كاريكاتير سعد جلال تحكي لنا كتب التاريخ والحضارات القديمة أن شدة الاعتداد بالحياة الدنيا والمبالغة في قيمتها؛ وكذلك الولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى و"الفنون الجميلة"!؛ ولهج الأدباء والمؤلفين بالحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد؛ أثرت تأثيراً سيئاً في أخلاق المجتمعات الغابرة، فانتشرت الفوضى في مجال الأخلاق وحدثت ثورة على كل نظام، وأصبح -في اليونان مثلا- شعار الرجل الجمهوري -كناية عن الحداثي والحر والمتنور!- الجري وراء الشهوات العاجلة، وانتهاب المسرات، والتهام الحياة التهام الجائع النهم. ويصف سقراط -كما ينقل عنه أفلاطون في كتابه المملكة- الرجل الجمهوري- فكأنما يصف ناقدا من نقاد هذا القرن في إحدى عواصمالمدينةالغربية. فإذا قيل له: إن بعض المسرات من الرغبات التي هي طيبة وتستحق الاحترام؛ وبعضها من الشهوات التي هي قبيحة، وإن الأولى ينبغي أن يعمل بمقتضاها وتحترم؛ والأخرى مما ينبغي أن يمنع عنها ويقام عليها الحجر، لم يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ولا يسمح بسماعه.. (Republic book VII) نقلا عن كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين 238-239 بتصرف. وبذلك يكون التاريخ قد كشف لنا عن تجربة سابقة في مجال الحريات الفردية؛ وأنبأنا عن واقع أمة سابقة وما آل إليه أمرها حين انحرفت عن المنهج الحق؛ وأوغلت في مرتع الشهوات والملذات والحريات غير المنضبطة بدين ولا أخلاق ولا قيم. {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} غافر21. لا زال النقاش حول موضوع الحريات الفردية يتجدد يوما بعد آخر؛ ويستأثر باهتمام المنابر الإعلامية والثقافية والفكرية والسياسية؛ وتثار تساؤلات عديدة حول هذا المصطلح ومفهومه وتطبيقاته والمرجعية المحددة له؛ والأشواط التي قطعها بلدنا في هذا المجال. ولئن كان الخوف من الرمي بالتطرف والتشدد والأصولية قد دفع بعض الإسلاميين إلى أن يعرضوا الرؤية الشرعية للحريات الفردية على استحياء كبير؛ وتنازل مخل؛ وتغييب غير مسوغ للحكم الشرعي المسطر في بطون كتب الشريعة؛ ففي مقابل ذلك فإن دعاة العلمانية في هذا البلد لا يتوانون في البوح ب"عقيدتهم الكونية"! المستمدة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ والتصريح بكل جرأة ووضوح بوجهة نظرهم فيما يخص الحريات الفردية وتطبيقاتها العملية. ونورد في هذه العجالة جملة من تصريحات بعض ناشطي التيار العلماني من كتاب وباحثين وحقوقيين بخصوص موضوع الحريات الفردية؛ وحرية الردة.. وحرية اللواط والسحاق.. والتنصل من الأحكام الشرعية والإفطار العلني في رمضان.. وغيرها؛ حتى يتجلى للقراء الكرام حقيقة هذه الدعاوى وعن أي نوع من الحريات يتحدث العلمانيون. فقد وصف العلماني المتطرف "أحمد عصيد" الذي سبق له وأن صرح أن "الإسلام ليس هو الدين الوحيد الذي ينبغي أن يتبع، ولا دين مقدس حتى يستحيل تغييره ورفض شرائعه" أن "الحريات الفردية والحقوق بشكل عام اليوم هي كونية؛ لأنها الدرجة العليا التي بلغتها البشرية في تطورها"، وأنه "ليس مسموحا لأي كان بأن يعيد بلدا ما إلى الوراء كي يظل دون مستوى الإنسانية؛ أي دون مستوى ما بلغته الحضارة البشرية؛ هذا ظلم. أن تنعم شعوب ما بهذه الحقوق وبهذه الحريات كآخر ما بلغته الحضارة وأن نجعل شعوبا أخرى تعيش الماضي بدعوى الخصوصية؛ هذه هي الخصوصية المغلقة". واعتبرت خديجة الرويسي رئيسة جمعية بيت الحكمة أن: "لا مجال للسعي إلى محاولة تنميط جميع أعضاء المجتمع في نموذج قيمي وحيد ونهائي مهما كانت طبيعته أو مصدره"، أي حتى وإن كان وحيا من عند الله. أما خديجة الرياضي؛ رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان؛ فاعتبرت أنه "من حق الجميع أن يعتنق الديانة التي يريد؛ ومن حقه أن يعبد ويمارس عقائده حسب الديانة التي يختار؛ كما هناك الحق لأي شخص في ألا يكون له دين أصلا..". واعتبرت أن "حقوق الإنسان كونية وشمولية؛ ولا يمكن أن نقسم بينها أو نجزئ حقوق الإنسان؛ إذن لا يمكن أن نترك مجالا من المجالات التي تتعلق بحقوق الإنسان إلى فترة أخرى بدعوى أن المجتمع ليس مهيئا؛ أو بدعوى أن الثقافة السائدة ليست مستعدة لهذا..". وبذلك يتبين لنا ومن خلال الواقع العملي والدعوات الصريحة لأبواق التيار العلماني نوعية الحريات الفردية التي يُطالبون بها؛ ويتضح لنا جليا أنها حريات لا تعترف بدين ولا شرع ولا عرف ولا أخلاق ولا قيم؛ ولا بوحي مُقدَّس ولا عادات ولا تقاليد ولا ثوابت ولا مصالح عامة للأمة؛ وأنها حريات تدفع أحكامُها الإنسانَ إلى أن يكون عبدا لهواه وشهواته ونزواته تماما كما كان عليه الحال عند اليونان من قبل. وإذا كانت المصادر التي يستقي منها العلمانيون عقيدتهم