بوعلام صنصال.. صوت الضمير الجزائري الحرّ الذي يقمعه الكابرانات    لفتيت يستعرض التدابير الاستباقية لمواجهة الآثار السلبية لموجات البرد    الاتحاد الأوروبي يمنح المغرب 190 مليون أورو لإعادة بناء المناطق المتضررة من زلزال الحوز    تعزيز وتقوية التعاون الأمني يجمع الحموشي بالمديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية    الرجاء والجيش يلتقيان تحت الضغط    في سابقة له.. طواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية يعبر صحراء الربع الخالي    الوالي التازي يترأس لجنة تتبع إنجاز مشروع مدينة محمد السادس "طنجة تيك"    السكوري يلتقي الفرق البرلمانية بخصوص تعديلات مشروع قانون الإضراب    الإنترنت.. معدل انتشار قياسي بلغ 112,7 في المائة عند متم شتنبر    المدعو ولد الشنوية يعجز عن إيجاد محامي يترافع عنه.. تفاصيل مثيرة عن أولى جلسات المحاكمة    ارتفاع كمية مفرغات الصيد البحري بميناء الحسيمة    لاعبتان من الجيش في تشكيل العصبة    "الهاكا" تواكب مناهضة تعنيف النساء    تكريم منظمة مغربية في مؤتمر دولي    ليبيا: مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي يجدد التأكيد على أهمية مسلسلي الصخيرات وبوزنيقة    "البيجيدي": الشرعي تجاوز الخطوط الحمراء بمقاله المتماهي مع الصهاينة وينبغي متابعته قانونيا    غرق مركب سياحي في مصر يحمل 45 شخصاً مع استمرار البحث عن المفقودين    حموشي يستقبل المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية بالرباط    المغرب يفقد 12 مركزاً في مؤشر السياحة.. هل يحتاج إلى خارطة طريق جديدة؟    ريال مدريد يعلن غياب فينسيوس بسبب الإصابة    «الأيام الرمادية» يفوز بالجائزة الكبرى للمسابقة الوطنية بالدورة 13 لمهرجان طنجة للفيلم    في لقاء عرف تفاعلا كبيرا .. «المجتمع» محور لقاء استضافت خلاله ثانوية بدر التأهيلية بأكادير الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي    تكريم الكاتب والاعلامي عبد الرحيم عاشر بالمهرجان الدولي للفيلم القصير بطنجة    انعقاد مجلس للحكومة يوم الخميس المقبل    بعد رفض المحامين الدفاع عنه.. تأجيل محاكمة "ولد الشينوية"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    استئنافية فاس تؤجل محاكمة حامي الدين إلى يناير المقبل    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون        استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



'العَلْمانيّة' بين تحييد الدولة وتعطيل الدين
نشر في هسبريس يوم 25 - 05 - 2011

