وٱستمر ٱلمصطلح ٱلمعرَّب "إديولوجيا" يَعِيث فسادا من جراء ٱلإفراط وٱلتساهُل في ٱستعماله. فاقتراح "عبد ٱلله ٱلعلايلي" لمصطلح "فِكْرِيَّة" كان تبسيطيا، على ٱلرغم من أن مقارنته بلفظ "نظريّة" أو "فَرَضيّة" تُؤكِّد أنه غُبِنَ غَبْنًا لعدم ٱلِاصطلاح عليه أو، على الأقل، تبيُّن صلته الوثيقة ب"الفِكْر" في مقابل "الواقع" (التَّجْرِبي). وكذلك، فإن ٱقتراح "محمد عزيز الحبابي" لمصطلح "فكرولوجيا" أتى وهو يجمع بين لفظين مُتنافرين ("فكر" عربي و"لُوجيا" أجنبي) ولا يُؤدِّي إلا المعنى الأصلي للمصطلح ("علم الفِكَر")[8]. أما وضع "عبد ٱلله ٱلعروي" لمصطلح "أُدْلُوجة"، فلم يُرَاعِ سوى أحد شروط ٱلتعريب (ضبط ٱلصورة ٱلصرفية) وأغفل أن لفظ "أُدلوجة" يلتبس -كما لاحظ ذلك "طه عبد ٱلرحمن"[9]- ب"ٱلإدلاج" (بمعنى "ٱلسير من أول ٱلليل")، مما يجعل "الأُدلوجة" تكتسي طابعا سَلْبِيا وقدحيا ؛ ثم إن تعريبه على وزن "أُفعولة" كان يقتضي، بالأَوْلى، ترجمته ب"أُفْكُورة" ما دام يقوم على أساس"الفِكْرة" أو "ٱلفِكْر" ؛ ولو تم هذا وأُمْضِي لكان ترجمة تأصيلية تفرض نفسها على ٱلرغم من أُنُوف ٱلمتعجِّمين.
ونجد، أيضا، أن ٱقتراح مصطلح "مذهبية" يُعدُّ ٱعتباطيا تماما، لأنه يحرص على حفظ ٱلتأنيث في ٱلِاسم (وإلا فلفظ "مذهب" يُؤدي ٱلمعنى!)، ويختلط بمعنى "الصراع ٱلمذهبي" ٱلمكرَّس في ٱلمجال العربي-ٱلإسلامي ؛ ومثله ٱقتراح مصطلح "عقائدية"، إذ يقترف ٱلنَّسب إلى ٱلجمع من غير ضرورة (لأن لفظ "العقيدة" يُؤدي ٱلمراد، وٱلنَّسَب إليه مفردا ممكن ب"عَقَدِيّ" و"عقيدي")، ويَغْفُل عن إمكان ٱلِاختلاط بين ٱلاسم وٱلصفة ("عقائدية"، "العقائدية"). وإجمالا، فالمصطلحان كلاهما ("مذهبية" و"عقائدية") قاصران عن تأدية ٱلمعاني ٱلأخرى إلا بقرائن لفظية أو مقامية. وأما ٱقتراح "طه عبد ٱلرحمن" لمصطلح "فِكْرانِية"، فيبدو وجيها إلى حد ما، من حيث إنه يَحفَظ ويُظهِر صلة ٱلمصطلح ب"الفِكْر" ؛ لكن "فِكْرانيّة" تُشير -بالأحرى- إلى معنى «ٱلنزعة ٱلتي تُعطي ٱلأسبقية للفكر ٱلمجرد على الواقع ٱلعملي» وهي ٱلتي يُعَبِّر عنها ٱللَّفظ ٱلأجنبي « idealism/idéalisme » (وهو يُترجَم عادة ب"مِثَالِيّة") أو اللفظ الآخر«intellecualism/intellectualisme» الذي يُمكِن أن يُترجَم ب"نَظَرَانِيّة" (كما نجد عند "طه عبد الرحمن" نفسه بمعنى "توحُّد النظر" [10]، أو بمعنى "العقل المدرسي" الذي يَفصِل "النظر" عن "العمل" والذي يُسمَّى « théoricisme » كما هو الحال عند "بيير بورديو"[11]).
