اِستنكر كثيرٌ من المغاربة تَدخُّل "النِّظام المخزنيّ" في الِاستفتاء الأخير على الدستور بتوظيف "الدِّين" (من خلال "المجلس الأعلى للعلماء" ببيانه المُؤيِّد وٱستنفار مُريدِي "الزّاوية البوتشيشيّة" وأئمة المساجد للمُظاهَرة في الشارع، وباستعمال خُطبة الجمعة لحضِّ المُصلِّين على التّصويت ب"نعم") ؛ وهو ٱستنكار يدل، من بين أُشياء أخرى، على رفض إقحام "ٱلإسلام" في مجال التّسخير العَقَديّ والفِكْرَوِيّ (أو "ٱلإديولوجيّ") لعامّة النّاس. وإذا كان هذا ٱلِاستنكارُ يبدو طبيعيًّا بالنِّسبة ل"ٱلعَلْمانيِّين" (في قولهم بضرورة تحييد "ٱلدولة" تُجاه "ٱلدِّين")، فإنَّ إتيانَه حتّى من قِبَل بعض "ٱلإسلامانيِّين" يُؤكِّد أنّ ٱلِاستعمالَ السياسيّ ل"ٱلإسلام/ٱلدِّين" يُعدّ أمرًا مرفوضًا ويُمكن أنْ يكون مُنطلقًا للتّفكير في طبيعة "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" (« l'Etat rationnel ») في علاقتها ب"ٱلدِّين". وينبغي، بهذا الصدد، التّنبيه إلى أنّ التّوظيف السياسيّ وٱلفِكْرَويّ ل" ٱلإسلام/ٱلدِّين" من قِبَل "ٱلنّظام المخزنيّ" بالمغرب (وليس فيه وحده) ليس ظاهرةً عَرَضيّةً أو مُحدَثةً، بل إنّ هذا النِّظام لا يَقُوم كنظام ٱستبداديٍّ وتَسلُّطيٍّ إلا لكونه نظامًا طالما مارَس "ٱلوصاية" على رعاياه في كل شيء، وبالأحرى من خلال ٱستبداده بالشّأن الدينيّ. ولهذا، فالِاستنكار يَصير أكبر وأعمق ما دام جزءٌ كبير من "ٱلتّسخير" و"ٱلتّضليل" الذي يخضع له الشعب المغربيّ إنّما يتم على أساس كون "ٱلإسلام/ٱلدِّين" من بين ما تحتكره "ٱلدولة" في إطار ٱحتكارها ليس فقط للاستعمال المشروع للعنف الماديّ، وإنّما أيضا لِ"ٱلعنف ٱلرمزيّ" الذي يبدو أنَّ كثيرين يَمرُّون عليه غافلين بشكل مُضاعَف، من حيث طبيعة "ٱلعنف ٱلرمزيّ" القائمة - كما يُؤكِّد "بُورديو"- على "ٱلتّجاهُل" و"ٱلِاعتراف" معًا، ومن حيث كونُه - في حالتنا الخاصة- يرتبط بالدِّين الإسلاميّ الذي له حُرمة عُظمى في قُلوب الأكثريّة! وإنّه لمن المُفارَقات الكُبرى أنَّ "ٱلإسلامانيِّين" (أيْ المُتطرفين في تَصوُّر "ٱلإسلام" والعمل به بما هو دين) و"ٱلعَلْمانيِّين" (أيْ المُتطرفين في تصوُّر "ٱلوضع ٱلبشريّ" والعمل بمُقتضاه بما هو وُجود ضمن شروط وحُدود هذا "ٱلعالَم") يشتركون في إرادة إلزام عامّة النّاس بما يُفقدُهم حقَّهم الطبيعيّ والمدنيّ في ألا يَتعبَّدوا بشيء إلا ٱختيارًا (وليس ٱضطرارًا). ومن هنا، فإنَّ منع النساء من ٱرتداء "ٱلحجاب" و/أو "ٱلنِّقاب" في المجال العموميّ (كما في بعض الدول "ٱلعَلْمانيّة") ليس سوى الوجه الآخر لمنع تبديل "ٱلدِّين" أو الجهر بالمُعتقَد المُخالِف (كما هو غالِبٌ لدى المسلمين)! وحينما يَتعلَّق الأمرُ ب"ٱلدّولة ٱلرّاشدة" في علاقتها ب"ٱلإسلام"، فلا بُدّ من العمل - ٱبتداءً- على ٱطِّراح كثيرٍ من الصِّيَغ ٱلِاختزاليّة والصُّور التّبسيطيّة التي يَتوسَّل بها بعض المُتدخِّلين لتشريع رُؤاهم والتي تفضح، في آن واحد، السُّبات الفِكْرويّ والنُّزوع التّضليليّ المُميِّزين لمواقفهم بهذا الخصوص. فلا يَصِحُّ أنْ يُختزَل "ٱلإسلامُ" في "ٱلدِّين"، لأنّ الواقعَ ٱلِاجتماعيّ والتّاريخيّ للمسلمين عَرَف بناءً ثقافيًّا وحضاريًّا مشهودًا ومُتميِّزًا ؛ ولا يُعقَلُ تخصيصُ "ٱلدّولة" بصفتها حصرًا "مدنيّةً" للتّمكُّن من مُقابَلتها مع ما هو "دينيّ" كما لو كان ذا طابع "بدائيّ" أو "وحشيّ" و، من ثَمّ، وَصْمه باعتباره "غير ٱجتماعيّ" (ربطًا له بالعنف) و"غير إنسانيّ" (وصفًا له بعدم التّسامُح ومُصادَرة الحريّة). ذلك بأنَّ "ٱلدّولة" بناءٌ بشريٌّ وتاريخيٌّ ٱشتركت المجتمعاتُ الإنسانيّة في تسويته منذ أقدم العصور إلى أنْ ٱنتهت إلى الصورة التي صارت عليها في الفترة الحديثة بحيث أصبحت تَتحدَّد ك"دولة حديثة" في مُقابل كل أشكال "ٱلدولة القديمة". وينبغي، بهذا الصدد، تأكيد أنّ أهميّة "ٱلقانون" و"ٱلمُؤسَّسات" في "ٱلدولة الرّاشدة" يَجعلُ بناءَها قد بدأ قبل أُسطورة "ٱلدِّمقراطيّة اليُونانيّة" بعدة قُرون من خلال ٱستحضار "قانون حمّورابي" و"ٱلتّنظيم الإداريّ" في مُدن بلاد الرافدين ومصر مثلا. كما ينبغي ٱلِانتباه إلى أنَّ مُؤسِّسي "ٱلحق ٱلطبيعيّ" (في تَعارُضه الظاهريّ مع "ٱلحق ٱلإلاهيّ") كانوا على صلةٍ لا فقط بالإلاهيّات المسيحيّة واليهوديّة ("تُوماس الأكوينيّ" و"إسپينوزا")، بل بالكتابات المقدسة في تأسيسها للشرعيّة الطبيعيّة (والخُلقيّة) للعقل (ٱبتداء ب"غُروتيوس" و"ديكارت"، وٱنتهاء ب"كنط" و"هيغل"). وهكذا، فإذا كانت أُسسُ "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" تَتمثَّل في "ٱلشّريعة/ٱلقانون" (كوضع معقول يَضمن المُساواة في الحقوق والواجبات بين أعضاء المجتمع الواحد) و"ٱلتّنظيم الإداريّ/المُؤسَّسيّ" (كإجراءات وظيفيّة لاشخصيّة لتحقيق الحاجات الحيويّة في حُدود مبادئ وقواعد "ٱلشّريعة/ٱلقانون") و"ٱلمجتمع ٱلمدنيّ" (كإرادة عامّة للتّعاقُد والتّضامُن و، من ثَمّ، للمُراقَبة والمُحاسَبة)، فإنَّ تحديدَ علاقة "ٱلإسلام/ٱلدِّين" بهذا "ٱلمَثل ٱلأعلى" القانونيّ والأخلاقيّ والسياسيّ يُمكن (ويجب) أنْ يَتمّ من خلال النّظر في مدى ٱستجابة "ٱلإسلام" مبدئيًّا لكل تلك المُقوِّمات. طبعًا، من المعروف أنّ الذين يَتقوَّلون على "ٱلإسلام" في صلته ب"ٱلدّولة ٱلرّاشدة" إنّما يَميلون إلى تصويره كما لو كان دينًا طائفيًّا أو قَبَليًّا على النّحو الذي يَجعلُه مُتعارِضًا في جوهره مع مُقوِّمات "ٱلدّولة ٱلرّاشدة": فهُو، في زعمهم، دينٌ قائمٌ على "ٱلوحي" (وليس "ٱلعقل") الذي يَتمثّل في "ٱلشّريعة" كأحكام وحُدود إلاهيّة ثابتة وكُليّة (وليست وضعًا بشريًّا ونسبيًّا في إطار أُصول عامّة ومُطلقة) وأنَّ "أُمّةَ المُسلمين" أفضل من غيرها (وليس أنّ النّاس سواسية كأسنان المُشط، وإنّما يتفاضلون بالعمل والمُعامَلة) وأنّ "ٱللّه" هو الذي يَحكُم ولا مُعقِّب لحُكمه (وليس "ٱلشّعب" أو "ٱلأُمّة" تكليفًا وٱبتلاءً). ومن البَيِّن أنّ هذا التّخريج لو صَحّ - كما في ظنِّ المُبطلين- لكان "ٱلإسلام/ٱلدين" يَقَعُ بعيدًا عن "ٱلمَثل ٱلأعلى" ٱلمُقوِّم ل"ٱلدّولة ٱلرّاشدة"، بل إنّه سيَقعُ دُونه بدرجات. ولا يَخفى أنّ خُصوم "ٱلإسلام" إنّما يَعرِضُونه بتلك الصورة ٱلِانتقائيّة وٱلِاختزاليّة ليَسهُلَ عليهم ٱلِانتهاء إلى تأكيد تَعارُضه مع "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" كنتاج يَعدُّونه مُرتبطًا حصرًا بما يَتحدَّد كتنوير "عقلانيّ" و"حداثيّ". لكنَّ أيَّ تَناوُلٍ نَسقيٍّ وشُموليّ من شأنه أنْ يُثْبِتَ مَوضوعيًّا أنّ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" يَقُوم على أُصولٍ ومبادئَ تَتَّفق مع جوهر "ٱلدّولة ٱلرّاشدة". ذلك بأنَّ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" يَنُصّ في كُليّاته المُحكَمة على "ٱلمُساواة في ٱلكرامة ٱلآدميّة" («يا أيّها النّاس! إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شُعوبًا وقبائل لتَعارَفُوا ؛ إنّ أكرمَكم عند الله أتقاكم ؛ إنّ الله عليم خبير.» [الحُجرات: 13] ؛ و«يا أيُّها النّاس! إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد ؛ ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتّقوى.» ["البيهقي" و"أحمد"])، وعلى "حريّة ٱلِاعتقاد وٱلتّعبُّد" («لا إكراهَ في الدِّين، قد تَبيَّن الرُّشد من الغيّ.» [البقرة: 256] ؛ «أَفَأنتَ تُكْرِهُ النّاس حتّى يَكُونوا مُؤمنين؟!» [يونس: 99])، وعلى أولويّة "العدل" و"القِسط" («يا