لا ريب في أنَّ "ٱلعَلْمانيّة" مَسألةٌ شديدةُ الإشكال، ليس فقط لأنَّ الذين يُوصَفُون (أو يَصِفُون أنفسهم) ب"ٱلعَلْمانيِّين" يَختزلونها غالبًا في معنى «فصل ٱلدين عن ٱلدولة» باعتباره أحد مُقتضيَات "ٱلتنوير ٱلعقلانيّ" و"ٱلتحرير ٱلحَداثيّ"، وإنّما أيضًا لأنَّ الذين يرون أنَّ "ٱلدِّين" لا ٱنفكاك للإنسان عنه مُطلقًا يَجدون أنَّ ذلك المعنى الِاختزاليّ يَجعلُ "ٱلعَلْمانيّةَ" مُساوِيةً ل"ٱللَّادِينيّة" (التجرُّد من "ٱلدين" بإطلاق)، مِمّا يَستلزم -بالتالي- أنَّها دِينٌ مُتنكِّر باسم "ٱلعقل" أو "ٱلحداثة" على النحو الذي يُوجِب رفضها في نظرهم. وإنَّ الأمرَ ليزداد إشكالا حينما تَصير "ٱلعَلْمانيّة" مُلتبِسةً ب"ٱلعِلْم" كما يُوهِم شُيوعُ ٱستعمال لفظ "عِلْمانيّة". تُرى، ما حقيقة "ٱلعَلْمانيّة" في علاقتها بكل من "ٱلْعِلْم" و"ٱلدِّين" و"ٱلدولة"؟ وهل من الممكن أنْ تقوم "ٱلعَلْمانيّة" في المجتمعات الإسلاميّة على غرار قيامها في المجتمعات الأخرى؟
يَجدُر، ٱبتداءً، أنْ يُلاحَظ أنَّ "ٱلعِلْمانيّة" ٱسمٌ مُولَّدٌ بالنَّسَب إلى لفظ "ٱلْعِلْم" بواسطة لاحقة المُبالَغة "انِيٌّ/انِيَّة"، مِمّا يَجعلُه مُصطلَحًا يُؤدِّي معنى «ٱلنَّزعة ٱلفلسفِيّة ٱلتي ترتبط بالوَضْعانيّة والتي تُبالِغ في تقدير قيمة "ٱلْعِلْم" إلى حدِّ القول بأنّه قادرٌ على أنْ يَجعلَنا -عاجلًا أو آجِلًا- نُدرِك كل ٱلأشياء، وأنّه يَستطيع وحده أنْ يُلبِّيَ كل آمال ٱلإنسان»، فلفظُ "عِلْمانيّة" -إذًا- مُصطلَحٌ عربيٌّ يُقابِل اللفظ الأجنبيَّ (scientism/scientisme). و"ٱلعِلْمَانِيَّة"، بهذا المعنى، غير "ٱلعِلْميّة" (scientificity/scientificité) بمعنى «ٱلطابع ٱلعِلْمي» الذي يَتحدَّد في ٱرتباطه ب«مجموع ٱلشُّروط ٱلمطلوبة في ٱلعمل ٱلبحثي-الفكري ليكون عِلْميًّا»، وهي أيضا غير "ٱلعَلْمانيّة" التي هي ٱسمٌ مُولَّدٌ في العربيّة بالنَّسَب إلى لفظ "ٱلْعَلْم" (بواسطة لاحقة المُبالَغة "انِيٌّ/انيّة"، و"ٱلعَلْم" ٱسمُ فِعْلٍ من "عَلَمَ ٱلشيءَ" بمعنى "وَسَمهُ"، أيْ «جعل له عَلامةً أو سِمَةً» و، من ثَمّ، بمعنى "ٱلعالَم" كمثل "ٱلطّابَع" الذي "يَعْلُم/يَسِمُ" الأشياء أو هو "ٱلعلامة/ٱلسِّمة" الدّالّة على "ٱلخالِق/ٱلصانِع")، مِمّا يَجعلُ مُصطلَح "عَلْمانيّة" يُقابِل اللفظ الأجنبيّ («secularism/sécularisme, laïcisme») ٱلذي يَدُلُّ على «ٱلنَّزعة التي تَذهب إلى أنَّ شُؤون هذا "ٱلعالَم ٱلدُّنيويّ" يَنبغي (بل يَجب) أنْ تُفْصَل عن "ٱلدِّين" في ٱشتغاله ب"ٱلعالَم الأُخرويّ" (وٱنحصاره فيه)».
إنَّ لفظَ "ٱلعَلْمانيّة" ذاك وُضِع في الأصل لترجمة المُصطلَح الأجنبيّ الذي يُعرِّبه بعضُهم ب"ٱللائكيّة" (ٱنطلاقا من اللّفظ الفرنسي « laïcité »). لكنَّ هذه ٱلترجمة -رغم شُيُوعها- تَبقى مُلتبسةً، لأنّها لا تُمكِّن من إدراك معنى أنَّ «شُروط ٱلوُجود وٱلفعل في هذا "ٱلعالَم" هي وحدها ٱلحَكَم في تحديد ٱلقِيَم ٱلمُوجِّهة للسُّلوك ٱلإنسانيّ»، ولأنَّ لفظ "ٱلعَلْمانيّة" يَختلط ب"ٱلعِلْمانيّة" حتَّى عند بعض ٱلمُتخصِّصين، على الرغم من تكرار التأكيد بأنّه يَنبغي فتح "ٱلعَيْن" في ٱلأُولى وكَسْرها في ٱلثانية. ذلك بأنَّ ٱلمُصطلحَ ٱلأجنبيّ يَعني «ٱلنّزعة ٱلتي يرى أصحابُها ضرورةَ جَعْلِ كُلِّ مُؤسَّسات ٱلمجتمع، التي تُعنى بالشّأن العامّ، خارج سلطة "ٱلكنيسة" و"رجال ٱلدِّين" و، من ثَمّ، جَعْل "ٱلشّعب" بكل فئاته صاحب ٱلسيادة في جميع شُؤون "ٱلحياة ٱلدنيا" وترك ٱلحريّة للأفراد فيما يَتعلَّق بشؤون "ٱلحياة ٱلأُخرى"». إِذْ أنَّ لفظ «laïc»، ٱلذي هو ٱلأصل في ٱلمصطلح ٱلفرنسيّ، يرجع إلى ٱللّفظ ٱللاتينيّ "لَيْكُوس" («laïcus») ٱلمأخوذ بدوره من ٱللّفظ ٱليُونانيّ "لَيْكُوس" («λαϊκός»)، ٱلذي يَعني "ٱلمُتَدَنِّي" أو "ٱلمُدَنَّس" أو "ٱلدُّنيويّ" أو "ٱلعامّيّ" (كصفةٍ غالِبةٍ على ما له صلة ب"ٱلشّعب" الذي يُسمّى في اليُونانيّة القديمة "لَاوُس" [«laoV»]، أو كصفةٍ لِمَا يَأتيه "عامّة ٱلناس")، وذلك في تَعارُضه مع معنى "ٱلخاصّ" أو "ٱلكَنَسيّ" أو "ٱلمُتعلِّم/ٱلْعالِم" (الذي يَحمِلُه اللّفظ اليُونانيّ "كليريكوس" [«klhrikóV»] في معناه الأصليّ «ما له صلة بالحظّ» أو «النّصيب الذي يَرِثه المحظوظ» أو «النّصيب المُعطى لرَجُل الدِّين أو الكنيسة»، وهو الذي أعطى لفظ "كليريكوس" اللاتينيّ [« clericus »] الذي صار « clerc » في الفرنسيّة و«cleric » في الإنجليزية بمعنى "رجل ٱلدِّين" أو "ٱلدِّينيّ" أو "ٱلكَنَسيّ"). وكذلك فإنَّ ٱللَّفظين ٱلإنجليزيَّ « secular » وٱلفرنسي « séculier » يَرجِعان إلى ٱللَّفظ اللاتينيّ "سَيْكُولَرِيس" [« sæcularis »] بمعنى "زمنِيّ/عَصريّ" في مُقابِل "كنَسيّ/دينِيّ" (والأصل في هذا ٱللفظ ٱللاتينيّ أنّه نَسَبٌ إلى لفظ "سَيْكُولُوم" [«saeculum»] بمعنى "عالَمٌ"). وهكذا، يَتضافر ذانِك ٱللَّفظان الأجنبيّان ("لَيْكُوس" و"سَيْكُولَرِيس") ليُؤدِّيَا معنًى ٱصطلاحيًّا أساسيًّا: «كُلّ ما له صلة بإخضاع أُمور هذا "ٱلعالَم" للعقل ٱلإنسانيّ ٱلذي يُفترَض أنّه مُشترَكٌ بين ٱلنّاس كافّةً، وإبعاد "ٱلكنيسة" و"رجال ٱلدِّين" من ٱلِاستبداد بتدبير شُؤون "ٱلحُكم" و"ٱلتعليم" و"ٱلإدارة" و"ٱلِاقتصاد" و"ٱلفكر" و"ٱلفن"».
