ثمة أثر جرح تنضح به هذه السلسة من الأعمال. إنه أثر حاد وخطير يعيِّن لنا وجهة مسامات مبتغاة. إنه جرح ينصاع بنفسه للتعدد من خلال أثر مرايا متحركة. وهي مرايا تختلط بالإحساس المتوالد والشذري لفنان تتجلى رغبته في اختراق الذات ومفازها. يقيم محمد حميدي في خلوته الذاتية الخاصة مثل ناسك متعبد، كي يأخذ المسافة الإبداعية الضرورية التي تحمله في أناة نحو مكامن قوته الفنية والمعاني العميقة المعتملة في داخله. فهذا الفنان، الذي ساهم بشكل حثيث في تكوّن الفن المعاصر بالمغرب منذ فجر الستينيات، لم يقع أبدا تحت إغراء الأضواء الباهرة للشهرة ولا تحت تأثير أمواج سوق فنية منحت مساربها المعتمدة الوجودَ والاعتبار للعديد من أشباه الفنانين، فبما أن عملته هي الصمت والانزواء في رحاب الإبداع، فإن رفيقه الوحيد في هذه التجربة الوجودية الفريدة يكون هو قوته العميقة الدائمة اليقظة لعوادي الزمن، على هامش الطرق الملكية للعيانية الفنية التي انتهجها العديد من رفاق الدرب من زمن. ينصاع حميدي في مرسمه بالدار البيضاء، كما بأزمور (المدينة التي اختارها لأسرارها الدفينة)، للدعوة الدائمة إلى السفر والترحال. واختيار مدينة آزمور موطنا ثانيا، ليس وليد الصدفة لدى هذا الفنان المنحدر من جبال الأطلس. فآزمور مدينة تسهر عليها سيولة أم الربيع بأسطوريته، بمياه نابعة من تلك الجبال نفسها، محمولة في ذاكرة الماء والبشرة. إنها مدينة بين البحر والنهر، متشبعة بالعديد من كرامات أوليائها. دورها الخربة أو الآيلة للسقوط تمنح الانطباع برغبتها العميقة في الولادة من جديد، ومتاهتها الصغيرة وأسوارها تزج بالكائن في حضن رحم أمومي يحوله صدى الزمن إلى دعوة للولادة الدائمة. ومع أن حميدي ظل وفيا لاختياراته الفنية والجمالية، فإنه ظل مسكونا بالبحث عن مسالك جديدة للإبداع. من غير أن ينصاع للمغامرة غير المحسوبة النتائج، فإنه يسعى إلى الاستكشاف الدائم لطاقته الإبداعية بالأشكال والألوان. وبما أنه فنان الجسد والرمز، فإنه يسائل في الوجود ثنائية الجوهرية التي عليها ينبني. ومن ثم فإن الذكوري والأنوثي يتمظهران في وحدتهما، وفي مواجهتهما وتمرئيهما المستمر. بيد أن الجسد المؤسلب لا يخضع هنا لأي بلاغة دالة.ذلك أنه بالأحرى يُستعاد دوما في مختلف أوجهه الرمزية. لذلك. فالجسد لدى حميدي لايتم صوغه في بعده الإيروسي، بالرغم من أن أوضاعه وأشكاله لا تنفي ذلك. إنه بالأحرى جسد مشبع بالرمزية، جسد علامة ممنوح لتعددية دلالاته، ولالتباس طبيعته؛ إلى حد أن هذه الترميزية تنحو باتجاه نوكيد البحث عن الكائن المتوحد الجنس. تتخلل الأندروجونية هذه العملية، وتخترق التنويعات على النوع، كما لو أنها تؤسس لتبادل المواقع التي ترسم معالمها العلاماتُ أو تؤكدها أو تحولها. تفضح تلك العلامات المختلفة (سهم، حرف خيالية...) عن كلام دفين، وعن رغبة في الكلام سابقة على اللغة، وعن لغة مجاوزة للكلام. وبذلك يشكل الفنان نظامه الهجائي الخاص والمتخيل، تبعا لمقصدية مطبوعة بآثار الوقت وبغضب يظل حبيس العين والقلب. من أين ينبع هذا التعليق الجامح بالهندسي؟ ولماذا ينحو الفنان اليوم إلى هجر تداويره المفضلة، وشخصياته «الأسطورية» التي يصوغها على هواه للتعبير عن ثنائية العالم؟ لماذا هذا الانتقال من البحث عن الأصل الأندروجيني الأسطوري للإنسان والكون للخوض في لعبة الأشكال والألوان التي يحجب بعدها الموسيقي رغبات الفنان السابقة؟ هل علينا البحث عن «دلالة» هذا الاختيار (الذي يفرض نفسه بعمق على الفنان) في الرمزية المتأصلة في الأشكال، أم في السينوغرافيا التي يمنحها لها باستمرار؟ عديدة هي الأسئلة التي من هذا القبيل التي ترتبط بالأسئلة النابعة من المسار الشخصي للفنان. ثمة أثر جرح تنضح به هذه السلسة من الأعمال. إنه أثر حاد وخطير يعيِّن لنا وجهة مسامات مبتغاة. إنه جرح ينصاع بنفسه للتعدد من خلال أثر مرايا متحركة. وهي مرايا تختلط بالإحساس المتوالد والشذري لفنان تتجلى رغبته في اختراق الذات ومفازها. فما يستعرض نفسه هنا هو عموما الاشتغال على التآليف الممكنة والمحتملة، أو بالأحرى، على التراكب الممكن للحظات الاتصال والتواصل والوصال. وهي بمعنى تواصلات يكون الفضاء فيها زمنا خالصا. إن الإيقاع المبتغى، المنسق بعناية فائقة، وتركيب الأشكال التي تكون عموما متعالية، في شكل سهم موجه للأعلى نحو سماوات الغيرية، والتنويعات اللامتناهية على الممكنات التي توفرها الأشكال، كل هذا يجعل من حميدي شكلانيا ولا تصوريا. وإذا ما نحن قاربنا تجربته هنا عمدا من صونيا دولوناي، فذلك من خلال أثر التناظر الشعري واللازمني. ومع ذلك فإن صرامة الشكل وكوريغرافيته الراقصة وسينوغرافيته المعلنة لا تغنينا عن النظر إلى أعماله الأخرى ذات الطابع الدقيق والملغز في الآن نفسه. فحميدي فعلا فنان المادة واللون بامتياز، أو بالأحرى لنقل إنه فنان المادة- اللون. ففي ذلك تستعلن ذاتيته وتفرض علينا نفسها باعتبارها ذاكرة وبشرة. ومع ذلك فحتى حين يشتغل على ألوان هادئة، أو على النبرات الوطنية، فإننا ندرك أنه يستخرجها من الأعماق المدلهمة لذاته، ومن الثنايا التي يلفها أو يكشف عنها، أعني ثنايا المعنى واللامعنى. يمتلك حميدي تؤدة من يترك نفسه لتأثير التحولات الداخلية للمادة. إنه خيميائي يدعونا إلى ملامسة خشونة القماش وملاسته في الآن نفسه، كي نتخيل معه حفريات اللوحة ومسير تكونها. فاللوحة البشرة لها مسامها الخاصة، ومكامن نفسها الحيوي. فيها تبرز الفرشات الناضحة بذبذبات التآليف، وهي تخضع للحجب والكشف، بحيث يشتغل عليها الفنان كي يمارس التحويل على وحدة اللون ومعه على بصرنا نحن. ولأن هذا الاشتغال الصوفي عصي على الوصف، فإنه يقدم لنا مساحة متحولة، غير خالصة، مركبة ومتعددة. لهذا فإن التغييرات اللونية تحملنا من شكل إلى آخر، ومن فضاء إلى فضاء مغاير. وهو ما يخلق تنويعات (أو توقيعات بالمعنى الموسيقي) وتناغما يصوغه الفنان بالكثير من الصرامة والخيال.وبذلك فإن كل لوحة تغدو مقطوعة موسيقية، أو تنويعا أو امتدادا. وهكذا فإن سلسلة هذه اللوحات تغدو عبارة عن تأليف موسيقي متوال، كذلك الذي صاغه غوسطاف ماهلر وتأكد فيما بعد لدى أرنولد شوينبرغ. بيد أن سلطة التنويعات هنا تنصاع للتآلف مع الهارمونيا النبرية كما عهدناها في الموسيقى الكلاسيكية. إننا نحس كما لو أن الفنان يزاوج بين موسيقى المتواليات في مجال الألوان والنبرية في مجال الأشكال. وهي مفارقة تفصح عن شخصية الفنان التشكيلية المركبة، فالطابع الهندسي الطاغي على أعماله يتراوح بين الأشكال ذات التداوير والأشكال ذات الزوايا. وتلك مفارقة قد بدأت تنمحي في أعماله الأخيرة لتأخذ شكل القبة، هذا الشكل النسكي الصوفي الذي يبدو أن مدينة أزمور قد بدأت تبثه في لوحاته. يستعيد العمل التشكيلي لحميدي المكاسب الأسلوبية والأشكال والتقنيات اللونية، ويهجرها أحيانا أخرى للانطلاق في مغامرة جديدة، ثم يغوص في تفاصيل تجربة استنفدها سابقا ليعيد استيلادها بشكل مغاير. إنها حركة تعيد تشكيل المسير العام للفنان بلا انقطاع، لتمكنه من الولادة المتجددة الدائمة. إنها ولادة متجددة تكون دائما في مستوى طموحاته وتطلعاته، وانفتاحا وانزلاقا غالبا ما يتمان نحو أماكن جديدة للمرئي واللامرئي، والوجود والغيرية.