من ٱلمُتعارَف أنَّ "ٱلدِّمُقراطيّةَ" تُحيلُ إلى قِيَم "ٱلحريّة" و"ٱلمُساواة" و"ٱلعدل". وكونُها كذالك يَجعلُها مَطلبًا أساسيًّا لمُعظَم ٱلنّاس في المدى الذي تُعَدُّ تلك ٱلقِيَمُ مُشترَكًا بشريًّا وٱجتماعيًّا يَجمع بينهم. فمن غير المعقول، إذًا، أنْ يَكُونَ "ٱلعربُ" و"ٱلمُسلمون" ٱستثناءً (بل شُذوذًا) كما لو أنّهم أُناس لا مصلحة لهم في ٱلِاهتمام بتلك القيم التي لا معنى للوجود الإنساني عموما من دونها. فكيف يُصرُّ أدعياء "ٱلتّنوير ٱلحداثيّ" على ترديد أحاديثهم عن وجود نوع من "ٱلتّنافي" بين تلك القيم ومبادئ "ٱلإسلام/ٱلدِّين"؟ هل "ٱلعرب" و"ٱلمُسلمون" في مستوى أدنى من "ٱلإنسانيّة" جعلهم يخضعون لدينٍ يَتنافَى مع "ٱلدِّمقراطيّة" في إحالتها إلى كُبرى القيم الإنسانيّة؟ ألا يكون تَهجُّمُ "ٱلمُتحادِثين" و"ٱلمُتعلمِنين" على "ٱلإسلام/ٱلدِّين" نوعا من الخدمة المُزدوجة التي يُؤدُّونها، بوعي أو من دونه، ل"ٱلأنظمة ٱلفاسدة/ٱلمُفسدة" المُسيطرة محليًّا وعالميًّا والمُعرقلة فعليًّا لسيرورة "ٱلدَّمقرطة" حفظًا منها لمصالحها غير المشروعة بين المُستضعفين في العالَم و، بالخصوص، بين "ٱلعرب" و"ٱلمسلمين"؟ يَجدُر، ٱبتداءً، تأكيد أنّ من أسوء ٱلِانحرافات (وٱلتّحريفات) في مجالِ تعاطي الخطاب ذاك ٱلِانحراف/ٱلتّحريف الذي يَتمثَّل في الغَفْلة عن أنّ أهمّ الأشياء التي تكون موضوعًا للطّلَب (وللتّنازُع) غالبًا ما تَصيرُ أداةً للتّرهيب وٱلِابتزاز. يُلاحظ هذا بخصوص مفاهيم "ٱلعقلانيّة" و"ٱلتّنوير" و"ٱلحداثة"، ويُلاحَظ أكثر حينما يَتعلَّق الأمرُ بمفاهيم "ٱللِّيبِراليّة" و"ٱلدِّمقراطيّة" و"ٱلعَلْمانيّة". ذلك بأنَّ "ٱلمُبطلين" لا يكتفون باستعمال تلك المفاهيم ٱستعمالا تحليليًّا ونقديًّا، وإنّما يَميلون إلى ٱتِّخاذها كنوع من "ٱلِامتياز" الذي حَظُوا به خِصِّيصًا. لذا، تراهم يستخدمون تلك المفاهيم أسلحةً لخوض حُروبهم الفكرويّة والسياسيّة، فيتوسَّلُون بها للتّهجُّم على خصومهم بدعوى أنّهم أُناس يُعادُون ما لا يَجمُل بأحدٍ من "ٱلعُقلاء" أو "ٱلفُضلاء" أنْ يُعاديَهُ. ومن البيِّن أنّه يَكفي أنْ يَظْهرَ (ويُظْهَرَ) المرءُ بصفة المُعادِي لشيء "معروف" أو "معقول" ليُصبح عُرضةً للتّسفيه والتّشنيع. ويبدو أنَّ "ٱلمُبطلين"، بصنيعهم ذاك، يُمارِسُون تضليلا مُزدوجًا: من جهة كونهم يُنصِّبُون أنفسهم كما لو كانوا وحدهم يَحْظَوْن بامتياز "حماية ٱلحِمَى" (مُتمثِّلا في "ٱلمِثال/ٱلمَثَل