لعل من فضائل ٱلنقاش ٱلدائر، منذ مدة، حول "ٱلْأمازيغية" أنه يَجعل إشكال "ٱلهُوِّيَّة ٱلمغربية" يطفو على السطح، بعدما ظل دفينا في مَجاهل ٱلتاريخ أو مَسارِب ٱلمجتمع، ومكبوتا في أعماق ٱلنفوس أو زوايا ٱلْأفكار. ويبدو أن هذا ٱلإشكال يُمكن أن يُصاغ على النحو التالي: هذه ٱلْأقوام ٱلتي سكنت ولا تزال تسكن أرض ٱلْمغرب ما هُويتُها؟ هل هؤلاء ٱلذين سُمُّوا "ٱلبَربر" وصاروا يُسمون ٱلآن "ٱلأمازيغ" وأولئك ٱلذين يُسَمَّوْنَ "ٱلعرب" عِرْقَان متميزان وراثيا وتاريخيا ولغويا وثقافِيا؟ وإذا صح هذا، فَإِلى أي حدٍّ نستطيع أن نؤكد أن ٱلجامع ٱلوحيد وٱلممكن بَيْن "ٱلأمازيغ" و"ٱلعرب" إنَّما هو ٱلسُّكْنَى فِي أرض ٱلمغرب وٱلِاشتراك أو ٱلتعايش فِي "ٱلدولة-ٱلأمة" ٱلمغربية؟ ما هو ذلك ٱلقَدْر ٱلمُشترك (ٱلقَدْر ٱلوراثي وٱلتاريخي وٱللغوي وٱلديني وٱلثقافِي وٱلِاجتماعي) بَيْن أكثرية ٱلمغاربة، ٱلذي يبلغ حدًّا من ٱلوثاقة وٱلقوة يَجعلهم يتميزون عن غيْرهم من ٱلأقوام وٱلشعوب ٱلأخرى ٱلتي لا تُشاركهم فيه بالكيفية وٱلقوة نفسها؟ وكيف نتفادى، فِي طرح إشكال "ٱلْهوية"، إقامة مشكلة زائفة حقا أو حقيقية على نَحو زائف وَفْق تعبير بورديو؟ إن ٱلحدس الذي يَجعل "ٱلْهُوِيَّة" تبدأ "تَمَيُّزًا عن ٱلغَيْر" و"وحدة وُجودية" و"ٱستمرارا زمنيا" و"مُماثلة كِيَانية" هو نفسه ٱلْحدس ٱلذي لا يكاد يُفارقه ٱلإحساس بأن "ٱلهُوِيَّة" "مُغَايَرةٌ" و"تَعدُّد" و"تَغَيُّر" و"ٱختلَاف". ف"ٱلذي هو نفسُه" أو "ٱلْمماثل لذاته" لا يكون كذلك إلَّا لِأنه فِي الواقع ليس وحده، وإنَّما هو آخر بٱلنسبة إلى غَيْره وحَتَّى بالنسبة لنفسه بما أنه مُتغيِّر على ٱلدوام. ف"ٱلهُوية"، فِي ٱلعمق، ذات طابع تناقضي، حيث إنها لا تُبْنَى إلَّا ب"ٱلمقابلة" و"ٱلمُبَايَنة" و"ٱلمخالفة". إنَّها، فِي ٱلنهاية، لا تُدرَك إلَّا كصيْرورة -فِي إطار "ٱلتعدد" و"ٱلتنوُّع" و"ٱلِاختلَاف"- قد تَؤُولُ، في أحسن الأحوال، إِلَى تشييد أشكال مُمكنة من "ٱلتعارف" و"ٱلتفاهم" و"ٱلتعاون" ؛ مِمَّا يَجعل "ٱلهُوية" التي لا تُفهم إلَّا ك"وحدة" و"تَماثل" و"تَجانس" و"ٱستمرار" لا تعدو أن تكون تَوَهُّمًا نُزُوعِيًّا ينتهي حتما إِلَى ٱلِانغلَاق الذاتي وٱلتَّزَمُّت أو إِلَى ٱلتمييز ٱلعنصري ٱلمُؤدّي إلى ٱلإقصاء وٱلتهميش أو إِلَى ٱلحرب ٱلأهلية ٱلقائمة على ٱلتصفِية ٱلعرقية. إن "ٱلْهوية" فِي ٱلْمستوى ٱلذي تُمثل أحد نَوابض ٱلِاندماج وٱلتضامن تُعَدُّ وَهْمًا ٱجتماعيا "مشروعا"، لكنها كَ"تَوَهُّم" (أي بما هي ٱصطناع تعويضي من قِبَلِ ٱلْأنا للوهم فِي مواجهة وطأة ٱلواقع) لَيست سوى ٱضطراب نفسي -مُعَلَّل اجتماعيا بالتأكيد-، اضطراب يُستحسن أن يُطلب له ٱلعلَاج حَتَّى لَا يصير مُهلِكا لصاحبه أو لغيْره. ومن ثم، يبدو، فِي بادئ الرأي، أن ٱلمجموع ٱلسُّكاني وٱلقومي ٱلذي يُقارب ثلاثين مليون نسمة ٱلمسمى ب"ٱلمغاربة" إنَّما يشترك، أولًا، فِي سُكنَى ٱلأرض ٱلمحدَّدة حاليا بين ٱلبحر ٱلمتوسط شمالا وٱلمحيط ٱلأطلسي غربا وٱلجزائر شرقا وموريطانيا جنوبا ؛ وثانيا، فِي رصيد تاريخي يَمتد، فِي طوره ٱلأول، على مدى قرابة ألفَي سنة قبل مَجيء ٱلفنيقيين (حوالي ٱلألف ٱلأول قبل ٱلميلاد)، وفي طوره ٱلثانِي قرابة ألف وخَمسمئة سنة منذ ٱستيطان ٱلفنيقيين ثُم ٱلرومام فٱلوندال وإِلَى بداية "ٱلغزو" ٱلْإسلَامي (القرن الثامن الميلادي)، وفِي طوره ٱلثالث قرابة ألف ومئتي سنة منذ "ٱلفتح ٱلإسلامي" وٱستيطان ٱلعرب مُرورا بفتح ٱلأندلس وتأسيس ٱلإمبراطوريات وسقوط غرناطة وبداية ٱلغزو ٱلإيبيري، ففرض "ٱلحمايتيْن" ٱلفرنسية وٱلإسبانية فِي بداية ٱلقرن ٱلعشرين، فٱلِاستقلال عنهما فِي منتصفه، إلى الآن بداية ٱلقرن الحادي وٱلعشرين ؛ وثالثا، فِي رصيد لُغوي ناتج عن ٱلتفاعل بين لُغات ٱلسكان "ٱلمحليين" (وهم أفارقةٌ بٱلتأكيد لكون أصل الإنسان يرجع إلى أفريقيا) وكل ٱلأقوام وٱلشعوب ٱلتي ٱستوطنت بشمال أفريقيا منذ ٱلفنيقيين وٱلرومان، مُرورا بٱلعرب وٱنتهاء بٱلْإسبان وٱلبُرتغاليين وٱلفرنسيين ؛ ورابعا، فِي رصيد دينِي وعَقَدِي يبتدئ بٱلوثنية ويَمر بٱليهودية وٱلنصرانية و"ينتهي" إِلَى ٱلإسلام ٱلذي هيمن ولا يزال على كل ما سواه (حوالي 98٪ من المغاربة يُعدُّون مسلمين) ؛ وخامسا، فِي رصيد ثقافي يتمثل فِي مَجموع مظاهر ٱلسلوك وٱلعيش وأشكال ٱلإنتاج ٱلمادي وٱلرمزي ٱلمتراكم عبر ٱلتاريخ ؛ وسادسا، في مَجموع ٱلعلاقات ٱلْقَرَابِيَّة وٱلنَّسَبية وٱلِاستخلَافِية ٱلمُشَكِّلَة للبنيات ٱلِاجتماعية وٱلبنيات ٱلذهنية ٱلتي حَدَّدت ولا تزال ٱلمؤسسات وٱلأعمال فِي ٱلمجتمع ٱلمغربي ؛ سابعا وأخيرا، في ٱلخضوع لإكراهات "ٱلعنف ٱلمشروع"، من قوانين وتنظيمات وٱلتزامات وواجبات، فِي إطار "ٱلدولة-ٱلأمة" ٱلمغربية على الرغم من كل التحفظات الممكنة بهذا الصدد. لكنَّ ٱلِاشتراك فِي هذه ٱلمُقومات لا يُحدِّد، فِي ٱلواقع، "هوية" ٱلمغاربة بمقدار واحد وبالقوة نفسها، لِأن مَسَارات ٱلمغاربة