ونجد أنَّ ذلك ٱلمعنى يُؤدِّيه في "ٱللِّسان ٱلعربيّ" مُصطلحان: أوَّلُهما يُمكِن توليدُه من "ٱلدَّهر" بمعنى "ٱلزمان مُطلقًا" ويَستنِد إلى مُصطلح "ٱلدَّهْريّة"، كما عُرِف من قبل، ٱلذي يَدُلّ على «مذهبِ مَنْ كانوا يقولون -كما ورد في "ٱلقرآن"- ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حياتُنا ٱلدُّنيا نَمُوت ونَحيا وما يُهْلِكنا إِلَّا ٱلدهر﴾ (ٱلجاثية: 24)». وبِما أنَّ ٱلأمرَ يَتعلَّق ب"نزعة" (أو "مذهب")، فيجب أنْ تُسمَّى "دَهْرانيّةً" (باستعمال لاحقة المُبالَغة "انيّة")، وٱسمُ "ٱلتَّفعيل" منها هو "ٱلتَّدْهير" في مُقابِل اللّفظ الأجنبيّ (« secularization/laïcisation ») من "دَهَّرَهُ" بمعنى «جَعَلهُ دَهْرِيًّا» أو «أعطاه صِبْغةً دَهْرِيَّةً» ؛ والمصطلح ٱلثاني مَوجودٌ أيضًا في ٱلآية السالِفة نفسها هو "ٱلدُّنيا"، ومنه يُمْكِن توليدُ مُصطلَحِ "ٱلدُّنيانِيّة" للدلالة على تلك ٱلنّزعة نفسها، وٱسم "ٱلتّفعيل" منه هو "ٱلتَّدْنِيَة" (من "دَنَّاهُ" بمعنى «جَعلَه دُنْيوِيًّا» أو «أعطاه صِبْغةً دُنيوِيّةً»، بحيث يكون "دَنَّاهُ" مثل "دَهَّرهُ") الذي معناه مُساوٍ لمعنى "ٱلتَّدهير" عينه (وكل من "ٱلتَّدنِيَة" و"ٱلتَّدهير" يُؤَدِّيان معنى اللّفظ الأجنبيّ (« secularization, laïcisation/sécularisation »).
ومن حيث إِنَّ الأمرَ يَتعلَّق، أساسًا، بمُناهَضةِ سُلطان "ٱلدِّين" وٱلقَيِّمين عليه في مُجتمعٍ يُفترَض أنّه يَتحدَّد ك"مجتمع مدنِيّ" (وهو ما قد يُؤدِّي إلى نوعٍ من التّطرُّف في إبعاد "ٱلدِّين" والعمل على تَعطيله تَمامًا، بحيث نَصِيرُ أمام نزعةٍ تَدَّعِي أنَّها "لادِينِيَّة" بإطلاق)، فإنَّ مُصطلَحَا "ٱلدُّنْيوِيّة" و"ٱلدَّهْرِيَّة" -في دلالتهما على «ٱلطابع الدُّنيوِيِّ/ٱلدَّهْرِيِّ للوُجود والفعل ٱلبشريَّيْن» ("ٱلدُّنْيويّة/ٱلدَّهريّة" في مقابل اللفظ الفرنسيِّ « la laïcité »)- يَدخُلان في تَقابُلٍ دالٍّ مع مُصطلحِ "ٱلدِّينيّة" (بمعنى "ٱلطابع ٱلدِّينيِّ" في مُقابِل « religiosity/religiosité ») الذي يُقوِّيه التقابُل المعروف بين "ٱلدِّين" و"ٱلدُّنيا" (على الرغم من عدم وجاهته في "ٱلإسلام"، لكونه -بما هو "دِينٌ"- يَشمَل "ٱلحياة ٱلدُّنيا" و"ٱلحياة ٱلآخرة" كلتيهما).
ومِنْ ثَمَّ، فإنَّ "ٱلدَّهْرانيّةَ" و"ٱلدُّنيانيّةَ" مُصطلحانِ يُعبِّران عن «تلك ٱلنَّزعة ٱلتي تُؤكِّد أنَّ أُمور "ٱلحياة ٱلدنيا" يَنْبغي (بل يَجِب) ٱلِاحتكامُ فِيها إلى "ٱلعقل ٱلبشريِّ" (في تَغيُّره ونِسبيّته)، وليس إلى "ٱلوحي" و"ٱلدِّين" (في ثباته وإطلاقيّته)»، مِمّا يَجعلُ صفة "دُنيانِيّ/دَهرانِيّ" تَدُلّ على «ما/مَنْ يَستنِدُ إلى "ٱلدَّهْرانيّة/ٱلدُّنيانيّة" أو ما/مَنْ يَصدُر عنها». أمّا ٱلمصطلح ٱلمُعرَّب "ٱللائِكيّة"، فيَفْضُل مُصطلَح "ٱلعَلْمانيّة" بقُربه ٱلصوتيّ من اللّفظ الأجنبيّ. لكنّه يَلتبِسُ مثله بكلمات عربيّة قريبة منه صوتيًّا/صرفيًّا ("ملائكة" و"أَلَكَ¬ يَأْلِكُ" ومُشتقّاته {"أَلْكٌ"، "أليكةٌ"، "آلِكٌ"} ؛ ثم "لَاك¬ يَلُوك" ومشتقّاته {"لَوْكٌ"، "لائِكٌ"، "مَلُوكٌ"}).
