سيظل البلاغ الصادر عن المكتب السياسي للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والمؤرخ بفاتح يوليوز 2011 حدثا مؤلما ومحزنا حقا، نظرا لتاريخ الحزب العريق في الدفاع عن حرمة الاقتراع. لم يجد المكتب السياسي أي حرج في التصريح بأنه "يثمن النهج المتطور والمتقدم الذي طبع مناخ الحملة، حيث أتاح لمختلف التعبيرات المؤيدة والمعارضة لمشروع الدستور، إمكانية التوجه إلى المغاربة عبر التجمعات ووسائل الإعلام السمعية البصرية". وبمعنى آخر، فإن الاستفتاء الدستوري مر بالمغرب كما تمر الاستفتاءات في السويد. لم يكن هناك عنف، ولم يتعرض المعارضون لأي اعتداء أو تهديد ممنهجين، ولم تُوظف وسائل الدولة في الحملة لصالح "نعم"، ولم يُمارس أي نوع من الضغط على الناخبين، ومن يقول بعكس ما جاء في البلاغ المشار إليه، إنما تعرض لكوابيس ليلية ناجمة عن تخمة في العدمية والتطرف أو استبد به جنوح نحو الرفض المطلق الذي لا يعجب صاحبه العجب العجاب أو الصيام في رجب. من حسن الحظ أن مسؤولين في الحزب نددوا ببعض أوجه الخرق التي تبدَّت لهم خلال مجريات الاستفتاء. هناك أطراف أخرى تحدثت عن وقوع تجاوزات، ولكنها اعتبرت أن هذه الأخيرة لاتسمح بالتشكيك في الطوفان الهادر للأصوات المؤيدة للدستور، ولاتمس بمصداقية الاستفتاء في المحصلة الإجمالية. طبعا، في كل عملية استفتائية هناك نوعان من التجاوزات: النوع الأول عبارة عن أعمال جزئية متفرقة ومفصولة عن السياق العام ولم تنبع عن إرادة مركزية أو تخطيط رسمي مسبق أو رغبة منهجية في التأثير على النتيجة بخلفية سياسية. والنوع الثاني عبارة عن قرار سياسي ينطلق من التحصن المسبق ضد بعض النتائج غير المقبولة وغير المستساغة من طرف الجهات الرسمية. وهذه التجاوزات تمثل ترتيبا سياسيا يجرد اللعبة من طابعها المفتوح على كل الاحتمالات، ويجند كل وسائل جعلها في خدمة احتمال وحيد فقط. هناك مثلا في المغرب اليوم من ندَّد بأوجه للتجاوز خطيرة وممنهجة وتدخل بشكل طبيعي ضمن النوع الثاني، ولكنه لم يُرتب عليها آثارها الموضوعية، ولم يعتبر أنها تنال في العمق من جدية العملية الاستفتائية وتفقدها معناها وجوهرها. فكيف فات البعض مثلا، التوصل إلى أن فرض خطبة الجمعة على الأئمة في جميع أنحاء المغرب وبقرار مركزي، وبالمضمون الذي حملته، يعتبر إخلالا جوهريا وعميقا بأسس الاستفتاء الحر وضربا لمصداقيته ومسا بالحقوق الأساسية للمواطنة. وهذا كان يكفي دون تفاصيل أخرى إلى الخروج باستنتاج مؤداه أننا لم نكن قط أمام حرية للاختيار بل كنا أمام ضغط معنوي منظم. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مؤسسة عمومية، لها دور في الإرشاد الديني للمواطنين المغاربة المسلمين والمفروض أن هؤلاء يسيرون على هدي ما توصيهم به باعتبارها ناشرة لتعاليم الإسلام الصحيح. لايحق إذن لهذه الوزارة في قضية تُستفتى فيها الأمة وتُدعى إلى التصويت بنعم أو لا، أن تجعل التصويت بنعم تطبيقا للتعاليم الإسلامية ومظهرا من مظاهر طاعة الله ورسوله. أما طاعة أولي الأمر، فلا علاقة لها بالحالة التي يكون فيها هؤلاء قد طلبوا المشورة من أفراد الأمة، وعلى هذه الأخيرة أن تشير عليهم بهذا الرأي أو ذاك. شعبنا المغربي متشبت بإسلامه ومتعلق بدينه، وسيأخذ أفراده ربما ما جاء في الخطبة على