أيّها الذين آمنوا كُونوا قَوّامين بالقسط، شهداء لله.» [النساء: 135] ؛ «إنّ اللّهَ يَأمُر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى [...]» [النّحل: 90] ؛ «إنّ اللّهَ يَأمُركم أنْ تُؤدُّوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين النّاس أنْ تحكموا بالعدل. إنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكم به ؛ إنّ اللّهَ كان سميعًا بصيرًا.» [النساء: 58])، وعلى إناطة "ٱلتّكليف" ببُلوغ الرُّشد وإعمال "ٱلعقل" ٱجتهادًا وتَبيُّنًا («ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ، إنّ السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا.» [الإسراء: 36] ؛ ومبدأ «لكل مُجتهدٍ نَصيبٌ.»)، وعلى أهميّة "المشروعيّة ٱلجماعيّة" من خلال جعل أمر النّاس رهنًا ب"ٱلشُّورى" و"ٱلإجماع" في الرأي وليس موضوعا لتفرُّد الأرباب وٱستبداد الطُّغاة («[...]، وأمرُهم شُورى بينهم.» [الشُّورى: 38] ؛ «[...]، وشاورهم في الأمر.» [آل عمران: 159]). ولهذا كله، فلا مكان في "الإسلام" لكهنوت رجال الدِّين الأوصياء على العباد، ولا للكنيسة التي تَحتكر "الخلاص" الروحيّ وتَستجمع "السُّلطان" الدُّنيويّ «باسم ٱللّه». وبِناءً على ذلك، فقد عرفت "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" دفعةً قويّةً مع قيام "الإسلام" (القرن السابع الميلادي) قبل أنْ يُستكمَل بناؤُها حديثا في "الدِّمقراطيّات اللّبراليّة". ولأنّ "الإسلام/الدِّين" لا يدعو إطلاقًا إلى بناء "الدّولة الكنسيّة/الدينيّة"، فإنّه لا يَصِحّ تَحميلُه وزرَ المُلْك الوراثيّ والجَبْريّ الذي سُمّي ب"ٱلخلافة" ٱلتباسًا تاريخيًّا وتلبيسًا سياسيًّا والذي يُعدّ، بميزان الشّرْع والواقع كليهما، ٱغتصابًا لحَقِّ الأُمّة في ٱختيار أُولِي أمرها وطاعتهم مُبايَعةً لا إكراهًا في إطار "دولة راشدة" قائمة على "ٱلشّرعيّة ٱلقانونيّة" (كاجتهاد عقليٍّ ونسبيٍّ في ٱستنباط "ٱلأحكام ٱلشرعيّة" الذي عُرِف عند المُسلمين ب"ٱلفقه") وعلى "المشروعيّة الشعبيّة" ("ٱلشُّورى" كحقٍّ مَكفُول للأُمّة كلِّها ٱجتهادًا حُرًّا وإجماعًا تَوافُقيًّا). ومن حيث إنَّ "ٱلدّولةَ" ليست مجرد مجموعة من "ٱلأجهزة" ٱلقانونيّة والمُؤسَّسيّة التي تَشتغل آليًّا كسلطة ل"ٱلتّسخير" و"ٱلتّطويع" (كما كان يَظُنّ "ألتوسير")، وإنّما هي جُملةٌ من "ٱلحُقول" التي تَشتغل تكوينيًّا وبنيويًّا كحركيّة ٱجتماعيّة مدارها "ٱلتّرشيد" و"ٱلتّفعيل" كرهانات