ٱلحاليين تَختلف من جهة ٱلكيفِية ٱلتِي تَمَّت وتَتِمُّ بِها إعادة إنتاج أنواع ٱلرصيد ٱلمشترك واقعيا وٱفتراضيا بينهم. فليس كل ٱلمغاربة سُكانا مستقرين وحضريين (منهم كثيرون بلَا سكن أو في سكن عشوائي منذ عقود على ٱلأقل)، وليسوا كلُّهم نِتَاجا طبيعيا ومباشرا للتاريخ ٱلقُرُونِي ٱلبعيد (منهم ٱلمستوطن ٱلحديث) وليسوا كلهم يَمتلكون ٱللغة ٱلمتولدة من ٱلتفاعل ٱللغوي بين لغات ٱلسكان ٱلمحلِّيِّين وٱلغزاة ٱلمستوطنين (منهم من لَا يعرف سوى لغة منقطعة كليا عن ٱللغات ٱلمحلية، لغة کٱلفرنسية أو ٱلإسبانية ٱلآن، وغدًا ٱلْإِنجليزية أو ٱلصينية أو غيرهما)، وليسوا كلهم يستحضرون دينيا وعَقَدِيًّا ٱلتفاعل بين ٱلوثنية وٱليهود وٱلنصرانية وٱلإسلام (منهم ٱلمتدين وٱلمؤمن، ومنهم ٱلمُرْتَاب وٱلمُلحد)، وليسوا كلُّهم يَصْدُرُون ثقافيا عن مُحدِّدات متراكمة عبر ٱلتاريخ (منهم "ٱلحداثي" ٱلمنقطع كُليًّا أو جزئيا عن ٱلتراث)، وليسوا كلهم منتمين و/أو خاضعين مُؤَسَّسِيًّا وتكوينيًّا للبنيات ٱلِاجتماعية وٱلذهنية ٱلمتحكمة في مجالات ٱلفعل وٱلفكر بٱلمجتمع ٱلمغربي (منهم ٱلتقليدي وٱلمحافظ، ومنهم ٱلمتغرب و"ٱلمُتَحَادِث"، ومنهم ٱلمغترب وٱلمُسْتَلَب)، وليسوا جميعا مُسَلِّمِينَ بٱلأطُر وٱلمعايير ٱلقانونية ٱلعامة للدولة: فٱلدستور يَعترض عليه كثيرون بأنه ليس دمقراطيا تماما، وكذلك ٱلأمر بٱلنسبة لقانون ٱلحريات ٱلعامة ولِمُدَوَّنة ٱلأسرة ولقانون ٱلشغل وقانون ٱلصِّحافة. إن ٱلتفاوت وٱلتغاير سِمَتَان مُحدِّدتان للِاشتراك ٱلمفترض في "ٱلهوية ٱلمغربية"، بحيث إن صفة "مغربي" لا تَتَّسم ب"ٱلوحدة" ٱلمعنوية بٱلنسبة إلى كل ٱلمغاربة إلَّا من ٱلناحية ٱلصورية/ٱلشكلية ؛ أما ٱلمضمون ٱلكَيْفِي/ٱلنوعي، فمُتفاوِتٌ ومُتغايِرٌ بين "مغربي" و"مغربي آخر". ذلك بأن كل ٱلمغاربة لَا يكادون يشتركون، بٱلقدر وٱلكيفِية نفسيهما، حتَّى فيما يُفترض أنه مُشترَكٌ بين ٱلناس جميعا من مَاءٍ وشَمس وهواء (من ٱلمغاربة، كما بين ٱلناس في ٱلعالم كله مع حفظ الفارق، من لا يَجد ماءً شَرُوبا ولا شمسا مُدفئة ولَا هواء نَقِيًّا). فكيف يستطيع ٱلمرء، إذًا، أن يظن أن ٱلمغاربة يشتركون فيما هو أصلًا وفِعلًا مَحَلٌّ للندرة وموضوع للتنافس ومُعرَّض للتفاوت؟! فلا ٱشتراك ولا مساواة في نوعية ٱلتربية وٱلتعليم أو في فُرَص ٱلشغل أو في شروط ٱلعيش أو في شروط ٱلصحة و، بٱلتالي، فلا "هُوية" متقاسَمة بين أولئك ٱلذين لا يشتركون سوى