أنه أمر رباني، وأن تعلقهم بدينهم يملي عليهم اختيارا وحيدا هو وضع "نعم" في صندوق الاقتراع. الحاضرون في كل مساجد المملكة دُعوا عملياً إلى اعتبار أن الإسلام هو (نعم)، وغير ذلك لايساوي الإسلام، لأن هذه الخلاصة أتتهم ممن يُفترض أن يطلعهم على ماهية الإسلام، وممن تعودوا منه أن يَدُلَّهُم على نهج الإسلام القويم. إن وزير الأوقاف، أراد أم كره، يمثل الدولة. وهذه الأخيرة إذن تضع في مراكز التصويت ورقتي (نعم) و(لا). وفي المساجد، نفس الدولة، تعتبر أن (نعم) هي طاعة الله والولاء للوطن، وبالتالي ف(لا) غير مشروعة. لو كان ما أقدم عليه الوزير هو مجرد تزيد من عنده واجتهاد شخصي، لكان قد أُقيل فورا، ولو كنا في بلد ديمقراطي، وفي حضرة استفتاء ديمقراطي لصدر بيان يُفتي بحرمة الخلط بين التصويت بنعم أو بلا وبين الولاء للدين أو للوطن، وأن كل مسلم أراد أن يصوت على هذا الوجه أو ذاك، بما يرضي ضميره، يظل على ولاء لدينه ولوطنه. ولو كان ما أقدم عليه الوزير مجرد مبادرة خاصة لما تجرأ على عزل كل من لم ينصع لأمر إلقاء الخطبة الرسمية. والمواطنون المغاربة عندما يشاهدون الطريقة التي تتعامل بها الدولة في هذا الحي أو ذاك، مع إمام رفض الدعاية الانتخابية لنعم، سيستنتجون بالبداهة، عدم وجود تسامح رسمي مع من يرفض (نعم) حتى ولو كان إماما فبالأحرى أن يكون مواطنا عاديا. ومعنى ذلك أن حرية الاختيار لم تكن مصونة في هذا الاستفتاء، ولدينا حجة رسمية موثقة على ذلك. وكيف فات الذين هلَّلوا للنتائج المعلنة أن يستخلصوا ما يجب استخلاصه من تأكيد باحثين مغاربة من أمثال ذ.محمد ضريف الذي لايُمكن أن يُنعث بالمعارض أو العدمي، والذي أكد "عدم حياد الإدارة الترابية" التي "انخرطت في حملة للدعوة إلى التصويت الإيجابي في الاستفتاء"-المساء ع 1486 – بتاريخ 2-3 يوليوز2011- ص 1و2، وأن هذا ثابت من ثوابت الاستفتاءات المغربية. الإدارة الترابية التي لم تلتزم الحياد خلال الحملة هي التي أشرفت على الاستفتاء وأعلنت النتائج، فكيف تكون إذن قد التزمت الحياد بالنسبة للنتائج؟ هناك صور ونصوص نشرتها الصحف المغربية المصنفة بأنها "مستقلة" اطلع عليها الناس، ولكن بعضهم تناساها عند إعلان النتائج، فبارك هذه الأخيرة بدون تحفظ، ولم يحفل بالأثر المباشر والمفترض لتلك المواد المنشورة على النتائج وعلى صدقيتها. فتزكية النتائج المعلنة اليوم يعني أن المغرب لم يعرف طوال حملة الاستفتاء الدستوري أي مظهر سلبي من مظاهر التأثير على النتائج. في مجلة (أوال) عدد 36-من 1 إلى 7 يوليوز 2011 وبالصفحة 21، نشاهد صورة خاصة بالمجلة، يظهر فيها شباب يمتطون عربة (هوندا) لنقل البضائع، ويحملون أعلاما وطنية، وصورا في إطارات زجاجية، ويلوحون بأسلحة بيضاء، والعربة مارة بشارع عام. وفي الصفحة 22 نشاهد شابا يعتلي سطح سيارة أُجرة وهو يلوح بعصا. إلى أين يتجه هؤلاء الشباب بأسلحتهم البيضاء، وهل حملة تأييد الدستور تقتضي خرق القانون وحمل أسلحة بيضاء بشكل جماعي والتجول بها في الشوارع وأمام أنظار الجميع. لماذا مارست الدولة " حيادا" إزاء أشخاص يحملون سيوفا وهراوات ويتحركون بكل حرية في الشارع العام. ماذا لو كان معارضو الدستور هم من يفعل ذلك، ألم تكن الدولة في هذه الحالة ستستخرج فصول القانون الجنائي وستتحدث عن مؤامرة خارجية تستهدف الأمن والاستقرار وترمي إلى إشاعة العنف والضغينة بين المغاربة وإشعال فتيل حرب أهلية. هل نستطيع القول أن التباري بصدد الدستور كان متكافئا بين شباب يحملون لافتات وشعارات، وشباب يحملون الحجر والعصي والقضبان الحديدية والسيوف. طبعا ليس كل شاب تظاهر لصالح الدستور لجا إلى هذه الوسائل، ومن حقه أن يتظاهر وأن يعبر عن رأيه، وهناك شباب وكهول خرجوا تلقائيا فرحين بالدستور ونقدر موقفهم، ولكن السمة البارزة والتي ارتبطت عموما مع كل أسف بالذين خاضوا حملات (نعم)، هي أن أجهزة الدولة أحلَّت لهم ما لم يكن ممكنا أن تُحِلَّهُ لغيرهم، علما بأن هذا الغير لم يطالب قط بأن يُحِلُّوا له ذات الشيء. هؤلاء الذين ظهروا بالصور يلوحون بأسلحة بيضاء، لاشك أنهم يفعلون ذلك اتجاه خصم معين. هذا الخصم على ما يبدو هو كل من يجرُأُ على معارضة الدستور علنا بالشارع بواسطة التظاهر. ألا يمكن أن ينصرف أثر خطاب تلك الصور والمشاهد إلى المواطن العادي الذي طُلب منه ضمنيا أن يفهم أن الدستور هو الملك ومن يعارض الدستور هو ضد الملك، وطُلب منه بواسطة حركات الشباب الممتطي للعربات والملوح بأسلحة أن من يعارض الدستور يستحق العقاب بالعنف، ولا مكان له في فضاء الوطن. المواطنون الذين شاهدوا مثل تلك العربات تتجول بمدنهم بكل حرية، ولايوقفها شرطي، ولايسألها أحد عن وجهتها، وعن الغاية من حمل الأسلحة، لن يشعروا أبدا بالاطمئنان والأمان وسيشعر عدد منهم بأن سلامته تقتضي الابتعاد عن شبهة الانتماء إلى صف المعارضين للدستور أو مناصرتهم أو حتى حضور تظاهراتهم. طبعا، قد يتساءل الكثير منا، هل مشاهد تلك العربات، تهم مدينة أو نقطة معينة، أو تشمل مختلف ربوع المملكة. وهذا معيار مهم للحكم على أثرها. للجواب على ذلك تطالعنا بجريدة الأسبوع الصحفي في غلاف عددها 1084-23 يونيو 2011، صورة لوكالة أ.ف.ب، يظهر فيها شاب يحمل عصا وشاب من حركة 20 فبراير يدعوه إلى التعقل، وفي الخبر المصاحب للصورة نقرأ ما يلي: اكتشف المغاربة عشية يوم الجمعة الأخير وصبيحة السبت، فئة مجتمعية كانوا يعتقدون أنها لا توجد إلا في الأفلام المصرية، والتي يُنعتون فيها ب"البلطجية". جحافل من المخلوقات المخيفة اجتمعت بقدرة قادر في "هوندات" وشاحنات وحتى كوتشيات، حملوا في البداية أعلاما وطنية جديدة الصنع، وصورا للملك محمد السادس، وراحوا يرددون "ملكنا واحد محمد السادس"، وطافوا مختلف أرجاء المدن المغربية. لكن وما إن طلعت شمس يوم الأحد 19 يونيو، موعد المظاهرات التي دعا إليها شباب 20 فبراير للمطالبة بمزيد من الإصلاحات، حتى كشفت تلك الفئة عن وجه آخر، حيث استبدلت الأعلام والصور الملكية بالعصي والقضبان الحديدية، والرحماء منهم تسلحوا بكميات كبيرة من البيض والطماطم، وكان الهدف هو شباب وشابات 20 فبراير، ومن كان يرافقهم في تلك المظاهرات فتفرَّج العالم بأسره على مشهد رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، خديجة رياضي، وهي تختبئ وراء أحد عناصر الأمن، بينما وأما أنظار مسؤولي هذا الأخير، كان حشد من تلك الفئة المغربية يهاجم المرأة المختبئة ويقذفها بما في يده من بيض وعصي. مشاهد أخرى طافت جميع أنحاء العالم، لا تقل فظاعة وإثارة للتقزز، مثل ذلك المشهد الآتي من شوارع مدينة آسفي، لمخلوقات من الفئة إياها، تركب إحدى الهوندات وتحمل العصي والحجارة. وتردد شعارا واحدا: "الشعب..