وخُطط ذات قيمة حيويّة (كما يُؤكِّد "بُورديو")، فإنَّ كونَ "ٱلألعاب" (المُتعلِّقة بمُختلِف تلك "ٱلحُقول") مَشروطةً ٱجتماعيًّا وتاريخيًّا ومُوجَّهةً بنيويًّا وتَنازُعيًّا يجعل "ما هو ثقافيّ" مُرتهنًا - في الغالب- ب"ما هو ٱجتماعيّ" كضرورة موضوعيّة لا تَقُوم الفاعليّة الذاتيّة إلا بالنِّسبة إليها. ولهذا، فإنّ ٱعتبارَ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" من أسباب ٱلِاستبداد المُكرَّس تاريخيًّا في المجتمعات العربيّة/الإسلاميّة يُعدّ سُخْفًا سجاليًّا محضًا، لأنّه بتغييبه للشُّروط "ٱلماديّة" المُحدِّدة لواقع السيطرة يُعطي ل"ما هو ثقافيّ" نوعًا من القُدرة الروحيّة المُستقلِّة ذاتيًّا، فيُغفِلُ بذلك أنّ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" يُمْكِنُه - رغم ٱلِانقلاب التّنويريّ والتّحريريّ الذي أحدثه منذ القرن السابع الميلاديّ- أنْ يرتهن لبنيات ٱجتماعيّة وتاريخيّة مُعيَّنة تَجعلُه تابعًا وخادمًا لأوضاع التّخلُّف وٱلِاستبداد تماما كما تَصيرُ "ٱلدّولةُ الرّاشدة" عينُها في مثل هذه الحالة "دولةً فاسدةً/مُفسدةً" (« rogue state/Etat voyou »)، حيث يُسخَّرُ "ٱلمُجتمعُ ٱلمدنيّ" ثقافيًّا وٱقتصاديًّا وسياسيًّا لخدمة أقليّةٍ مُتغلِّبة من ٱلِانتهازيِّين والمُضلِّلين المُتكالِبين بلا مِلَّة ولا ذِمّة. ومن ثَمّ، فإنَّ الذين يَرفُضون أنْ يكونَ "ٱلإسلامُ" دينًا داعيًا إلى "ٱلرُّشْد" وقائمًا، بالتالي، في صورة "راشديّةٍ" في الحُكْم و"ترشيد" في التّدبير سيكون عليهم أنْ يُعْلِنُوا أساسَ رفضهم هذا الذي ليس شيئًا آخر سوى كونهم يَعتقدون أنَّ "ٱلدِّين" عمومًا يُمثِّل "بقيّةً لاعقلانيّةً" يَجب تَجاوُزها - في ظنِّهم- بمقتضى التّقدُّم العلميّ والتقنيّ كأخلاق إنجازيّة تجعل الإنسان سيِّد مصيره. ولذا، فإنَّ الرَّفض العَلْمانيّ للدِّين مُطالَبٌ بأنْ يُدلِّل عقليًّا (بل علميًّا) على الأساس ٱلِاعتقاديِّ فيه ٱلمُقوِّم لاشتغاله العَمَليّ ذاك حتّى يَسُوغ لأصحابه ٱطِّراح "ٱلدِّين" (وبالخصوص "ٱلإسلام") باعتباره يَتعارض بإطلاق مع كل "تعقيل" أو "ترشيد". وأنّى لهم ذلك، وَهُم الذين لا يَفعلون في الغالِب إلا ٱتِّخاذ ٱعتقاداتهم الخاصة كما لو كانت "مبادئ عقليّة" أو "خُلاصات معرفيّة" تَصلُح لأنْ يُبنى عليها كل ما يُؤتى من أشكال "ٱلتّمييز" و"المُفاضَلة"، لأنّها - في ظنِّهم- نتاجُ "ٱنتقادٍ محض" يَسمُو على كل تشريط ٱجتماعيّ وتاريخيّ من شأنه أنْ يُحدِّد أشكال