وبعد ذلك كله، هل لا تزال هناك ضرورة لترجمة مصطلح "إديولوجيا"؟ يبدو من المؤكد أنه لا ينبغي ٱلِاستمرار في ٱستعمال هذا ٱلمصطلح ٱلرنَّان وٱلمُفخَّم ("إيديولوجيا" أو "أيديولوجيا")، ولا يَصِحُّ ٱلبحث عن ترجمة مُناسِبةٍ له من دون ٱلِاصطلاح على "فِكْرَى" (على صيغة "فِعْلَى" كما في "ذِكْرى"، "دِفْلَى"، "شِعْرَى" ؛ وجمعها "فِكْرَيَات" مثل "ذِكْرَيَات") أو "أُفكُورة" (ٱلتي تُماثل صيغة "أسطورة" أو "أُمثُولة"، وقد ٱنتبه كل من "علي فهمي خشيم" و"عبد الله ٱلعروي" إلى أن هذه ٱلأخيرة قد تُؤدي معنى ٱللفظ ٱلأجنبي «myth/mythe» من ٱللفظ ٱليوناني "ميثوس" القريب في نطقه ومعناه من اللفظ العربي "مَثَلٌ"[12] ؛ ومع ٱلعلم بأن "الإديولوجيا" ليست سوى "أسطورة/أُمْثُولة" مُحدثة). لكن وُقوف مُستعمِلي "العربية" في الغالب دون إدراك أهمية تأصيل وضع المصطلحات بوصلها بالصِّيَغ المتواترة والمعاني الراسخة في التداول ؛ ثم وجود ألفاظ عربية تُؤدي كل ٱلمعاني ٱلتي يدل عليها ذلك ٱلمصطلح بنجاعة دلالية وقوة تداولية مُضاهية لتلك ٱلتي يملكها في مجاله ٱلتداولي ٱلخاص، يُعدَّان عاملَيْن قويَّين يُقلِّلان من حظوظ مصطلح جديد مثل "فِكْرى" أو "أُفكورة". فما دام ٱلأمر يتعلق ب"نسقٍ من ٱلْفِكَر"، فلفظا "العقيدة" و"المذهب" كافيان ؛ وإذا أُريد أداء معنى "ٱلدعوة" إليهما، فلا لفظ آخر يَفْضُل لفظ "الدعوة" نفسه (كما لاحظ "العروي" ذلك من قبل، على الرغم من أنه تسرَّع في تبخيسه [13]). أما ٱلمعاني ٱلأخرى، فتتحدَّد بالنسبة إلى هذه ٱلألفاظ المذكورة: مثلا، "عقيدة سياسية" أو "مذهب سياسي"، "ٱستعمال مذهبي"، "تحيُّز مذهبي"، "ٱستعمال عَقَدي"، "نقد متحيِّز عقديا أو مذهبيا"، "دعوة مذهبية" أو "دعوة عَقَدية"، إلخ. وكلها معانٍ لا يحتاج ٱلعربي في أدائها، كما ترى، إلى مصطلح "إديولوجيا". وأما ٱللفظ ٱلأجنبي «ideologist/idéologue» ، فيُترجَم ب"مُرشِد" (مذهبي أو حزبي) أو "داعية" أو "مُنَظِّر" حسب ٱلحالات. غير أن هذا كلَّه لا يكفي لإثبات عدم جدوى ٱستعمال التعريب السَّمْج "إديولوجيا" من قِبَل المُتعجِّمين والمُضلِّلين. ومن ٱلمؤسف أن ٱلسبب في ذلك ليس سوى إذعان المُستعمِل العربي، في معظم الأحيان وبشكل غير واعٍ، لفتنةِ وجاذبية ٱلألفاظ ٱلأجنبية، حتى حينما يَثْبُت أنها غير مُبرَّرة من الناحية اللغوية وتخلُو تماما من أي نجاعة تداولية في مجال يَملك مصطلحاته ٱلخاصة ويستطيع توليد ما يحتاجه من مصطلحات جديدة!