ٱلأعلى")، ومن جهة كونهم يَنطلقون من مُسلَّماتٍ يَعُدّونها "مبادئ بديهيّة" يجب أنْ تَفرض نفسها دون نقاش بحيث يُبنى عليها ولا يُسأل عمّا يُوجد في أصل بنائها. وإذا جاز لكل إنسان أنْ يَتعلَّقَ بما يُعدُّ "مثالا/مثلا أعلى" ("ٱلحريّة"، "ٱلحق"، "ٱلعدل"، "ٱلخير"، "ٱلجمال")، فإنّه لا يَصِحُّ لأحدٍ من النّاس العاديِّين أنْ يَدّعيَ تجسيدَه في كمالِه وكليّته وتعالِيه ؛ لأنّه ليس هناك "إنسان كامل" في الواقع البشري، وإنّما هناك فقط أُناسٌ يُمكنُهم أنْ يَسعوا - في حُدود ما يُطيقون- إلى ٱستكمال نواقصهم طلبًا ل"ٱلفضيلة" على هذا المستوى أو ذاك. فكل "مِثال/مَثل أعلى" موضوعٌ، في الواقع ٱلِاجتماعيّ والتّاريخيّ، للتّنافُس والتّنازُع. ومن هنا، لا يَحِقُّ لأحد أنْ يَدَّعيَ أو يتظاهر بأنّه النّاطق الحصريّ باسم "ٱلعقل" أو "ٱلحريّة" أو "ٱلعدل" أو "ٱلخير" أو "ٱلحق". وبخصوص "ٱلدِّمُقراطيّة"، نجد أنّها عُمومًا تُحدَّدُ بأنّها «نِظامُ ٱلحُكْم حيث يَستطيعُ كُلُّ ٱلسُكّانِ في بلدٍ ما أنْ يُصوِّتُوا لِانتخاب مُمثِّلِيهم.». ولهذا، يُسمّى البلدُ حيث يَنتخِبُ النّاس مُمثِّلِيهم "دِمُقراطيّةً". لكنَّ "ٱلدِّمُقراطيّة" تَدُلُّ، أيضًا، على «ٱلتّعامُل ٱلعادِل وٱلمُنصف مع كل شخص في تنظيمٍ/مُنظّمةٍ ما بحيث يكون له ٱلحقّ في أنْ يُشارِكَ في ٱتِّخاذ ٱلقرارات التي تتعلق بشؤونه.». ومن هنا، فإنَّ "ٱلدِّمُقراطيّة" لا تُشيرُ فقط إلى "حُكْم/سُلطة ٱلشَّعْب"، بل تُحيل أيضا إلى "ٱلحريّة" و"ٱلمُساواة" و"ٱلعدل". وهذا ما يَجعلُها نوعًا من "ٱلمِثال" أو "ٱلمَثَل ٱلأعلى" الذي يُجسِّدُ طُموحات البشر في أنْ يَكُونوا أحرارًا يَنْعَمُون بكرامةٍ آدميّة لا تُنتهك وبحقوق موضوعيّة لا تُنتقَص وبآمال شخصيّة لا تُحَدُّ، على النّحو الذي يُؤدِّي إلى أنْ يَصيرَ رفعُ شعار "ٱلدِّمُقراطيّة" مُمثِّلا لجِماعَ مَطالِب ٱلنّاس عبر التّاريخ وفي كل المجتمعات. إنَّ "ٱلدِّمقراطية" تقوم، بالأساس، على ركيزتين: إعلان "مبادئ أساسيّة وكليّة" ووضع "إطار قانونيّ ومُؤسَّسيّ" لتحقيق وتكميل تلك المبادئ. ونجد أنّ "ٱلمبادئ ٱلأساسيّة وٱلكُليّة"، التي تقوم عليها "ٱلدِّمقراطيّة"، تَتمثَّلُ في أولويّة "حُقوق ٱلإنسان" تأكيدًا للمُساواة في "ٱلكرامة ٱلبشريّة" و"ٱلمُواطَنة"، و"سيادة ٱلشّعب" أساسًا للمشروعيّة، و"سُموّ ٱلقانون" أساسًا ل"ٱلشرعيّة"، و"ٱلفصل بين ٱلسُّلطات" ضمانًا للحريّة وٱلعدل. وهذه المبادئ (ٱلدِّمقراطيّة) هي أساس "دولة ٱلحق/ٱلقانون" في قيامها على "ٱلمشروعيّة ٱلمدنيّة/ٱلشَّعبيّة" وٱشتغالها وَفْق "ٱلشرعيّة ٱلقانونيّة". ولأنَّ "سيادةَ ٱلشّعب" تُعَدُّ المصدر ٱلأساسيّ لكل السُّلطات، فإنَّ "ٱلشَّرعيّة ٱلقانونيّة" (ٱبتداءً ب"ٱلدُّستور" وٱنتهاءً بأدنى "ٱلتّشريعات ٱلتّنظيميّة") لا معنى لها إلا بصفتها تعبيرًا عن مجموع "ٱلتّوافُقات ٱلمعقولة" الدّالّة على "ٱلإرادة ٱلعامّة" التي هي أساس "ٱلمشروعيّة ٱلمَدنيّة/ٱلشَّعبيّة". و"سيادة ٱلشّعب" هي التي تُعطي نفس "ٱلحقّ" لكل "ٱلمُواطِنين" لكي يَشتركوا في المُمارسة السياسيّة بواسطة "ٱلِاستفتاء" أو "ٱلِاقتراع ٱلعامّ" أو "ٱلِاحتجاج" ٱعتراضًا ومُظاهرةً، حيث إنَّ نتيجة "ٱلتّصويت" تُفرِزُ ما يُسمّى "حُكْم ٱلأغلبيّة" الذي يُعبِّر عن "ٱلمشروعيّة ٱلشعبيّة" التي هي الأصل في "ٱلشَّرعيّة" كإلزام عُموميٍّ يَسْرِي على جميع "ٱلمُواطنين" في المدى الذي يشتركون في قَبُول ٱلتّداوُل المَدنيّ والسياسيّ باحترام "إطار ٱلشّرعيّة" الذي هو "ٱلدُّستور" باعتباره «مجموع ٱلمبادئ ٱلأساسيّة وٱلكُليّة التي تُجسِّد "ٱلتّوافُقات ٱلمعقولة" بين أعضاء ٱلمجتمع». ذاك هو "مِثالُ ٱلدِّمُقراطيّة" كما يُعرَضُ (ويُفرَض) "رَسْميًّا". وإنّه ل"مِثالٌ" جَذّابٌ وساحِرٌ إلى الحدِّ الذي يَصعُبُ أنْ يُقاوَمَ إغراؤُه من قِبَل أكثر النّاس بمن فيهم معظم "ٱلخاصّة" أو "ٱلنُّخبة". إِذْ مَنْ يَجرُؤ على أنْ يكون صراحةً ضد "ٱلدِّمقراطيّة" في دلالتها على "ٱلحريّة" و"ٱلمُساواة" و"ٱلعدل"؟ بالتّأكيد، لن يجرؤ أحدٌ على ذلك ؛ ليس لأنّه لا يُوجد إنسانٌ يَرفُض تلك "ٱلقيم" إنْ جُزءًا أو كُلًّا، وإنّما لأنّ إعلانَ رفضها مُكلِّفٌ جِدًّا في المدى الذي يكون موضوعًا لجزاءٍ سَلْبيٍّ شديدٍ. فمن يقول "لا" للحريّة، لن يكون مجرد "مُستعبِد" أو "مُستعبَد"، بل سيكون "عدو ٱلإنسانيّة" ؛ ومن يقول "لا" للمُساواة لن يكون مجرد شخص يَمْلِكُ ٱمتيازات خاصة أو يَحْرِصُ على ٱلِاحتفاظ بها، بل سيكون "شخصا عُنصريًّا" ؛ ومن يقول "لا" للعدل، لن يكون مُجرد شخص "ظالِم" أو "مُعتدٍ"، بل سيكون "شخصًا مُجْرِمًا". ولهذا، فإنَّ من يُغامِرُ فيُعلنُ عن كونه يَتحدَّدُ بأنّه "لادِمُقراطيّ"، سرعان ما يجد نفسه قد صار خصمًا لأكثريّة النّاس في رفضهم ل"ٱلِاستعباد" و"ٱلتّمييز ٱلعنصريّ" و"ٱلظُّلم" و"ٱلعدوان". ومن هنا يَتبيَّنُ غرضُ من يُصِرُّ على وَصْمِ "ٱلعرب" و"ٱلمُسلمين" و، بالأخص، "ٱلإسلاميين" بأنّهم "أعداء ٱلدِّمقراطيّة"! لكنّ "مِثال ٱلدِّمُقراطيّة" ذاك أشبهُ ما يكون بأحدِ "مُثُل" أفلاطون: تلك "ٱلصُّوَر ٱلعقليّة ٱلنّموذجيّة" التي تُعدُّ، على الأقل لدى صاحبها، أشدّ حقيقةً من "ٱلواقع" (ٱلماديّ/ٱلحسيّ) نفسه! ولإدراك حقيقة "ٱلدِّمقراطيّة" بعيدًا عن بَهْرَجِ الخطابات المُبتهِجة، لا بُدّ من تجاوُز ظاهرها المثاليّ المُغرِي والمُعمِي والنُّزول، من ثَمّ، نحو واقع الحياة ٱلِاجتماعيّة في قيامها الضروريّ على "ٱلتّفاوُت" و"ٱلتّناقُض" و"ٱلتّنازُع" ضمن مجموع شُروط "ٱلوضع ٱلبشريّ" المُحدِّدة للوُجود والفعل الإنسانيين. ولا شك في أنَّ ٱلنّظر إلى "مِثال ٱلدِّمُقراطيّة" في خِضَمِّ ٱلمُمارسة الفعليّة يَقُود إلى مُواجَهة واقع النّقض ٱلعمليّ للمبادئ والقيم المُقوِّمة له: ف"ٱلحريّة" المُعلنة دُستورًا تصير تَحكُّمًا خفيًّا، و"ٱلمُساواة" المنشودة حُقوقًا تقوم في صورة ترسيخ وتعميق لِلَانهائيّةٍ من أنواع ٱلتّفاوُت، و"ٱلعدل" المرفوع شِعارًا يُصبح جحيمًا من ٱلمَظالم. وكل هذا تَعيشه "ٱلعامّة/ٱلأكثريّة" من ٱلنّاس الذين يجدون أنفسهم، في إطار ٱلنِّظام الدِّمقراطيّ، قد صاروا خاضِعين (ومُخْضَعين) ل"نُخبةٍ" شبه مُغلقة من السياسيِّين وٱلِاقتصاديِّين وٱلمثقفين/ٱلإعلاميِّين الذين يَملكون كل الوسائل التي تُتيح لهم الوصول إلى مَواقِع "ٱلسلطة" وٱستدامة شَغْلِها بحيث تبدو "ٱلدِّمُقراطيّة" من جرّاء ذلك "دوامًا للحُكْم من دون ٱلشّعب". وهكذا، فإنَّ "ٱلمُشارَكة ٱلشّعبيّة" تُصبحُ أداةً لمُمارَسة "ٱلتّهميش" وتعميق "ٱللامساواة" سياسيًّا وٱقتصاديًّا وٱجتماعيًّا وثقافيًّا فتَتحوَّلُ، من ثَمّ، "ٱلحُريّة" إلى خُضوع "ٱمتثاليّ" و"ٱستهلاكيّ"، ويَستحيلُ "ٱلعدلُ" تأسيسًا ٱجتماعيًّا ل"ٱلحِرمان" و"ٱلسَّلْب"! ذلك بأنَّ كونَ "حُكم ٱلشّعب نفسَه بنفسه" لا يَتِمُّ، في واقع ٱلمُمارَسة، إلا بشكلٍ غير مُباشر يَجعلُ "ٱلدِّمقراطيّة" تَتجسدُ عينيًّا ك"حُكْم للأغلبيّة"، أيْ أنّها مُمارَسةٌ تقوم - في ٱلواقع ٱلفعليّ- على نابض أساسيّ يَتمثَّلُ في "ٱلبحث عن (تمثيل) ٱلأغلبيّة"، بحيث لا تَعُودُ مُجرّدَ مُمارَسة سياسيّة تَحْفَظ "مُشاركة ٱلجميع في ٱلحُكم"، وإنّما تَصيرُ مُمارَسةً "تداوُليّةً/تَشاوُريّةً" تَرمِي إلى مَنْع أنْ تبقى "ٱلسلطةُ" دُولَةً أو حِكْرًا بين أيدي "نُخبة/صَفْوة" مُعيَّنة تَتحدَّدُ بالفعل ك"أقليّة". لكنَّ تفعيلَ "ٱلتّداوُل/ٱلتّشاوُر" من