الحياة تلك بصفتها نُزوعًا معلولا نحو "ٱلتّميُّز" ٱلِاجتماعيّ والثقافيّ بحسب الظروف الخاصة بالمجتمع! لذلك، فإنّ أصحاب التّوجُّه العَلْمانيّ لا يَدَّعُون "ٱلتّميُّز" إزاء "ٱلدِّين" (أو، أحسن، إزاء "ٱلمُتديِّنين") إلا لأنّهم يَعتقدون ٱختصاصهم ب"ٱلعقل" لمجرد تَظاهُرهم بالِانتصار له على النّحو الذي يُؤتيهم وحدهم الحق في ٱدِّعاء "ٱلحِياد" أو "ٱلإعراض" (في مقابل "ٱلإغراض"). غير أنَّ "ٱلعقل" لا يَستقلُّ بنفسه في "ٱلإدراك" و"ٱلحُكْم" و"ٱلفعل" كما لو كان مُطلقًا ومُتعاليًا، بل إنّه لا يَملك أنْ يكون إلا "فعلا تاريخيًّا" مُحدَّدًا بالنِّسبة إلى مجموع الشروط التي تَحكُم مَسارات الفاعلين ٱلِاجتماعيِّين ضمن مجتمعهم وثقافتهم الخاصين. ولعلّ ٱلِانحراف الذي عُرف مع "ٱلمُعتزلة" قديمًا ومع "ٱلشُّيوعيّة" حديثًا يُمثِّل خير دليل على إمكان ٱلِاشتغال الفِكْرويّ والتّسلُّطيّ للعقل حينما يَتحوَّل إلى أداةٍ لفرض "عقيدة خاصة" تَعالُمًا وتَكالُبًا، بل إنّ في النُّزوع نحو التّضليل «باسم ٱلعِلْم» -كما يُمارِسه حاليًّا بعض "أنصاف ٱلدُّهاة" من المثقفين الإعلاميين- لشاهدًا حيًّا على ٱلِارتهان ٱلِاجتماعيّ وٱلتّاريخيّ للعقل، بحيث يصير الإيمانُ العَلْمانيُّ بتَعالِي "ٱلعقل" (كمعيار أسمى من "ٱلدِّين") إيمانًا مُتنكِّرًا يَفضحُ ذلك التَّحيُّز الذي يَأبى الإفصاح عن نفسه تَواضُعًا وتَوَضُّعًا! فمن السذاجة، بالتالي، أنْ يُنظَر إلى التّوجُّه العَلْمانيّ كما لو كان - في ٱدِّعاء ٱلتزامه ب"ٱلعقل"- خالِصًا ومُتخلِّصًا من كل الأهواء والأغراض المُلازِمة ٱجتماعيًّا لوجود وفعل الإنسان في هذا العالَم ؛ وهو الأمر الذي يَجعلُ "ٱلحِياد" المُفترَض في عمل "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" مسألةً نسبيّةً في المدى الذي لا يُمكن (ولا يَصِحّ) أنْ يُعطَّل نهائيًّا "ٱلِاعتقاد" و"ٱلِالتزام" لدى "مُوظَّفي ٱلدّولة" الذين يَبقَوْنَ، رغم كل شيء، أُناسًا مُنغمسين ٱجتماعيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا في مُحيطهم الخاص. إنّهم، في الواقع، ليسوا "آلات رابوطيّة" تَفعلُ إلزامًا ولا تَنفعل ٱلتزامًا، ما دام الإنسانُ لا يَتميَّز ككائن ضمن هذا العالَم إلا بما هو "فاعِل مُتحرِّر" يَسعى إلى "تَحييد" نوازعه ومُيوله بقدر ما تَتوفَّر الشروط الموضوعيّة التي تَجعل له مصلحةً في ٱلتزام "ٱلحياد" ٱعتقاديًّا وقِيمِيًّا. فحُضور "ٱلأخلاق" في شُمولها وتجذُّرها ٱجتماعيًّا وثقافيًّا