إنّ ممّا يَنبغي تَبيُّنه، إذًا، أنَّ مسألةَ "ٱلتَّدْنِيَة/ٱلتَّدْهير" -بما هي "إبطالٌ لِسِحْرِ ٱلعالَم" (« désenchantement du monde »)، إبطالٌ لا يَتعارَض مع "ٱلتديُّن/ٱلتّديِين" بما هو أصلا "تَحريرٌ" على أساس الشروط الدُّنيويّة نفسها و"تحرُّر" منها أيضًا- تُعَدُّ سَيْرورةً مُتعلِّقةً ب"ٱلتَّرشيد" ومُتوزّعةً بين ٱتِّجاهَيْنِ: "ٱلتّعقيل" مع "ٱلعقلانيّة"، و"ٱلتّحرير" مع "ٱلحُرِّيَانيّة" أو "ٱلتَّسْيِيد" مع "ٱلدِّمقراطيّة" (تحرير ٱلِاقتصاد وٱلعلاقات ٱلِاجتماعيّة بدمقرطة ٱلحياة ٱلعامّة وتَسْيِيد ٱلشعب، على النحو الذي يُعطيه "ٱلسيادة" في كُلِّ شؤون "ٱلحياة ٱلدُّنيا"). ولأنَّ "ٱلتّرشيد" قائمٌ في بُلُوغ البشر طَوْر "ٱلرُّشد" وٱلِانفكاكِ عن كُلِّ أشكال "ٱلوِصاية ٱلبشريّة" (أربابًا أو آباءً أو أولياء)، فإنَّ قِوامَه إنّما هو الخروج دينيًّا ودُنيويًّا من "ٱلغَيّ" بثُبُوت أنّه «لا إكراه في ٱلدِّين» (تمامًا كما يُؤكِّده "ٱلإسلام" أَصْلًا شرعيًّا مُحكَمًا)، بحيث يَصير "ٱلِاعتقادُ" مَبْنيًّا على "ٱلِاختيار" و"ٱلِاقتناع" ولا يَكُون "ٱلتعبُّد" إلا وَفْقه سُلوكًا شَخصيًّا يَلْتزمه ٱلمرءُ (في علاقته بمعبوده) وليس فَرْضًا خارجيًّا يُلْزَمُ به إكراهًا (من قِبَل أمثاله من الناس).
وإِنَّ كونَ "ٱلوُجود" و"ٱلفعل" ٱلبشريَّيْن لا يَتحقَّقان إلا بالنِّسبة إلى شُروطِ هذا "ٱلعالَم" لَيَستلْزِم أنَّ سَيْرورةَ "ٱلتّرشيد" تلك لا تَقُوم في الواقع الفعليِّ إلا باعتبارها مُحدَّدةً ٱجتماعيًّا وتاريخيًّا. ولهذا، فإنَّ كُلًّا من النُّزُوع نحو فصل "ٱلدِّين" عن "ٱلعالَم" (بجعله مَحصورًا في ٱلِاهتمام بالآخِرة و، من ثم، موضوعًا للتعطيل بفعل توسُّع وترسُّخ "إبطال سحر ٱلعالَم" في المجتمعات الحديثة) وفصل "ٱلعِلْم" عن "ٱلمُمارَسة ٱلعَمليّة" (بجعله "نَظرًا تأمُّليًّا" لا تأثير للعمل فيه و"فِعْلا مُنزَّهًا" لا تَعلُّق له ٱلبَتّةَ بأيِّ غرضٍ نفعيٍّ) يَقُود إلى تصوُّر "ٱلعَلْمانيّة" كعَملٍ يَبتغي إقامةَ فصلٍ حاسمٍ بين مجال "ٱلِاعتقادات" (كمجال خاصّ وشخصيٍّ) ومجال "ٱلمُعامَلات" (كمجال عامٍّ ومُشترَكٍ) على النّحو الذي قد يُوهِم أنَّ "ٱلعِلْمَ" وحده له القُدرة على الفصل بين "ٱلِاعتقادات ٱلمُعلَّلة" (ك"معرفة" تُؤسِّس قَصديًّا الفعلَ المُشترَك) و"ٱلِاعتقادات ٱلِاعتباطيّة" (ك"رأي" يَسنُد الفعل اللَّاهِي أو اللَّاغِي)، فيجعل بذلك "ٱلعَلْمانيّة" (في طلبها للخُروج من ٱستبداد رجال الدين) تَتحوَّل إلى "وُثُوقيّةٍ" (أو أحسن "ٱعتقادانيّة") تَلْتبِس ب"ٱلعِلْم" فتتَّخِذُ وجهَ "عَلْمانيّة نِضاليّة" تُناهِض "ٱلدِّين" مُطلقًا فتُحارِبُه سِرًّا أو علانيّةً باسم "ٱلتنوير ٱلعَقْلانيِّ"، مِمّا يُؤدِّي إلى قيامها ك"لادينيّة" صريحة قد لا يَتردَّد أصحابُها في إعلان "ٱلكُفر" و"ٱلإلحاد" و"ٱلزَّندقة" أو، على الأقل، في التحيُّز معه ومُناصَرته ضدّ "ٱلإيمان" و"ٱلتديُّن".