خلال آليّات "ٱلِانتخاب/ٱلتّمثيل" يَجعلُها - في ٱلعمق- تَعمَلُ على ٱستبعاد "ٱلأكثريّة" للتّمكين، بالتّالي، ل"ٱلأقليّة" بناءً على قانون "ٱلِانتقاء" و"ٱلتّمييز" ٱلمُحدِّد ٱجتماعيًّا لإنتاج وإعادة إنتاج نمط "ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة" المُسمّى "أغلبيّةً". ونجد أنَّ "ٱلأغلبيّة" بذلك المعنى تُعبِّر، من النّاحية ٱلِاجتماعيّة، عن مَآل أنواع "ٱلتّفاعُل" و"ٱلتّنازُع" بين فئات "ٱلغالِبين/ٱلمُسيطِرين" وفئات "ٱلمَغلوبين/ٱلمُسيطَر عليهم". ولذا، فإنّ ٱشتغالَ "ٱلأغلبيّة" كتَفاعُل تَداوُليّ بين قُطْب "ٱلغالِبيّة" وقُطْب "ٱلمَغلوبيّة" هو الذي يَجعلُ "ٱللَّعِب ٱلدِّمقراطيّ" ٱستجابةً لإكراهات الواقع ٱلِاجتماعيّ في خُضوعه الضروريّ لمنطق "ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة". وٱكتشاف حقيقة أنَّ واقع "ٱلتّبادُل" و"ٱلتّفاعُل" لا يَتجلّى، بما هو ضرورة ٱجتماعيّة، إلا من خلال "ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة" يَنقُلنا من "ٱللَّعِب ٱلدِّمقراطيّ" - في بساطته وٱنفتاحه كلَعِبٍ قائم على "ٱلحريّة" و"ٱلمُساواة"- إلى أَلعابِ "ٱلتّنافُس" و"ٱلتّنازُع" كما تَشهدها مُختلِف المجالات ٱلِاجتماعيّة في قيامها على "ٱلإكراه ٱلبنيويّ" للفاعِلين ٱلِاجتماعيِّين وعلى "ٱلتّفاوُت ٱلوظيفيّ" في قُدراتهم وأعمالهم. وبهذا فإنَّ ما يَنكشفُ، في ٱلحقيقة، إنّما هو زيفُ مَقُولة "ٱلرأي ٱلعامّ" في دلالتها على "وحدة ٱلشّعب" كما لو كان "كُتلةً" مُنسجمةً موضوعيّا وذات قُدرة على ٱلتّحرُّك وٱلفعل بِناءً على نوع من "ٱلوعي ٱلذاتيّ" الخاص. وهكذا، ففي خِضَمّ واقع "ٱلغَلبة/ٱلسيطرة" تَنفجرُ "وحدة ٱلشّعب" فيظهر أنَّ ٱلأمرَ يَتعلَّق ب"مجموعات صُغرى" كل منها تشتغل بمثابة "أقليّة" تَبحثُ، تَنازُعيًّا وتَمايُزيًّا، عن "ٱلأغلبيّة". ومن ثَمّ، فإنَّ "ٱلبحث عن ٱلأغلبيّة" لا يَعُود مُجرَّد نابِض أساسيٍّ في "ٱلدِّيناميّة ٱلدِّمقراطيّة"، بل يَصيرُ - في ٱلوقت نفسه- ثُغْرةً كُبرى في "ٱلتّداوُل ٱلدِّمقراطيّ". إِذْ ما يَجدُر تَبيُّنه هو أنَّ "ٱلبحث عن ٱلأغلبيّة" ليس بحثًا عن "ٱلمصلحة ٱلعامّة" مُعرِضًا عن كل ٱلأغراض، وإنّما هو بحثٌ يُعَدُّ - بفعل ٱلضرورة ٱلِاجتماعيّة- مُغْرِضًا لأنّه يَتحرّكُ بفعل نوع مُعيَّنٍ من "ٱلمَصالح" (التي ليست دائما ماديّة)، بحيث يَصيرُ بحثًا ل"تغليب" مصالحِ فئةٍ ما بتوظيف آليّات "ٱلمشروعيّة" و"ٱلشَّرعيّة" كلتيهما. ومن هنا، فإنَّ مُشكلةَ "ٱلأغلبيّة" - بما هي "تَغلُّبٌ/تغليبٌ مَصلحيّ"- تَؤُول إلى مُشكلة "ٱلإلزام ٱلمَدنيّ" على أساس ٱلتّداخُل ٱلفعليّ بين "ٱلشّرعيّة" و"ٱلمشروعيّة". ذلك بأنّ "حُكم ٱلأغلبيّة" يُعطي تفويضًا ل"مُمثِّلِي ٱلشَّعب" بما هم "أقليّة" تَنُوب عن "ٱلأكثريّة"، وهو ٱلتّفويض الذي يُخوِّلُ لهؤلاء المُمثلِّين أنْ يَتصرّفوا على نحوٍ "مَأذُونٍ/مشروعٍ" باسم "أكثريّة ٱلشَّعب" لوَضْعِ وفَرْضِ أنواع من "ٱلإلزام ٱلعُموميّ". ولأنَّ "ٱلدِّمقراطيّة" يُفترَض فيها أنْ تَكُون "حُكمَ ٱلشَّعب" الذي يُراعِي مَصالِحَ جميع أعضاء المُجتمع، فإنَّ ضرورةَ العمل وَفْق منطق "ٱلأغلبيّة/ٱلغَلَبة" يَقتضي تَغلُّبَ/تَغليبَ نوع من "ٱلمَصالح ٱلمُشترَكة" بين "أكثريّة ٱلمُواطِنين" على النّحو الذي يُهدِّد، في ٱلواقع، حُقوق "ٱلأقليّات" بما هي مَصالِح خاصة وفئويّة يَصعُب أخذُها بعين ٱلِاعتبار في إطار سياسةٍ مُطالَبة باحترام "إجماع ٱلأغلبيّة" (الذي هو "إجماعُ مَصالِح"). لكنَّ ما يَمنعُ من تحوُّل "ٱلدِّمقراطيّة"، بما هي ٱشتغال وَفْق منطق "ٱلأغلبيّة/ٱلغَلَبة"، إلى مُجرَّد طُغيانٍ لمَصالِح "ٱلأكثريّة ٱلغالِبة/ٱلمُتغلِّبة" على حساب "أقليّة مَغلُوبة/مُستضعَفة" هو أنَّ التّصرف الفعليّ لا يَرجعُ مُطلقًا إلى "أكثريّة" مُعيَّنة، وإنّما يَرجعُ دائمًا إلى "مُمثِّلِي ٱلشَّعب" ليس فقط بصفتهم "أقليّة غالِبة/مُسيطرة"، بل بصفتهم أيضًا "فئاتٍ مُختلِفةً ومُتنازِعةً" (مُختلفةً قدراتُها ومُتنازعةً إراداتُها)! يَتبيَّنُ، إذًا، أنّه كما لا يُمكنُ تصويرُ "ٱلدِّمقراطيّة" كما لو كانت بالأساس "مِثالا/مَثلا أعلى" (نسق من المبادئ والقيم) يَشتغلُ آليًّا وبديهيًّا لتحقيق "ٱلحريّة" و"ٱلمُساواة" و"ٱلعدل"، فإنّه لا يَصِحُّ ٱعتبارُها "حُكمًا فعليًّا لأكثريّة ٱلشّعب". ذلك بأنَّ واقعَ المُمارَسة التّداوُليّة يَشهدُ من ٱلتّفاوُت وٱلتّنازُع ما يَكفي لجعل "ٱلدِّمقراطيّة" تَتحدّد، بالضرورة، وَفْق منطق "ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة" في إحاطته بكل أشكال الوجود والفعل البشريين بمُختلِف المجالات ٱلِاجتماعيّة. ف"ٱلدِّمقراطيّة"، إذًا، لا تُنهِي ٱشتغال "ٱلمُغالَبة" و"ٱلتّغليب" كسيرورة تداوليّة تدخل فيها "ٱلأقليّات" في إطار بحثها عن الوسائل التي تُعطِيها "ٱلأغلبيّة/ٱلمَشروعيّة" كأساس لامتلاك الحق في ٱستخدام "ٱلشرعيّة" لطلب هذه المصالح