يريد..الزلطة والفنيد". فيما وقف آخرون بمدينة الرباط أمام عدسات الكاميرا، وافتخروا بقيامهم بأسر عدد من شباب 20 فبراير، وتجريدهم من هواتفهم المحمولة وإشباعهم ضربا وركلا، ليس هذا الذي انتظره المغاربة من خطاب 17 يونيو". هذه المعطيات الواردة بالخبر، لماذا لم تكن موضوع تحقيق وطني؟ هل يُعتبر الاستفتاء الذي أُجري بدون مثل هذا التحقيق، مطابقا لقواعد حرية الاختيار وتكافؤ الفرص ولواجب ضمان سلامة وأمن المعارضين. في العدد 486 من جريدة أخبار اليوم (2-3 يوليوز 2011، نرى بالصفحة 3، صورة احد المصوتين يخرج من المعزل برفقه ابنه الذي يشهر على الملأ ورقة (لا) التي لم يضعها والده في الغلاف. ولا يشير الخبر المصاحب للصورة إلى تدخل رئيس المكتب ليطلب من الناخب الالتزام بسرية التصويت. في استفتاء 2011 كل شيء مباح، وبما أن قضية الاستفتاء قضية "مقدسة"، يكون آخر المُفَكِّر فيه هو القانون الانتخابي. وعندما نعرف بأن المصوت هنا هو عضو سابق بحركة 20 فبراير، وأن هدف المشهد الماثل في الصورة سياسي، يدخل ضمن منطق محاربة الحركة المذكورة، فلا تهم بعد ذلك الشكليات. مرة أخرى نتساءل لو أن أحد المصوتين ب (لا) صنع نفس الشيء؟ والمشكل نفسه تطرحه طريقة تصويت السيد محمد المغراوي رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة (المساء ع1486-2-3 يوليوز 2011-ص7) حيث رفض الدخول إلى المعزل ووضع ورقة (نعم) في الغلاف أمام أنظار الجميع – حسب الخبر المنشور بالجريدة والمرفق بصورة المغراوي وهو داخل مكتب التصويت – وقال "هذا العمل الذي نقوم به ديانة". ما الذي جعل الرجلين يشعران بالاطمئنان التام وهما يخالفان شكليات التصويت، إنه الاقتناع ربما بأن انتسابك للفريق المصوت بنعم يبيح لك أن تفعل ما تشاء في الشارع العام وفي الساحات وحتى داخل مراكز التصويت. إن المغراوي ليس شابا مندفعا عديم الخبرة، بل هو يعرف جيدا ما يفعله، إنه مثل الكثيرين الذين يعتبرون (نعم) تعبيرا عن الولاء للنظام وليس إبداءا لرأي بصدد مشروع دستوري، ويعلم أن منزلة أهل (نعم) داخل النظام وحقوقهم لن تكون ربما نفس منزلة وحقوق معارضي (نعم). في جريدة (الأيام) التي قال مديرها بأنه سيصوت بنعم ع481 بتاريخ 24-30 يونيو 2011 وبالصفحة 11، نقرأ ما يلي" لعل قناعة تشكلت لدى المتابع لما جرى الأحد الماضي بأن الأشياء لم تكن عفوية، فبنفس الطريقة خرج مؤيدو مشروع الدستور لمنع مسيرة حركة عشرين فبراير في آسفي، التي عرفت مواجهات دامية، والرباط والناظور وفاس والدارالبيضاء ومراكش وطنجة.. مواجهات مفتوحة بين رافضي الدستور ومناصريه الذين سُخرت لهم الحافلات والسيارات لنقلهم بهدف منع مسيرات العشرينيين، فنجحوا في إفشالها في مدن ولم يفلحوا في أخرى...". حسب (الأيام)، هناك إذن عملية منظمة وممنهجة وشاملة وتهم مختلف مناطق البلاد، وتطَلَّبَت توفير لوجستيك مُكَلِّف، هدفها منع معارضي الدستور من التظاهر أو الاتصال بالسكان، وانطبعت بممارسة العنف ضد أولئك المعارضين، وتمت بحجة تأييد الدستور. إن الذين نظموا هذه العملية أو سهَّلوا أمرها أو موَّلوها أو حموها، أفقدوا الاستفتاء مصداقيته وأفقدوا الأرقام المعلنة قيمتها السياسية. أسبوعية "الحياة الجديدة"