وإذا كان قيامُ "ٱلعَلْمانيّة" في صورةِ نضالٍ مذهبيّ وسياسيّ لتعطيل "ٱلدِّين" يَكْشف جوهرَها ٱلِاعتقاديّ رغم حرصها الشديد على إبراز توجُّهها ٱلنّقديّ، فإنّ إغفال دُعاتها للارتباط الضروري بين سَيْرُورة التّحييد وإكراهات التحيُّز يُعدُّ ٱنحرافًا منهجيًّا يُؤكِّد ٱستحالةَ ٱلفصل ٱلمُطلَق بين "ٱلدُّنيا" و"ٱلدِّين"، إذْ أنَّ "ٱلعِلْمَ" نفسَه -في سعيه للاستقلال بالنّظر العقليّ عن كل التّحريفات- لا يستطيع أنْ يَقطع كُلَّ صلاتِ "ٱلباحِث/ٱلعالِم" بعالَمه الدُّنيوِيِّ ٱلدَّفين والحيويّ، لكي يَجعله يَنْقطع -بالتالي- عن كُلِّ "ٱلمُسبقات" و"ٱلمُضمرات" التي تُكوِّن ذاتَه كفاعلٍ يَعتقد ويَعمل على إنجاز ما يَعتقد. ولا يخفى أنّ ٱمتناعَ مثل هذا ٱلِانقطاع، حتّى في مستوى المُمارَسة العلميّة، يُوجِب تَنْسيب عمل "ٱلحياد/ٱلتّحييد" بشكل يَجعلُ رفعَ شعار "ٱلعَلْمانيّة" كفصلٍ تامّ ونهائيّ بين "ٱلدينيّ" و"ٱلدنيويّ" تضليلا محضًا يَتستَّر على جانبها الِاعتقاديّ غير المُحايِد.
ومن ثَمّ، فإنَّ أيَّ مُحاوَلةٍ لتَصوُّر وعَرْضِ "ٱلعَلْمانيّة" كما لو كانت تَتحدَّد كغيابٍ أو تغييبٍ للدِّين ليست سوى تحريف لسيرورة "ٱلتّرشيد" التي تقوم، بالأساس، كمُناهَضةٍ للاستبداد وٱلطُّغيان حتّى لو كان «باسم ٱلدِّين» و، بالتالي، كعمل على تحييد «سُلْطان ٱلإكراه وٱلجَبْر» في مجال ٱلِاعتقادات وٱلمُعامَلات، وذلك بالشكل الذي يَسمح بقيام "مجتمع مفتوح" سياسيًّا وٱقتصاديا وثقافيًّا، وهو الأمر الذي من شأنه أنْ يَقُود إلى التّمكين للحريّة والعدالة قانونيًّا ومُؤسسيًّا، بحيث يَتحقَّق "ٱلمجال العُموميّ" كمجالٍ موضوعيٍّ لِمُمارَسة "ٱلحريّة" و"ٱلمسؤوليّة" تفكيرًا وٱعتقادًا وتصرُّفًا وتعبيرًا. ولذا، فإنَّ ما يُسمّى "وزارة الإعلام" و"وزارة الأوقاف والشؤون الدينية" لا معنى لهما إلا بصفتهما نوعًا من "ٱلوصاية المُتنكِّرة" بمجالين (مجال "حرية التعبير" ومجال "حرية ٱلِاعتقاد") يَتعيَّن على "ٱلدولة"، بما هي سلطة عُموميّة، أنْ تَحرِصَ فيهما على ٱلتزام أكبر قَدْرٍ من "ٱلحِياد" وأنْ تُيسِّر ٱشتغال سيرورة "ٱلترشيد/ٱلتّحييد" لكي يَحظى كل المُواطِنين بنفس "ٱلحقوق" ويخضعوا لنفس "ٱلواجبات" من دون أنْ يَخشوا سُوء المُعامَلة بفعل مُعتقداتهم أو تَعبُّداتهم الخاصة. ذلك بأنَّ "ٱلدولة