أو تلك، وإنّما تُضاعِفُ - بِحُكم قيامها على "ٱلتّداوُل ٱلمَدنيّ"- عملَ "ٱلإخفاء" و"ٱلتّخفّي" الذي تشتغل به ٱجتماعيًّا أنماط "ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة". وٱشتغال "ٱلدّمقراطيّة" على ذلك النّحو هو الذي يَقُود إلى مُواجَهة "ٱلعُنف ٱلرمزيّ" الذي يُمارَس، باسم "ٱلدِّمقراطيّة" نفسها، من خلال أنماط "ٱلتّطويع" و"ٱلإخضاع" التي تُقوِّي آثار "ٱللامُساواة" و"ٱلتّمييز" كما يُظهرُها تناوُلُ مَسالِك "ٱلمَحكُوميّة" المُتجليّة في آليّات "ٱلمُراقَبة" و"ٱلمُعاقَبة" ضمن "سياسة ٱلأجساد ٱلحيّة" ("فُوكو")، وفي آثار "ٱلتّمييز/ٱلتّميُّز" على مستوى الثقافة والتّعليم وٱلِاقتصاد والسياسة ("بُورديو")، وفي آليات "ٱلإقناع السّريّ" من خلال التّحكُّم في الجماهير بواسطة "ٱلدِّعاية ٱلإعلاميّة/ٱلإعتاميّة" ("تشومسكي")، ممّا يَجعل إبطال/بُطلان سحر "ٱلدِّمقراطيّة" يُكوِّن الطريق الأنسب لاستئناس "غِيلان ٱلسُّلْطة" في المدى الذي يَسمحُ بالدخول في "سياسةٍ واقعيّة" لتدبير "ٱلمَعقوليّة" كبحث موضوعيٍّ عن بناء معرفة حقيقيّة بكيفيات الوُصول إلى "ٱلكُليّ"، وهي الكيفيات التي تبقى محكومة بمنطق "ٱلتّنافُس" و"ٱلتّنازُع" في ٱشتغاله ٱلِاجتماعيّ وٱلتّاريخيّ. إنَّ إشكالَ "ٱلدِّمقراطيّة" - الذي يَعملُ دُعاةُ "ٱلعَلْمانيّة ٱلمُتطرِّفة" على تفاديه ويرتبك "ٱلإسلامانيُّون" في تَبَيُّنِه- لا يَكمُن فقط في كونها مبادئ غير أُحاديّة المعنى ولا تشتغل من تلقاء نفسها، وإنّما في كونها مبادئ تقبل أنْ تُوظَّفَ وتُستعمَلَ لشتى الأغراض بحسب ٱختلاف السياقات ٱلِاجتماعيّة، لأنَّ قانونَ "ٱلأغلبيّة/ٱلغَلَبة" ليس مجرد بحث عن "أكثريّة عدديّة"، بل هو قانون عامّ يتجاوز ما هو سياسيّ وقانونيّ ويشتغل ك"ٱقتصاد" ٱجتماعيّ لإنتاج وإعادة إنتاج بنيات "ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة" الرّاسخة تاريخيًّا وثقافيًّا. ومن هنا، فإنّ الأمر يتعلق بإشكال مُزعج ومُقلق إلى الحدِّ الذي لا يُفيدُ في تجاوُزه الحديث عن ضرورة وضع "حواجز واقِيَة" أو "مبادئ فوقيّة" لمنع تحريف وتزييف "رُوح ٱلدِّمقراطيّة"، لأنَّ واقعَ "ٱلتّداوُل ٱلتّنازُعيّ" يَتعيَّنُ ماديًّا كسيرورة دائمة لكَسْرِ الحواجز وتجاوُز المبادئ تعبيرًا عن رُسوخ "ٱلتّفاوُت" و"ٱلتّبايُن" في عمق الوجود والفعل البشريين. وبما أنَّ الإيمانَ ب"مِثال ٱلدِّمقراطيّة" لا يُجنِّبُنا مُواجَهة إكراهات "ٱلدَّمقرطة" كما