في كونهم مُتفاوتين تقريبا في كل شيء (حتى في لون ٱلبَشَرة ورمزية ٱسم ٱلعَلَم وعنوان ٱلسكنى). وإجْمالًا، فإن أخَصَّ مُحدِّدات "ٱلهوية ٱلمغربية"، كجميع ٱلهُويات في ٱلعالَم، ليست بديهية إلَّا في أذهان قِلَّة من ٱلشَّكْلَانيين وٱلِادِّعائِيِّين: فليس كل ٱلمغاربة عربا ولَا هم كلُّهم أمازيغ، وليسوا مسلمين كافةً ولا هم مؤمنون كافة، وليسوا جميعا مَعْنِيُّون بٱكتساب وٱستعمال ٱلعربية أو ٱلْأمازيغية أو ٱلفرنسية ؛ وإنَّما "ٱلمغاربة" جُمُوع بشرية متعددة ومتنوعة ومُختلفة ؛ ولا يزالون كذلك مُذْ كانوا وسيبقون حتما، لِأنَّهم ببساطة بَشَرٌ ككل ٱلبشر تحكمهم شروط هذا العالم في تعددها وتغيرها. ولهذا فإن أي ٱدّعاء من لدن أي زُمْرَة أو جَماعة لنوع من "ٱلهُوية ٱلمغربية" غير ٱلِانتماء لِ"أمة-دولة" (يُفترض فيها أن تكون أو تصير مُجسَّدة في مؤسسات قانونية ومشروعة تَكْفُل "التدبير الدمقراطي" لكل أصناف ٱلتنوع وٱلتعدد) يُعَدُّ ضربا صريحا وأكيدا من ٱلتوهُّمات ٱلهُوِيَّانية بٱلسمات ٱلمعروفة لدى ٱلجميع إما ك"قَوْمَانِيَّة" تُفَضِّل قوما بعينهم وتستعلي على كل ٱلأقوام الآخرين وإما ك"مركزية قومية" ترفض ٱلتنوع ٱلقومي-ٱللغوي-ٱلثقافي، فتعمل على ٱستيعاب ذاتي وقَسْري للثقافات ٱلْأخرى أو ٱختزال كل مُعطًى مُغايِرٍ بتفسيره وَفْق أشكالها ٱلخاصة في ٱلإدراك وٱلفكر وٱلفعل. إن ثمة سَيْرورة عالمية ما فَتِئَت تُبلور مفهوما جديدا للهوية يقوم، أساسا، على حِفظ ٱلمساواة بين ٱلناس: أولًا، في ٱلكرامة ٱلإنسانية ٱلواجبة لكل فرد، بغض ٱلنظر عن عرقه ونسبه وجنسه ولونه وسِنِّه ولغته ودينه ورُتْبَته (حق ٱلمواطنة ٱلكاملة) ؛ ثانيا، في ٱلحقوق وٱلواجبات (تَحَمُّل أعباء ٱلصالح ٱلعام وٱلِاستفادة من ٱمتيازاته بشكل مُنصف) ؛ ثالثا، فِي حرية ٱلِاعتقاد وٱلفكر وٱلتعبير وٱلعمل وٱلتنقل ؛ رابعا، في ٱلعدالة أمام ٱلقضاء ؛ خامسا، في تكافُؤ ٱلفرص وقسمة ٱلحظوظ ؛ سادسا، في إمكان تداول دمقراطي للسلطة في كل مؤسسات ٱلدولة ؛ سابعا وأخيرا، في ٱلمراقبة وٱلمعاقبة (كُلُّ رَاعٍ مسؤولٌ عما ٱسْتُرعيه، فالكل رَاعٍ ومَرْعِيٌّ في الآن نفسه). وهذه ٱلسَّيْرورة ٱلعقلانية إنَّما تشتغل في إطار "ٱلدولة-ٱلأمة" ٱلتي ليست، في الواقع، أكثر من مُحيط من ٱلمؤسسات ٱلتي يُقَيِّدُها ويُنَظِّمُها "ٱلقانون" وٱلتي تَكْفُل للفاعلين ٱلمُستعدِّين وٱلْمُؤهلين اجتماعيا إمكان غَزْو ومَلْء مُختلف ٱلمجالات ٱلخاصة بإنتاج وتداول