ٱلرّاشِدة" (« l'Etat rationnel »)، من حيث قيامُها على مبدأَيْ "ٱلمُواطَنة ٱلكاملة" و"ٱلشرعيّة ٱلقانونيّة" المُؤسَّسين على أولوية "ٱلحق" و"ٱلعدل"، لا تَتحقَّق إلا كتَعطيلٍ لكُلِّ أصناف "ٱلتمييز" و"ٱلتحيُّز" -سواء أكان إيجابيًّا أمْ سَلْبيًّا- تُجاه كل المُحدِّدات الضروريّة التي لا يَجِدُ النّاس أمامها أيّ خيار (الجنس، العرق، اللّون، الدِّين، إلخ.).
وإِجْمالًا، فإنَّ المُتطرِّفِين من دُعاة "ٱلعَلْمانيّة" (في تَوهُّمهم إمكان ٱلتجرُّد المُطلَق من "ٱلِاعتقادات" ومَيْلهم، من ثَمّ، إلى تَعاطِي النِّضال المُتعالِم سعيًا لتعطيل "ٱلدِّين" باسم نوعٍ من "ٱلعَلْمانيّة ٱلمانِعة") لا يَقِلُّون تضليلا عن المُتطرِّفين من دُعاة "ٱلإسلام" (أيْ، بالتّحديد، "ٱلإسلامانِيِّين" الذين يَتوهَّمُون وُجوبَ فرض "ٱلإسلام"، على الأقل، ك"حُدودٍ شرعيّة" على كُلِّ مُسلِمٍ في إطار "ٱلإسلامانيّة ٱلجامِعة"). لكنَّ كونَ صلاح ونجاعة العمل يَقُومان، بالأساس، في "ٱلكفاءة التدبيريّة" يَقتضي أنَّ إدارةَ وتسييرَ الشُّؤون العامّة لا يُمكنُهما أنْ يكونا حكرا للمُتديِّنين ولا يَصِحّ أنْ يَكُونا ٱمتيازًا لغير المُتديِّنين، وإنّما هُما موضوعٌ للتنافُس المدنيّ بين كُلِّ المُواطِنين بِغَضّ النّظر عن عقائدهم ومذاهبهم المُحدِّدة ذاتيًّا ل"أخلاق ٱلِاقتناع"، لأنَّ "أخلاق ٱلمسؤوليّة" هي الأساس الموضوعيّ المُشترَك الذي تُسنَدُ بمُوجبه الوظائف والمناصب وتُختبَر الكفاءات في إطار "ٱلدولة ٱلراشدة". وإذا كان لا يَنْبغي أنْ تُناط المسؤوليّة بالكَذّابِين والفاسدين والمُنافِقين، فإنّه لا يُعْقَل أنْ تُتركَ الأُمور بين أيدي أُناسٍ لا يُحْسنِون، في الواقع الفعليِّ، سوى التّظاهُر بالتَّقوى والوَرع في الوقت الذي يُطلَبُ من كل من يُريد أنْ يَتحمَّل المسؤوليّة العُموميّة بُرْهانٌ عمليٌّ على حُسن تَمكُّنه وكفاءته في قضاء حاجات النّاس وتدبير حاجاتهم المُباشرة والمُلِحَّة. وعلى هذا، فإنَّ مُقتضى "تحييد ٱلدولة دينيًّا" ليس شيئًا آخر سوى ٱلتشدُّد، قانونيًّا وتنظيميًّا، في إنكار ومَنْع التّلاعُب بالشؤون العامّة لكي لا يَجرُؤَ على "أمر ٱلنّاس" أصحابُ "أضعف ٱلإيمان" ولا يَستبِدَّ به الذين "لا إيمان لهم ولا ذِمّة".
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.