تَتعيَّن واقعيًّا، فإنَّ المُشكلةَ الأساسيَّةَ في "ٱلدِّمقراطيّة" تَصيرُ مُتمثِّلةً في كونها تبقى "مَشروعًا غير مُنْتهٍ/غير مُكتمل"، مشروع ينفتح على كل المُهمّات المُتعلِّقة بالعمل المُستمرِّ على "تحييد ٱلسُّلُطات ٱلعُموميّة" و"ترشيد ٱلمُعامَلات" تمكينًا لسيرورة "ٱلتّحرُّر/ٱلتّحرير" تخلُّقًا وتخليقًا. ومن ثَبَتَ رفضُه لكل أشكال "ٱلِاستبداد" و"ٱلطُّغيان" و"ٱلتّسلُّط"، لا يُمكنه أنْ يَستسلمَ للتّناوُل السهل الذي يجد أصحابُه ضالّتهم في ٱستبدال طاغوت بآخر أو يَتصوَّرُون أنَّ "ٱلكُلّيّ" لا يَتّخذ معناه إلا كتنزيل فوقيّ وقَبْليّ وقَسريّ خارج كل إمكان لمُناقشته وتكييفه حسب مُقتضيات الحال وإمكانات المَقام ؛ وإنّما الرِّهانُ كلُّه قائمٌ في بُلُوغ الغاية لإعمال "ٱلِاجتهاد" مُدافعةً مَدنيّةً ومُغالَبةً عُمرانيّةً لطلب الصواب والصلاح في إطار تَداوُلٍ تَوافُقيٍّ وتَشاوُريٍّ. وفي هذا كله تَبرُز "رُوح ٱلإسلام" جليّةً رغم أُنوف المُبطلين، وهي رُوحُ تذكيرٍ وتكليفٍ قِوامُها "ٱلتّسامُح" («أفأنتَ تُكْرِهُ النّاس حتّى يكونوا مُؤمنين؟!» [يونس: 99] ؛ «قال: "يا قوم أرأيتم إنْ كُنْتُ على بَيِّنةٍ من ربّي وآتانِي رحمةً من عنده فعُمِّيَتْ عليكم، أَنُلْزِمُكُمُوها وأنتم لها كارهون؟!» [هود: 28]) والحضّ على "ٱلعدل" («إنّ ٱللّهَ يَأمُركم أنْ تُؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حَكَمتم بين النّاس أنْ تحكموا بالعدل. إنّ ٱللّهَ نِعِمّا يَعِظُكم به ؛ إنّ ٱللّهَ كان سميعًا بصيرًا.» [النساء: 58] ؛ «يا أيّها الذين آمنوا كُونوا قَوّامين بالقسط، شهداء للّه.» [النساء: 135]) والحثّ على "ٱلشُّورى" ((«[...]، وأمرُهم شُورى بينهم.» [الشُّورى: 38] ؛ «[...]، وشَاوِرْهُمْ في الأمر.» [آل عمران: 159]). وأكيدٌ أنَّ "ٱلمُبطلِين" لن يَرَوْا في ذالك غير تكرار لمَواعِظَ مُنْتقاةٍ أو ذرائعَ مُفْتراةٍ، ليس فقط لأنّهم أُناسٌ في قُلوبهم مَرضٌ، وإنّما لأنّهم يَسْبَحُون في مياه أهوائهم غافلين عمّا يُحرِّكُهم في أعماق أنفسهم، فلا يكادُ أحدُهم يَظهرُ على أنّه إنّما يَجْترُّ مَأثوراتٍ لغيره تَشرَّبَتها نفسُه حتّى جرى بها لسانُه أحاديثَ مُرسَلةً أُظْهِرَ بيانُها وأُضمِرَت مَوعظتُها. وهيهات لمن كانت هذه حالَه أنْ يَتبيَّنَ أنّ كونَ الدُّنيا تُؤخذُ غِلابًا لا يُعفِي من أنْ يَكونَ طلبُها جِهادًا بالتي هي أحسن كما يَأمُر "ٱلإسلامُ"! [email protected]