وعلى الرغم من ذلك، فإن ٱرتباط مصطلح "إديولوجيا" باللفظ الأجنبي «utopia/utopie» لدى بعض الدارسين (عنوان كتاب لكل من "مانهايم" و"ريكور") يجعل ترجمة هذا الأخير بلفظ "طُوبَى" -كما ٱقترحه "مُحمد خليفة ٱلتونسي" [14] وعزَّزه "عبد الله العروي" [15] وكذلك "علي فهمي خشيم" [16]- يقود إلى مقارنته بلفظ "فِكْرَى" ٱلمقترح آنفا. ذلك بأن "خليفة التونسي" ذكر أن لفظ "طُوبَى" (الوارد أصلا في "ٱلقرآن" والمَصُوغ على وزن "فُعْلَى" كصفة تفضيل) ٱستُعمِل في ٱلترجمة ٱلعربية للإنجيل بمعنى «الجزاء ٱلحسن في عالم آخر للصالحين بما عملوا من خيْر»، وأن النَسَب إليه يكون ب"طُوباوي" (حسب ظنه). ومن المعلوم أن ٱللفظ ٱلأجنبي يَرجِع إلى أصل يوناني "أُوتُوپُّوس" بمعنى "في غير مكان" ("أُو" بمعنى "لا" أو "غير"، و"تُوپُّوس" بمعنى "موضع" أو "مكان"). وقد تكوَّن ٱلمصطلح في ٱرتباط بالمعنى ٱلذي صار معروفا بعد ٱكتشاف "العالَم ٱلجديد" (أمريكا) عام 1492، إذ فُوجىء ٱلأوروبيون ب"أرض جديدة" ذات خيرات أصبحت مُفتقَدة في أرض أوروبا. فبدأ ٱلفلاسفة والمفكرون يَحْلُمُون ب"دُنيا خالية من ٱلشرور" (أي "مُثْلَى" أو "مثالية" على غرار "المدينة الفاضلة"). وفي سنة 1516 كتب ٱلفيلسوف "توماس مُور" كتابا باللاتينية سَمَّاه «de optimo republica statu deque nova insula utopia» (أي «ٱلجمهورية ٱلخَيِّرَة ٱلواقعة في ٱلجزيرة ٱلجديدة ٱلْمُثلى»، ثم ٱختُصِر ٱلِاسم إلى "أُوطوپيا" [« utopia/utopie »])، حيث إن لفظ "أُوطوپيا" لا يدل إلَّا على معنى "مِثَالِيّ/أَمْثَل".
وهكذا، صار ذلك ٱللفظ يدل على "الأَمْثَل" (ومُؤنَّثه "المُثْلَى") أو على "تصور غير واقعي" أو "فكر حالِم"، وأصبح يدل ٱلوصف به على "المُتَخيَّل" أو "غير ٱلقابل للتحقيق" أو على "الحالِم" و"الوهمي" (ومن ثم "الزائف"). ويُمكن أن يُستعار لفظ "الطُّوبَى" (وهو صفة تفضيل مؤنثة من "الأَطْيَب"، بمعنى "ٱلحُسنَى" أو "ٱلخَيِّرة"، أي كل ما هو أطيب من بقاء بلا فَناء وعِزّ بلا شَقاء وغِنى بلا فقر، ممّا هو موعود للصالحين في ٱلجنة) للدلالة على ٱللفظ ٱلأجنبي «utopia/utopie»، حيث يُنسَب إليه ب"طُوبَويّ" (وليس ب"طوباوي" كما شاع تكلُّفا) في مقابل «utopian/utopique» (وهذا ينقلُنا إلى وجاهة ٱختيار لفظ "فِكْرى" ٱلذي يُمكن أن يُنسَب إليه ب"فِكْرَوِيّ"). ومن ثم، يتأتى توليد صفة "طُوبَانيّ" (بلاحقة المبالغة "انِيّ") التي تُمكِّن من وضع ٱسم "طُوبَانِيّة" في مقابل اللفظ الأجنبي « utopism/utopisme » بمعنى «النَّزعة ٱلتي تُفكِّر في ما هو أمثل أو ترى إمكان تحقيقه». ولذا، فإن صفة "طُوبَوِيّ" تدل على كل ما له صلة ب"طُوبًى معيَّنة" (صفة قريبة من "فِكْرَوِيّ" المنسوبة إلى "فِكْرَى") وتدل صفة "طُوبانِيّ" (في مقابل « utopist/utopiste ») على «ما يتعلق بالتفكير ٱلطوبوي» أو «من يَميل إلى هذا ٱلنوع من ٱلتفكير». وكون "الطُّوبَانِيّة" نزعةً مثاليةً هو الذي يجعل ٱلِاصطلاح على هذا اللفظ يؤكد ٱلِاصطلاح على لفظ "فِكْرانِيّة" بمعنى اللفظ الأجنبي « idealism/idéalisme » (وكل "فِكْرَى" تميل إلى أن تكون، بهذا القدر أو ذاك، "فِكْرانيّةً"، من حيث إنها تُغلِّب "الفِكْر المجرد" على "الواقع الفعلي")، بل إنه لَيُؤكِّد وجاهة ٱلِاصطلاح على لفظي "طُوبَى" و"فِكْرى" لتقارُبهما ٱلصوتي-ٱلصرفي كصيغتين مُتواترتين في ٱلِاستعمال ولكونهما يُمكِّنان من ٱشتقاق ألفاظ أُخرى في مقابل مثيلاتها الأجنبية (مثلا: لفظ "فِكْرَوِيَّات" بمعنى "دراسة الفِكْرَيَات" أو "علم الفِكْرَيَات"، من حيث إن لاحقة "يَّات" تُؤدِّي معنى "العِلْم" كما في "طبيعيات"، إلاهيات"، "رياضيات"، إلخ.).
نَخْلُص مما سبق إلى أن اللفظ المعرَّب "إديولوجيا" لا يُمكن أن يُستساغ إلا من قِبَل من صار مُفتَتِنا بالمصطلحات الأجنبية الرنَّانة إلى حدّ الِاستهانة باللسان العربي كلسان له إمكاناته الخاصة وقواعده الناظمة في الاستعمال والاشتقاق. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اللفظ المعرَّب الشائع "أُوتوبيا" (والنََّسب إليه ب"أُتوبِيّ"). فلقد تبيّن أن هناك أكثر من إمكان في ترجمة ذينك المصطلحين الأجنبيين بشكل يَحفَظ البنيات الصوتية-الصرفية في العربية ويُتيح أداء المعاني المطلوبة من دون ٱلتباس. لكنّ المُتعجِّمين والمُضلِّلين بين ظَهْرانَيْنا يَأْبَوْن إلا أن يستعملوا كل ما يقع بين أيديهم أو ينزل على أسماعهم من الكلمات الرنَّانة والمُفخَّمة المرتبطة بالألسن الأجنبية، حرصا منهم على التميُّز بالرطانة الخادعة ووُقوعا منهم تحت وطأة التضليل بممارسة خطاب "اللَّغْوَى" كخطاب قائم على الباطل من الفكر والكلام. ولذلك تراهم لا يترددون عن ٱستعمال "المُعرَّب" غير ٱلمَقِيس على ٱلصِّيَغ المتواترة، ويُكْثِرون من إيراد المقابلات الأجنبية بالحروف اللاتينية من حيث إنهم يفتقدون، في الواقع، القدرة على تطويع اللسان العربي اشتقاقيا ودلاليا لوضع الألفاظ التي تدعو إليها الضرورة الاصطلاحية أو التداولية ومن دون الخضوع للبنيات الصرفية والصوتية الخاصة بالألسن الأجنبية، وهو الخضوع الذي لا يَحسُن إلا بأصحاب تلك الألسن الذين لا يستطيعون ٱلِانفكاك عنها ما داموا يستعملونها بصفتها ألسنَهم الخاصة. فكيف يُجاريهم في هذا الخضوع مُستعملو اللسان العربي مُتغافلين عن كونه يُساويها في مجال تداوله الخاص بصفته لسانا مستقلا يَملك بنياته المتميزة على كل المستويات؟!