جميع أنواع ٱلخيْرات المطلوبة في مجتمعهم الخاص. وإنْ يَكُن هناك من مشروع يستحق أن يجتهد كل ٱمرئٍ لتحقيقه وضمانه وحمايته، فهو هذا بالتحديد. ومن ثم، فإن ٱلفكر أو ٱلعمل لا يُعَدُّ طليعيا وتقدميا و، بٱلتالي، حَدَاثِيا إلَّا بقدر ما يدور حول إيجاد وتطوير ٱلآليات وٱلأدوات ٱلمتعلقة بهذه ٱلسَّيْرورة التي من دونها لا يكون ثمة معنى للهوية في المجتمعات الحديثة. وهنا يبدو من ٱلمؤسف جِدًّا أن ٱلأمور في ٱلمغرب بعد ٱلِاستقلال لم تَسِرْ على ما يُرام. إذ أن بناء "ٱلدولة-ٱلأمة" لم يتم لا بٱلشكل ٱلمُرضي لِلآمال ٱلعريضة ولا بٱلكيفية ٱلمفترضة، على عكس ما حدث في كثير من ٱلبلدان ٱلتي لم يبدأ بعضها إلَّا متأخرا جدا. ذلك بأن ٱلواقع ٱلمغربي لا يزال يعرف شكلًا فِجًّا من "ٱلدولة-ٱلأمة" يتمثل، من جهة أولى، في "مدونة من القوانين" (على رأسها الدستور) ما زالت تحتاج إلى المراجعة والتحيين حتى تتفق مع المعايير الديموقراطية المتعارفة و، من جهة ثانية، في "ٱلمؤسسة ٱلسُّلطانية-ٱلمخزنية" برعاياها وأفضالِها و، من جهة ثالثة، في منظمات حزبية ومدنية هَشة وتابعة. وبالتالي، فإن كل ٱلآليات ٱلعقلانية ٱلتي كان يُفترض أن تُوظَّف لخلق ٱلِاندماج ٱلِاجتماعي ولتدبير ٱلشؤون ٱلعامة بشكل ديمقراطي بَقيت غارقة في نوع من ٱلمُمارسة التي تُعَدُّ، في آن واحد، إرادانية وتقليدانية وشَعْبَانِية. وٱلحال هذه، فإن "ٱلهُوية ٱلمغربية" التي كان سيجد فيها "ٱلمواطن العادي" نفسه تُعتبَر مَفقودة بالفعل. هكذا فإن مدة نصف قرن بعد "ٱلِاستقلال" (حوالي جِيلَيْن) لم تكن كافية لتحديث ٱلبنيات وٱلمؤسسات، لكنها كانت بٱلتأكيد كافية لإعادة إنتاج نُخَب مُتَخَلِّيَة تماما عن ٱلفكر ٱلطليعي وٱلتقدمي ومُسْتَقِيلة عن ٱلْمَهامّ ٱلمَنُوطة بها تاريخيا وٱجتماعيا ؛ مما أدى، بشكل نَقِيض، إلى إنتاج أجيال تُمارِس ٱلرفض وٱلسَّلْبية تُجاه كل شيء تقريبا، حتَّى تُجاه "ٱلهوية" ٱلتِي طالما تَغَنَّى ب"وطنيتها" ٱلفاعلون ٱلرسْمِيون وٱلأجهزة ٱلمُساندة أو ٱلمُوازية لهم ("ٱلإذاعة"، "ٱلتلفزة"، "ٱلمدرسة"، "ٱلمسجد"، "ٱلصُّحف"، إلخ), لذلك فإن ٱلتفكير في "ٱلهوية ٱلمغربية" مُضْطَرٌّ إلى مُمارسة نقدٍ مُزدوِج يَنْصَبُّ، في آن واحد، على ٱلبنيات ٱلِاجتماعية وٱلمُؤَسَّسِية وعلى ٱلبنيات ٱلذهنية وٱلثقافِية: فٱلمؤسسة "ٱلسلطانية-ٱلمخزنية" وٱلْمنظمات ٱلحزبية وٱلنقابية لم تكن دائما في تعارض بنيوي، لأنَّها مَثَّلَتْ ولا تزال تُمَثِّل