هو الذي يَجعل "ٱلإلزامَ القانونيّ" (بواسطة سلطة "ٱلمُراقَبة" و"ٱلمُعاقَبة") و"ٱلتّحييد ٱلمدنيّ" (بواسطة "ٱلتّعليم" و"ٱلإعلام" كسلطة ل"ٱلتّسخير" و"ٱلتّطويع") غير مُنْفكَّيْن عن أنواع "ٱلتّوجيه ٱلِاعتقاديّ" و"ٱلتّحيُّز ٱلقِيميّ"، ممّا يَقتضي أنّ إرادةَ فصل "ٱلدِّين" (وبالخصوص "ٱلإسلام") عن المجال العُموميّ لا مُبرِّر معقولا له سوى "ٱلتّحكُّم" الذي يَجهَلُ أصحابُه أنّه لا يَقُوم بصفته كذلك إلا على أساس "ٱلتّشهِّي" و"ٱلتّسلُّط"! يَتبيَّن، إذًا، أنَّ رفض "ٱلدّولة ٱلرّاشدة" - في قيامها على "ٱلشّرعيّة ٱلقانونيّة" و"ٱلمُواطَنة ٱلكاملة" و"ٱلحِياد ٱلدينيّ"- بدعوى أنّ "ٱلإسلام/ٱلدِّين" لا يَسمحُ بذلك يُعَدّ إمّا سُوء فهمٍ وإمّا إساءةَ ٱستعمالٍ، وكلاهما يُشكِّلان ذَريعةً لِاستدامة ٱلِاستبداد ظُلمًا وفسادًا. وبالمثل، فإنّ الميل إلى تَنقُّص "ٱلإسلام" باعتباره دينًا "لاعقلانيًّا" و"لاإنسانيًّا" يُمثِّل سوء تأويل يَزدوج بسوء نية تعبيرًا عن تَطرُّف مُتنكِّر باسم "ٱلعقلانيّة" و"ٱلعَلْمانيّة"، تَطرُّف يَتجلَّى واقعيًّا كنضال "فِكْرويّ" (أو "إديولوجيّ") يُمارِس التّضليل بلا قيد ولا شرط. ولهذا، فإنّ "ٱلإسلامانيّة ٱلجامِعة" و"ٱلعَلْمانيّة ٱلمانِعة" ليستا سوى وجهين لعُملةٍ واحدة تَتجسَّدُ في إرادةِ مُمارَسة "ٱلوصاية" على النّاس إمّا «باسم ٱلدِّين» وإمّا «باسم ٱلعقل». والحال أنّ "ٱلإسلامَ" لم يَأْتِ إلا ليُعلِنَ بُزوغَ عصر "ٱلرُّشْد" ٱنفكاكًا من وصاية الأرباب وتَسلُّطهم وقيامًا لسُلطان الألباب وحُكمها، ٱنفكاك وقيام يَظهران في فتح أبواب "ٱلِاجتهاد ٱلعقليّ" وتوسيع آفاق "ٱلمُجاهدة ٱلعَمَليّة" مُغالَبةً عُمرانيّةً في طلب الصواب وتحقيق الصّلاح. ولأنّ الأمرَ كُلّه مَنُوطٌ لا فقط ببذل اليسير من الجُهد، وإنّما ببذل قُصارى الجُهد للتَّمكُّن من مُغالَبة الآخرين في "ٱلجُهد ٱلعُمْرانيّ" ترشيدًا وتسديدًا، فإنَّ كُلًّا من التَّوجُّهين المَعنيَّيْن لا يُعبِّران إلا عن داء ٱلِاستسهال وٱلِاستعجال ٱلمُورِث للتّخلُّف والخِذْلان، من حيث إنَّ من يَرى أنَّ كمالَ "ٱلدِّين" يَجعل "ٱلتّكليف" يُساوِي "ٱلتّشريف" بمجرد البذل أشبه بمن يرى أنَّ كمال "ٱلعقل" يَستلزم رفع "ٱلتّكليف" ٱعتقادًا وإبقاءَ "ٱلتّشريف" ٱنتقادًا. وشتّانَ بين من يَأخُذ "ٱلوُجود" في هذا العالَم مأخذ من يَعترف ل"ٱلواجِد" حَمْدًا وشُهودًا وبين من لا يرى في إخلاده إلى الأرض إلا هذا الصراعَ الدُّنيويَّ بَطَرًا وجُحودًا!