وسلوكهم مكشوفة لنا؛ فإن عقيدتنا وما ندين الله تعالى به من أحكام في كثير من المطالب التي تثار الزوابع حولها اليوم مكشوفة لدَيهم أيضا؛ كما هو الحال فيما يخص حد الردة في الشريعة الإسلامية مثلا. ذلك أنه بوسع أي علماني أن يفتح كتابا من كتب السنة كصحيح البخاري؛ فتقع عينه على حكم المرتد والمرتدة؛ تحت باب استتابة المرتدين؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". ويجد في المرجع نفسه وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل ابن خَطَل وقد كان مسلمًا ثم ارتد مشركا. ويقلب صفحات شرح كتب السنة فيثبت عنده أن: "العمل على هذا عند أهل العلم، أن المسلم إذا ارتدّ عن دينه يقتل" شرح السنة للبغوي (10/238). أما إن عمق البحث أكثر؛ فسيجد أن قتل المرتد ثبت من فعل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من بعده؛ وثبت ذلك من فعل كبار الصحابة كأبي بكر وعثمان وعلي وابن عمر رضي الله عن الجميع. والحكم بقتل المرتد محل إجماع بين المسلمين كما نقل ذلك ابن المنذر في كتاب الإجماع، فلم يقع في أصله خلاف، وإنما حصل الخلاف في فروعه كالاستتابة ومدتها وأنواع المكفرات؛ ولم ينكره في هذا الزمان إلا فئة العقلانيين؛ ولا عبرة بشذوذهم. وأن تنفيذ هذا الحكم -بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع- يبقى من اختصاصات ولي الأمر وحاكم البلاد كما نص على ذلك جمهور أهل العلم. لهذا؛ فلا مناص لمن تشرف للعمل لدين الله تعالى؛ وسعى إلى خدمته؛ أن يوسع مداركه العلمية وثقافته الشرعية؛ ويعدل عن لي أعناق النصوص وتفسيرها على غير ما فسره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والراسخين من أهل العلم. فقد ادعى بعض الإعلاميين المحسوبين على التيار الإسلامي في خضم حديثه عن الحريات الفردية أن قول الحق تبارك وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي ٱلدّينِ} [البقرة:255]؛ آية صريحة في حرية العقيدة؛ وأن حد الردة كان إجراء سياسيا في مرحلة معينة. وهذا؛ خطأ فادح ومخالفة صريحة لمراد الآية الكريمة؛ فقد نقل الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى في جامع البيان (5/413) عند هذه الآية قوله: "وكان المسلمون جميعاً قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه أكره على الإسلام قوماً فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر، ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه آخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم، كان بيّناً بذلك أن معنى قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي ٱلدّينِ} إنما هو: لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية ورضاه بحكم الإسلام". ونقل ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: (وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل. وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى: "سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ"). (الفتح:16). فمراد الإكراه في الآية واضح بيّن؛ يجب أن ينقل بأمانة ويعرض بعزة؛ ولو أراد أحد أن يعلل حكم الردة ويسوغه فما عليه إلى أن يبحث في بطون الكتب ويرجع إلى أقوال العلماء؛ وسيجد أن "العلماء يعتبرون قتل المرتد نتيجة خيانته للملة الإسلامية التي انخرط في عداد أفرادها ثم غدرها، فلو ستر كفره لم يتعرض له أحد ولم يشقَّ عن بيضة قلبه كما كان يقع للمنافقين الذين قال فيهم الله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ} (البقرة:14)، فالعقوبة هي لحماية بيضة الطائفة الإسلامية ممن يكسر وحدتها ويضرّ بها، وليس لمجرد تغير العقيدة الذي لا يصحبه إعلان ردة". (مقاصد الشريعة لعلال الفاسي؛ ص:249). ونحن إن التفتنا وراء ظهورنا قليلا وجدنا من كان يتصدر للدعوة في هذا البلد من العلماء والدعاة قد عبر عن موقفه بكل جرأة وشجاعة وعزة إزاء الدعوة إلى الحريات الفردية؛ وبين خطرها ومغبتها على مجتمعنا وديننا ووحدتنا؛ كما ورد ذلك عن العلامة المؤرخ أحمد الناصري والشيخ عبد الله كنون الأمين العام السابق لرابطة علماء المغرب والشيخ الرحالي الفاروقي وغيرهم. لكل ما سبق ذكره؛ يجب أن نعلم أنه بات من الواجب اليوم على كل العاملين في حقل الدعوة إلى الله تعالى؛ وكل من يتبنى المرجعية الإسلامية أن يعيد الاعتبار إلى الشريعة بمعناها الحق كما دل عليه قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18)؛ وأن يرجع إلى نصوص الوحي وينهل منها من منطلق الافتقار إليها؛ ويرفع بها رأسه، ثم ليعلم بعد ذلك علم اليقين أن من يحارب المرجعية الإسلامية لن تقنعه التنازلات ولا التقاربات ولا..؛ ولن يرضى بديلا عن زوال الإسلام وإقرار العلمانية.