ٱلشِّق ٱلمسيطر سياسيا وٱقتصاديا وٱجتماعيا ؛ في حين أن "ٱلمجتمع ٱلمدنِي" بجمعياته ومؤسساته لم يكن دائما في موقع ٱلمستضعف ٱلخاضع للسيطرة (وهي سيطرة كثيرا ما تُوصف حصرا بأنها "مخزنية")، لأنه ساهَم ويُساهم -بنوع من ٱلتواطؤ ٱللاشعوري- في إدامة علاقات ٱلسيطرة تلك ؛ مِما يَجعل مُقاومة ٱلتغيير مترسخة، تقريبا على حدٍّ سواء، في كل ٱلبنيات ٱلِاجتماعية وٱلذهنية بٱلمجتمع ٱلمغربي برُمَّته ؛ ومما يُوجب بٱلضرورة ٱلدخول فِي نوع من "ٱلِانقلاب ٱلرمزي" لِفَسْخ ذلك ٱلتواطؤ ٱلمركوز تاريخيا وثقافيا في أعماق ٱلنفوس وخَلايا ٱلأذهان، وهو التواطؤ ٱلذي يَجعل من ٱلبديهي دائما أن يكون "ٱلواقع ٱلمغربي" نِتَاج فُرقاء مُنقسِمين على أنفسهم ومُتَّحِدين بعضهم على بعض ولا جَامِع لشتاتهم سوى ٱلِاتفاق على ٱلتسليم أو ٱلِارتِهان لِلْمُنْتَظَر ٱلآتي من حُجُب ٱلغيب بعصا موسى. وإنه لَمِنْ عجائب ٱلمُصادفات، بِهذا ٱلصدد، أن يكون مَكْرُ ٱلتاريخ قد هَيَّأ -عَبْر طوْرَين مُتلَاحقيْن- كُتلتَيْن ٱستقطابيتَيْن لصالِح ٱلمؤسسة "ٱلسلطانية-ٱلمخزنية"، كفاعل أساسي في ٱلمجال ٱلمغربي (لكنه، بالتأكيد، ليس الوحيد): "تقدميون-ٱشتراكيون" في مواجهة "رَجْعيين-ليبراليين" (منذ نهاية ٱلخمسينيات وعلى ٱمتداد ٱلستينيات من القرن الماضي) ؛ ثُم "تقدميون-ٱشتراكيون" في مواجهة "ظَلاميين-إسلاميين" (على ٱمتداد ٱلسبعينيات وٱلثمانينيات). وها نحن الآن قد صِرْنا بإزاء تكوُّن طور ثالث، بعد ٱستنفاد مُعظم مصادر ٱلقوة في ٱليسار وٱليمين معًا، تصير فيه ٱلمواجهة سِجَالًا بين "رَجْعيين-عُرُوبيين-إسلاميين"، من جهة، وبين "حداثيين-عَلْمانيين-أمازيغيين" من جهة أخرى. غير أنه قد صار من ٱلبَيِّن أنه لتفادي هذا السِّجال أخذت المؤسسة "السلطانية-المخزنية" تعمل، منذ عقد تقريبا، على سحب البساط من تحت أقدام ذَيْنك التوجهين معا، وذلك بإحكام السيطرة على المجال السياسي (بعد المجال الاقتصادي) باستنفار وتعبئة النُّخب الانتهازية على اختلاف توجهاتها وتوريطها في اللعب بعيدا عن المشروع الأساسي للمجتمع (ترسيخ وتعميق "الدولة-الأمة" مدنيا ومؤسسيا) من خلال التركيز على بَهْرج "التَّسايُس" (ادعاء ممارسة السياسة بإتيان كل المظاهر المسرحية) في عصر الإعلام الجماهيري. ويبدو أن ٱلِارتكاس ٱلهُويانِي قد كان يُمْكنه أن يؤدي دوره كاملًا في فترات تاريخية ماضية. لكن من المؤكد أنه لم يعد بإمكانه -في ظل ٱلظروف ٱلعالَمية/ٱلعَوْلَمية