أَلَا إن ٱلإبداع ٱلمُجدِّد وٱلعطاء ٱلبنّاء لا يكون بممارسة "ٱللَّغْوى" كما يتعاطاها كثير من ٱلكَتَبة أو "ٱلمُتكاتِبين" بين العرب والمسلمين ممن يقفون، في معظم الأحيان، دون إحكام اللسان العربي ولا يَستنكفون عن لَوْك ٱلنُّتَف ٱلمجتزأة من ٱلفكر ٱلغربي ٱلمعاصر زهوًا وتقليدا. ولكن لا حياة لمن تُنادي!
[email protected]
****
[1] اُنظر:
- Karl Mannheim, Ideology and Utopia : An Introduction to the Sociology of Knowledge, London, Routledge & Kegan Paul LTD, 1954 ;
[2] اُنظر:
- Louis Altusser, Philosophie et philosophie spontanée des savants, 1967, éd. Maspero, 1974, La Découverte 1977 ; et Id, Positions, Ed. sociales, Paris, 1976, rééd. Positions, Messidor-Ed. sociales, 1982 ;
[3] اُنظر:
- Jean Baecher, Qu'est-ce que l'idéologie, éd. Gallimard, Paris, 1976 ;
[4] اُنظر:
- Raymond Boudon, L'idéologie ou l'origine des idées reçues, éd. Fayard, 1986, chap. II.
[5] اُنظر:
- Clifford Geertz, The Interpretation of Cultures, Basic Books, Inc., New York, 1973, chap. 8.
[6] اُنظر: - عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، [ط1، 1980]، ط الخامسة، 1993 ؛
- طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، [ط1، 1994]، ط2، [2000؟]، ص. 24-25، هامش1.
[7] اُنظر: عبد الله العروي، مرجع سابق، الفصل الأول، تمهيد، ص. 9-13، وأيضا الخاتمة، ص. 127.
[8] اُنظر: محمد عزيز الحبابي، مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ص. 23 وما بعدها.
[9] اُنظر: طه عبد الرحمن، مرجع سابق، ص. 24-25، هامش1.
[10] اُنظر: نفس المؤلف، ن. م. س، ص. 39.
[11] اُنظر:
- Pierre Bourdieu et Loïc J. D. Wacquant, Réponses : pour une anthropologie réflexive, éd. Du Seuil, coll. « Libre Examen » , Paris, 1992, p. 30-34 ; et Pierre Bourdieu, Méditations pascaliennes, éd. Du Seuil, coll. « Liber », Paris, 1997, chap. 1.
[12] اُنظر: - علي فهمي خشيم، رحلة الكلمات: الرحلة الأولى، ط1، دار اقرأ، مالطا/روما، 1986، [ط2، مركز الحضارة العربية، 2001]، ص. 493 ؛
- عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، ج 1 و2، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، ط1 وط2، 1992 ؛ الجزء الأول: الألفاظ والمذاهب، الفصل الثاني، فقرة 3.3.3 "من التمثال إلى الأمثولة"، ص. 121-122، وأيضا فهرس المفاهيم، ص. 419.
[13] اُنظر: عبد الله العروي، ن. م. س، ص. 9.
[14] اُنظر: محمد خليفة التونسي، الخطر اليهودي: بروتوكولات حكماء صهيون، دار الكتاب العربي، بيروت، [ط1، 1951]، ط 7، 1404ه/1984م، ص. 132.
[15] اُنظر: عبد الله العروي، ن. م. س، ص. 47-48، وص. 139.
[16] علي فهمي خشيم، مرجع سابق، ص. 134-137.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.