ٱلسارية على كل ٱلشعوب وٱلثقافات منذ عُقود- أن يفعل سوى تعميق وتوسيع أحزمة ٱلتهميش وٱلِاستضعاف بٱلنسبة إلى ٱلذين لم يُفْلِحُوا في إيجاد معنًى ل"المُقاومة" إلَّا بمُحاربة نُظَرائهم ٱلمستضعفين وٱلمُهمَّشِين، غَفْلَةً عن ٱلسُّنَّة ٱلراسخة تاريخيا وٱجتماعيا ٱلتي تَجعل ٱلقوي ٱلمسيطر لا يتحالف مع ٱلضعيف ٱلخاضع إلَّا لإضعاف قَوِيّ آخر أو لتفويض مَهَامّ لا تَلِيقُ بالْمَقام. ومن أجل استخلاص مثل تلك العبرة صار يجب، لا فقط إعادة تنشيط الخيال السياسي للفاعلين في المجتمع والعمل على توسيعه لإبداع رُؤًى كفيلة باستنفار المُخَيَّبِين واليائسين، وإنما أيضا بالنزول إلى الحد الأدنى من الواقعية والاعتراف بأن الشراكة في الوطن قَدَرٌ لا مناص منه و، بالتالي، فلا مفر من السعي الجاد نحو الاشتراك في بلورة آليات معقولة لحفظ تلك الشراكة في مستوى التعايش المقدور عليه من أجل تجنب السقوط إلى دَرَك الأقدار العمياء أو الهوجاء التي قد تنزل بالمجتمع كله إلى مَهَاوي العصبيات المريضة التي تتغذى من دِماء الحياة بكل ألوانها فتبتعد بالناس، إلى هذا الحد أو ذاك، عن الاشتراك والتعاون سلميا ومدنيا على إقامة "الوطن" في صورة "الدولة-الأمة" التي من دونها لا يمكن أن يكون معنى لوجود أحد ولا لفعله. وهكذا، حينما تشتغل سيرورة التدبير والترشيد في إطار المجتمع المعاصر كمجتمع متعدد واختلافي، فإنها تتجسد في آليات اجتماعية ومُؤسسية للتعاون والتضامن على نحو يجعل "الهوية" كتعبير عما "هو نفسه" تصير تحقيقا لغيرية "الآخر" كإنصاف يَعْدِل في قسمة وتوزيع الحقوق بين المواطنين الأحرار والمتساوين على نحو يَنْزِع بمُوجبه "ما هو مُماثل لنفسه" إلى "ما هو مُساوٍ ومُماثل لغيره" ليس فقط في الكرامة الإنسانية، وإنما أيضا في الأسس المُقوِّمة لهذه الكرامة التي لا تقبل إلا هذا النوع من التصرف والتي لا تدل على شيء خارج مجموع الحقوق الواجبة تاريخيا واجتماعيا للأعضاء في كل مجتمع استطاع أن يرتقي، عبر نضال مُستميت ومُكلِّف، إلى مستوى التنظيم المدني والديموقراطي الذي لا معنى لحياة الإنسانية الحالية من دونه، لأنه هو الذي يُمكِنُه أن يَكْفُل أكثر من غيره الحرية الموضوعية للأشخاص التي تُمُكِّنُهم من الوصول المتساوي والمشروع إلى الخيرات والموارد المطلوبة، وهوالوصول الذي من شأنه أن ينتزع وجودهم وفعلَهم من شِبَاك التفاوت الاعتباطي واللَّامعنى الحياتي. [email protected] mailto:[email protected]